في مثل هذه الأيام من عام 1950 .. حسين مردان أمام القضـاء

في مثل هذه الأيام من عام 1950 قدّم الشاعر العراقي حسين مردان الى المحاكمة بسبب ما تضمنه ديوانه ( قصائد عارية) من عبارات مباشرة عدّت من الأدب المكشوف والمحظور نشره، وقد استمعت المحكمة الى ما قدمه محامي المتهم صفاء الأورفلي كما استمعت الى آراء عدد من الأدباء المعنيين، فتوصلت الى براءة المتهم وإطلاق سراحه.. ولما كانت تلك الحادثة من الحوادث النادرة، نقدم هنا نص ما نشرته احدى صحف بغداد وهي (العالم العربي) من تلك المحاكمة وقرار الحكم.

((في اليوم السادس والعشرين من حزيران 1950، عقدت محكمة جزاء بغداد الاُولى جلستها الاُولى لمحاكمة الشاعر حسين مردان عن ديوان قصائد عارية، وقد تقاطر عدد كبير من الاُدباء الشباب الى ساحة المحاكم لشهود هذه المحكمة)).
ومن ثم توجه الحاكم الى المتهم ببعض الأسئلة، وتولى الشاعر الرد عليها، وكان بينها سؤآل عن سر تسمية الشاعر لديوانه بِـ"قصائد عارية". وقد رد على ذلك بقوله: إن الشاعر يجب أن يكون صريحاً في تعبيره عمّا يختلج في نفسه."ولم أتوخّ َ في قصائدي إلا إظهار الحقائق عارية ليتبيّنها الناس".
ثم توجه الحاكم بسؤآل عما إذا كان في الأدب العربي القديم صراحة في مثل هذا الموضوع. فعدّد له المتهم بعض الأمثلة، ثم اُجـِّـلتْ المحاكمة.
وفي الجلسة الثانية استمعت المحكمة الى دفاع وكيل الشاعر المحامي صفاء الأورفلي:

الدفاع
سعادة حاكم جزاء بغداد المحترم
سيق موَكّلي حسين مردان الى محكمتكم الموقّرة وفق المادة 204 ق. ع. ب، وذلك لنشره قصائد نشرت تحت اسم قصائد عارية.
إنّ فعل موكلي لا ينطبق على نص المادة 204 وذلك لأن مانشره موكلي ليس مخلاً بالآداب، وليس القصد منه نشر اُمور مخلّة بالآداب بين الناس.
إن موكّلي رجل أديب، ولكل أديب طابعه الخاص. فهناك من يريد نشر الفضيلة بذكر ماهية الفضيلة، وهناك من يرى أن نشر الفضيلة قد يكون بالتطرق الى الرذيلة. وأمامنا قصة مدام بوفاري لمؤلفها الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، فقد اُثيرت هذه القضية أمام القضاء، وادعى الإدعاء العام على إنها قصة قصد مؤلفها عرض الرذيلة. إلا أن القضاء العادل لم يأخذ بهذا الرأي واُفرج عن المؤلف لسببين.
1ـ حسن نية المؤلف والناشر.
2ـ اعتبرت المحكمة نشر هذه الآراء وسيلة لـتـُفهم الناس معنى الفضيلة.
إن الأدب المكشوف فن كبقية الفنون، ولو لم يكن كذلك لما وجدناه يُدرّس في كلية الآداب للذكور والإناث على السواء، ولما وجدنا كتب الأدب العربي التي تُدرّس في مدارسنا تتطرق إليه، وتذكر نماذج منه، ولما وجدنا في مكتبات العالم وفي مكتباتنا العامة دواوين شعراء الأدب المكشوف...
قلت: إن الأدب المكشوف فن، كما أن فن النحت فن، وفن التصوير فن. وإننا لنجد في أسواق العراق وكل أسواق العالم والبيوتات الراقية في العراق وغير العراق من أنحاء العالم تماثيل عارية لأجسام عارية، نحتها أو رسمها نحّاتون عالميون. فإذا كان في كل ماذكرت مخالفة للآداب العامة فليتفضل الإدعاء العام ويسق أساتذة المدارس ووزارة المعارف ومَن عرض في محله التجاري تماثيل أو صوراً عارية وفق المادة 204 من قانون العقوبات البغدادي. ولنترك الأدب والفن قليلاً ونتصفح كتب علم النفس الجنائي التي تتطرق الى الأمراض النفسية، الجنسية منها وغير الجنسية، نرى مافيها من أمثال واقعية عن المصابين بالشذوذ الجنسي، ذكرت بصراحة متناهية. فهل تعتبر مثل هذه الكتب مخالفة للآداب...؟.
إن هذه الكتب درسناها وتدرس لغاية الآن، ولاتخلو مكتبة مفيدة من بعضها. فهل نشر هذه الكتب وبيعها ينطبق عليه نص المادة 204 من ق. ع. ب؟
إني متأكد من أن الجواب على كلّ ذلك لايكون بالنفي. وأعتقد بأن سعادة ممثل القضاء العادل يشاركني الرأي. وإني لا أرى فرقاً بين نشر قصائد الأدب المكشوف وبين نشر كتب علم النفس التي فيها أمثال كثيرة عن الشذوذ الجنسي. فالأدب المكشوف فن من الفنون، وعلم النفس علم من العلوم، وليس في نشر الأدب المكشوف، كما ليس فيما كُتب من كتب علم النفس، تحريض على الفسق والفجور، وخصوصاً والجريمة تنتفي مادام القصد الجنائي الذي هو تحريض الناس على الفسق والفجور بنشر أمور مخلّة بالآداب معدوماً.
والأدب المكشوف ليس بجديد، فلو رجعنا مئآت السنين الى الوراء لوجدنا كتباً وقصائد ظهرت في زمن ازدهار الإسلام، في زمن كان للدين سطوته، ومع ذلك لم يقتص قضاة ذلك العهد من الشعراء الذين نظموا في الشعر المكشوف بل كان خلفاء ذلك العهد يتذوقون مثل تلك القصائد، ويكرمون الشعراء من أجلها.
هذا في الماضي، أما في وقتنا الحاضر فلو تجوّلنا في الأسواق لوجدنا الكثير من الكتب الحديثة التي فيها من الأدب المكشوف أكثر مما ذهب اليه موكّلي في قصائده. وهذ الكتب منها اللبنانية والمصرية والعراقية، كديوان أفاعي الفردوس للشاعر الياس أبو شبكة الذي اُعيد طبعه سنة 1948، وديوان أغاريد الربيع للشاعر فؤآد بليبل، الذي أجازت مديرية الدعاية العامة دخولها الى العراق وبيعها في الأسواق وكذلك نجد في ديوان الرصافي والزهاوي مثل هذا النوع من الشعر.
إن الإدب المكشوف نوع من الأدب الراقي، فإذا كانت القصيدة من نوع الأدب المكشوف فلايعني كون تلك القصيدة مخالفة للآداب، ولايعني أن نشرها وتوزيعها يقصد منه نشر الرذيلة بين الناس.
إن موكلي أراد أن يفهم الناس ماهية الرذيلة، فللرذيلة ستار برّاق يجلب من كانت تجاربه في الحياة قليلة، واطلاعه على الرذيلة اطّلاعاً محدوداً. فمتى ما اطلع قليل الدراية على مثل هذه القصائد التي صوّرت الرذيلة كما هي بصراحة متناهية، كاشفة الستار الجذاب عنها اشمأزت نفسه منها، وتمسّك بالفضيلة، وهذا ماقصده موكلي من نشر هذا الديوان موضوع الدعوى. فما أراده موكلي من نشر هذه القصائد ليس نشر أمور مخلّة بالآداب بل أراد محاربة الرذيلة عن طريق الرذيلة ذاتها. وقد يكون دواء الداء من نفس الداء. وعقده في ذلك كمثل الأستاذ الذي يؤلف كتاباً في الشذوذ الجنسي، فليس ذلك المؤلف يريد بكتابه التحريض على ارتكاب جرائم الشذوذ الجنسي إنما يريد خدمة العلم. وموكلي أراد من ديوانه خدمة الأدب العربي والمجتمع. وأضيف على ذلك مناقشة ناحيتين مهمتين: الأولى خاصة بالدستور ونصّه على أن دين الدولة هو الاسلام، فبالرغم من هذا النص، فإن المشرّع العراقي إجاز للمصلحة العامة اُموراً تخالف أحكام الدين الإسلامي كبيع الخمر والبغاء العلني. والناحية الثانية هي : هل يجوز للأديب أن يكتب ما يُعَد تخطياً لحدود المستوى العام العقلي للمجموع؟ وجوابه أن الأديب يكتب للمجموع الحالي كمنقذ ومفكر، وقد يسبق عصره بقرون. وما عالم الأدب بخاف ٍ على سعادة ممثل القضاء العادل.
لهذا أطلب من محكمتكم الموقـّـرة الإفراج عن موكّلي.
المحامي : السيد صفاء الأورفلي
وبعد ذلك قرر الحاكم أن تلتجئ المحكمة الى لجنة أدبية من كبار اُدباء العراق لغرض دراسة الديوان وتقديم تقرير عنه قبل صدور القرار.
وفي اليوم التاسع من شهر تموز عام 1950، عقدت المحكمة جلستها الثالثة، وبعد تلاوة قرار اللجنة الأدبية قررت المحكمة الإفراج عن الشاعر وديوانه.

القرار
"لعدم توفر أركان الجريمة ضد المتهم السيد حسين مردان، قررت المحكمة الإفراج عنه وفق المادة 155 من قانون إصول المحاكمات واُفهم علناً."
(حاكم جزاء بغداد الأولى في 26 تموز 1950)

1597299297472.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى