في عام 1934 كتب “ العقاد” ناقدا “ ناجي” متهما إياه بأنه انتزع بعض المعاني من شعره ونسبها إلى نفسه، وضرب العديد من الأمثلة للتأكيد على زعمه، واتهم “ ناجي” بالسرقة من أدبه. فرد “ محمود حسن إسماعيل” على “ العقاد” بمقال فريد في مجلة “ أبولو”، واسمحوا لي باقتباس نفس العنوان لعنونة مقالي، والذي كان بعنوان “ فلسفة السرقة”، وفيه دلل “ إسماعيل” على أن ملاحظة العقاد فاسدة من أساسها ولا أثر للانتزاع فيها مطلقا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل اتهم “ العقاد” بأنه انتزع بدوره، ليس فقط بعض المعاني، ولكن المعنى كله من أحد أبيات شعر “ البارودي” في إحدى قصائده، وأن بيت “ العقاد” بنصه وقصه مسروق على الرغم من ضعف الافتراق اللفظي اليسير في بيت “العقاد” عن بيت “البارودي”، وعلى الرغم من أن ذلك يمكن تفسيره على أنه محاكاة شعرية زادت بعض الشيء، إلا أن تفسير المحاكاة الشعرية بين السرقة والفن لا يزال محل دراسة وجدال عميق حتى الآن، وإلى أن يحسم الأمر تظل السرقة سرقة مهما كان حجمها ومهما كان قدر صاحبها. في معرض القاهرة الدولي للكتاب انتشرت على أرفف دور النشر المختلفة كتابات اتهم أصحابها صراحة بالاقتباس الزائد عن الحد، حتى وصل ببعضهم إلى نقل فصول كاملة من دراسات سابقة دون تعديل ونسبها إلى أنفسهم، بل أن بعضهم أعطى لنفسه ألقابا علمية لم يحصلوا عليها أبدا، في محاولة منهم لترويج كتاباتهم بالتزييف، وهم على علم – دون شك – بأن الكلمة الجيدة تفرض نفسها دون لقب. wibth ومن المعروف أن بعض أساتذة الجامعات العربية قاموا بحث إدارة معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي انتهت فعالياته مؤخرا، في صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بتحري الدقة قبل السماح بعرض بعض الكتب المشكوك في كون أصحابها قد سرقوا مادتها من مراجعهم العلمية، ومعاقبة فاعليها. وهي دعوة من السذاجة بمكان الالتفات إليها، نظرا لعدم اختصاص هيئة المعارض بهذا الشأن، وإنما هي مهمة دور النشر وأصحابها الذين لا يشغل بالهم إلا تحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية، دون الاهتمام بالتدقيق والمراجعة وإحالة ما يرد إليهم من نصوص إلى متخصصين يقارنون – إلى جانب المراجعة العلمية – بينها وبين ما يشابهها من كتابات، لأن ذلك يزيد من تكلفة النشر، مما لا يعفيهم أبدا من المسئولية. وعلى الرغم من تعدد حالات السرقات العلمية في معرض الكتاب، إلا أن حالتين من حالات السرقة كانتا الأبرز في معرض القاهرة الدولي للكتاب، حالة سرقة علمية لكتاب (مدخل إلى فلسفة العلوم) للراحل “محمد عابد الجابري” والتي أفاض في شرحها الكاتب والباحث المغربي الدكتور “عبد النبي مخوخ” ببذل جهد ملحوظ في كشف ما أخذه السارق من عمل “الجابري” بمقال مطول في بوابة “ثقافات” الإلكترونية، ولا يمكننا الزيادة عليه بحرف. أما الحالة الأخرى فقد حدثت لعدة أعمال – وليست عملا واحدا – من كتابات الدكتورة “عفاف السيد العلي” وهي باحثة متخصصة فى تاريخ الخليج العربي، متمكنة يكتشف القارئ منذ الوهلة الأولى عند تصفح أعمالها ما تمتلكه من موهبة فذة في الكشف عن المجهول من تاريخ الخليج، وبخاصة التاريخ العماني الحديث والمعاصر، وهي الحالة التي سنتوقف عندها قليلا لما لها من دلالات على ما وصلت إليه حال البحث العلمي في مصر. من المستغربات أنه ورغم اعتراف سارق أعمال “عفاف” – لها ولغيرها من الأساتذة – بقيامه بالاستيلاء على فصول كاملة من الرسائل العلمية لها، لكن البعض منهم لم يخجل من محاولات إثناءها عن اتخاذ الإجراءات القانونية المعتادة في مثل تلك الأمور، وكأن السرقة أصبحت سمة وطبيعة خاصة للبحث العلمي في مصر، ووجودها أصبح عملا اعتياديا مباحا. وكأن وجود طالب لم يحصل بعد على درجة الماجستير، أتته الجراة على القيام بتلك الفعلة شيئا يشرفهم الدفاع عنه والتسبب في ضياع جهد وعرق باحثة اجتهدت في إعداد رسالتيها للماجستير والدكتوراة لفترة تجاوزت العشر سنوات، ووصل الحد بالسارق إلى ادعاء أنه حاصل على درجة الدكتوراه، ولم يكن ذلك شفهيا فقط في بعض المواقف العابرة، بل تطاول أكثر ومنح لنفسه لقب دكتور وأستاذ دكتور على أغلفة كل الكتب التي سرقها من “عفاف”، بما يعرضه لعقوبة انتحال صفة. لن أظلم جميع الأساتذة بحديثي، فبعضهم قام مشكورا بتشجيعها لاتخاذ الإجراء القانوني الحاسم تجاه السارق، لكني حاولت كثيرا استيعاب موقف الأساتذة الذين قرروا التطوع للدفاع عنه وتقديم الحجج رغم اعترافه لهم بقيامه بجرمه، حقيقة لم استطع إيجاد أي مبرر لموقفهم. من المعلوم أن الأمر ليس شخصيا بيني وبين السارق، ولا يهمني في شيء من قريب أو بعيد، لكنه دفاع عن مستقبل البحث العلمي في مصر، والذي هو شاغلي الأول والأخير خلال السنوات السابقة. وليس بيدي تجاه تلك القضية المهمة سوى طرح بعض الأسئلة لهؤلاء الذين يحاولون إثناء “عفاف” عن اتخاذها إجراءات تضمن لها الحق في الاحتفاظ بجهد سنوات، ماذا سوف يحدث لضميرهم المهني إذا ما تم تعيين هذا السارق في إحدى الجامعات مستقبلا، ويتخرج من تحت أيديه جيل من الباحثين؟ ماذا سوف يعلمهم؟ أي قيمة سيكتسبها طلابه منه؟ هل يعجبهم أن يظل إنتاجه العلمي المشوك فيه “حتما” على أرفف المكتبات ليستقي منه طلبة العلم مادة بحوثهم وينسبونها إليه، فيضيع حق صاحبها الأصلي بالتراكم وفعل الزمن؟ حينما ناقشت البعض حول تلك القضية، شعرت بأنهم ينظرون إليَّ باستغراب. لا أعلم هل أنا (محبكها شوية) ؟ قد يكون ذلك صحيحا نظرا لخلفية عائلتي العسكرية وتربيتي الجادة بعض الشيء، أم أن الذي يرى السارق سارق والمسروق مسروق يعد من مستغربات هذا العصر. على أية حال، فالحقيقة الأكيدة وراء محاولات بعض الأساتذة التستر على جرم قام به أحد الطلاب في حق آخرين، أن هناك شيء ما “غير معلوم” وراء تصرفاتهم. ويبقى سؤال واحد يجب طرحه بإلحاح، ماذا لو تمت سرقة أعمالكم العلمية من نفس سارق “عفاف”؟ هل ستقفون على نفس الجانب الذي وقفتموه في قضيتها؟ أم أنكم ستنسفون هذا السارق من على وجه الأرض وتجعلوا منه عبرة؟ ____
- كاتب وباحث في التاريخ الحديث والمعاصرـــ القاهرة – جمهورية مصر العربية
نقلا عن موقع ثقافات
- كاتب وباحث في التاريخ الحديث والمعاصرـــ القاهرة – جمهورية مصر العربية
نقلا عن موقع ثقافات