كتب نيتشه في تمهيده لـ«العلم المرح»: «إننا لم نعد نعتقد أن الحقيقة تظل حقيقة من غير ستارها. لقد عمّرنا ما يكفي لكي نؤمن بذلك. أصبحنا نعتبر أنّ من باب الحشمة والحياء ألا يرغب المرء في أن يرى كل شيء في عرائه...علينا أن نمجِّد أكبر التمجيد الحياء الذي تتحلّى به الطبيعة، والذي يجعلها تتستَّر وراء الألغاز وعدم اليقين. ربما كانت الحقيقة امرأة تعرف لماذا لا تفصح عن أسبابها ومبرِّراتها؟
فربما كان من المناسب أن ندعوها (بوبو) بتعبير الإغريق؟.. عجباً لهؤلاء الإغريق! لَكَمْ كانوا يعرفون أسباب العيش! إن ذلك يتطلَّب البقاء عند السطح، عند ثنايا الثوب، عند القشرة والبَشَرة. إنه يقتضي عبادة المظهر، والإيمان بالشكل، والأصوات والكلمات، الإيمان بأولمب المظهر. كم كان الإغريق سطحيين.. من شدة عمقهم!».
ليس هذ الإقرار بأن الطبيعة تنطوي على أسرار، وأنها تتستَّر وراء حجاب بالأمر الجديد. الجديد هنا هو ما لحق أنطلوجيا الستار، وما عرفه مفهوم السرّ من تحوُّل. فلطالما نُظر إلى الحجاب الذي يُضرَب على السرّ، والستار الذي يُسدَل دونه على أنه لا يشكِّل جزءاً من بنية السرّ، وإنما ينضاف إليه باعتباره مُجَرَّد قشرة تخفي اللبّ. إذ إن قيمة الحجاب لم تكن لتكمن فيه، بل في ما يستره. فما كان ينكتم ليس مفعول الحجاب. الحجاب لم تكن له وظيفة، اللهم، صون الجوهر و«حفظ» السرّ الذي ينكشف بـ«إزاحة» الستار ورفع الحجاب وإماطة اللثام.
الجديد الذي يشير إليه نيتشه هو«أن الحقيقة لا تظل حقيقة من غير حجابها». فالحجاب محدِّد للحقيقة، وليس مُجَرَّد غطاء لها. فعلى عكس الرؤية الميتافيزيقية التي لا ترى علاقة للحجاب بما يحجبه، تقوم رؤية مضادة تعتبر أن ما وراء الستار مفعول للوهم الذي يبعثه فينا الحجاب عندما يمنعنا من أن ننظر إليه كحجاب. هنا يغدو الستار دليلاً على فعل التستُّر أكثر مما هو دليل على «شيء» من ورائه، وهنا يستعيد الستار فعاليته.
ليس الستار، والحالة هذه، غطاء يوضع «فوق» ما يستره، بل هو انثناء ما يظهر. إنه فعل الطيّ ذاته. يؤكِّد صاحب «العلم المرح»: « إذا كان هناك قناع، فلا شيء من ورائه. إنه سطح لا يخفي شيئاً سوى ذاته». على هذا النحو تغدو السرّيّة بنية للكائن أكثر منها أقوالاً تُكْتَم، وحقائق تحتجب. إنها تشير إلى جدلية الظهور والاختفاء. تساءل نيتشه: «ما هو الظاهر عندي؟» فأجاب: «من المؤكَّد أنه ليس عكس الوجود. فما عسى يمكنني أن أقول عن الموجود مهما كان، اللهم، صفات ظاهره. الظاهر ليس عندي ستاراً لا حياة فيه. إنه عندي هو الحياة والفعالية ذاتها. إنها الحياة التي تسخر من ذاتها كي توهمني أن لا وجود إلا للمظاهر».
حينما ينكشف السرّ ويفتضح أمره والحالة هذه، فإنه لا يكشف عن شيء، وإنما يكشف عن بنية الاختفاء. فما يظهره السرّ هو الاختفاء ذاته. وهنا يجد التضاد الذي تضعه اللغة العربية في لفظي السرّ والخفاء كامل معناه. نقرأ في اللسان في بابَيّ السرّ والإخفاء: «أَسَرّ الشيء: كتمه وأظهره….سررته: كتمته، وسررته: أعلنته. ». «خفا البرق خفواً: لمع. خفا الشيء خفواً: ظهر…خفي الشيء، أخفيته: كتمته، وخفيته أيضاً: أظهرته وهو من الأضداد».
اختفاء السرّ هو ظهوره، ولكنَّ ظهوره كاختفائه. لا يعني ذلك أن السرّ لا يُكشَف. إنه لا يكون سرّاً إلا إذا عُرِف، لكنه لا يُعرف إلا كَسِرّ، أي إنه يُعرَف كشيء لا يُعرَف. هذا المفهوم يرجع للمظهر كل قوته، مثلما يعيد للحجاب سمكه، وللسطح عمقه. لكن الأهم من ذلك أنه يجعل الأعماق مفعول السطوح، ويجعل التستُّر بنية للكائن، وليس كتماناً لأسرار، وصوناً لجواهر، وحفاظاً على ألباب.
* مجلة الدوحة
فربما كان من المناسب أن ندعوها (بوبو) بتعبير الإغريق؟.. عجباً لهؤلاء الإغريق! لَكَمْ كانوا يعرفون أسباب العيش! إن ذلك يتطلَّب البقاء عند السطح، عند ثنايا الثوب، عند القشرة والبَشَرة. إنه يقتضي عبادة المظهر، والإيمان بالشكل، والأصوات والكلمات، الإيمان بأولمب المظهر. كم كان الإغريق سطحيين.. من شدة عمقهم!».
ليس هذ الإقرار بأن الطبيعة تنطوي على أسرار، وأنها تتستَّر وراء حجاب بالأمر الجديد. الجديد هنا هو ما لحق أنطلوجيا الستار، وما عرفه مفهوم السرّ من تحوُّل. فلطالما نُظر إلى الحجاب الذي يُضرَب على السرّ، والستار الذي يُسدَل دونه على أنه لا يشكِّل جزءاً من بنية السرّ، وإنما ينضاف إليه باعتباره مُجَرَّد قشرة تخفي اللبّ. إذ إن قيمة الحجاب لم تكن لتكمن فيه، بل في ما يستره. فما كان ينكتم ليس مفعول الحجاب. الحجاب لم تكن له وظيفة، اللهم، صون الجوهر و«حفظ» السرّ الذي ينكشف بـ«إزاحة» الستار ورفع الحجاب وإماطة اللثام.
الجديد الذي يشير إليه نيتشه هو«أن الحقيقة لا تظل حقيقة من غير حجابها». فالحجاب محدِّد للحقيقة، وليس مُجَرَّد غطاء لها. فعلى عكس الرؤية الميتافيزيقية التي لا ترى علاقة للحجاب بما يحجبه، تقوم رؤية مضادة تعتبر أن ما وراء الستار مفعول للوهم الذي يبعثه فينا الحجاب عندما يمنعنا من أن ننظر إليه كحجاب. هنا يغدو الستار دليلاً على فعل التستُّر أكثر مما هو دليل على «شيء» من ورائه، وهنا يستعيد الستار فعاليته.
ليس الستار، والحالة هذه، غطاء يوضع «فوق» ما يستره، بل هو انثناء ما يظهر. إنه فعل الطيّ ذاته. يؤكِّد صاحب «العلم المرح»: « إذا كان هناك قناع، فلا شيء من ورائه. إنه سطح لا يخفي شيئاً سوى ذاته». على هذا النحو تغدو السرّيّة بنية للكائن أكثر منها أقوالاً تُكْتَم، وحقائق تحتجب. إنها تشير إلى جدلية الظهور والاختفاء. تساءل نيتشه: «ما هو الظاهر عندي؟» فأجاب: «من المؤكَّد أنه ليس عكس الوجود. فما عسى يمكنني أن أقول عن الموجود مهما كان، اللهم، صفات ظاهره. الظاهر ليس عندي ستاراً لا حياة فيه. إنه عندي هو الحياة والفعالية ذاتها. إنها الحياة التي تسخر من ذاتها كي توهمني أن لا وجود إلا للمظاهر».
حينما ينكشف السرّ ويفتضح أمره والحالة هذه، فإنه لا يكشف عن شيء، وإنما يكشف عن بنية الاختفاء. فما يظهره السرّ هو الاختفاء ذاته. وهنا يجد التضاد الذي تضعه اللغة العربية في لفظي السرّ والخفاء كامل معناه. نقرأ في اللسان في بابَيّ السرّ والإخفاء: «أَسَرّ الشيء: كتمه وأظهره….سررته: كتمته، وسررته: أعلنته. ». «خفا البرق خفواً: لمع. خفا الشيء خفواً: ظهر…خفي الشيء، أخفيته: كتمته، وخفيته أيضاً: أظهرته وهو من الأضداد».
اختفاء السرّ هو ظهوره، ولكنَّ ظهوره كاختفائه. لا يعني ذلك أن السرّ لا يُكشَف. إنه لا يكون سرّاً إلا إذا عُرِف، لكنه لا يُعرف إلا كَسِرّ، أي إنه يُعرَف كشيء لا يُعرَف. هذا المفهوم يرجع للمظهر كل قوته، مثلما يعيد للحجاب سمكه، وللسطح عمقه. لكن الأهم من ذلك أنه يجعل الأعماق مفعول السطوح، ويجعل التستُّر بنية للكائن، وليس كتماناً لأسرار، وصوناً لجواهر، وحفاظاً على ألباب.
* مجلة الدوحة