صلاح محمد الحسن القويضي - بعض الخصائص المشتركة للنصوص الشعرية الحديثة بالغة القصر

4/2
الفرضية الأساسية في هذا المبحث هي أن ( النص الشعري الحديث متناهي القصر) هو نص (قصير - ذو فكرة واحدة عميقة - مكثف - يتوسل لفكرته بفنون وتقنيات مختلفة - منها السرد - والأسطرة - والمجاز المستجد - والاخيلة المستحدثة - والإحالات - والسكوت عن بعض المراد - والانفتاح على التأويلات المتعددة - والترميز غير المسبوق لعناصر عادية - والمفردة المنتقاة - والهندسة المتفردة للنص)
التكثيف:
هو من ضرورات هذا النمط المستحدث. فلكي يستوفي النص فكرته في عدد محدود من الكلمات (من عشرة لبضع وأربعين كلمة) يتحتم على مجترح مثل هذا النص أن (يكثف) طرحه مستعينا بعدد من التقنيات التي سنتناولها تباعاً. يقول الشاعر الليبي الشاب محي الدين محجوب:

(تدرك الإبرة حجم معاناتي
دائما أمرر خيبتي
من ثقبها).
ففي تسع كلمات لا غير (تسكن) كمية من (المفاهيم) التي تتضافر في تأكيد فكرة النص المركزية (المعاناة /الخيبة). في هذه العبارة (الضيقة) تسكن معاني بالغة الاتساع. فقد استطاع محي الدين محجوب أن يحشد في نصه بالغ القصر عدداً من الرؤى والمفاهيم التي تضئ فكرته الأساسية. فهو (يؤنسن) الإبرة فيجعلها (تدرك) وهو يعبر عن (خيبته) الواسعة مقارنة بثقب الإبرة الضيق وهو يحيلنا بذكاء للنص (اليسوعي /المحمدي) (حتى يلج الجمل سم الخياط). هذا (التكثيف) سمة أساسية في كل نصوص من ذكرتهم ومن لم أذكرهم من رواد كتابة (النص الشعري الحديث متناهي القصر).
السردية العالية:
وتلك واحدة من التقنيات التي يستخدمها رواد هذا (النص الشعري الحديث متناهي القصر) بمهارة عالية تكسب نصوصهم مقدرة عالية على شد انتباه المتلقي واشباع الظمأ الغريزي (للحدث المحكي. فمبدع (النص الشعري الحديث متناهي القصر) يحشد نصه القصير بكم هائل من (الأحداث) و(الوصوف) مقارنة بالعدد المحدود من الكلمات. أنظر لأسامة تاج السر وهو يقول:
(يهمسُ العشبُ لي بطرفٍ مُبينٍ
فأرى الصوتَ راعشًا في بناني
كلُّ شيءٍ هنا لروحيَ ظِلٌّ
كم أنا بي من الشخوصِ تُراني؟
أسكبُ الكون في قرارة كُوبي
أنا صاحٍ، فكيف بي سكرتان)
ففي (الحكي) كواحد من أدوات السرد نجد الجمل الفعلية (يهمس الورد – أرى الصوت - اسكب الكون) وفي الوصف نجد الجمل الإسمية المعبرة عن (إبانة الطرف ورعشة الصوت وظل الروح وتعدد الشخوص وقرارة الكوب والصحو والسكرتان). الواقع أن (النص الشعري الحديث بالغ القصر) يصلح للاستشهاد به في كل (الخصائص) تقريباً. لذلك وجدت صعوبة بالغة في تخير النصوص التي قد لا تكون أفضل ما كتب مبدعيها لكنها بدت لي كالأفضل في إبراز الخاصية المحدد.
الصور المتفردة والمجاز المستحدث:
تتميز نصوص (الكوكبة) التي اخترتها – بحكم توفر النصوص – كعينة لهذا (التيار) بابتكار صور ومجازات متفردة في (غرابتها) وتجسيدها لفكرة النص المركزية. وهي في غالبها تحالف الصور والمجازات المعهودة والتي استهلكها التكرار. تقول عزاز حسان (أبرز كتاب هذا التيار):

(الموجةُ التي يَكْسِرُها ثقَلُ السُّفنُ العَابِرة،
يَجْبرُ خاطِرهَا التيَّار.....)
فبمجاز مضمر يمكن أن يرى القاري في الموجه ذاته أو النفس البشرية عموماً. ويمكن أن يرى في (السفن العابرة) الفعل السلبي (للآخر) أو (أثر) ذلك الفعل السلبي. بينما يمكنه أن يجد في (التيار) الفعل الايجابي (للآخر) أو (أثر) ذلك الفعل الايجابي. وربما يرى فيهما تقلبات الحياة الايجابية والسلبية. المهم أن الصور المتفردة والمجازات المستحدثة (صريحها ومضمرها) تفتح (النص الشعري الحديث بالغ القصر) على عدد لا متناه من التأويلات.
أختم هذا الجزء من مبحثي بدعوة للتأمل في قول عزاز حسان:

(الغُيُومُ
إبْــرُ السَّماء
ترْفُو ثَوبَ النَّهـر
بخُيُوطِ المَـطــر.....)


أو قول صاحب المترار (بدوي إبراهيم)
(بين الخمارةِ والقرية
يتعرجُ
الدربُ القديم!)

ومشاركة ما أوحت به إليهم.
أواصل

***

بعض الخصائص المشتركة للنصوص الشعرية الحديثة بالغة القصر
صلاح محمد الحسن القويضي

3-4

الاخيلة المستجدة مفارقة المألوف والمقدرة على الإدهاش:
ظل الشعر العربي لدهور يعاني من أزمة (التكرار) والاجترار مما حدا بالشاعر للقول:
ما أرانا تقول إلا معاداً (معاراً) من قولنا مكروراً
غير أن رواد قصيدة النثر الحديثة بالغة القصر يقدمون حلولاً إبداعية لهذا الإشكال الذي قعد بالشعر العربي طويلاً من خلال استدعاء صور وأخيلة مبتكرة وغير مسبوقة مستلهمين روح العصر وقضاياه. يقول أسامة تاج السر:

الفتاةُ كلافتةٍ
في الطريق المريعْ
وعلى وجهها:
(مرحبًا) بالجميعْ
والذي يقرأ اللافتات من الخلفِ،
تفجأه بوداعٍ سريعْ
فهو في استيحاء لروح العصر يشبه الفتاة بـ (لافتة) على طريق (مريع). ثم يرسم (صورة) لوجهها وعليه رسالة (ترحيب بالجميع). ثم يتبع ذلك بلوحة تصويرية تنبض بمخيال مستوحى من (الواقع) للافتة التي (تفجأ) من يقرأها (من الخلف) بـ (وداع) سريع في سرعة إيقاع العصر.
وفي نص ينفتح على فضاء لا محدود من التأويلات أقول عزاز حسان:

الغُيُومُ
إبْــرُ السَّماء
ترْفُو ثَوبَ النَّهـر
بخُيُوطِ المَـطــر.....
فالغيوم إبر. وللنهر (ثوب) وللمطر (خيوط) (ترفو) ذلك الثوب. وللمتلقي بعد أن يستمتع بجمال (الحامل) اللغوي أن يؤول (المحمول) على هوى خياله. فليست الغيوم هي (الغيوم) ولا النهر هو (النهر) ولا المطر هو (المطر).
المفردة المنتقاة من السياق الكلي:
يتميز مبدعي هذه النصوص بالغة القصر بمقدرة عالية على تأسيس (معجم) خاص بكل منهم بل بكل (مجموعة شعرية). وتبدوا هذه الخاصية كأبرز ما تكون في ديوان (قهوة الحرب) لأسامة علي أحمد سليمان وديوان (هذيان منتصف الليل) لخالد أبو شقة.
يقول أسامة سليمان في نص (دائرة) في مجموعته الشعرية (قهوة الحرب):

دائرة

تدور الحرب
الحرب دائرة
دائرة مغلقة على قبحها.

ويقول في نص آخر بعنوان ارتباك:

تقاسمك المصعد
بينكما سحابة من الهواء الساخن
يرتبك الدم
فتهربان بأعينكما
الى ارض المصعد الباردة
يسقط طائر تحت قدميكما
انهكته برودة ضيق المكان
وحرارة الحرب المستعرة
في الخارج.
وهكذا تعج باقي (قهوة الحرب) بكلمات من قاموس الحرب تمنح القارئ الإحساس (بمشهد) الحرب و(أجوائها).
أما خالد أبو شقة فهو يحشد في ديوانه الأول (هذيان منتصف العمر) بل والعديد من نصوصه الأخرى كرنفالاً من مفردات تحمل مدلولات (الهذيان) و(الحلم) و(الكابوس) و(الهواجس) و(الشك) و(التوجس) و(التعب) (والخذلان) سواءً على مستوى عناوين النصوص وفي داخلها.
لا شيء يستحق كل هذا اﻷلم..
لا شيء يوازى كل هذا الرهق..
لا شيء يرتق التالف من ثوب العمر..
لا شيء
يوارى سوءة الحلم..
لا شيء يعيد تثمير بستان الروح
بعد جفافها..
لا شيء.. لا شيء...!
هندسة النص:
بجانب انتقاء المفردة تلعب (هندسة النص) دوراً أساسيا في تشكيل ملامح (النص الشعري الحديث بالغ القصر). حيث يضفي (نظام تجاور المفردات) وشكل الجملة طابعاً شعرياً إضافياً على النص. بحيث إنك لو غيرت (تموضع) المفردات أو طبيعة الجملة (أسمية أو فعلية) يتحول النص من (شعر) (لمقولة) عادية. وتبدوا خاصية الهندسة الابداعية للنص أوضح ما تكون في نصوص عزاز حسان. ولا غرابة في ذلك. فمن بين كتاب النصوص الشعرية الحديثة بالغة القصر تعتبر زرقاء الكتابة أكثرهم اتساقاً مع خصائصه. بل يمكنني القول بدون تردد أن نصوصها قد اجترحت وأرست العديد من تلك القواعد. أما أسامة سليمان فهو يستند في نصوصه الشعرية بالغة القصر على رصيد خبرته المتميزة في كتابة قصيدة التفعيلة ناقلاً العديد من تقاليدها لهذا الحقل الجديد.
تقول عزاز حسان في واحد من نصوصها المنشورة مؤخراً:
كَعُصفورٍ
كُلّما اهْتَزَّتْ أعْوادُ سِرِيرهِ
بِشَكِّ الرِّياحِ أو يَقِينِ المطر
أتَفَقَّدُ الحَنَانَ الذي بينَ الغُصُون....
ويقول أسامة سليمان في نص بعنوان حفل ختامي:

القاعة ملأي بأبطال المشهد القديم
رجال في كامل اناقتهم
نساء جميلات
سياسيون
بائعو اسلحه
متطفلون
هذا الشاعر
وربما أنتم
الارض وحدها لم تكن هناك
كانت مشغولة
بترتيب جوفها
لأبنائها العائدين اليه

أفلا تنقلنا هذه النصوص مباشرة لموضوع (الرؤى المتجددة) التي تشكل بجانب التساؤل والشك والإحالات الكاشفة وتجديد الرمز وابتكاره وأسطره الواقع – خلق أسطورة (محلية) التي سأتناولها في 4-4

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى