ملخص البحث
كثيرة ومتنوعة هي التقانات الكتابية التي يلجأ الشاعر إليها ويفعِّلها في بلورة شعرية منتجه الأدبي، ومدار هذا البحث تقانة ( التعريف) التي لجأ إليها الشاعر عبود الجابري واتكأ عليها بنحوٍ لافت في ديوانه ( يتوكأ على عماه) ، إذ يعمد الشاعر في مساحة عريضة من هذا الديوان إلى التقاط اللفظة ، ومن ثم تعريفها تعريفاً شعرياً ، مانحاً إياها ثراءً دلالياً تستثمره آلية اشتغال الشاعر، مستجليةً إمكانات اللفظة ذاتها في توليد شبكة معانٍ ومداليل متنوعة الخيوط ، وذلك بجعل اللفظة ثيمة ارتكاز تتنامى صورها وتتنوع طارحةً رؤى جزئية مختلفة ، وهي رؤى تتعاضد لتكوين الرؤيا العامة للنص ككل، فجاء ديوانه المذكور في جزء كبير منه ؛ ديوانَ تعريفاتٍ شعرية وامضة تعتمد التركيز في اللغة والقوة في الفكرة ، مبلوِرةً اشتغالاً شعريا يتناسب ومزاج قصيدة النثر التي تعوّل كثيراً على قوة الفكرة ، والاقتصاد في اللغة ، وايجاد علاقات جديدة بين الأشياء . وسنستجلي في هذا البحث أهم تقانات اشتغال الديوان المذكور ، لنقف بالتحليل المتأني على تمظهرات تقانة التعريف ، التي عوّلتْ عليها كثيراً شعرية الجابري في ديوانه المذكور .
التعريف تقانةً شعريةً
قراءةٌ في ديوان ( يتوكّأ على عماه) لـ (عبود الجابريّ)
توطئة
في تأكيد له على قيمة وحتمية ( الصناعة) في الشعر التي قال بها أرسطو من قبل ، يقول الجاحظ " الشعر ضرب من النسج وجنس في التصوير" ويشي ذلك بأن الشعر في جوهر كتابته صناعة ، والشاعر صانع - نساج تحديدا - ، تظهر براعته في تحريك خيوط مادته ومناغمة ألوانها وأنواعها على النحو الذي يطرح بين يديّ المتلقي في النهاية تكويناً مكتمل التفاصيل ينحاز للجمال ، وينماز به ، فالشعر تأسيساً على ماسبق صناعة لها أصول وقوانين ومتطلبات لابد منها ، بعد حيازة الموهبة القادرة على توجيه يد الصانع وذهنه وصولا إلى الشعر . وما كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري إلا ترسيخ لفكرة أن الشاعر صانع وصائغ ، في مرحلة ما من مراحل الكتابة ، تبرز خصوصيته في النهاية في كيفية تفعيل وتوظيف آليات الكتابة على النحو الذي يجعل لتجربته خصوصية وتفردا وتطبع منتجه الإبداعي ببصمة خاصة به ، وهذا يؤكد أن لكل شاعر تقاناته في الكتابة ، بها يتميز عن غيره ، وإليها يستند في عملية النسج الشعري.
ولدى قراءة ديوان يتوكأ علىعماه ، لعبود الجابري ، يمكن تلمس تقانات اشتغال ميزت قصيدته ، بحيث أصبحت الوجه الإبداعي الذي لايخطئه المتلقي في رحلته مع نصوص الديوان ، وهي تقانات يبدو الشاعر فيها صنّاعاً بآليات اشتغال خاصة ، تتواءم مع روح قصيدة النثر من حيث الاعتماد على قوة الفكرة ، والإنتباهة الذكية إلى العلاقات بين الاشياء ، واقتناص تلك العلاقات للوصول بالتالي إلى الشعرية المنشودة .
ديوان يتوكّاُ على عماه : ماهيةً وتقانات
وأول ما يطالع المتلقي في الديوان، هو سعي الشاعر إلى التزام ( منهجية شعرية) في بناء القصيدة المقطعية تحديداً ، إذ تشكل هذه القصيدة عنده بناءً سرديا يتكيء على محور لفظي ( باب ، قميص ، غيم ، حَجَر ...الخ) يلتقطه الشاعر ليبني منه قصيدة طويلة ، معولا فيها على النظام المقطعي الوامض والمكثف، بحيث تشكل اللفظة الملتقطة داخل كل مقطع منبعَ رؤية متكاملة بحد ذاتها ، تسهم من خلال كونها جزءا من نظام مقطعي في ايصال وبناء رؤية النص الكبير الذي تنتمي إليه . لتتوحد هذه المقاطع من خلال العنوان الذي يجمعها كخيط دلالي ، وهو ما يجعل القصيدة ذات النظام المقطعي عنده مطولة قائمة على التنويع اكثر من كونها قائمة على التنامي ، بحيث تشتغل كل ومضة مقطعية من الومضات ضمن حقل دلالي خاص بها ومرتبط بغيرها عن طريق الارتباط دلاليا بالعنوان الرئيسي للقصيدة.
ولدى متابعة تجليات الصياغة الشعرية عند الشاعر يمكن ان نضبط ملامح هذه الصياغة تصنيفياً اعتمادا على المناطق التي تشتغل فيها شعريته بثلاث مناطقَ ، يظهر الشاعر فيها صانعاً محترفاً وممنهِجا حريصاً على تقانات بوحه الشعري ، وهي تقانات يمكن حصرها في الآتي :
1- تقانة استدعاء التراث
2- تقانة استدعاء الجو الأُسَري
3- تقانة التعريف
ففيما يخص النقطة الأولى ، يمكن القول إن الجابري وان ساير النسق الشعري في الإتكاء على التراث والاغتراف منه ، الا أن ما يميز مشغله الشعري هو هذا الاغتراف الممنهج لدالة تراثية بعينها وغالبا ما تكون هذه الدالة شخصية أو حدث تاريخي متعلق بشخصية ، يتقصّى الشاعر ملامحها متتبّعا ما يمكن أن تطرح من شعرية تناصية، وهو في كل ذلك عارف وملم بابعاد الدالة التراثية والحادثة التاريخية التي يوظفها ويتخذها مرجعا وثيمة تناصية .
وأما فيما يخص تقانة استدعاء الجو الأُسَري في الديوان ، فيمكن ملاحظة أنها تقانة أكثرَ الشاعر منها سواء بكونها غاية في ذاتها ، أم بكونها وسيلة يوظفها لخدمة مضمون أشمل ، بمعنى ان لدى الجابري قصائد تشتغل بوصفها قصائد أُسرة بامتياز ، تدور حول المعيوش اليومي العائلي وأثره في ذات الشاعر ، في حين ان لديه قصائد أخرى تعالج مواضيعَ منها الفلسفي ومنها الاجتماعي ، ويأتي ذكر المتعلقات العائلية كالأمّ والأب والأبناء فيها بوصفها عارضا يدلف الشاعر من بابه إلى بلورة الموضوع الركيزة.
وجدير بالذكر هنا أن التقانتين أعلاه تغطيان مساحة ملفتة للانتباه في الديوان ، تتطلب على تناولهما تناولا نقدياً في دراسة مستقلة ،خاصة وأنهما ليستا بأقل أهمية من تقانة ( التعريف) التي خصصنا لها هذه المساحة البحثية المحدودة.
تقانة التعريف : الماهيّة وملامح التجلّي .
يعني تعريف الشيء فيما يعنيه ترجمة تصورنا عن ماهيتة بعد إدراكنا لأبعاده المحسوسة أو المعنوية ، جاء في اللسان " التعريفُ : الإعلامُ ، وتعرّفتُ ماعند فلان : أي تطلّبتُ حتى عرفتُ .. ويقال :عرّفَ فلانٌ الضالّةَ ، أي ذكَرَ صفاتها وطلبَ مَن يعرِفها" ، و التعريف " عبارة عن ذكر شيء تستلزم معرفتُه معرفةَ شيء آخر ، والتعريف اللفظي هو أن يكون اللفظ واضح الدلالة على المعنى ، فيفسَّر بلفظ أوضح دلالةً على ذلك المعنى.." وكان التعريف ولايزال الرسالة التي بها ننقل أثر الاشياء فينا ، وفكرتنا عنها ،إلى الآخر للوصول إلى اتفاق مفهومي يوحدنا في تصور ماهية الشيء ، فتعريف الشيء إذن لمسه ذهنيا ، والإتيان بأصابع المخاطب أيضا وتحريكها على تلكَ الماهية ، لنشركه هو الآخر في متعة التصور الذهني للشيء . ولنتفق معه على أن المسمى الفلاني يعني أولا وثانيا وثالثا..." . ويبدو الكلام هنا منطلقا علميا نوعا ما للإحاطة بالتعريف كفلسفة . ويبدو أن هذه الإحاطة قد اشتغلت عليها ذاكرة عبود الجابري في نصوصه بوعي واضح للزخم الشعري الذي يمكن أن يفيد منه الشاعر في بلورة نص لا يعوزه الإدهاش انطلاقا مما يمكن أن نسميه هنا بـ (شعرية التعريف ) ، التي تنبئ بأن التعريف الشعري للأشياء يتجاوز الظاهر ويدخل إلى تفاصيل وأعماق المعرّف دخولاً يحوله إلى منجم دلالات كريم ، ومَعين جمال ثر رغم أن المعرّف ليس بالغريب ولا بالمبتدع .فذاكرة الجابري تكتظ بما تكتظ به ذاكرة الآخرين أيا كانوا بتعريفات علمية ربما أو تعريفات معجمية عن الحَجَر والغيمة والباب والغيم والقميص وغيرها من موجودات الماحَول . لكن الشاعر - وهذا دور من أدواره - لايعطينا التعريف على خاميّته ، كما هو في ذهننا في حال براءته الأولى ، بل يعجنه بمادة الشعر ، وعطر الجرح ، ويحككه بنتوءات السخرية حينا ، ويخبئُه بقناع الفجيعة حينا آخر ، ليكون تعريف الأشياء عنده تعريفا آخر ، يقول الشيء ليتجاوزه إلى المسكوت عنه ، ولدى متابعة منتجات الذاكرة التعريفية التي اشتغل على مفرداتها الشاعر عبود الجابري نجد أنه يمكن رصد ثلاثة ملامح بارزة في شعريتة التي تستثمر تقانة التعريف:
الملمح الأول :
هو مركزية الدال المراد تعريفه ، والاهتمام بطرح أبعاده إلى الحد الذي يجعل من هذا الدال البؤرة التي تشتغل عليها نصوص تفريعية تنتهج النهج المقطعي ليشكل كل مقطع تعريفا شعريا جديدا للدال المعرّف نفسه ، فتتعدد بذلك تعريفات الدال الواحد ، بتعدد زوايا النظر إليه عند الشاعر، لتتشكل في النهاية الفكرة العامة عن طبيعتة ، ممزوجة بشعرية الذاكرة التي انتجته.
الملمح الثاني :
الإنتقاء المدروس للدال المراد تعريفه شعريا ، اعتماداً على ما تمتلك لفظته من زخم ترميزي ، إذ الملاحظ أن الشاعر في اشتغاله هنا لا يبدو معنيّا باختيار كلمات وحسب ، وإنّما باختيار تاريخ كلمات ، على اعتبار أن لكل كلمة تاريخ يجعلها تتفاوت _ قياسا على غيرها من الكلمات _ فقرا وثراءً ، اعتمادا على مافيها من طاقة ترميزية تجعلها قابلة للاشتغال الشعري.
الملمح الثالث : ان الشاعر لا يقتصر على جعل الدال المعنيِّ هنا هو المعرَّف حصرا ، بل قد يجعله معرَّفا به أحياناً ، بمعنى ان الدال الذي تركز عليه النصوص بوصفه الخيط الذي يجمع مقاطعها ، غالبا مايأتي بوصفه المراد تعريفه ، لكننا لانعدم ان نراه أداةً مساعدةً لتعريف شيء آخر ، والشاعر في كل ذلك ينطلق من شعرنة التعريف والإفادة منه في بلورة شعرية نصوصه . وفي مايأتي سنقف عند دالّينٍ اكتسبا فرادة واهتماما ملحوظينِ في شعرية الجابري ، وعوّل عليها كثيرا في بلورة مساحة عريضة من شعرية التعريف في ديوانه الموسوم ( يتوكأ على عماه) : وهذان الدالّان هما ( الحَجَر ) في قصيدة ( تخطيطات حجرية) و ( الباب) في قصيدة ( الأبواب) بتقليباتهما الصرفية :
1- الحَجَر :
معلوم إن للدال (حجر) تاريخاً ثرّاً يجعل منه منجماً لإمكان ترميزي لايقل ثراءً عن ذلك التاريخ . فالحَجَر حضور لسيزيف الذي حكمت عليه الآلهه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، والحَجَر حضور للمعبودات القديمة – أي مادة الصنم - ، وحضور للطقوس التعبدية – أي مادة الرجم ، والحَجَر الأسود - ، والحَجَر- بعد- صرخة الشاعر الجاهلي في وجه واقعه وأمنيته الحجرية – حسب رأي حاتم الصكر– منذ صرخة تميم بن مقبل ( ليت الفتى حَجَر ) ، تلك الصرخة التي اتخذت منحى فلسفيا شكّل انعطافة في تفكير الانسان الجاهلي . والحَجَر أيضا السلاح الأول ، ومادة الثورات في بواكيرها ، وهذه بعض المفردات التاريخية والثقافية التي جعلت من شعرنة الحَجَر زادا شعريا لم يكن الجابري ولن يكون الأخير في التزود منه ، وهو زاد اتخذ عند الشاعر شكل البؤرة التي ترد في سياق تعريفي ، تصنف نصوصه المعنية هنا في خانة ( شعرية التعريف) ، كما سبق واشرنا ، وهي شعرية قائمة على التكثيف والاقتصاد في اللغة مع عمق التأثير وانفتاح المداليل إلى أفق جمالي أكبر من حجم ( التعريف) ، ففي قصيدة ( تخطيطات حجرية) يقول الشاعر معرفا بالحجَر:
" الحَجَر ائتلاف الرمال "
ويبدو الشاعر هنا منطلقا انطلاقة منطقية من كون الحَجَر مجموعا مؤتلفا لرمال متفرقة ، وهي انطلاقة ينشد من خلالها هدفا وحدويا ، ينفتح على الوحدة بمفهومها الكونيّ الأشمل ، ويجعل من مجموع الضعيف قوة وصلابة ، منتقلا بالحجرإلى حالة وحدة مثلى ، تقوم على أنقاض الهشاشة بعد ائتلافها . وبذلك يتحول الحَجَر على يدي الشاعر حافزا وحدويا . وهو حافز يمكن أن ينسحب أيضا على قوله في القصيدة ذاتها:
" الجبل بلاد من الحجارة"
، جاعلا من الحجارة الوحدة الأساس في بناء الجبل بكل عنفوانه وجبروته ، كما جعل في النص السالف الرمال الوحدة الأساس في بناء وكينونة الحجر.
وأما في قوله :
" الحَجَر وسادة الغريب "
، فيبدو تعريف الحَجَر منطلَقا للسخط على واقع الغربة التي تذل الغريب ، إلى الحد الذي يجعل منه يرضى مضطرا بأن يعادل بين الحَجَر بقسوته وبين الوسادة بليونتها ، تلك الليونة التي لا توفرها المنافي للغرباء ، وكأن التركيبة هنا تُقابِل دلالياً بين متضادين: المنفى / الحَجَر ، والوطن / الوسادة ، ويأتي فعل الغربة ليسلب الذات وسادتها ويسلم رأسها إلى حَجَر المنافي . غير أن ثراء هذه التركيبة يمكن أن يفتحها دلاليا إلى فلسفة دينية أكثر عمقا من ظاهرها . خاصة وأن لفظة ( الغريب) قد أضفى الخطاب الديني عليها بعدا فلسفيا سلوكياً جعل منها المناورة المحمودة لمواجهة الحياة الفانية للوصول إلى الرضا الرباني ، جاء في الحديث ( طوبى للغرباء).
وبهذا يمكن ان يمثل النصيص : " الحَجَر وسادة الغريب" وقفة صوفية تتخذ من الزهد والخشونة زادا للسير في طريق السالكين للوصول إلى رحاب الجمال الأبدي - حسب النزعة الزهدية في الثقافة الصوفية.
وإذا كان الشاعر فيما مر بنا من تعريفات شعرية قد جعل الحَجَر دالاً مركزيا يدور حوله التعريف ، فإننا نجده في نصوص أخرى يعرّف الأشياء بالحَجَر ، فيكف الحَجَر هنا عن كونه المعرَّف ، ويشتغل بوصفه معرّفاً به ، وواصفاً لاموصوفاً ، وتفسيرا لا مشكلةً . ليكون هو المستعانُ في شعرنة الأشياء شعرنة تعريفية كمافي قوله معرفا بالثقوب:
" الثقوب أحجار مهاجرة من الجدار "
. وواضح في هذا النص الإلتقاطة الدالة على المأساوية التي طبعت الجدران المثقوبة بفعل الرصاص والشظايا . يلتقطها الشاعر ، رابطا هنا بين الثقوب التي من أبسط نتائجها فعل الهجرة بكل مافيه من فجيعة ودمار . إن الشاعر في هذا النصيص يجعل من الهجرة ، واللاإستقرار الذي يطبع أزمنة الحروب ، يحعل منهما المسكوتَ عنه ، ويكتفي بتتبع أثره . وشعرنة مظاهره اعتمادا على تعريف الثقوب في حدود علاقتها بالحَجَر .
وأما تعريفه للرخام بقوله :
" الرخام حَجَر أدركَتْه النعمةُ فجأة"
فيبدو الشاعر فيه ناقما اجتماعيا على النموذج الفارغ من الشخصيات البشرية التي لاتعدو أن تكون في حقيقتها حجرا بكل مافي الحَجَر من دلالة فقدان القدرة على النفع والتأثير ، لكنّ دولان حركة الحياة ودورانها دورانا سلبياً أحيانا، يجعل من هذا النموذج مدعاة لتحصيل ماهو ليس بأهل له من فرص الحياة . لتضفي عليه الحياة بغير وجه حق جمالاً ينقله من حالة الحَجَر التي هي الأصل فيه ، إلى حالة الرخام التي تعني هنا الحَجَر الذي اكتسب جمالا اجتماعيا بسبب نعمة طارئة . ليتحول النص بمادة الرخام من مدلولها الايجابي -لارتباطها بالفن التشكيلي والتأثير الجمالي - ، إلى مدلول سلبي يجعل منها شكلا جميل الظاهر سيء المضمون.
ويعرف الشاعر الكهوف أيضا تعريفا شعريا بقوله:
" الكهوف أحجار حانية "
رابطا بين الحَجَر الذي هو مادة الكهوف . وبين مدلول الحنوّ الذي يرصده الشاعر بوصفه صفة لا تفارق الكهوف كونها صديقة الهاربين بفكرهم من جبروت المدن وسطوة سلاطينها . وعلى نحو يستدعي قرائيا تفاصيل مجريات قصة أهل الكهف ، وكأن الشاعر يلمح في نصيصه التعريفي هذا بفضل الكهوف وحنوّها على اللائذين بها ، على مجريات الحياة الانسانية روحيا وفكريا.
ويقابل الشاعر في نصيص تعريفي آخر بين الذكورة والأنوثة راصدا لعلاقة اجتماعية يعوزها الكثير من التناغم ، وتفتقر إلى الكثير من الانسجام جراء السلوك المتعارض والمتناقض بين فلسفة وتصرفات الـ( هي) المؤنثة مقابل سلوك وتصرفات الأنا المذكّرة ، يقول معرِّفا بـالـ ( هي) و الـ ( أنا) تعريفا تقابلياً:
"هي حَجَر وأنا ماء ،
كلّما اكتفيتُ بالسكون ،
ملأتْني بالدوامات "
يبدو النصيص التعريفي هذا نصيصا تلميحيا فيما يخص ماهية كل من المؤنث المذكر على السواء ، وهذا يجعل الدلالة الاجتماعية لعلاقة الرجل بالمرأة فيه ، محمولا دلاليا واحدا من محمولات عدة يمكن أن ينفتح عليها النص . مادام الشاعر لم يصرح الا بجنسانية طرفي التناقض . وبهذا يمكن تكون الـ ( هي) في النص الحياة بأكملها ، والأنا هي الإنسان بمعناه الشامل مادامت الحياة لاتستسيغ اكتفاء الإنسان بسلوكياته المسالمة والراكنةإلى السكون . وهنا يدخل الحَجَر بوصفه المؤثر والفاعل والحاث في استفزاز الحياة لإنسانها الذي سرعان ما يمتليء كبحيرة كانت ساكنة ؛ بدوامات مركزها الحَجَر الذي تلقي به الحياة . وبهذا يكون الحَجَر عنصر التأثير على ضآلة حجمه قياسا على حجم البحيرة . إلّا أننا نجد هذا الحَجَر ذاتَه مكمنَ ضعف ولاجدوى وقلة تأثير في نص آخر خاصة عندما ينحو النص منحى فلسفيا يصور الشاعر فيه محدودية سلطة الإنسان على الكون ضِمناً ، الكون الذي يعادله الشاعر برقعة الشطرنج إذ يقول :
"حتى الملك على رقعة الشطرنج يدعى حجرا " .
2- الباب :
ومن الألفاظ التي تمتلك زخماً دلاليا ثرّاً لفظة الباب ، الذي يعني فيما يعني الفاصل بين عالمين ، والبرزخ بين الداخل والخارج ، بين الواضح والغامض ، بين المعلوم والمجهول ، بين المكشوف والمستور ، وتستدعي هذه اللفظة ذاكراتيا منظومة ثقافية فيها المادي العمراني الذي تؤكده معمارية المدن وتركيزها على كثرة الأبواب في مرحلة متقدمة من العمر العمراني للحضارة الإنسانية ، وفيها كذلك الديني الذي يمثل فيه الباب وانفتاحه الانتقال من عالمإلى آخر انتقالا مصيريا ( حتى اذا جاؤوها وفتحت أبوابها..) فضلا عن كون الباب قرين الغواية ، والشاهد الصامت ( وغّلقت الأبواب .. وألفيا سيدها لدى الباب..).
يعرف الشاعر بالباب تعريفا شعريا في نصيص يتخذ شكل الشذرة الشعرية ، يلخص فيها معيوشا إنسانيا مؤلما جرّاء ارتباط الباب بالبَطالة ، التي يوظف النص لفظتها هنا ملخِّصةً حالة الغياب الأليم لمن كانوا سببا في صخب الأبواب ونشاطها الدائم كناية عن الرحيل:
" المنزل المهجور بابٌ يشكو البَطالة "
وهكذا يصبح الباب هو المنزل ذاته ، فحياة المنزل رهينة بالعمل الدؤوب للباب الذي تفتحه وتغلقه أيدي الأحبة ، وماعطلُه عن العمل إلّا عطَل لحيوية المنزل الذي فارقه أهلُه ومحبوهم ، فاختار الركود والتقوقع على ذاته واجترار ذكرياته ، وهو المغزى نفسه من قوله
" الأبواب المقفلة عيون مغمضة "
بكل ماتعني العيون المغمضة من عدم القدرة على التصالح مع الضوء واللون والحياة . فالباب عند الشاعر حياة وحركة وايجاب ، لا يرضى لها البطالة ، ولا الإغماض ، لذا نجده ، في نصيص آخر يعرّف النوافذ – التوأم الحيوي للأبواب - و بنبرة أسف قائلا:
" النوافذ أنصاف أبواب "
، وكأنه يؤشّر بذلكَ عتَبا على النوافذ التي وان شكلت متنفسا بصريا بين الداخل والخارج ، الا أنها بقيت في اطار أنصاف الحلول ، ولم ترقإلى مستوى فاعلية الأبواب ، كون الأخيرة هي المتنفس الأشمل الذي يبيح للذات جسما وحواسّ بالتحرك مابين الداخل والخارج . على نحو لاتبيحه محدودية النوافذ ، ويبدو الشاعر في هذا النصيص محفزا للفعل والمبادرة ، وكأنه يتحدث من داخل سجنٍ ماديا كان أم معنويا ، رافضا لواقع هذا السجن الذي تصادر فيه وظيفة الأبواب وتصادر فاعليتُها ، ويستعاض عنها جبراً بالنوافذ.
وقد تتحول لفظة الباب في تعريفات الجابري إلى فسحة أملٍ يبدو يائسا ، حين يرتبط الباب عنده بانتظار الفقراء لمجهول ينقذهم من ورطة الفقر وينفض عن كواهلهم ثقلَه . فيلخص الشاعر اعتماداً على مركزية الدالة ( باب) ؛ وجعا اجتماعياً مازال إصلاحه في ذمة المجهول من الزمن القادم إذ يقول معرفا الفقر :
" الفقر باب مؤجل "
وهذا يعني انه الباب الحلم .الذي لم يجد رصيدا من التحقق الواقعي الذي يمكن أن يكون منقذا من الواقع المزري الذي يعيشه الفقراء ، ليسموَ بهم إلى عالم اكثر رحمة ورخاءً ونعمة.
وأما في تعريفه للأبوة قائلا : " الأبوّة باب اليُتم" ، فيغدو الباب متعلقا فلسفيا ، ينطلق الشاعر من خلالهإلى التذمر والشكوى من مرارة فكرة العبثية ،التي لم يَسلم من مرارتها كبار الفلاسفة والمفكرين ، الذين طالما اشتكى الكثير منهم من غموض النهايات وشغلتهم الغايات في اسئلتهم الوجودية التي طرحوها ورحلوا، وهي شكوى تجد لها صدى ههنا في نصيص الجابري الذي يقر اقراراً موجعا أن فرحة الأُبوّة لابدّ وممزوجة في النهاية بترحة الفقد ، وعلى نحو يجعل الإنسان النافذ البصيرة يفكر بتجرد ليصلإلى نتيجة مرة ، مفادها أننا ولدنا أيتاما الآن أوغدا ، ونلد أيتاما ، والأبوّة بذلك باب اليتم المشرع دائما ليملأ الدنيا أيتاماً ، يلدون أيتاما ، يلدون أيتاما ، يلدون أيتاما ... وهلمَّ جرّا . لتكون الحياة كلها بذلك فتحا لباب اليتم الذي يستحيل إيصاده مادام الكون قائما على ثنائية الحياة والموت . وليس ببعيد عن هذه الشكوى قوله:
الأبواب التي تصطفق ؛ أغنية الريح "
على مافي هذا المقطع المشهدي من حيوية وحركة ، فاصطفاق الأبواب المتكرر يحمل ضمنا غياب من يوصده ، أو يمنعه من أن يكون العوبةً في يد الريح ، وأداةً لأغنيتها القاسية . وكأن الشاعر هنا ينتقل بهذا المشهد الضاج بالحركة ، إلى مغزى إنساني أشمل ، يؤكد - عودا على ماأسلفنا- مرارة الفقد وغياب صُنّاعالأبواب ومحرّكيها غيابا أبديا ، لتصبح ألعوبة بيد الريح ، تغنّي بها كيف تشاء . مؤشرة فناء الإنسان ، واستئثار الريح – قرينة الهباء - بميراثه .
وقد يتخذ الشاعر من الباب متكأ تتكيء عليه جمالية الصورة الغزلية في خطابه لأنثاه ، أو حديثه عنها ، أو عن عاطفة الحب ودوافعها ، إذ يعرف القميص الذي هو من متعلقات أنثاه بكونه باباً يعز على الطرق ، ويبقى مجرد التفكير بطرقه حلما يقول:
قميصكِ بابٌ أحلم ان أطرقَهُ "
وتتجلى جمالية الصورة هنا من الطرح الموارب لنوازع الرغبة الإنسانية ، إذ يذكر الشاعر الطرقَ ، في مضان كونه حلما ، وأما الاستجابة التي يفترض أنها فتح القميص انطلاقا من كون طرق الباب يقتضي فتحه مادام القميص باباً ، فيبقى قيمة مسكوتا عنها ، يفترضها السياق تاركا للقراءة مهمة الوقوف على الدلالة الشهوانية التي غيبها النص ، واكتفى بالتلميح إليها، وأماط اللثام عن تفاصيل مايخبئه هذا التلميح الذي يمكن إدراكه من ارتباط القميص بالجسد - مكمن الشهوة - ارتباطا مكانياً مادياً من جهة ، وثقافة القميص في العرف الاجتماعي والديني من جهة أخرى ، هذه الثقافة التي غالبا ما يكون القميص فيهاقرين شهوة عندما يتعلق الأمر بعلاقة ذكر بانثى– نذكّر هنا بقميص يوسف -، هذا إذا استبعدنا الجانب الترميزي وقرأنا النصيص في حدود الظاهر ، أي بكون الانثى أمراة وحسب ، في حين يمكن أن نجد نزعة فلسفية أعمق ممايدل عليه ظاهر النص، إذا فهمنا الأنثى هنا فهما إطلاقيا لتعني كل مؤنث في حدود ما تطرحه اللغة ، لتنتقل بذلك دلالة القميص من الجانب الشهواني إلى الجانب الفلسفي الذي يجعل منه ( إمكانًا إبصارياً) يُلقى على عيون الطارق فيرتد بصيرا ، عارفا بأسرار الحياة – نذكّر هنا بقميص يوسف أيضا - ، ومتمكنا من حل ألغازها التي تؤرقه بوصفه إنسانا وجد نفسه في أحضانها دون أن يكون له يد في هذا الوجود.
وفي نصيص آخر يعرّف عبودُ الجابري المواربَ من الأبواب تحديدا بكونه امرأة في لحظة انتظار قائلا:
" الباب الموارب إمرأة تنتظر "
فيدخل الباب هنا بوصفه عنصرا مشهديا يتعاضد بمواربته مع لهفة المرأة في تصوير حالة معيوش إنساني نرى المرأةَ فيه مخلوقا انتظاريا ، دون تحديد لماهية علاقة المرأة بالمنتظر الغائب ، وهذا يفتح دلالتها على كونها العاشقة التي تنتظر حبيبها ، أو الزوجة التي تنتظر زوجها ، أو.الأُم التي تنتظر ولدها، إلى غير ذلك من التأويلات.
ولاينسى الشاعر أيضا أن يتخذ من الباب موضوعةً لنقد اجتماعي ، فيغدو الباب في إحدى تعريفاته ،أداةً إصلاحية ترميزية لاعلاقة لها بالباب كوظيفة ، في صورة يرجع فيها الشاعرُ البابَ الذهبيَّ المتعالي المتغطرس والمعتد بقيمته ،إلى إجداه الأصليينَ ، طارحا رؤيا مفادها أن الأبواب سلالاتٍ ، وأنّ ذهَبُ اليوم هو في الحقيقة صفيح الأمس . إذ يقول معرِّفاً بالباب أيضا : " الباب الذهبي سليل باب الصفيح"
وأما في قوله :
" البكاء باب الرجُل الأخير "
، فيبدو النص موزعا في دلالتين . الدلالة الأولى إقرار الكبرياء للرجل ، والدلالة الثانية التأسف على فقدانها في حال كون الرجل قد دفعته الحياة إلى طرق باب البكاء الذي يقتضي طرقُه أن الرجل قد انتهى من طرق جميع الأبواب الممكنة للخلاص ، ووجدهاموصدة أمامه ، فلإذبباب البكاء.
وفي تعريفه لليد بقوله :
" يد الأعمى باب عينه "
، قد يبدو ظاهر النصيص ، التقاطةً لتحسس الأعمى للأشياء ، واستعانته بيده على رؤيتها ذهنيا كإجراء تعويضي عن عاهة العمى ، لكن النص يمكن أن ينفتح دلاليا على معنى أبعد مفاده أن التصرف الطائش الذي يعالج الأمور باليد دون تفكير أو روية ، يجعل من الإنسان رائياً مختل الرؤية، فلا تعود العين عنده بصيرة ، وإنّما هي بصرٌ وحسب ، يستوي فيه الإنسان بالعجماوات في آليةِ الرؤية الناجمة عن وقوع الاشياء على شبكية العين وتحقق الرؤية بالمعنى العلمي ، وبذلك تعود دالة الباب هنا دالة سلبية جراء كونها السبب في المبادرة الخطأ . وكونها الرابط سلبيا بين تشويش الرؤية وما يتبع هذا التشويش من فعل غير مدروس على مستوى النتائج.
وهكذا يمكن قراءة استطرادات تعريفية كثيرة غير التي مررنا بها ، يشكل الباب فيها مناط تعريف لبلورة شعرية المعرَّف بلورة لا تفتقر إلى الجمالي الناجم عن ملاحظة اليومي والمعيوش ، والربط بين جزئياتهما ربطا يصعد بالتعريف بوصفه تقانة إلى مصاف تحقيق شعرية.حافلة بالكثير من الدلالات ، ومؤكدة للكثير من مظاهر الجمال.
أ.م.د. جاسم محمد جاسم
قسم اللغة العربية ، كلية التربية الأساسية ، جامعة الموصل
https://www.facebook.com/abboud.aljabiri/posts/10159633337895348
كثيرة ومتنوعة هي التقانات الكتابية التي يلجأ الشاعر إليها ويفعِّلها في بلورة شعرية منتجه الأدبي، ومدار هذا البحث تقانة ( التعريف) التي لجأ إليها الشاعر عبود الجابري واتكأ عليها بنحوٍ لافت في ديوانه ( يتوكأ على عماه) ، إذ يعمد الشاعر في مساحة عريضة من هذا الديوان إلى التقاط اللفظة ، ومن ثم تعريفها تعريفاً شعرياً ، مانحاً إياها ثراءً دلالياً تستثمره آلية اشتغال الشاعر، مستجليةً إمكانات اللفظة ذاتها في توليد شبكة معانٍ ومداليل متنوعة الخيوط ، وذلك بجعل اللفظة ثيمة ارتكاز تتنامى صورها وتتنوع طارحةً رؤى جزئية مختلفة ، وهي رؤى تتعاضد لتكوين الرؤيا العامة للنص ككل، فجاء ديوانه المذكور في جزء كبير منه ؛ ديوانَ تعريفاتٍ شعرية وامضة تعتمد التركيز في اللغة والقوة في الفكرة ، مبلوِرةً اشتغالاً شعريا يتناسب ومزاج قصيدة النثر التي تعوّل كثيراً على قوة الفكرة ، والاقتصاد في اللغة ، وايجاد علاقات جديدة بين الأشياء . وسنستجلي في هذا البحث أهم تقانات اشتغال الديوان المذكور ، لنقف بالتحليل المتأني على تمظهرات تقانة التعريف ، التي عوّلتْ عليها كثيراً شعرية الجابري في ديوانه المذكور .
التعريف تقانةً شعريةً
قراءةٌ في ديوان ( يتوكّأ على عماه) لـ (عبود الجابريّ)
توطئة
في تأكيد له على قيمة وحتمية ( الصناعة) في الشعر التي قال بها أرسطو من قبل ، يقول الجاحظ " الشعر ضرب من النسج وجنس في التصوير" ويشي ذلك بأن الشعر في جوهر كتابته صناعة ، والشاعر صانع - نساج تحديدا - ، تظهر براعته في تحريك خيوط مادته ومناغمة ألوانها وأنواعها على النحو الذي يطرح بين يديّ المتلقي في النهاية تكويناً مكتمل التفاصيل ينحاز للجمال ، وينماز به ، فالشعر تأسيساً على ماسبق صناعة لها أصول وقوانين ومتطلبات لابد منها ، بعد حيازة الموهبة القادرة على توجيه يد الصانع وذهنه وصولا إلى الشعر . وما كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري إلا ترسيخ لفكرة أن الشاعر صانع وصائغ ، في مرحلة ما من مراحل الكتابة ، تبرز خصوصيته في النهاية في كيفية تفعيل وتوظيف آليات الكتابة على النحو الذي يجعل لتجربته خصوصية وتفردا وتطبع منتجه الإبداعي ببصمة خاصة به ، وهذا يؤكد أن لكل شاعر تقاناته في الكتابة ، بها يتميز عن غيره ، وإليها يستند في عملية النسج الشعري.
ولدى قراءة ديوان يتوكأ علىعماه ، لعبود الجابري ، يمكن تلمس تقانات اشتغال ميزت قصيدته ، بحيث أصبحت الوجه الإبداعي الذي لايخطئه المتلقي في رحلته مع نصوص الديوان ، وهي تقانات يبدو الشاعر فيها صنّاعاً بآليات اشتغال خاصة ، تتواءم مع روح قصيدة النثر من حيث الاعتماد على قوة الفكرة ، والإنتباهة الذكية إلى العلاقات بين الاشياء ، واقتناص تلك العلاقات للوصول بالتالي إلى الشعرية المنشودة .
ديوان يتوكّاُ على عماه : ماهيةً وتقانات
وأول ما يطالع المتلقي في الديوان، هو سعي الشاعر إلى التزام ( منهجية شعرية) في بناء القصيدة المقطعية تحديداً ، إذ تشكل هذه القصيدة عنده بناءً سرديا يتكيء على محور لفظي ( باب ، قميص ، غيم ، حَجَر ...الخ) يلتقطه الشاعر ليبني منه قصيدة طويلة ، معولا فيها على النظام المقطعي الوامض والمكثف، بحيث تشكل اللفظة الملتقطة داخل كل مقطع منبعَ رؤية متكاملة بحد ذاتها ، تسهم من خلال كونها جزءا من نظام مقطعي في ايصال وبناء رؤية النص الكبير الذي تنتمي إليه . لتتوحد هذه المقاطع من خلال العنوان الذي يجمعها كخيط دلالي ، وهو ما يجعل القصيدة ذات النظام المقطعي عنده مطولة قائمة على التنويع اكثر من كونها قائمة على التنامي ، بحيث تشتغل كل ومضة مقطعية من الومضات ضمن حقل دلالي خاص بها ومرتبط بغيرها عن طريق الارتباط دلاليا بالعنوان الرئيسي للقصيدة.
ولدى متابعة تجليات الصياغة الشعرية عند الشاعر يمكن ان نضبط ملامح هذه الصياغة تصنيفياً اعتمادا على المناطق التي تشتغل فيها شعريته بثلاث مناطقَ ، يظهر الشاعر فيها صانعاً محترفاً وممنهِجا حريصاً على تقانات بوحه الشعري ، وهي تقانات يمكن حصرها في الآتي :
1- تقانة استدعاء التراث
2- تقانة استدعاء الجو الأُسَري
3- تقانة التعريف
ففيما يخص النقطة الأولى ، يمكن القول إن الجابري وان ساير النسق الشعري في الإتكاء على التراث والاغتراف منه ، الا أن ما يميز مشغله الشعري هو هذا الاغتراف الممنهج لدالة تراثية بعينها وغالبا ما تكون هذه الدالة شخصية أو حدث تاريخي متعلق بشخصية ، يتقصّى الشاعر ملامحها متتبّعا ما يمكن أن تطرح من شعرية تناصية، وهو في كل ذلك عارف وملم بابعاد الدالة التراثية والحادثة التاريخية التي يوظفها ويتخذها مرجعا وثيمة تناصية .
وأما فيما يخص تقانة استدعاء الجو الأُسَري في الديوان ، فيمكن ملاحظة أنها تقانة أكثرَ الشاعر منها سواء بكونها غاية في ذاتها ، أم بكونها وسيلة يوظفها لخدمة مضمون أشمل ، بمعنى ان لدى الجابري قصائد تشتغل بوصفها قصائد أُسرة بامتياز ، تدور حول المعيوش اليومي العائلي وأثره في ذات الشاعر ، في حين ان لديه قصائد أخرى تعالج مواضيعَ منها الفلسفي ومنها الاجتماعي ، ويأتي ذكر المتعلقات العائلية كالأمّ والأب والأبناء فيها بوصفها عارضا يدلف الشاعر من بابه إلى بلورة الموضوع الركيزة.
وجدير بالذكر هنا أن التقانتين أعلاه تغطيان مساحة ملفتة للانتباه في الديوان ، تتطلب على تناولهما تناولا نقدياً في دراسة مستقلة ،خاصة وأنهما ليستا بأقل أهمية من تقانة ( التعريف) التي خصصنا لها هذه المساحة البحثية المحدودة.
تقانة التعريف : الماهيّة وملامح التجلّي .
يعني تعريف الشيء فيما يعنيه ترجمة تصورنا عن ماهيتة بعد إدراكنا لأبعاده المحسوسة أو المعنوية ، جاء في اللسان " التعريفُ : الإعلامُ ، وتعرّفتُ ماعند فلان : أي تطلّبتُ حتى عرفتُ .. ويقال :عرّفَ فلانٌ الضالّةَ ، أي ذكَرَ صفاتها وطلبَ مَن يعرِفها" ، و التعريف " عبارة عن ذكر شيء تستلزم معرفتُه معرفةَ شيء آخر ، والتعريف اللفظي هو أن يكون اللفظ واضح الدلالة على المعنى ، فيفسَّر بلفظ أوضح دلالةً على ذلك المعنى.." وكان التعريف ولايزال الرسالة التي بها ننقل أثر الاشياء فينا ، وفكرتنا عنها ،إلى الآخر للوصول إلى اتفاق مفهومي يوحدنا في تصور ماهية الشيء ، فتعريف الشيء إذن لمسه ذهنيا ، والإتيان بأصابع المخاطب أيضا وتحريكها على تلكَ الماهية ، لنشركه هو الآخر في متعة التصور الذهني للشيء . ولنتفق معه على أن المسمى الفلاني يعني أولا وثانيا وثالثا..." . ويبدو الكلام هنا منطلقا علميا نوعا ما للإحاطة بالتعريف كفلسفة . ويبدو أن هذه الإحاطة قد اشتغلت عليها ذاكرة عبود الجابري في نصوصه بوعي واضح للزخم الشعري الذي يمكن أن يفيد منه الشاعر في بلورة نص لا يعوزه الإدهاش انطلاقا مما يمكن أن نسميه هنا بـ (شعرية التعريف ) ، التي تنبئ بأن التعريف الشعري للأشياء يتجاوز الظاهر ويدخل إلى تفاصيل وأعماق المعرّف دخولاً يحوله إلى منجم دلالات كريم ، ومَعين جمال ثر رغم أن المعرّف ليس بالغريب ولا بالمبتدع .فذاكرة الجابري تكتظ بما تكتظ به ذاكرة الآخرين أيا كانوا بتعريفات علمية ربما أو تعريفات معجمية عن الحَجَر والغيمة والباب والغيم والقميص وغيرها من موجودات الماحَول . لكن الشاعر - وهذا دور من أدواره - لايعطينا التعريف على خاميّته ، كما هو في ذهننا في حال براءته الأولى ، بل يعجنه بمادة الشعر ، وعطر الجرح ، ويحككه بنتوءات السخرية حينا ، ويخبئُه بقناع الفجيعة حينا آخر ، ليكون تعريف الأشياء عنده تعريفا آخر ، يقول الشيء ليتجاوزه إلى المسكوت عنه ، ولدى متابعة منتجات الذاكرة التعريفية التي اشتغل على مفرداتها الشاعر عبود الجابري نجد أنه يمكن رصد ثلاثة ملامح بارزة في شعريتة التي تستثمر تقانة التعريف:
الملمح الأول :
هو مركزية الدال المراد تعريفه ، والاهتمام بطرح أبعاده إلى الحد الذي يجعل من هذا الدال البؤرة التي تشتغل عليها نصوص تفريعية تنتهج النهج المقطعي ليشكل كل مقطع تعريفا شعريا جديدا للدال المعرّف نفسه ، فتتعدد بذلك تعريفات الدال الواحد ، بتعدد زوايا النظر إليه عند الشاعر، لتتشكل في النهاية الفكرة العامة عن طبيعتة ، ممزوجة بشعرية الذاكرة التي انتجته.
الملمح الثاني :
الإنتقاء المدروس للدال المراد تعريفه شعريا ، اعتماداً على ما تمتلك لفظته من زخم ترميزي ، إذ الملاحظ أن الشاعر في اشتغاله هنا لا يبدو معنيّا باختيار كلمات وحسب ، وإنّما باختيار تاريخ كلمات ، على اعتبار أن لكل كلمة تاريخ يجعلها تتفاوت _ قياسا على غيرها من الكلمات _ فقرا وثراءً ، اعتمادا على مافيها من طاقة ترميزية تجعلها قابلة للاشتغال الشعري.
الملمح الثالث : ان الشاعر لا يقتصر على جعل الدال المعنيِّ هنا هو المعرَّف حصرا ، بل قد يجعله معرَّفا به أحياناً ، بمعنى ان الدال الذي تركز عليه النصوص بوصفه الخيط الذي يجمع مقاطعها ، غالبا مايأتي بوصفه المراد تعريفه ، لكننا لانعدم ان نراه أداةً مساعدةً لتعريف شيء آخر ، والشاعر في كل ذلك ينطلق من شعرنة التعريف والإفادة منه في بلورة شعرية نصوصه . وفي مايأتي سنقف عند دالّينٍ اكتسبا فرادة واهتماما ملحوظينِ في شعرية الجابري ، وعوّل عليها كثيرا في بلورة مساحة عريضة من شعرية التعريف في ديوانه الموسوم ( يتوكأ على عماه) : وهذان الدالّان هما ( الحَجَر ) في قصيدة ( تخطيطات حجرية) و ( الباب) في قصيدة ( الأبواب) بتقليباتهما الصرفية :
1- الحَجَر :
معلوم إن للدال (حجر) تاريخاً ثرّاً يجعل منه منجماً لإمكان ترميزي لايقل ثراءً عن ذلك التاريخ . فالحَجَر حضور لسيزيف الذي حكمت عليه الآلهه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، والحَجَر حضور للمعبودات القديمة – أي مادة الصنم - ، وحضور للطقوس التعبدية – أي مادة الرجم ، والحَجَر الأسود - ، والحَجَر- بعد- صرخة الشاعر الجاهلي في وجه واقعه وأمنيته الحجرية – حسب رأي حاتم الصكر– منذ صرخة تميم بن مقبل ( ليت الفتى حَجَر ) ، تلك الصرخة التي اتخذت منحى فلسفيا شكّل انعطافة في تفكير الانسان الجاهلي . والحَجَر أيضا السلاح الأول ، ومادة الثورات في بواكيرها ، وهذه بعض المفردات التاريخية والثقافية التي جعلت من شعرنة الحَجَر زادا شعريا لم يكن الجابري ولن يكون الأخير في التزود منه ، وهو زاد اتخذ عند الشاعر شكل البؤرة التي ترد في سياق تعريفي ، تصنف نصوصه المعنية هنا في خانة ( شعرية التعريف) ، كما سبق واشرنا ، وهي شعرية قائمة على التكثيف والاقتصاد في اللغة مع عمق التأثير وانفتاح المداليل إلى أفق جمالي أكبر من حجم ( التعريف) ، ففي قصيدة ( تخطيطات حجرية) يقول الشاعر معرفا بالحجَر:
" الحَجَر ائتلاف الرمال "
ويبدو الشاعر هنا منطلقا انطلاقة منطقية من كون الحَجَر مجموعا مؤتلفا لرمال متفرقة ، وهي انطلاقة ينشد من خلالها هدفا وحدويا ، ينفتح على الوحدة بمفهومها الكونيّ الأشمل ، ويجعل من مجموع الضعيف قوة وصلابة ، منتقلا بالحجرإلى حالة وحدة مثلى ، تقوم على أنقاض الهشاشة بعد ائتلافها . وبذلك يتحول الحَجَر على يدي الشاعر حافزا وحدويا . وهو حافز يمكن أن ينسحب أيضا على قوله في القصيدة ذاتها:
" الجبل بلاد من الحجارة"
، جاعلا من الحجارة الوحدة الأساس في بناء الجبل بكل عنفوانه وجبروته ، كما جعل في النص السالف الرمال الوحدة الأساس في بناء وكينونة الحجر.
وأما في قوله :
" الحَجَر وسادة الغريب "
، فيبدو تعريف الحَجَر منطلَقا للسخط على واقع الغربة التي تذل الغريب ، إلى الحد الذي يجعل منه يرضى مضطرا بأن يعادل بين الحَجَر بقسوته وبين الوسادة بليونتها ، تلك الليونة التي لا توفرها المنافي للغرباء ، وكأن التركيبة هنا تُقابِل دلالياً بين متضادين: المنفى / الحَجَر ، والوطن / الوسادة ، ويأتي فعل الغربة ليسلب الذات وسادتها ويسلم رأسها إلى حَجَر المنافي . غير أن ثراء هذه التركيبة يمكن أن يفتحها دلاليا إلى فلسفة دينية أكثر عمقا من ظاهرها . خاصة وأن لفظة ( الغريب) قد أضفى الخطاب الديني عليها بعدا فلسفيا سلوكياً جعل منها المناورة المحمودة لمواجهة الحياة الفانية للوصول إلى الرضا الرباني ، جاء في الحديث ( طوبى للغرباء).
وبهذا يمكن ان يمثل النصيص : " الحَجَر وسادة الغريب" وقفة صوفية تتخذ من الزهد والخشونة زادا للسير في طريق السالكين للوصول إلى رحاب الجمال الأبدي - حسب النزعة الزهدية في الثقافة الصوفية.
وإذا كان الشاعر فيما مر بنا من تعريفات شعرية قد جعل الحَجَر دالاً مركزيا يدور حوله التعريف ، فإننا نجده في نصوص أخرى يعرّف الأشياء بالحَجَر ، فيكف الحَجَر هنا عن كونه المعرَّف ، ويشتغل بوصفه معرّفاً به ، وواصفاً لاموصوفاً ، وتفسيرا لا مشكلةً . ليكون هو المستعانُ في شعرنة الأشياء شعرنة تعريفية كمافي قوله معرفا بالثقوب:
" الثقوب أحجار مهاجرة من الجدار "
. وواضح في هذا النص الإلتقاطة الدالة على المأساوية التي طبعت الجدران المثقوبة بفعل الرصاص والشظايا . يلتقطها الشاعر ، رابطا هنا بين الثقوب التي من أبسط نتائجها فعل الهجرة بكل مافيه من فجيعة ودمار . إن الشاعر في هذا النصيص يجعل من الهجرة ، واللاإستقرار الذي يطبع أزمنة الحروب ، يحعل منهما المسكوتَ عنه ، ويكتفي بتتبع أثره . وشعرنة مظاهره اعتمادا على تعريف الثقوب في حدود علاقتها بالحَجَر .
وأما تعريفه للرخام بقوله :
" الرخام حَجَر أدركَتْه النعمةُ فجأة"
فيبدو الشاعر فيه ناقما اجتماعيا على النموذج الفارغ من الشخصيات البشرية التي لاتعدو أن تكون في حقيقتها حجرا بكل مافي الحَجَر من دلالة فقدان القدرة على النفع والتأثير ، لكنّ دولان حركة الحياة ودورانها دورانا سلبياً أحيانا، يجعل من هذا النموذج مدعاة لتحصيل ماهو ليس بأهل له من فرص الحياة . لتضفي عليه الحياة بغير وجه حق جمالاً ينقله من حالة الحَجَر التي هي الأصل فيه ، إلى حالة الرخام التي تعني هنا الحَجَر الذي اكتسب جمالا اجتماعيا بسبب نعمة طارئة . ليتحول النص بمادة الرخام من مدلولها الايجابي -لارتباطها بالفن التشكيلي والتأثير الجمالي - ، إلى مدلول سلبي يجعل منها شكلا جميل الظاهر سيء المضمون.
ويعرف الشاعر الكهوف أيضا تعريفا شعريا بقوله:
" الكهوف أحجار حانية "
رابطا بين الحَجَر الذي هو مادة الكهوف . وبين مدلول الحنوّ الذي يرصده الشاعر بوصفه صفة لا تفارق الكهوف كونها صديقة الهاربين بفكرهم من جبروت المدن وسطوة سلاطينها . وعلى نحو يستدعي قرائيا تفاصيل مجريات قصة أهل الكهف ، وكأن الشاعر يلمح في نصيصه التعريفي هذا بفضل الكهوف وحنوّها على اللائذين بها ، على مجريات الحياة الانسانية روحيا وفكريا.
ويقابل الشاعر في نصيص تعريفي آخر بين الذكورة والأنوثة راصدا لعلاقة اجتماعية يعوزها الكثير من التناغم ، وتفتقر إلى الكثير من الانسجام جراء السلوك المتعارض والمتناقض بين فلسفة وتصرفات الـ( هي) المؤنثة مقابل سلوك وتصرفات الأنا المذكّرة ، يقول معرِّفا بـالـ ( هي) و الـ ( أنا) تعريفا تقابلياً:
"هي حَجَر وأنا ماء ،
كلّما اكتفيتُ بالسكون ،
ملأتْني بالدوامات "
يبدو النصيص التعريفي هذا نصيصا تلميحيا فيما يخص ماهية كل من المؤنث المذكر على السواء ، وهذا يجعل الدلالة الاجتماعية لعلاقة الرجل بالمرأة فيه ، محمولا دلاليا واحدا من محمولات عدة يمكن أن ينفتح عليها النص . مادام الشاعر لم يصرح الا بجنسانية طرفي التناقض . وبهذا يمكن تكون الـ ( هي) في النص الحياة بأكملها ، والأنا هي الإنسان بمعناه الشامل مادامت الحياة لاتستسيغ اكتفاء الإنسان بسلوكياته المسالمة والراكنةإلى السكون . وهنا يدخل الحَجَر بوصفه المؤثر والفاعل والحاث في استفزاز الحياة لإنسانها الذي سرعان ما يمتليء كبحيرة كانت ساكنة ؛ بدوامات مركزها الحَجَر الذي تلقي به الحياة . وبهذا يكون الحَجَر عنصر التأثير على ضآلة حجمه قياسا على حجم البحيرة . إلّا أننا نجد هذا الحَجَر ذاتَه مكمنَ ضعف ولاجدوى وقلة تأثير في نص آخر خاصة عندما ينحو النص منحى فلسفيا يصور الشاعر فيه محدودية سلطة الإنسان على الكون ضِمناً ، الكون الذي يعادله الشاعر برقعة الشطرنج إذ يقول :
"حتى الملك على رقعة الشطرنج يدعى حجرا " .
2- الباب :
ومن الألفاظ التي تمتلك زخماً دلاليا ثرّاً لفظة الباب ، الذي يعني فيما يعني الفاصل بين عالمين ، والبرزخ بين الداخل والخارج ، بين الواضح والغامض ، بين المعلوم والمجهول ، بين المكشوف والمستور ، وتستدعي هذه اللفظة ذاكراتيا منظومة ثقافية فيها المادي العمراني الذي تؤكده معمارية المدن وتركيزها على كثرة الأبواب في مرحلة متقدمة من العمر العمراني للحضارة الإنسانية ، وفيها كذلك الديني الذي يمثل فيه الباب وانفتاحه الانتقال من عالمإلى آخر انتقالا مصيريا ( حتى اذا جاؤوها وفتحت أبوابها..) فضلا عن كون الباب قرين الغواية ، والشاهد الصامت ( وغّلقت الأبواب .. وألفيا سيدها لدى الباب..).
يعرف الشاعر بالباب تعريفا شعريا في نصيص يتخذ شكل الشذرة الشعرية ، يلخص فيها معيوشا إنسانيا مؤلما جرّاء ارتباط الباب بالبَطالة ، التي يوظف النص لفظتها هنا ملخِّصةً حالة الغياب الأليم لمن كانوا سببا في صخب الأبواب ونشاطها الدائم كناية عن الرحيل:
" المنزل المهجور بابٌ يشكو البَطالة "
وهكذا يصبح الباب هو المنزل ذاته ، فحياة المنزل رهينة بالعمل الدؤوب للباب الذي تفتحه وتغلقه أيدي الأحبة ، وماعطلُه عن العمل إلّا عطَل لحيوية المنزل الذي فارقه أهلُه ومحبوهم ، فاختار الركود والتقوقع على ذاته واجترار ذكرياته ، وهو المغزى نفسه من قوله
" الأبواب المقفلة عيون مغمضة "
بكل ماتعني العيون المغمضة من عدم القدرة على التصالح مع الضوء واللون والحياة . فالباب عند الشاعر حياة وحركة وايجاب ، لا يرضى لها البطالة ، ولا الإغماض ، لذا نجده ، في نصيص آخر يعرّف النوافذ – التوأم الحيوي للأبواب - و بنبرة أسف قائلا:
" النوافذ أنصاف أبواب "
، وكأنه يؤشّر بذلكَ عتَبا على النوافذ التي وان شكلت متنفسا بصريا بين الداخل والخارج ، الا أنها بقيت في اطار أنصاف الحلول ، ولم ترقإلى مستوى فاعلية الأبواب ، كون الأخيرة هي المتنفس الأشمل الذي يبيح للذات جسما وحواسّ بالتحرك مابين الداخل والخارج . على نحو لاتبيحه محدودية النوافذ ، ويبدو الشاعر في هذا النصيص محفزا للفعل والمبادرة ، وكأنه يتحدث من داخل سجنٍ ماديا كان أم معنويا ، رافضا لواقع هذا السجن الذي تصادر فيه وظيفة الأبواب وتصادر فاعليتُها ، ويستعاض عنها جبراً بالنوافذ.
وقد تتحول لفظة الباب في تعريفات الجابري إلى فسحة أملٍ يبدو يائسا ، حين يرتبط الباب عنده بانتظار الفقراء لمجهول ينقذهم من ورطة الفقر وينفض عن كواهلهم ثقلَه . فيلخص الشاعر اعتماداً على مركزية الدالة ( باب) ؛ وجعا اجتماعياً مازال إصلاحه في ذمة المجهول من الزمن القادم إذ يقول معرفا الفقر :
" الفقر باب مؤجل "
وهذا يعني انه الباب الحلم .الذي لم يجد رصيدا من التحقق الواقعي الذي يمكن أن يكون منقذا من الواقع المزري الذي يعيشه الفقراء ، ليسموَ بهم إلى عالم اكثر رحمة ورخاءً ونعمة.
وأما في تعريفه للأبوة قائلا : " الأبوّة باب اليُتم" ، فيغدو الباب متعلقا فلسفيا ، ينطلق الشاعر من خلالهإلى التذمر والشكوى من مرارة فكرة العبثية ،التي لم يَسلم من مرارتها كبار الفلاسفة والمفكرين ، الذين طالما اشتكى الكثير منهم من غموض النهايات وشغلتهم الغايات في اسئلتهم الوجودية التي طرحوها ورحلوا، وهي شكوى تجد لها صدى ههنا في نصيص الجابري الذي يقر اقراراً موجعا أن فرحة الأُبوّة لابدّ وممزوجة في النهاية بترحة الفقد ، وعلى نحو يجعل الإنسان النافذ البصيرة يفكر بتجرد ليصلإلى نتيجة مرة ، مفادها أننا ولدنا أيتاما الآن أوغدا ، ونلد أيتاما ، والأبوّة بذلك باب اليتم المشرع دائما ليملأ الدنيا أيتاماً ، يلدون أيتاما ، يلدون أيتاما ، يلدون أيتاما ... وهلمَّ جرّا . لتكون الحياة كلها بذلك فتحا لباب اليتم الذي يستحيل إيصاده مادام الكون قائما على ثنائية الحياة والموت . وليس ببعيد عن هذه الشكوى قوله:
الأبواب التي تصطفق ؛ أغنية الريح "
على مافي هذا المقطع المشهدي من حيوية وحركة ، فاصطفاق الأبواب المتكرر يحمل ضمنا غياب من يوصده ، أو يمنعه من أن يكون العوبةً في يد الريح ، وأداةً لأغنيتها القاسية . وكأن الشاعر هنا ينتقل بهذا المشهد الضاج بالحركة ، إلى مغزى إنساني أشمل ، يؤكد - عودا على ماأسلفنا- مرارة الفقد وغياب صُنّاعالأبواب ومحرّكيها غيابا أبديا ، لتصبح ألعوبة بيد الريح ، تغنّي بها كيف تشاء . مؤشرة فناء الإنسان ، واستئثار الريح – قرينة الهباء - بميراثه .
وقد يتخذ الشاعر من الباب متكأ تتكيء عليه جمالية الصورة الغزلية في خطابه لأنثاه ، أو حديثه عنها ، أو عن عاطفة الحب ودوافعها ، إذ يعرف القميص الذي هو من متعلقات أنثاه بكونه باباً يعز على الطرق ، ويبقى مجرد التفكير بطرقه حلما يقول:
قميصكِ بابٌ أحلم ان أطرقَهُ "
وتتجلى جمالية الصورة هنا من الطرح الموارب لنوازع الرغبة الإنسانية ، إذ يذكر الشاعر الطرقَ ، في مضان كونه حلما ، وأما الاستجابة التي يفترض أنها فتح القميص انطلاقا من كون طرق الباب يقتضي فتحه مادام القميص باباً ، فيبقى قيمة مسكوتا عنها ، يفترضها السياق تاركا للقراءة مهمة الوقوف على الدلالة الشهوانية التي غيبها النص ، واكتفى بالتلميح إليها، وأماط اللثام عن تفاصيل مايخبئه هذا التلميح الذي يمكن إدراكه من ارتباط القميص بالجسد - مكمن الشهوة - ارتباطا مكانياً مادياً من جهة ، وثقافة القميص في العرف الاجتماعي والديني من جهة أخرى ، هذه الثقافة التي غالبا ما يكون القميص فيهاقرين شهوة عندما يتعلق الأمر بعلاقة ذكر بانثى– نذكّر هنا بقميص يوسف -، هذا إذا استبعدنا الجانب الترميزي وقرأنا النصيص في حدود الظاهر ، أي بكون الانثى أمراة وحسب ، في حين يمكن أن نجد نزعة فلسفية أعمق ممايدل عليه ظاهر النص، إذا فهمنا الأنثى هنا فهما إطلاقيا لتعني كل مؤنث في حدود ما تطرحه اللغة ، لتنتقل بذلك دلالة القميص من الجانب الشهواني إلى الجانب الفلسفي الذي يجعل منه ( إمكانًا إبصارياً) يُلقى على عيون الطارق فيرتد بصيرا ، عارفا بأسرار الحياة – نذكّر هنا بقميص يوسف أيضا - ، ومتمكنا من حل ألغازها التي تؤرقه بوصفه إنسانا وجد نفسه في أحضانها دون أن يكون له يد في هذا الوجود.
وفي نصيص آخر يعرّف عبودُ الجابري المواربَ من الأبواب تحديدا بكونه امرأة في لحظة انتظار قائلا:
" الباب الموارب إمرأة تنتظر "
فيدخل الباب هنا بوصفه عنصرا مشهديا يتعاضد بمواربته مع لهفة المرأة في تصوير حالة معيوش إنساني نرى المرأةَ فيه مخلوقا انتظاريا ، دون تحديد لماهية علاقة المرأة بالمنتظر الغائب ، وهذا يفتح دلالتها على كونها العاشقة التي تنتظر حبيبها ، أو الزوجة التي تنتظر زوجها ، أو.الأُم التي تنتظر ولدها، إلى غير ذلك من التأويلات.
ولاينسى الشاعر أيضا أن يتخذ من الباب موضوعةً لنقد اجتماعي ، فيغدو الباب في إحدى تعريفاته ،أداةً إصلاحية ترميزية لاعلاقة لها بالباب كوظيفة ، في صورة يرجع فيها الشاعرُ البابَ الذهبيَّ المتعالي المتغطرس والمعتد بقيمته ،إلى إجداه الأصليينَ ، طارحا رؤيا مفادها أن الأبواب سلالاتٍ ، وأنّ ذهَبُ اليوم هو في الحقيقة صفيح الأمس . إذ يقول معرِّفاً بالباب أيضا : " الباب الذهبي سليل باب الصفيح"
وأما في قوله :
" البكاء باب الرجُل الأخير "
، فيبدو النص موزعا في دلالتين . الدلالة الأولى إقرار الكبرياء للرجل ، والدلالة الثانية التأسف على فقدانها في حال كون الرجل قد دفعته الحياة إلى طرق باب البكاء الذي يقتضي طرقُه أن الرجل قد انتهى من طرق جميع الأبواب الممكنة للخلاص ، ووجدهاموصدة أمامه ، فلإذبباب البكاء.
وفي تعريفه لليد بقوله :
" يد الأعمى باب عينه "
، قد يبدو ظاهر النصيص ، التقاطةً لتحسس الأعمى للأشياء ، واستعانته بيده على رؤيتها ذهنيا كإجراء تعويضي عن عاهة العمى ، لكن النص يمكن أن ينفتح دلاليا على معنى أبعد مفاده أن التصرف الطائش الذي يعالج الأمور باليد دون تفكير أو روية ، يجعل من الإنسان رائياً مختل الرؤية، فلا تعود العين عنده بصيرة ، وإنّما هي بصرٌ وحسب ، يستوي فيه الإنسان بالعجماوات في آليةِ الرؤية الناجمة عن وقوع الاشياء على شبكية العين وتحقق الرؤية بالمعنى العلمي ، وبذلك تعود دالة الباب هنا دالة سلبية جراء كونها السبب في المبادرة الخطأ . وكونها الرابط سلبيا بين تشويش الرؤية وما يتبع هذا التشويش من فعل غير مدروس على مستوى النتائج.
وهكذا يمكن قراءة استطرادات تعريفية كثيرة غير التي مررنا بها ، يشكل الباب فيها مناط تعريف لبلورة شعرية المعرَّف بلورة لا تفتقر إلى الجمالي الناجم عن ملاحظة اليومي والمعيوش ، والربط بين جزئياتهما ربطا يصعد بالتعريف بوصفه تقانة إلى مصاف تحقيق شعرية.حافلة بالكثير من الدلالات ، ومؤكدة للكثير من مظاهر الجمال.
أ.م.د. جاسم محمد جاسم
قسم اللغة العربية ، كلية التربية الأساسية ، جامعة الموصل
https://www.facebook.com/abboud.aljabiri/posts/10159633337895348