عبد السلام بنعبد العالي - في السعادة

«هناك فرق شاسع بين أيديولوجيا السعادة التي كانت تعتنقها آلاف القرون الماضية، وبين تلك التي نعتنقها نحن: المسألة مسألة وسائل. ففيما مضى، لم تكن الوسائل متوافرة لتمكين الناس من السعادة. فكان السعي نحو السعادة مسألة شخصية ترتبط بالثقافة والحياة الروحية والزهد، واختيار نمط معين للعيش. ومنذ ما يقرب من القرنين، أصبحنا نتوفر على الوسائل (التقنية) لجعل السعادة في متناول الجميع. بطبيعة الحال، الأمران ليسا سيان. إذ لم تعد السعادة حالة باطنية، وإنما غدت فعالية استهلاكية».
جاك إيلول
«إن ما يدهشني، هو أن الفن غدا شيئاً لا علاقة له إلا بالأشياء، وليس بالأفراد أو بالحياة.. ولكن، ألا يمكن أن تغدو حياة كل فرد تحفة فنية؟ لماذا يكون المصباح أو المنزل موضوعين للفن وليس حياتنا أيضاً؟».
م. فوكو
مما يثير الاستغراب قلة الأسطر التي يخصصها قاموس «المصطلحات التقنية والنقدية للفلسفة» لمفهوم السعادة. وهو كما نعلم قاموس يعكس الجدال الذي كان يدور بين أعضاء الجمعية الفلسفية الفرنسية التي كان لالاند مقررها العام. ما يعني أن المفهوم لم يكن ينال عناية معظم الفلاسفة وقت تحرير القاموس، إلا أن المثير للانتباه هو أن الأمر لم يتم تداركه في الطبعات اللاحقة، مثلما حدث لكثير من المفهومات. الأمر الذي يدل على أن المفهوم ذاته لم يكن ليفرض نفسه، وأن الإشارة إليه لم تكن تتعدى الفضول التاريخي. نلمس ذلك حتى عند بعض معاصرينا الذين يحاولون أن يردوا للمفهوم قيمته، وأن يبحثوا له عن تأويل غير مثالي، إذ غالباً ما تقتصر إحالاتهم على بعض الفلسفات القديمة كالأبيقورية والبيرونية، أو على بعض المحدثين كباسكال وسبينوزا.
للأمر دلالته بطبيعة الحال. فكأن مفهوم السعادة لا يرد اليوم إلى وقائع يود فهمها، كأن الاسم غدا من غير مسمى. غياب المفهوم ربما علامة على غياب الواقعة التي يرد إليها. ما يؤكد ذلك أن حتى أولئك الذين يعرضون إليه سرعان ما يختزلونه ليخوضوا في الحديث عن مفاهيم تقرب منه من غير أن تشمله كاللذة والمتعة واللهو وما شابه، فيرون على سبيل المثال أن السعادة هي لذة نأمل دوامها، ومن هنا حاجتهم إلى «فن عيش» لتدبير اللذات اقتراباً من السعادة. فكأنما تنحل السعادة عندهم إلى «حاصل جمع» لذّات متناثرة.
والظاهر أن حياتنا المعاصرة تستجيب أكثر لهذا المعنى ولهذه السعادة «بالتقسيط»، وهي تُعرض علينا في إطار ما يدعوه أحد الفلاسفة المعاصرين «النزعة اللذية الاستهلاكية» التي تدفع الفرد في المجتمع المعاصر إلى الجري وراء إشباع اللذات السريعة المباشرة، فيجعل من اللهو بمعناه الباسكالي هوى دائماً، ومن أهوائه وسائل لملء الفراغ. بل إنه قد يكتفي بأشباه أهواء، من هنا تعلقه الدائم بالملذات التي تحققها صور الشاشات الكبيرة والصغيرة. ومن هنا أيضاً ذلك الإنشداد الذي لا يكلّ إلى «خارج»، بجميع معاني هذه الكلمة سواء أكان هذا الخارج هروباً من الذات، أو من الآن والحاضر، أو ابتعاداً عن موطن، أو ربما حتى تعلقاً بسلف أو عصر ذهبي . سعادة الإنسان المعاصر سعادة هاربة من نفسها، سعادة «معلقة»، سعادة «افتراضية»، لا ترى تحققها إلا بعيداً فيما تعِد به الإعلانات والإشهارات، وما يجعلنا نحلم به، نجوم السينما والرياضة والغناء والثقافة، عندما نرى صورهم وأنماط حياتهم، وما يبدو أنهم يتمتعون به من ملذات. وهي أيضاً سعادة مفتتة، سعادة بالتقسيط، سعادة تتألف من حاصل ضم لحظات لهْو متقطعة متنوعة. من هنا يجد الإنسان المعاصر نفسه مدفوعاً إلى توفير الملذات بشرائها لاستهلاكها. بل إن الاستهلاك سرعان ما يغدو هو ذاته متعة ولذة، وهكذا يندفع المرء نحو استهلاك الاستهلاك. ولكي لا يمل الفرد اجترار الملذات نفسها، فإن مجتمع الاستهلاك يأخذ على عاتقه ، ليس إشباع الرغبات فحسب، وإنما خلقها المستأنف، وتجددها الدائم، ولا نهائيتها المتعددة. وقد يكفي في ذلك تنويع أشكال العرض وإغراءات الإعلام، وصناعة الأحلام، وعياً من المجتمع المعاصر بأن الفرد قد غدا سهل القنوط، وأن «سعادته» متوقفة على التجديد، أو، على الأصح، على خلق وهم التجديد والتنوع.
هذا القنوط هو الذي يوجد وراء أشكال الهروب التي أشرنا إليها، وهو الذي يجزئ السعادة الحالمة إلى لقطات لذات، أو كما يقال عادة، إلى «لحظات كثيفة» تغري الفرد بأن «يستغلها» أحسن استغلال.
تجنباً لهذا الجري المتواصل وراء ما يتعذر تحقيقه، يستدعي بعض الفلاسفة المعاصرين، لا ما ينعتونه بالأخلاق المثالية التي اعتبرت الجسد عائقاً لتحقيق السعادة، فاقتصرت على سعادة روحية لا تتحقق إلا في تحررها من الجسد، وإنما بعض أشكال الفلسفات الأخلاقية التي حاولت أن تخضع الاندفاع نحو تحقيق الملذات إلى معيار العقل تحقيقاً لتوازن مقبول، و«سعادة عفيفة» وهارمونيا وتوازن. لا يسمح لنا المجال هنا بطبيعة الحال بالوقوف عند هذه النظرة المانوية إلى تاريخ الفلسفة، والقول بأنه لم يكن في معظمه «إلا تاريخ الفكر والنفس والروح»، وأن عليه أن يتحول إلى تاريخ الجسد، كما لا يمكننا الرد على كل التأويلات المبسطة التي تعتبر أن أفلاطون، الذي نعرف أنه كان ضد الانتحار «لأن الانتحار طغيان للجسد على الجسد»، تعتبر أن أفلاطون يدعو إلى الانتقال إلى الحياة الأخرى عندما يدعو إلى تحرير النفس، وكذا التأويلات التي تجعل الأبيقورية فلسفة لذة بالمعنى المبتذل. وربما لا مفر لنا هنا تدقيقاً للموقف الأبيقوري من نقل الرسالة التي يقول فيها: «عندما نقول إن اللذة هي غاية الحياة، فإن الأمر لا يتعلق باللذات الفوضوية وبالأشكال المنمقة للمتعة، مثلما يدّعي أولئك الذين لا يعرفوننا فيسيئون فهمنا ويعارضوننا. إن اللذة هي غياب ألم الجسد وغياب قلق النفس، لأن حياة اللذة ليست قط في الولائم والحفلات التي لا تتوقف. إنها في العفة حالما نتابع برهاناً عقلياً متابعة متنبهة، بحثاً عن الأسباب ومن أجل القبول أو الرفض، وإهمالاً لبادئ الرأي الذي يسبب قلق النفس».
إلا أن الأهم هو أن أصحاب هذه الدعوة يغفلون العلاقة الحميمية التي تربط الأخلاق المعاصرة بما يمكن أن نطلق عليه «الاقتصاد السياسي» للمجتمع المعاصر، بالمعنى الأصلي لهذه العبارة، وأعني الكيفية التي تُدبر بها علائق السلطة وتُتداول بها المعاني والدلالات. ذلك أن فن العيش الذي يمكن أن نتحدث عنه اليوم ليس «ترويضاً للذات» و«نحتاً لها» (على حد تعبير أونفري) وإنما هو أيضاً، وربما أساساً، تدبير للمجتمع، إذ لا يمكن أن نتحدث اليوم عن فن للعيش إلا من حيث هو «فن للعيش- معاً».
لذا تبدو لنا مبررات هذه العودات التي نلحظها اليوم إلى بعض الفلاسفة الذين حاولوا أن يعيدوا إلى الجسد مكانته في تحديد السعادة وتحقيقها، رهينة بربط فن العيش ببعده السياسي وإقحامه داخل المدينة، وربطه أيضاً بفلسفة مغايرة عن الفعالية البشرية لا ترى في تلك الفعالية فحسب إلا ما تحققه من نتائج، وإنما تأخذ بعين الاعتبار الفعالية ذاتها. ذلك أن قيمة الأفعال البشرية لا تكمن في ما توّفره من متع وما تصبو إليه من ملذات، وإنما في مسارها ذاته. فإذا كان من غنى ومن كثافة، فليست هي فحسب كثافة المدة الزمنية التي استغرقتها اللذة، وإنما كثافة الفعل ذاته. يذكّرنا آلان بمقولة أرسطو: «إن الموسيقيّ الحق هو الذي يجد لذته في الموسيقى، والسياسي الحق هو الذي يجد لذته في السياسة»، ثم يعلق بقوله: «إن العلامة التي تدل على التقدم الحقيقي في كل عمل هي اللذة التي نحصل عليها أثناءه، ومن ثمة نرى أن العمل هو وحده الشيء الممتع، وهو وحده يكفي»، فلذة الكتابة، على سبيل المثال، تظهر أثناء الكتابة ومن خلالها، وليست هي غاية تتوجها ولا نتيجة تتمخض عنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى