أول ما يلفت النظر في رواية إنعام كجه جي الصادرة في ٢٠١٧ - عدا لوحة الغلاف التي هي صورة مفترضة للنبيذة نفسها - هو العنوان " النبيذة " الذي تمحورت الرواية كلها حوله وتعلقت به وشكل تساؤلا تطلب إجابة ؟
يرد ذكر هذا الدال تارة ذكرا عابرا وطورا ذكرا فيه توضيح معناه في صفحات عديدة هي ١٨٠ / ٢٤٩ / ٢٥٨ / ٣٠٢ / ٣٠٨ .
وحين يؤتى على ذكر إحدى للشخصيات الرئيسة في الرواية وهي تاجي عبد المجيد التي تعددت أسماؤها /تاج الملوك / مارتين شامبيون / السيدة شامبيون نقرأ أنها " ظلت العصية والنبيذة وعلامة الاستفهام . لم تجد مستقرا في أي بلد". وحين يبحث منصور في معنى النبيذة يجده ويكتب الآتي :
" أمسك القلم وأتردد . "نبيذ " وأتأمل المفردة .أضيف إليها تاء التأنيث "نبيذة " .أخطف معطفي وأذهب إلى بيت جارنا الخوري.خطواتي تنطبع في الثلج، أطلب معجما وأجلس قرب نار الموقد. أحب هذه المقاعد الواطئة من الخيزران والأرجل الخشب ، بلا ظهر ولا مسندين. أبحث عن الفعل الثلاثي: "نبذ الشيءنبذا ، وأنبذه وانتبذه، طرحه أمامه أو وراءه، فهو منبوذ ونبيذ، والنبيذ: غليان العصير . والعامة تخص النبيذ بالخمر وليس بصحيح، وانتبذ: جلس ناحية. والمنبذة الوسادة والأنباذ الأوباش " .أغلق معجم "أحكام الإعراب في لغة الأعراب ".
وحين تستقر تاجي في باريس مع طفلتها التي أنجبتها في لحظة حب عابرة مع أمير إيراني
" تؤمن بأن المسيحي الحق هو من يفتح بيته للمنبوذين " .
وحين تتم المقارنة بين تاجي ووديان الملاح نعرف أن " جنازة وطنية رمت بالأولى خارج الحدود وحفلة تنكرية طردت الثانية من جنة السماع. لا أدري من منا النبيذة . ولا من القادرة على تحدي زمنها " .
أقامت وديان مع تاجي في باريس في الشقة التي ورثتها الأخيرة من زوجها الضابط الفرنسي وكانت " تعرف أنها لن تتخلى عن العجوز، أمها في الغربة. والدتها التي لم تلدها. لم تكن جاحدة ولا انضمت إلى قائمة النابذين ".
وإذا ما ربطنا بين قصة تاجي في حملها غير الشرعي وخروجها من إيران والعراق واستقرارها في باريس مع طفلتها الأشبه باللقيطة ، بما ورد عن مريم في القرآن الكريم ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ) و ( فنفخنا فيه من روحنا بغلام فحملته فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) قلنا بقدر من الاطمئنان إن النبيذة في المقام الأول هي تاجي .
وتاجي بإيجاز هي فتاة عاشت مع أمها وزوج أمها الايرانيين ، بعد أن تخلى أبوها عنها وهي طفلة ، ولما تزوجت أمها من عراقي وكبرت خافت الأم على ابنتها من الزوج، فأرسلتها لتعمل خادمة في بيت طبيبة، وهناك استغلها أخو الطبيبة وعلمها وصارت صحفية. كان هذا في العهد الملكي في ٤٠ ق ٢٠ .
وأما وديان الملاح فهي شابة تدرس الموسيقى وتعاني من صمم جزئي وتقع ضحية العهد الجمهوري وابن الحاكم المستبد الذي يعذبها بسادية ، فتفقد سمعها بالكامل، ويحدث أن تسافر إلى باريس لتدرس الموسيقى وتظل هناك ، وهناك تقيم مع تاجي تخدمها وتغدو لها مثل ابنتها.
الفلسطيني :
كتب عن الرواية مقالات كثيرة أتت على الشخصيتين السابقتين، وهناك شخصية ثالثة هي منصور البادي المقدسي الفلسطيني الذي تعرف إلى تاجي حيث عملا معا في كراتشي، في العامين ١٩٤٩و١٩٥٠، في إذاعة تنطق بالعربية .
كانت تاجي تكبر منصور بسنوات وكانت " قنبلة جنسية " أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ولكنها أحبت الفلسطيني وأحبها دون أن يتصارحا ، وكان أن أنهي عملهما مع مصريين آخرين من الإذاعة، فغادرا كراتشي وسار كل في اتجاه. وظلا يحملان لبعضهما مشاعر حب آملين أن يلتقيا ذات نهار .
ولد منصور البادي في القدس في أواخر ٢٠ ق ٢٠ وكان الذكر الوحيد بين خمسة إخوة ، ولما حدثت نكبة ١٩٤٨ هاجرت العائلة إلى لبنان حيث استقرت هناك .
في أثناء عمله مع تاجي يقعان معا في الحب دون أن يتفاتحا في موضوعه .
تاجي التي أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ترى في منصور البادي شخصا مختلفا:
" تتأمله وهو يقرأ بصوته الرخيم أمام الميكروفون، وسيم دون أن يتوافق وذوقها في عشاقها...نحيل بالغ التهذيب.. يصغرها بحفنة أعوام، لكن شيئا ما يشدها إليه. تطمئن لصحبته. الوحيد الذي لا يغازلها. لا يرمي لها كلمات ترميها، بدورها، في كيس التأوهات الملقى وراء ظهرها .
أما هذا الولد الطري ، زميلها الفلسطيني، فلا أكثر من أن يسمعها تغني. لهجتها العراقية تفعل فيه المفاعيل ...
أدركت أنه مغرم وممسوس ،جاهز للاحتراق مثل عود كبريت .ولم ترق له وتتجاوب،بل أحست بإشفاق. خافت عليه من غوايتها. كان صغير السن ونقيا وابن أوادم. ولم تكن تنوي تلويثه. لن تضيفه إلى ضحاياها. فلتبق البريء على براءته" ويبقى منصور حبها الذي يعيش معها طيلة حياتها التي بلغت التسعين .
الفلسطيني في الرواية يذكرنا بفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته العديدة، ولا أدري إن كانت الروائية وهي تكتب عن منصور تمثلت جبرا الذي كان وجها من وجوه بغداد الثقافية. إن منصور يتشابه مع جبرا وإن لم يتطابق معه تطابقا كليا ، ويتشابه أيضا مع أبطال جبرا الذين خلقهم على صورته؛ جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود .
منصور مثقف فلسطيني يتبت جدارته في عمله وقد أخذته نكبة ١٩٤٨ بعيدا عن مدينته القدس. سافر إلى بغداد ومنها إلى كراتشي واستقر به المقام في فنزويلا أستاذا جامعيا لامعا وكاتبا متميزا غدا مقربا من الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وتظل القدس وجهته الأولى وحين يغدو سفيرا لفنزويلا يفكر في زيارتها ولكنه يرفض أن يختم جواز سفره بالختم الإسرائيلي.
الفلسطيني هنا يبدو مختلفا عن الفلسطيني في بعض الروايات العربية التي رشحت لبوكر جائزة الرواية العربية العالمية، مثل رواية المصري ناصر عراق "العاطل "(انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ٢٦شباط ٢٠١٢) .في "العاطل "يبدو الفلسطيني متعصبا ومكروها وغير محتمل ، بخلاف ما يبدو في "النبيذة".إن انعام كجه جي تعيد الاعتبار للفلسطيني وتواصل رسم صورة إيجابية له في زمن يقسو عليه فيه كثيرون .
وعموما فإن الرواية تشدك إليها وهي آسرة مشوقة ممتعة تحفل بأبعادتاريخية تثقفك، رغم بعض الهنات والأخطاء القليلة جدا التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
الجمعة والسبت ٨و٩ / ١١ / ٢٠١٩
يرد ذكر هذا الدال تارة ذكرا عابرا وطورا ذكرا فيه توضيح معناه في صفحات عديدة هي ١٨٠ / ٢٤٩ / ٢٥٨ / ٣٠٢ / ٣٠٨ .
وحين يؤتى على ذكر إحدى للشخصيات الرئيسة في الرواية وهي تاجي عبد المجيد التي تعددت أسماؤها /تاج الملوك / مارتين شامبيون / السيدة شامبيون نقرأ أنها " ظلت العصية والنبيذة وعلامة الاستفهام . لم تجد مستقرا في أي بلد". وحين يبحث منصور في معنى النبيذة يجده ويكتب الآتي :
" أمسك القلم وأتردد . "نبيذ " وأتأمل المفردة .أضيف إليها تاء التأنيث "نبيذة " .أخطف معطفي وأذهب إلى بيت جارنا الخوري.خطواتي تنطبع في الثلج، أطلب معجما وأجلس قرب نار الموقد. أحب هذه المقاعد الواطئة من الخيزران والأرجل الخشب ، بلا ظهر ولا مسندين. أبحث عن الفعل الثلاثي: "نبذ الشيءنبذا ، وأنبذه وانتبذه، طرحه أمامه أو وراءه، فهو منبوذ ونبيذ، والنبيذ: غليان العصير . والعامة تخص النبيذ بالخمر وليس بصحيح، وانتبذ: جلس ناحية. والمنبذة الوسادة والأنباذ الأوباش " .أغلق معجم "أحكام الإعراب في لغة الأعراب ".
وحين تستقر تاجي في باريس مع طفلتها التي أنجبتها في لحظة حب عابرة مع أمير إيراني
" تؤمن بأن المسيحي الحق هو من يفتح بيته للمنبوذين " .
وحين تتم المقارنة بين تاجي ووديان الملاح نعرف أن " جنازة وطنية رمت بالأولى خارج الحدود وحفلة تنكرية طردت الثانية من جنة السماع. لا أدري من منا النبيذة . ولا من القادرة على تحدي زمنها " .
أقامت وديان مع تاجي في باريس في الشقة التي ورثتها الأخيرة من زوجها الضابط الفرنسي وكانت " تعرف أنها لن تتخلى عن العجوز، أمها في الغربة. والدتها التي لم تلدها. لم تكن جاحدة ولا انضمت إلى قائمة النابذين ".
وإذا ما ربطنا بين قصة تاجي في حملها غير الشرعي وخروجها من إيران والعراق واستقرارها في باريس مع طفلتها الأشبه باللقيطة ، بما ورد عن مريم في القرآن الكريم ( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ) و ( فنفخنا فيه من روحنا بغلام فحملته فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا ) قلنا بقدر من الاطمئنان إن النبيذة في المقام الأول هي تاجي .
وتاجي بإيجاز هي فتاة عاشت مع أمها وزوج أمها الايرانيين ، بعد أن تخلى أبوها عنها وهي طفلة ، ولما تزوجت أمها من عراقي وكبرت خافت الأم على ابنتها من الزوج، فأرسلتها لتعمل خادمة في بيت طبيبة، وهناك استغلها أخو الطبيبة وعلمها وصارت صحفية. كان هذا في العهد الملكي في ٤٠ ق ٢٠ .
وأما وديان الملاح فهي شابة تدرس الموسيقى وتعاني من صمم جزئي وتقع ضحية العهد الجمهوري وابن الحاكم المستبد الذي يعذبها بسادية ، فتفقد سمعها بالكامل، ويحدث أن تسافر إلى باريس لتدرس الموسيقى وتظل هناك ، وهناك تقيم مع تاجي تخدمها وتغدو لها مثل ابنتها.
الفلسطيني :
كتب عن الرواية مقالات كثيرة أتت على الشخصيتين السابقتين، وهناك شخصية ثالثة هي منصور البادي المقدسي الفلسطيني الذي تعرف إلى تاجي حيث عملا معا في كراتشي، في العامين ١٩٤٩و١٩٥٠، في إذاعة تنطق بالعربية .
كانت تاجي تكبر منصور بسنوات وكانت " قنبلة جنسية " أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ولكنها أحبت الفلسطيني وأحبها دون أن يتصارحا ، وكان أن أنهي عملهما مع مصريين آخرين من الإذاعة، فغادرا كراتشي وسار كل في اتجاه. وظلا يحملان لبعضهما مشاعر حب آملين أن يلتقيا ذات نهار .
ولد منصور البادي في القدس في أواخر ٢٠ ق ٢٠ وكان الذكر الوحيد بين خمسة إخوة ، ولما حدثت نكبة ١٩٤٨ هاجرت العائلة إلى لبنان حيث استقرت هناك .
في أثناء عمله مع تاجي يقعان معا في الحب دون أن يتفاتحا في موضوعه .
تاجي التي أقامت علاقات عديدة مع أشخاص عديدين ترى في منصور البادي شخصا مختلفا:
" تتأمله وهو يقرأ بصوته الرخيم أمام الميكروفون، وسيم دون أن يتوافق وذوقها في عشاقها...نحيل بالغ التهذيب.. يصغرها بحفنة أعوام، لكن شيئا ما يشدها إليه. تطمئن لصحبته. الوحيد الذي لا يغازلها. لا يرمي لها كلمات ترميها، بدورها، في كيس التأوهات الملقى وراء ظهرها .
أما هذا الولد الطري ، زميلها الفلسطيني، فلا أكثر من أن يسمعها تغني. لهجتها العراقية تفعل فيه المفاعيل ...
أدركت أنه مغرم وممسوس ،جاهز للاحتراق مثل عود كبريت .ولم ترق له وتتجاوب،بل أحست بإشفاق. خافت عليه من غوايتها. كان صغير السن ونقيا وابن أوادم. ولم تكن تنوي تلويثه. لن تضيفه إلى ضحاياها. فلتبق البريء على براءته" ويبقى منصور حبها الذي يعيش معها طيلة حياتها التي بلغت التسعين .
الفلسطيني في الرواية يذكرنا بفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في رواياته العديدة، ولا أدري إن كانت الروائية وهي تكتب عن منصور تمثلت جبرا الذي كان وجها من وجوه بغداد الثقافية. إن منصور يتشابه مع جبرا وإن لم يتطابق معه تطابقا كليا ، ويتشابه أيضا مع أبطال جبرا الذين خلقهم على صورته؛ جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود .
منصور مثقف فلسطيني يتبت جدارته في عمله وقد أخذته نكبة ١٩٤٨ بعيدا عن مدينته القدس. سافر إلى بغداد ومنها إلى كراتشي واستقر به المقام في فنزويلا أستاذا جامعيا لامعا وكاتبا متميزا غدا مقربا من الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وتظل القدس وجهته الأولى وحين يغدو سفيرا لفنزويلا يفكر في زيارتها ولكنه يرفض أن يختم جواز سفره بالختم الإسرائيلي.
الفلسطيني هنا يبدو مختلفا عن الفلسطيني في بعض الروايات العربية التي رشحت لبوكر جائزة الرواية العربية العالمية، مثل رواية المصري ناصر عراق "العاطل "(انظر مقالي في الأيام الفلسطينية ٢٦شباط ٢٠١٢) .في "العاطل "يبدو الفلسطيني متعصبا ومكروها وغير محتمل ، بخلاف ما يبدو في "النبيذة".إن انعام كجه جي تعيد الاعتبار للفلسطيني وتواصل رسم صورة إيجابية له في زمن يقسو عليه فيه كثيرون .
وعموما فإن الرواية تشدك إليها وهي آسرة مشوقة ممتعة تحفل بأبعادتاريخية تثقفك، رغم بعض الهنات والأخطاء القليلة جدا التي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
الجمعة والسبت ٨و٩ / ١١ / ٢٠١٩