من أهم الأمور التي كشفت عنها الانتفاضات التي عرفتها بعض البلدان العربية هو أن التغيير الفعلي، لن يتمّ فحسب، باستبدال أنظمة وإحداث هزات سياسية، وإنما هو رهين بتحوّل ذهنيات وأنماط تفكير، ذلك التحوّل الذي لن يأتي نتيجة سهلة لاستبدال نظام سياسي بآخر، والذي يستدعي هزة فكرية لن تكون أقل رجة، مما عرفته بعض "الميادين" العربية.
كشفت الانتفاضات إذن، وبما لا يدع أدنى شك، تقادم مختلف النماذج التي تعلقنا بها. فلا التشبث الدوغمائي بالمتوارث، ولا زرع نماذج غربية في تربتنا، كفيلان بأن يبدّلا ذهنيات؛ إذ لا مفر من إبداع متريث لطرق مناسبة للانفصال عن كل تفكير وثوقي، ورسم سبل ملائمة لمقاومة مختلف العوائق التي تكرّس التقليد، أيّا كان مصدر هذا التقليد. لن يكون ذلك، بطبيعة الحال، من غير تفاعل خلاق، أو كما قيل، من غير "نقد مزدوج" لمختلف الروافد التي تشكل ذهنيتنا وتقولب لغتنا، وتغذي فكرنا، وتؤسس قيمنا.
لا يكفي أن نردّد من جديد تلك العبارة المستهلكة التي تنيط بالفلسفة هذه المهمة النقدية، خصوصاً وأنها هنا مهمة مزدوجة؛ إذ إن ترسخ أساليب معينة في التفكير، وتعقد الحياة الثقافية المعاصرة، ودخول الإعلام على الحلبة، كل ذلك جعل ما كنا ندعوه نقداً فلسفياً في أمس الحاجة إلى إعادة نظر، كما أثبت أن الفلسفة لم يعد بإمكانها أن تحافظ على الأشكال التي ظهرت بها حتى الآن.
ربما ولّى الزّمن الذي كان التقابل فيه يتم بين الفلسفة والأيديولوجيا، فكان النقد الفلسفي يؤول إلى فضح أوهام، وتعرية أشكال الاستلاب التي تتولد عن التناقضات الاجتماعية والنّضال الطبقي، اعتبارا بأنّ الأوهام لا تتولد إلا في وضع يكون في حاجة إليها.على هذا النحو، كان صاحب "نقد النقد النقدي" يردّد: "إن كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فذلك يعني أن علينا أن نتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى أوهام". لذا، ظلت محاربة الأوهام تعوّل على تبدّل الأوضاع المولدة لها. غير أن هذه العلية الميكانيكية سرعان ما أثبتت عجزها. ولعل ذلك هو ما دفع كثيراً من المفكرين المعاصرين إلى محاولة استبدال هذه الصورة عن الفلسفة، وعدم الاكتفاء بهذا التقابل بينها وبين الإيديولوجيا، بل إن منهم من سعى إلى إعطاء مدلول مغاير لمفهوم النقد، فاستغنى عن مفهوم الأيديولوجيا ذاته، ليستعيض عنه بمفهومات أخرى لعل أهمها مفهوم "اللامفكر فيه" كما هو عند فيلسوف التقويض.
من أهم "حسنات" هذا المفهوم أنه لا يربط الفكر بنظرية الاستلاب، ولا يحصر مهمته في وظيفة الفضح والتعرية، كما أنه لا يعوّل في تبدله على مجرد الانعكاس الآلي. والأهم من ذلك، أنه يأخذ بعين الاعتبار المتوارث الفكري، والأشكال التي اتخذها، والصورة التاريخية التي تحقق بها. ذلك أن "اللامفكر فيه" L'impensé ليس هو "ما لم يعمل فيه الفكر بعد" Le non-pensé، وهو ليس شيئاً خارجاً عما فُكِّر فيه."مادام المفكر فيه هو وحده الكفيل بأن يمهد لما لم يفكر فيه بعد". هنا أيضا نلفي تستراً وتحجباً، إلا أننا لسنا مضطرين لرده إلى وضع في حاجة إلى تغليف، وانتظار سلبي، لتحويل ذلك الوضع كي تنعكس آثاره على الفكر. ذلك أن الكيفية التي بها تم التفكير هي التي "تحجب حدث ذلك التستر". فلسنا هنا أمام أوهام متولدة عن قلب أيديولوجي، وإنما أمام كثافة الفكر و"سره التاريخي".
يعطي مفهوم "اللامفكر فيه" إذن قيمة أساسية للمتوارث، وهو يعيد إليه كل أهميته. حيث لا يبدو أن هناك خلاصاً للفكر إلا بإعمال الفكر في هذا المتوارث، وفي "ما فُكّر فيه" للوقوف على "سره المبهم". هاهنا، سيغدو الاهتمام الفلسفي منصباً على سبر أغوار هذا "السر التاريخي"، وستوكل إلى الفلسفة مهمة إقامة جنيالوجيا تتعقب الأصول في تكوّنها.
لن تعفينا هذه الحفريات في موروثنا الفكري، ولا هذا التحليل النفسي لتاريخ معارفنا من الالتفات إلى راهننا الثقافي الذي وجدت وسائل الإعلام طريقها إلى النفاذ إليه، كي تصبح أدوات لتكريس الأفكار الجاهزة، وتحصين اللافكر وبثه وإشاعته. من ثمة تغدو مهمة الفلسفة كذلك تعقب هذا اللافكر الذي يعيش بجنبنا ويتغلغل في يوميّنا، فيجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها، ويغرقنا في "تقليد التقليد".
كشفت الانتفاضات إذن، وبما لا يدع أدنى شك، تقادم مختلف النماذج التي تعلقنا بها. فلا التشبث الدوغمائي بالمتوارث، ولا زرع نماذج غربية في تربتنا، كفيلان بأن يبدّلا ذهنيات؛ إذ لا مفر من إبداع متريث لطرق مناسبة للانفصال عن كل تفكير وثوقي، ورسم سبل ملائمة لمقاومة مختلف العوائق التي تكرّس التقليد، أيّا كان مصدر هذا التقليد. لن يكون ذلك، بطبيعة الحال، من غير تفاعل خلاق، أو كما قيل، من غير "نقد مزدوج" لمختلف الروافد التي تشكل ذهنيتنا وتقولب لغتنا، وتغذي فكرنا، وتؤسس قيمنا.
لا يكفي أن نردّد من جديد تلك العبارة المستهلكة التي تنيط بالفلسفة هذه المهمة النقدية، خصوصاً وأنها هنا مهمة مزدوجة؛ إذ إن ترسخ أساليب معينة في التفكير، وتعقد الحياة الثقافية المعاصرة، ودخول الإعلام على الحلبة، كل ذلك جعل ما كنا ندعوه نقداً فلسفياً في أمس الحاجة إلى إعادة نظر، كما أثبت أن الفلسفة لم يعد بإمكانها أن تحافظ على الأشكال التي ظهرت بها حتى الآن.
ربما ولّى الزّمن الذي كان التقابل فيه يتم بين الفلسفة والأيديولوجيا، فكان النقد الفلسفي يؤول إلى فضح أوهام، وتعرية أشكال الاستلاب التي تتولد عن التناقضات الاجتماعية والنّضال الطبقي، اعتبارا بأنّ الأوهام لا تتولد إلا في وضع يكون في حاجة إليها.على هذا النحو، كان صاحب "نقد النقد النقدي" يردّد: "إن كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا، فذلك يعني أن علينا أن نتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى أوهام". لذا، ظلت محاربة الأوهام تعوّل على تبدّل الأوضاع المولدة لها. غير أن هذه العلية الميكانيكية سرعان ما أثبتت عجزها. ولعل ذلك هو ما دفع كثيراً من المفكرين المعاصرين إلى محاولة استبدال هذه الصورة عن الفلسفة، وعدم الاكتفاء بهذا التقابل بينها وبين الإيديولوجيا، بل إن منهم من سعى إلى إعطاء مدلول مغاير لمفهوم النقد، فاستغنى عن مفهوم الأيديولوجيا ذاته، ليستعيض عنه بمفهومات أخرى لعل أهمها مفهوم "اللامفكر فيه" كما هو عند فيلسوف التقويض.
من أهم "حسنات" هذا المفهوم أنه لا يربط الفكر بنظرية الاستلاب، ولا يحصر مهمته في وظيفة الفضح والتعرية، كما أنه لا يعوّل في تبدله على مجرد الانعكاس الآلي. والأهم من ذلك، أنه يأخذ بعين الاعتبار المتوارث الفكري، والأشكال التي اتخذها، والصورة التاريخية التي تحقق بها. ذلك أن "اللامفكر فيه" L'impensé ليس هو "ما لم يعمل فيه الفكر بعد" Le non-pensé، وهو ليس شيئاً خارجاً عما فُكِّر فيه."مادام المفكر فيه هو وحده الكفيل بأن يمهد لما لم يفكر فيه بعد". هنا أيضا نلفي تستراً وتحجباً، إلا أننا لسنا مضطرين لرده إلى وضع في حاجة إلى تغليف، وانتظار سلبي، لتحويل ذلك الوضع كي تنعكس آثاره على الفكر. ذلك أن الكيفية التي بها تم التفكير هي التي "تحجب حدث ذلك التستر". فلسنا هنا أمام أوهام متولدة عن قلب أيديولوجي، وإنما أمام كثافة الفكر و"سره التاريخي".
يعطي مفهوم "اللامفكر فيه" إذن قيمة أساسية للمتوارث، وهو يعيد إليه كل أهميته. حيث لا يبدو أن هناك خلاصاً للفكر إلا بإعمال الفكر في هذا المتوارث، وفي "ما فُكّر فيه" للوقوف على "سره المبهم". هاهنا، سيغدو الاهتمام الفلسفي منصباً على سبر أغوار هذا "السر التاريخي"، وستوكل إلى الفلسفة مهمة إقامة جنيالوجيا تتعقب الأصول في تكوّنها.
لن تعفينا هذه الحفريات في موروثنا الفكري، ولا هذا التحليل النفسي لتاريخ معارفنا من الالتفات إلى راهننا الثقافي الذي وجدت وسائل الإعلام طريقها إلى النفاذ إليه، كي تصبح أدوات لتكريس الأفكار الجاهزة، وتحصين اللافكر وبثه وإشاعته. من ثمة تغدو مهمة الفلسفة كذلك تعقب هذا اللافكر الذي يعيش بجنبنا ويتغلغل في يوميّنا، فيجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها، ويغرقنا في "تقليد التقليد".