إنَّ من المواقف التى كثيرا ما تحدُث تلقائيا بجلسات المحاكمة، ما يفوق فى طرافته أبهى مقاطع كوميديا الموقف فى المسارح الراقية، ومثل هذه المواقف، قد يدعو وِجدان القاضى حين يتأملها أو يغوص فى دلالتها إلى الاطمئنان إلى شىء ما، لم تنطو عليه الأوراق، ويكون له مبلغ الأثر فى تكوين عقيدته وتقدير الدليل.
نودى على المتهمة فحضرت من آخر القاعة، امرأة عجوز تبدو على ملامحها علامات الفقر والجهل والشقاء، وقبل أن تصل إلى المنصة، برز أحد المحامين بصوت جهورى يقول:
- حاضر عن المدعى بالحق المدنى .
فبدد بصوته الرنان تلك الرتابة التى عادة ما تخيم على جو القاعة وقَطَع ذلك الصمت المخيف الذى يُطبق عليها فيما بين مناداة الحاجب على المتهم إلى حين مُثوله أمام المنصة.
والمدعى بالحق المدنى، هو ذلك الشخص المضرور من الجريمة والذى يهمه ثبوت الواقعة ضد المتهم، لأنها متى ثبتت كان له الحق فى التعويض، وغالبا ما يكون هو المجنى عليه، ولذلك جعله القانون أول مَن يتكلم أثناء المحاكمة، ليبين ماهية ذلك الثبوت وأدلته،وكذا ماهية الضرر الذى لحق به من جرَّاء الجريمة، سواء أكان ضررا ماديا أم ضررا معنويا أو كليهما معا.
وما أن برز المحامى على هذا النحو، ظنته المتهمة يحضر معها فارتبكت تخاطب القاضى بصوتها المرتعش :
- لا، لا محامى ولا غيره، ( هوَّ أنا عملت إيه ) ؟
ولم يقف القاضى عند هذه الكلمات وسألها برفق يناسب كِبر سنها :
- هل ضربتِ فلان؟
وكنتُ فى هذه الجلسة ممثلا للنيابة العامة، أجلسُ على المنصة فى أقصى يمين القاضى استكمالا للشكل الذى يتطلبه القانون، لأن تشكيل المحكمة الجنائية لا يكون صحيحا إلا إذا مُثلت فيه النيابة، وكذلك لتقدم النيابة إلى القضاء عناصر الدعوى وأدلتها جميعا، ولو كان فيها ما هو فى مصلحة المتهم ،بيد أنه نظرا لرتابة الجلسات فى محاكم الجنح وسيرها على وتيرة واحدة، فإنه سرعان ما يبدأ الصراع المرير مع النوم لمقاومة سطوة سلطانه، وتبدأ الاستماتة لمنع ارتخاء الجفون وضبط اتزان الرأس ومحاولة الظهور بمظهر النابه المتيقظ، لأنه لا يليق بممثل النيابة العامة أن يظهر بمثل هذا المظهر فى الجلسة، ومن ثم تمر الدقيقة الواحدة فى مثل هذه الأجواء وكأنها دهر بأكمله.
وعند هذا الحد من الحوار، أحسستُ أن شيئا غير عادى وراء أحداث قضية هذه المرأة، فقد استرعى انتباهى كِبر سنها، وما تعانيه من صعوبة فى المشى، ثم التهمة المنسوبة إليها " ضرب" ثم حضور هذا المحامى الجهبذ ذى الصوت الرنان عن المدعى بالحق المدنى، ومن هو ذلك المدعى المدنى الذى يطلب تعويضا من مثلها، وماذا سيأخذ منها، المُهم أنَ الصورة كانت تشذ عن المجرى العادى للأمور، فولَّى الكسل عنى وانتبهتُ أرقبُ ما يحدث.
وتوقعتُ أن الأمر لا بد مُتعلق بالتقرير الطبى، فكيف لهذه العجوز أن تضرب رجُلا أو حتى فتى، وهل لمثلها أن يدخل فى مشاجرة، لا سيما أنّ التقارير الطبية أضحت شيئا لا يريح الضمائر، وصارت من فرط سهولة الحصول عليها، مدعاة للشك فيما تصفه من إصابات، وأصبح - فى الغالب - من يريد الزج بخصمه فى ساحة الاتهام، وربما فى غياهب السجن لا يحملُ همّا، فإن التقرير الطبى كفيل بالقيام بهذه المهمة، سواء أكانت الاصابات مفتعلة، أم بالاستحصال عليه بطريق أو بأخرى، ولكن ما يدرأ هذا القلق نحوها، أنها أمام القاضى وإنْ كانت دليل إصابة، إلا أنها ليست بذاتها دليل إدانة، بمعنى أنه إنْ لم يطمئن القاضى إلى حصول واقعة الضرب من مُجمل الأدلة فإنه يقضى بالبراءة، حتى مع قيام مثل هذه التقارير .
وقبل أن تستوعب هذه العجوز شيئا مما يدور من حولها، قام ذلك الهُمام وأصلح من هندامه، وشدَّ ربطة عنقه، ثم اقترب من المنصة فى ثقة واعتزاز بالنفس.
أما القاضى فلم ينتظر منها إجابة، فقد نَفَت التهمة فور مثولها أمامه وقبل حتى أنْ تُواجَه بها.
وانطلاقا من قاعدة أنَّ المدعى المدنى هو أول مَن يتكلم، فقد أومأ له القاضى بأن يبدأ مرافعته، فبدأ الرجل فى بيان ملابسات الواقعة وأدلة ثبوتها فقال :
- إنَّ هذه المتهمة تٌجاور موكلى فى الحقل، وقد دأبَت على التحرش به لخلافات بينهما بشأن قطعة أرض تبغى بيعها لآخر رغم أحقيته فيها بالشفعة، وفى يوم كذا وبينما هما فى الحقل، فوجئ بها وقد أتته بعصا غليظة همَّت أن تهوى بها فوق رأسه، بيد أنه انتبه وأمسك بالعصا، فمالت على يده وعقرتها، وقد أثبت التقرير الطبى أنَّ إصابته عبارة عن عَقر أدمى بظهر اليد اليمنى.
وكان المحامى يصور بكلتا يديه وتعبيرات وجهه وطبقات صوته كل هذه الأحداث، وقد اندمج فى ذلك تماما، وكأنه كان هناك على مسرح الحادث.
وبينما هو على هذه الحال، كانت المرأة تنظر إليه فى عجبٍ واستغرابٍ شديدين كالبلهاء، ثم تعود فتجُول بناظريها فى المنصة تارة، وفى الجالسين تارة أخرى، ثم تعود إليه لتصوِّب عينيها نحوه، وبدا على وجهها وملامحها علامات الضيق والضجر، وفى ذات الوقت ما ينبئ عن أنها لا تدرى عما يقول المحامى أو مما يدور حولها شيئا، وحاولَت غير مرّة أن تقاطعه، ولكنها كلما همَت بذلك رمقها القاضى بنظرة فتبتلع الكلمات، وهكذا عدة مرات حتى استكانت، ووقفت تحملق فى كل شىء من حولها وفى لا شىء.
ونجح محامى المدعى بالحق المدنى فى تصوير الواقعة وكأنه كان حاضرا هناك بين طرفيها، واستطاع بحلو حديثه أن يستحوذ على أسماع الحضور، وما أن أوشك على إنهاء مرافعته، انتهزت المرأة فرصة التقاطه لأنفاسه، وحدَّقت إليه بشدة لتسأله فى براءة كبراءة الأطفال وبصوت خفيض يستجدى الرحمة :
- إنت كنت هناك يا كذاب؟
وضجّت القاعة بالضحك، وكان المحامى أول الضاحكين، وقضت المحكمة ببراءتها.
فى سبتمبر 1988 .
نودى على المتهمة فحضرت من آخر القاعة، امرأة عجوز تبدو على ملامحها علامات الفقر والجهل والشقاء، وقبل أن تصل إلى المنصة، برز أحد المحامين بصوت جهورى يقول:
- حاضر عن المدعى بالحق المدنى .
فبدد بصوته الرنان تلك الرتابة التى عادة ما تخيم على جو القاعة وقَطَع ذلك الصمت المخيف الذى يُطبق عليها فيما بين مناداة الحاجب على المتهم إلى حين مُثوله أمام المنصة.
والمدعى بالحق المدنى، هو ذلك الشخص المضرور من الجريمة والذى يهمه ثبوت الواقعة ضد المتهم، لأنها متى ثبتت كان له الحق فى التعويض، وغالبا ما يكون هو المجنى عليه، ولذلك جعله القانون أول مَن يتكلم أثناء المحاكمة، ليبين ماهية ذلك الثبوت وأدلته،وكذا ماهية الضرر الذى لحق به من جرَّاء الجريمة، سواء أكان ضررا ماديا أم ضررا معنويا أو كليهما معا.
وما أن برز المحامى على هذا النحو، ظنته المتهمة يحضر معها فارتبكت تخاطب القاضى بصوتها المرتعش :
- لا، لا محامى ولا غيره، ( هوَّ أنا عملت إيه ) ؟
ولم يقف القاضى عند هذه الكلمات وسألها برفق يناسب كِبر سنها :
- هل ضربتِ فلان؟
وكنتُ فى هذه الجلسة ممثلا للنيابة العامة، أجلسُ على المنصة فى أقصى يمين القاضى استكمالا للشكل الذى يتطلبه القانون، لأن تشكيل المحكمة الجنائية لا يكون صحيحا إلا إذا مُثلت فيه النيابة، وكذلك لتقدم النيابة إلى القضاء عناصر الدعوى وأدلتها جميعا، ولو كان فيها ما هو فى مصلحة المتهم ،بيد أنه نظرا لرتابة الجلسات فى محاكم الجنح وسيرها على وتيرة واحدة، فإنه سرعان ما يبدأ الصراع المرير مع النوم لمقاومة سطوة سلطانه، وتبدأ الاستماتة لمنع ارتخاء الجفون وضبط اتزان الرأس ومحاولة الظهور بمظهر النابه المتيقظ، لأنه لا يليق بممثل النيابة العامة أن يظهر بمثل هذا المظهر فى الجلسة، ومن ثم تمر الدقيقة الواحدة فى مثل هذه الأجواء وكأنها دهر بأكمله.
وعند هذا الحد من الحوار، أحسستُ أن شيئا غير عادى وراء أحداث قضية هذه المرأة، فقد استرعى انتباهى كِبر سنها، وما تعانيه من صعوبة فى المشى، ثم التهمة المنسوبة إليها " ضرب" ثم حضور هذا المحامى الجهبذ ذى الصوت الرنان عن المدعى بالحق المدنى، ومن هو ذلك المدعى المدنى الذى يطلب تعويضا من مثلها، وماذا سيأخذ منها، المُهم أنَ الصورة كانت تشذ عن المجرى العادى للأمور، فولَّى الكسل عنى وانتبهتُ أرقبُ ما يحدث.
وتوقعتُ أن الأمر لا بد مُتعلق بالتقرير الطبى، فكيف لهذه العجوز أن تضرب رجُلا أو حتى فتى، وهل لمثلها أن يدخل فى مشاجرة، لا سيما أنّ التقارير الطبية أضحت شيئا لا يريح الضمائر، وصارت من فرط سهولة الحصول عليها، مدعاة للشك فيما تصفه من إصابات، وأصبح - فى الغالب - من يريد الزج بخصمه فى ساحة الاتهام، وربما فى غياهب السجن لا يحملُ همّا، فإن التقرير الطبى كفيل بالقيام بهذه المهمة، سواء أكانت الاصابات مفتعلة، أم بالاستحصال عليه بطريق أو بأخرى، ولكن ما يدرأ هذا القلق نحوها، أنها أمام القاضى وإنْ كانت دليل إصابة، إلا أنها ليست بذاتها دليل إدانة، بمعنى أنه إنْ لم يطمئن القاضى إلى حصول واقعة الضرب من مُجمل الأدلة فإنه يقضى بالبراءة، حتى مع قيام مثل هذه التقارير .
وقبل أن تستوعب هذه العجوز شيئا مما يدور من حولها، قام ذلك الهُمام وأصلح من هندامه، وشدَّ ربطة عنقه، ثم اقترب من المنصة فى ثقة واعتزاز بالنفس.
أما القاضى فلم ينتظر منها إجابة، فقد نَفَت التهمة فور مثولها أمامه وقبل حتى أنْ تُواجَه بها.
وانطلاقا من قاعدة أنَّ المدعى المدنى هو أول مَن يتكلم، فقد أومأ له القاضى بأن يبدأ مرافعته، فبدأ الرجل فى بيان ملابسات الواقعة وأدلة ثبوتها فقال :
- إنَّ هذه المتهمة تٌجاور موكلى فى الحقل، وقد دأبَت على التحرش به لخلافات بينهما بشأن قطعة أرض تبغى بيعها لآخر رغم أحقيته فيها بالشفعة، وفى يوم كذا وبينما هما فى الحقل، فوجئ بها وقد أتته بعصا غليظة همَّت أن تهوى بها فوق رأسه، بيد أنه انتبه وأمسك بالعصا، فمالت على يده وعقرتها، وقد أثبت التقرير الطبى أنَّ إصابته عبارة عن عَقر أدمى بظهر اليد اليمنى.
وكان المحامى يصور بكلتا يديه وتعبيرات وجهه وطبقات صوته كل هذه الأحداث، وقد اندمج فى ذلك تماما، وكأنه كان هناك على مسرح الحادث.
وبينما هو على هذه الحال، كانت المرأة تنظر إليه فى عجبٍ واستغرابٍ شديدين كالبلهاء، ثم تعود فتجُول بناظريها فى المنصة تارة، وفى الجالسين تارة أخرى، ثم تعود إليه لتصوِّب عينيها نحوه، وبدا على وجهها وملامحها علامات الضيق والضجر، وفى ذات الوقت ما ينبئ عن أنها لا تدرى عما يقول المحامى أو مما يدور حولها شيئا، وحاولَت غير مرّة أن تقاطعه، ولكنها كلما همَت بذلك رمقها القاضى بنظرة فتبتلع الكلمات، وهكذا عدة مرات حتى استكانت، ووقفت تحملق فى كل شىء من حولها وفى لا شىء.
ونجح محامى المدعى بالحق المدنى فى تصوير الواقعة وكأنه كان حاضرا هناك بين طرفيها، واستطاع بحلو حديثه أن يستحوذ على أسماع الحضور، وما أن أوشك على إنهاء مرافعته، انتهزت المرأة فرصة التقاطه لأنفاسه، وحدَّقت إليه بشدة لتسأله فى براءة كبراءة الأطفال وبصوت خفيض يستجدى الرحمة :
- إنت كنت هناك يا كذاب؟
وضجّت القاعة بالضحك، وكان المحامى أول الضاحكين، وقضت المحكمة ببراءتها.
فى سبتمبر 1988 .