إبراهيم عبد المجيد - من جديد.. الإبداع لا يدعو إلى الرذيلة

يبدو أننا لن ننتهى من الهجوم على الإبداع. قامت ثورة يناير وكان من أهم شعاراتها الحرية التى تشمل طبعًا كل مظاهرها ومنها حرية الإبداع. وقامت ثورة أخرى على الإخوان المسلمين الذين كانوا متخصصين فى مجلس الشعب أيام مبارك فى رفع القضايا على الكتاب والفنانين. وتم الاستفتاء على دستور يجعل حرية الإبداع مقدسة.
ولا فائدة. كتبنا أن الكتابة الفنية ليست كلها من عقل الكاتب، وأوضحنا كيف أن الكاتب وهو يكتب رواية تستحوذ عليه شخصياتها، وتتحدث بلغتها، فالعاهر أو العاهرة تختلف لغتهما عن القاضى والمدرس وغيرهما.
والعربجى غير الطبيب، والكاتب مهمته أن يصل بالصدق الفنى إلى نهايته فيترك نفسه إلى لغة هذه الشخصيات بل ويعيدها إلى حقيقتها إذا خرجت عن الصدق.
فالعاهرة لا يمكن أن تقول «هلا أتيت لى اليوم» لكن أقل ما تقوله «تعالى النهارده يا روح أمك علشان أشوفك». وطبعًا أكثر من ذلك. كتبنا فى ذلك عشرات المقالات.
وأوضحنا كيف أنه إذا وجد شخص ملحد مثلًا فى رواية فأزمته تكون أمام الآخرين غير الملحدين، ولا يصح أن تقف عند كلامه وتترك كلام غير الملحدين، ولا يصح أن تحاسب الكاتب على ما يقوله الملحد ولا تشكره على ما يقوله غير الملحدين. فقراءة العمل الأدبى يجب أن تكون كاملة ولا تنتقى منها ما يتفق مع مزاجك.
والأمر نفسه فى الجنس، فإذا وجد محبط جنسيًا أو حتى شره جنسيًا فهناك فى الرواية غيره يرون الجنس على عكس ما يرى. زهقنا من الكلام والتوضيح لكن لا فائدة. شخص يقرأ فصلًا من رواية منشورة فى صحيفة «أخبار الأدب» فيجرى إلى النيابة العامة للإبلاغ عن الجريدة، وصاحب الفصل، رغم أن أكثر من ألف غيره قرأوا ولم تهتز لهم عاطفة، ولم يشتكوا أو يجروا إلى النيابة. فيتحول رئيس التحرير المحترم طارق الطاهر، والكاتب الشاب أحمد ناجى إلى الجنايات! النيابة عندها قانون الحسبة الذى أبقى عليه الدستور الجديد، متوسمًا فى تقدير النيابة، وإن لغى أى عقوبات مهدرة للحرية مثل الحبس وأبقى على الغرامة.
ساعتها، أى وقت كتابة الدستور، لم تعجبنى المادة ٦٧ وإبقاؤها على الحسبة واعتبار الأمر تقديريًا للنيابة، وسميتها مادة الهزيمة إذ تشير إلى عام بشع فى حياتنا هو عام هزيمة ١٩٦٧، وإن لم تقصد ذلك. لم يستمع لى أحد. وها نحن ندفع الثمن فى أول قضية ترفع بعد الدستور فتقديرات النيابة شخصية قد تختلف من نائب إلى آخر. ما علينا.
المهم أن الشىء الذى تعبنا من الحديث فيه لم يؤت بثماره، والأهم الذى يغفله الجميع هو أن الإبداع أو الكتابة عمومًا والفن أيضًا هو سلعة تطرح للقراء أو للمشاهدين. من لا تعجبه السلعة لا يشتريها ويمكن أن يعيدها إلى صاحبها - بائع الجريدة أو الكتاب - وإن لم يستطع يمكن أن يهاجمها ويقول رأيه ويدعو الناس إلى عدم شرائها. بل ويمكن له طبعًا ألا يكرر شراء كتاب للمؤلف أو جريدة ما. هذا أيضًا لا أحد يصدقه. ولا أعرف كيف يمكن لفصل من رواية أن يؤثر فى شخص بينما المئات لم يتأثروا.
قرأت أن صاحب الدعوى شعر باضطراب قلبه ورغبته فى القىء مما أثر عليه نفسيا وبدنيا بينما مشوار النيابة نفسه ليس بالسهل ولا بالبسيط فهناك زحام وطوابير قد تصيب الإنسان الضعيف بأزمة قلبية. الحقيقة أننى حزين أن نعود إلى ما كنا تصورنا أننا انتهينا منه، والأمر الآن فى ملعب المثقفين والمبدعين.
هل نحن أمام موجة جديدة من الهجوم على الإبداع، ولمصلحة من؟ ومن الذى يملك الحقيقة الأخلاقية فى هذا العالم؟ وما معنى أن يتحول عمل أدبى إلى حالة مطلقة، بينما القراءة فعل نسبى يختلف من شخص إلى آخر؟ وما معنى أن يكون واحد سببًا فى معاقبة جريدة وكاتب، بينما ألف آخرون قرأوا الجريدة ولم يتأثروا.
«أخبار الأدب» جريدة أسبوعية يقرأها عادة الأدباء أو من يحبون الأدب أو الذين يعدون أنفسهم ليكونوا أدباء، وهم عادة لا يقفون عند هذه الأفكار التى اتهمت بها النيابة الجريدة والكاتب. فضلًا عن أن توزيعها تقريبا ألف أو ألفا نسخة، لم يشتك أى ممن قرأوها غير صاحب الدعوى. ولم تتحول مصر بعد نشر ذلك الفصل من رواية الأديب الشاب أحمد ناجى إلى بلد للرذيلة ولم تشتعل بالجنس.
الرذيلة حولنا نسكت عنها بدءًا من التحرش إلى الخطف إلى الاغتصاب، وكل من يفعلون ذلك لا يقرأون. هم مرضى الفقر والعشوائيات والبطالة وعدم الزواج، والمبدعون ليسوا السبب لكنه النظام الحاكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى