د. محمد وقيدي - الثقافة الإفريقية والثقافة الإسلامية

بين الثقافة الإسلامية والثقافة الإفريقية مستويات من التداخل وتبادل التأثير نريد أن نجعلها موضوع تحليلنا في هذه الدراسة. نريد أن نبرز الطابع الخاص الذي تطبع به كل من الثقافتين الأخرى عند تمازجهما في كيان مجتمعي واحد. ونعبر عن توجه صياغتنا لموضوع بحثنا بالسؤالين المتكاملين الآتيين:ماهو الطابع الخاص الذي تتخذه الثقافة الإفريقية حين تتلقى تأثير الثقافة الإسلامية فيها، علما بأن ذلك يظهر بصورة أوضح في البلدان الإفريقية التي دان سكانها بالدين الإسلامي؟ وماهو الطابع الخاص الذي تتخذه الثقافة الإسلامية حين تمتزج بالثقافة الإفريقية، علما بأن للثقافة الإسلامية تقاطعات مع ثقافات أخرى في جهات متباينة من العالم ؟
أساس شيوع الثقافة الإسلامية هو انتشار الدين الإسلامي نفسه. وقد جاء ذلك بالنسبة للقارة الإفريقية على مدى زمن طويل وعبر مراحل مختلفة. فقد كان أول انتشار للإسلام هو توجهه نحو الشرق من موطنه الأصلي، فكان انتشاره في آسيا انطلاقا من فارس والبلاد الأخرى الأبعد منها.لكن الإسلام اتجه أيضا إلى الغرب انطلاقا من موطنه الأصلي فكان ذهابه إلى الحبشة، ثم إلى مصر وهما بلدان إفريقيان التقى فيهما الإسلام بالحضارات القديمة في إفريقيا التي أهمها الحضارة المصرية القديمة.
تابع الإسلام انتشاره في إفريقيا انطلاقا من البلدان الواقعة في شمالها على ضفة البحر الأبيض المتوسط. وأصبحت هذه البلدان في مرحلة لاحقة نقطة انطلاق لنشر الدين الجديد في اتجاهين مختلفين: شمالا حيث تقع البلدان الأوربية على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، وكانت أهم نتيجة لذلك هي قيام حضارة إسلامية في جنوب إسبانيا هي الأندلس،ثم جنوبا في البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء حيث صارت هناك معالم لثقافة إسلامية في إفريقيا.
ارتبط بانتشار الإسلام، عبر طرق مختلفة ووسائط متنوعة، انتشار اللغة العربية التي حين صارت لغة هذا الدين لم يعد أمر الحفاظ عليها وانتشارها في جهات أخرى من العالم يهم العرب وحدهم. لقد أصبحت هذه اللغةحاملة لثقافة ساهمت فيها أعراق مختلفة، وهذا هو الطريق الذي يقودنا إلى فهم المكانة الخاصة التي كانت لها خارج إطارها الأصلي. ونعلم أن التراث الإسلامي في غالبه باللغة العربية حتى وإن كان مبدعوه من غير العرب. وهذه المكانة هي العامل الموضوعي الذي يمكن أن نستند إليه لتفسير السياسات التي حاولت الحفاظ على اللغة العربية في إفريقيا والسياسات المضادة التي خططت لتراجع تلك اللغة عن الأهمية الخاصة التي أصبحت لها في تلك القارة. نقول إن الأمر يتعلق في مظهره العميق بالتواصل عبر الثقافة الإسلامية أو إقصاء التواصل بتلك الثقافة بكل أشكال التعبير فيها.
انتقلت الثقافة الإسلامية إلى إفريقيا بكل عناصرها العقيدية والمذهبية والفكرية، فكان لها أثر في حياة الشعوب التي انتقلت إليها، حيث طبعتها بطابعها الخاص. ونلاحظ هذا الأمر عند المقارنة بين البلدان الإفريقية التي اعتنق سكانها الديانة الإسلامية وتلك التي لم يصل إليها الإسلام أو التي يشكل المسلمون أقلية بين سكانها. وإذا كانت بعض الشخصيات العلمية من الشمال الإفريقي لعبت دورا في إشعاع الثقافة الإسلامية في القارة الإفريقية، فإن التطور في هذا المجال أدى إلى ظهور شخصيات عالمة من البلدان الإفريقية ذاتها ساهمت بدورها في الحفاظ على الثقافة الإسلامية والعمل على استمرارها والتجديد فيها.وأكثر من ذلك، إذا كان مسلمو الشمال الإفريقي قد عملوا من أجل نشر الإسلام في إفريقيا، فقد عمل المسلمون في البلدان الإفريقية مابعد الصحراء على الحفاظ على الإسلام حيث قاوموا الحملات الاستعمارية التي سعت إلى الهيمنة على بلدانهم وعلى محاربة اللغة العربية من حيث هي لغة الإسلام ومحاولة لقطع الصلات بين البلدان الإسلامية في الشمال الإفريقي والبلدان الواقعة بعد الصحراء الإفريقية.
للتعرف على الثقافة الإسلامية في إفريقيا وتمازجها مع الثقافة الإفريقية في البلدان التي انتشر فيها الإسلام، نرى من الملائم العودة إلى العناصر التي تشكلت بتأثيرها الثقافة الإسلامية في إفريقيا.
العنصر الأول، في نظرنا، هو العنصر التربوي التعليمي، وهو السبيل الموضوعي للتعريف بالمبادئ الإسلامية ونقلها إلى البلدان الإفريقية، ثم نقلها من جيل إلى جيل. وحيث إن المصدرين الأساسين للتربية الإسلامية هما معرفة القرآن والسنة ومبادئ التشريع، فقد حرص المسلمون الأفارقة على توفير المؤسسات القرآنية لتوفير الشرط الأساسي لبلوغ الغاية المقصودة. وقد لعبت هذه المؤسسات الأولية، فعلا، دورا أساسيا في الحفاظ على العنصر الأساسي للتربية الإسلامية.
ظهرت تكملة للعنصر السابق المدارس التي تعلم العلوم ا والثقافة الإسلامية بصفة عامة، وهذا تعليم يمثل درجة أعلى من الكتاتيب القرآنية. وإذا كان العنصر الأول قد حقق في البلدان الإفريقية تكوين حفظة القرآن، فإن المدارس التي سادت بها العلوم الإسلامية ساهمت في تكوين علماء أفارقة في مجالها، وهو الأمر الذي جعل الثقافة الإسلامية في بلدان مابعد الصحراء غير معتمدة كامل الاعتماد على علماء من خارجهالأن هناك علماء من تلك البلدان أصبحوا مؤهلين للقيام بالحفاظ على الثقافة الإسلامية وتطويرها. ليس في وسعنا، في حدود هذه الدراسة، أن نذكر كل العلماء الأفارقة الذين لعبوا دورا في الحفاظ على الثقافة الإسلامية في بلدانهم ، بل وتقوية حضور تلك الثقافة. ولكن هذا لايمنعنا من ذكر بعض النماذج البارزة من أولئك العلماء.
يتمثل العنصر الثالث في اتجاه الأفارقة المهتمين بالثقافة الإسلامية إلى تأسيس جامعات تعمل لصالح استمرار هذه الثقافة. لكن هذا الأمر لن ينسينا أن نذكر اتجاه جملة من الراغبين في تحصيل تعليم عالي في الدراسات الإسلامية نحو الجامعات المتخصصة في ذلك في بلدان الشمال الإفريقي بصفة خاصة مثل جامعة الأزهر بمصر، وجامعة القرويين بالمغرب، ثم جامعة الزيتونة بتونس.وبالنظر إلى العدد الكبير للأفارقة المتخرجين من هذه الجامعات، فإنه يصير بإمكاننا القول إن بلدان الشمال الإفريقي تساعد بهذه الكيفية في دعم استمرار الثقافة الإفريقية في بلدان القارة وتقويتها.
ونذكر كلك من عناصر الثقافة الإسلامية في إفريقيا وجود مدن ومراكز ثقافية لعبت دورا كبيرا في الحفاظ على تلك الثقافة في البلدان التي وجدت بها وفي القارة الإفريقية عموما.ومن أهم تلك المراكز مدينة تمبوكتو المالية التي اشتهرت بمساجدها ومدارسها الإسلامية وعلمائها الأفارقة الذين عملوا بكل مافي وسعهم للحفاظ على حضور الثقافة الإسلامية في مالي وفي بقية البلدان الإفريقية.وكان أحمد بابا من بين أهم الشخصيات العلمية التي يمكن ذكرها
ليس بوسعنا قي هذه الدراسة أن نذكر كل الشخصيات العلمية التي ساهمت قي تشكيل الثقافة الإسلامية قي إفريقيا، ونكتفي بذكر نماذج من تلك الشخصيات. نذكر من بين علماء شمال إفريقيا العالم المصري جلال الدين السيوطي الذي استفتاه في القضايا الدينية بعض الملوك والعلماء الأفارقة من بلاد النيجر رغم أنه لم يزر هذه البلاد، ولكنه كان مرجعا دينيا. وقد التقاه السلطان محمد أسكيا في القاهرة، في رحلة حج، واستفتاه في بعض القضايا الدينية سواء كانت تهم الحياة المجتمعية، أوكانت تهم سلوكه كحاكم ومدى مطابقة ذلك السلوك للشريعة.(2) والتقى نفس السلطان بعالم آخر، في طريق العودة، هو محمد بن عبد الكريم المغيلي الذي لعب دورا كبيرا لأنه ألف كتابا جمع فيه ردوده على الأسئلة التي صاغها محمد أسكيا. هناك نموذج آخر للعلماء الذين أدوا خدمات لانتشار الثقافة الإسلامية في إفريقيا هو إبراهيم الساحلي الذي حضر إلى مالي بعد أن غادر غرناطة في رحلة نحو بعض البلدان العربية قادته إلى أداء فريضة الحج حيث التقى السلطان منسا موسى الذي دعاه إلى مصاحبته إلى مالي، فاستجاب لهذه الدعوة.وقد لعب إبراهيم الساحلي دورا في تعميق الثقافة الإسلامية في مالي، معتمدا في ذلك على الحظوة التي لفيها عند السلطان منسا موسى. كان للساحلي دور مهم في الحياة الثقافية والمجتمعية في مملكة مالي، ويستخلص الباحثون سياسات عديدة هدفت لتعميق حضور الثقافة الإسلامية في إفريقيا تمت باستشارة مع عمر الساحلي بفضل المكانة الخاصة التي كانت له عند السلطان منسا موسى.
الثقافة الإسلامية في إفريقيا نتاج لتمازج المجهود الذي قام به علماء الإسلام من بلدان تنتمي بصفة خاصة إلى الشمال الإفريقي، وما قام به علماء مسلمون من البلدان الإفريقية ذاتها. وقد نتج انتشار الثقافة الإسلامية بإفريقيا عن الالتقاء بين السعي المبذول من جهتين: العلماء من الشمال الإفريقي، من جهة، والسلاطين الأفارقة الذين كانوا يطلبون مشورة هؤلاء العلماء في مسائل تهم الدين وشرعية الحكم في الوقت ذاته. وأسئلة أسكيا للمغيلي وإجابة هذا الأخير عن تلك الأسئلة نموذج لذلك. غير أنه لاينبغي إغفال العلماء الأفارقة الذين هاجروا من أجل تعلم العلوم الشرعية والذين ألفوا فيها باللغة العربية في كثير من الأحيان فساهموا بذلك في نشر الثقافة الإسلامية بإفريقيا.
وقد ظل الأمر على هذا الحال إلى القرن التاسع عشر، حيث إن كثيرا من علماء إفريقيا المتشبعين بالثقافة الإسلامية عبر اللغة العربية ظلوا يكتبون بهذه اللغة. لكن هذا الواقع بدأ في التراجع مع بداية الهيمنة الاستعمارية الأوربية التي اتبعت من أجل تعزيز هيمنتها على البلدان الإفريقية سياسات ثقافية وتكوينية جديدة، منها فرض اللغات الأوربية على تلك البلدان، فكان لذلك أثر في تراجع مكانة اللغة العربية لدى الأفارقة. فقد أصبحت اللغات الأوربية التي فرضها المستعمر هي أداة التعبير والإبداع الثقافيين. وهكذا تراجع التواصل الثقافي الإسلامي في إفريقيا وأصبح التباعد بديلا عن التواصل.
أعطى التمازج الذي وقع بين الثقافة الإفريقية والإسلامية بعدا خاصا للثقافة الإسلامية، تظهر دراسته الطابع الخاص للثقافة الإسلامية في افريقيا، وهو طابع في حاجة إلى دراسات اجتماعية وأنثروبولوجية لإظهار خصائصه.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
752
آخر تحديث
أعلى