أَعْجَبُ لأُولئك الذين يُكْثِرون الحديث عن الهويَّة والأَصالة والذّاتية كما لو كانت مُعْطَيات خالِدَة، ومُطْلَقات سَرْمَدِيَّة لا تعرف نَشْأَة ولا يلحقها تحوُّل ولا يُصيبها زوال
والغريب أَن هذا يتمُّ في عالَمِ اليوم الذي نُشاهِد فيه مِن حَوْلِنا، وبسرعة أَصبحت تثير الانتباه، ذَوَبان هُوِيات وَمَوْلِد أُخرى، وائْتِلاَف ما نعتقده مُتَخالِفاً، واختلاف ما نعتقده مُتَآلِفاً، ووحدة ما نحسبه مُتَصَدِّعاً وتَصَدُّع ما نحسبه مُوَحَّداً. فهاهي قوميّات أَخذت شخصيَّتها تذوب، وحُدودها تمحي، والرَّوابط التي كانت تجمع أجزائها تتحطَّم، والعقائد التي كانت تضُمُّ أَعضاءها تنقرض؛ وهاهي هُوِيّات لم نكن نسمع عنها أخذت تشعر أن الرّوابط التي تجمع بينها أصبحت شديدة القوة فصارت تبحث عن اسم عَلَمٍ لتكتبه داخل سِجِّل "الحالة المدنية" في ذاكرة العالم المُعاصر وتعلن هويتها للآخرين.
العِبْرَةُ التي يمكن أن تُستخلص من ذلك عِبرة مزدوجة:
أَوَّلاً، أَنّ الهُوِيَّة ليست مُعْطى أَوّل وأن الذاتي ينبغي تَمَلُّكُه، والهويّة يلزم اكتساحها وغزوها.
ثانيّاً، أن هذه الهوية لا تحضر قط كذات متعيِّنة، وأَن الذات لا تقوم وتتطابق، وإِنّما تَظَلُّ في تَبَاعُدٍ دائم عن نفسها. زمانها ليس زمان الحضور والميتافيزيقا، وإِنّما زمان العود الأَبَدي.
هاتان "الخاصِّيتان" اللتان تحدِّدان الذات والهوية وتنعكسان على "الآخر".
فالآخر ليس كذلك مُعْطى أوّل، والغَيْرُ لا يصبح آخَر إِلاَّ إِذا حَوَّل مركزه وزحزح عن تحديداته. فمثلما أَن الهوية يَلْزَمُ تَمَلُّكها، كذلك الآخر ينبغي فقدانه، أو على الأَصح، العمل على فقده والتَّخلّص منه وجعله آخر. هذا التخلُّص وذاك التَّمَلُّك وجهان لعملية واحدة سمّيناها بناء الذات أو بناء/هدم الآخر، ما دام كلّ طرف لا يوجد إِلاّ مع الطَّرف الثاني وعن طريقه.
بين الذات والآخر حركة انفصال واتصال لا متناهيّة، بينهما رغبة حياة ورغبة موت، تعلُّق ونفور، بناء وهدم. وهذه الحركة اللاّمتناهية هي ما يَحُولُ دون خلود الهويَّة وخلود الآخر. إِنها تقحم التعدد داخل وحدة الهويَّة، وتجعل الغَيْر يتوحَّد مع الذات ويصبح آخرها في الوقت نفسه.
لهذا فإن الآخر لا يوجد في تعارض مطلق مع تلك الذات. والأَهم أَنه لا يوجد خارجاً عنها. فليس السَّلب هو ذاك الذي يجيء من خارج ليتعارض مع الذات. وإِنما ذاك الذي ينخرها من الدّاخل، فيقضي فيها على كلِّ داخل. ليس السلب تعارضاً بين هُويتين، بل إنه يقطن الهوية نفسها، السلب هو الحركة اللامتناهية التي تجعل الذات في بُعْدٍ دائم عن ذاتها، والتي تحوّل بينها وبين "الحُضور" فتجعلها لا تخضع لمنطق الهوية إِنّما لـ"منطق" الاختلاف.
نحن إِذن أَمام هوية لا تؤول إلى التَّطابُق، واختلاف لا يَرْتَدُّ إِلى التعارض ووحدة لا تسعى إِلى الضَّمِّ والتَّرْكيب. إنها إِذن وحدة متعدِّدة وهوية مُعَلَّقَة، أو قُل إِنها مشروع هوية، وهو في الوقت نفسه مشروع انفصال عن الآخر واتصال دائم معه.
فَلنَكُفَّ إِذن عن التَّغَنِّي بالهويّة الجاهزة الخالدة، ونُشْدان الوحدة المنغلقة، واعتماد منطق الذّاتية ولنَبْنِ هوية تدخل في طيّاتها الآخر والتعدد والاختلاف