عبد السلام بنعبد العالي - صناعة العطل

«ولكن، يمكن الاعتراض بأن «الراين» يبقى على رغم ذلك نهراً ينتمي لمشهد طبيعي. ليكن الأمر كذلك، لكن كيف؟ ليس إلا كموضوع لزيارات تنظمها وكالات أسفار أقامت على ضفافه صناعة خاصة بالعطل».
م. هايدغر
يرتبط مفهوم العطلة في أذهاننا بالتحرر. الغاية من العطلة توفير «وقت حر»، وقت خالٍ من ضغوط العمل، وتحرير الفرد من إكراهات الحياة المهنية كي يتفرغ لـ «ما يحلو له» القيام به.
يأتي معنى التحرّر نتيجة لنظرة طالت، لزمن غير قصير، مفهومَ العمل، حيث كانت تعتبره استرقاقاً، أو على الأقل نوعاً من العناء الذي لا يترتب فحسب عن بذل الجهد، وإنما حتى عن التكرار والرّتابة. صحيح أن هذا المعنى السّلبي للعمل قد عرف فلسفياً تحوّلاً كبيراً ابتداء من القرن الثامن عشر الأوروبي، حيث اتضح أن العمل TRAVAIL ليس نِيراً TRIPALUS وعناء ومشقة فحسب، وإنما هو أساساً مُحرّك التاريخ، وخالق القيم، بل أداة الإنسان لتحقيق ذاته، إلى حد أن هناك من الفلاسفة من استعاض عن الكوجيطو التقليدي بكوجيطو معاصر يقول: «أَنا أعملُ، إذاً أنا موجود».
وعلى رغم هذا الوجه المشرق للعمل فقد ظلت النّظرة إلى العُطل تعتبر أنها حق ومكسب يتيح للفرد تجديد نفسه لاستئناف عمله. لذا بذلت النضالات النقابية جهدها من أجل توسيع المدة الزمنية المؤدى عنها حتى ناهزت في بعض المناطق الخمسة أسابيع.
غير أن تعقّد الحياة المعاصرة، ودخول الفعالية البشرية دوّامة الإنتاج والاستهلاك، جعلا الآية تنعكس، فلم يعد الفرد اليوم يأخذ قسطاً من الراحة كي يستأنف العمل بشوق ورغبة كما يقال، وإنما صار يعمل ويكدّ كي يوفّر أسباب الراحة، و«يبرمج» عطلته. ذلك أن العطل غدت أمراً لا يخلو من عسر، بالإضافة إلى أنها أصبحت مكلَّفة، وصار على المرء أن يخطّط، ويضرب لها ألف حساب.
مساهمة في هذا التخطيط ظهرت وكالات تأخذ على عاتقها تقديم «منتوجات» ترفيهية وسياحية، منتوجات قابلة للاستهلاك تخضع، مثلها مثل باقي المنتوجات، لقوانين السوق ومسلسلات الدّعاية والإشهار، بهدف توفير خدمات لإشباع حاجات الأسر المرتبطة بأوقات الفراغ، بل ربما لخلق حاجات جديدة، وعرض منتوجات مُغرية لا تنفك «تتمتع بالتجدّد والطراوة».
من هنا غدت العطل صناعة منظّمة، أي أنها أصبحت داخلة ضمن برامج ومُخطَّطات تستهدف الأخذ باهتمام الاستهلاك الجماهيري.
لا تتوجه هذه الصناعة إلى أفراد يودّون القيام بـ «ما يحلو لهم»، أفراد لهم رغبات تتميز من فرد لآخر، ومن ظرف لظرف، رغبات يودّون إشباعها، وحاجات يريدون تلبيتها، وإنما إلى مجموعات، بل قطعان بشرية تريد ملء أوقات فراغها وتقبل الخضوع لبرامج سطَّرها المنظمون.
لن تعود «أوقات الفراغ» هنا بطبيعة الحال هي الأوقات التي يتفرغ فيها الفرد لنفسه ويتحرر من إكراهات العمل، لن تعود هي «الوقت الحر». لفظ LOISIR، المقابل الفرنسي للفظ «الفراغ» العربي، يحيل إلى الفعل اللاتيني LICERE الذي يعني «كون الأمر مباحاً مسموحاً به»، ها نحن نعود من جديد إلى معنى التحرّر من العمل. أما اليوم، فلأوقات الفراغ هاته تسمية دالة تحيل هي كذلك إلى سيادة التقنية وإلى الحساب والتنظيم والبرمجة والتّخطيط، وهي عبارة «الوقت الثالث». الوقت الثالث هو ما يتبقى من اليوم إذا خصمنا منه الوقت الأول، الذي هو وقت العمل، ثم الوقت الثاني الذي هو وقت النوم. الوقت الثالث وقت «عمومي» لا يتوقف على الأفراد ولا يتنوع بتنوعهم. إنه الوقت «المتبقي».
تتشابك صناعة العطل هاته بصناعة أخرى هي ما يمكن أن نطلق عليه «الصناعة الثقافية». فهذه الصناعة أيضاً تتوجه إلى الجماهير بهدف «ملء أوقات فراغها»، وهي لا تبالي كثيراً بإبداع قيم ثقافية، ما يهمها أساساً هو إنتاج موضوعات تهلك باستهلاكها، وترويج موضات ثقافية بدل بث قيم الثقافة والعمل على نشرها.
ليس غريباً إذاً أن يتلبس اليوم الثقافي السياحي، ويَشيع الحديث عن «سياحة ثقافية». كلاهما غدا من الطينة نفسها، كلاهما أصبح يتولد عن صناعة، ويدخل ضمن مخططات استهلاكية تُحوّل الغابات إلى «مناطق خضراء»، والذاكرة الجماعية إلى «معلمات سياحية». مرمى الصناعتين هُوَ هُوَ: خلق رغبات ما تنفك تتجدد، وملء أوقات الفراغ، وتحويل التفرغ إلى فراغ، والتثقيف إلى ملء للوقت، والمتعة إلى «لهو» وتسلية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى