السُّخام. التّفاصيل الحقيرة والقذِرة. كانت تلك هي زاويتي في لندن. موقعٌ بجانب طريق إن غراي. ترابه وحُبيبة رمله الخشنة تأصّلت في شخصيّتي، في حياتي. أربع سنوات منها. مع ذلك لا استطيع أن أُفكّر في زمنٍ آخر، مكانٍ آخر جذبني كما فعلت العاصمة لندن. بالطّبع، إنّها تؤمن بالحب.
قد يتضخّم الصّرصور ويتوهّج بمعتقداتٍ عبثيّة، في حياةٍ بعد الموت، في البِر، في سدّ ديون المرء، في الالتزام بدفع الإيجار. هذا النّوع من التّفاصيل الرّخيصة والوَسِخة هي قنوات عبرها تنساب حياتي، سلبياً. المسيح، سلبيّ دوماً.
اقضي معظم الأيام في شِقّتي، جالساً، اقرأ. اقرأ كل شيء. دانتي، جيمس هادلي شيس، شكسبير، سيرفانتس، دي ساد، ألبرتو مورافيا، وولتر بيتر، بلاي بوي. كنتُ مُفلّساً كالعادة. لا املك مالًا لقضاء وقت خارج الشِقّة. تصرخُ فيّ: “لم تأخذني إلى أي مكانٍ غير الحانات. إنّها تسقمني!”
هذا أمر آخر. احتساء الخمر. على الدّوام أكون في الحانة، اشتري نشوَة رخيصة، نصف لترٍ وراء نصف لتر آخر. الشكر لمجلس الفنون الذي ينعم على كُتّاب مثلي، بمنحةٍ ضئيلة كافية لسلب عقولنا ونحن نعمل على رواية تالية. باركهم الرّب. لكنّها كانت تظنّ أنّ عليّ عدم تبديد موهبتي في كتابة قصص لا نهائيّة عن فوضويين، ومنحرفين، وكُتّابُ سُود، بذكاءٍ، ومُخيّلاتٍ تستهجِن كل ما هو بخس، قذِر.
طالما كنتُ لا اكترث بما أفعله عندما أثمل، كانت تُرافقني إلى الحانة لتطمئن بأنّي لا أجُر على نفسي المتاعب فينتهي بي الحال في سجن بريكستون، أو اُضْرَب ضرباً مبرحاً بمن أسأتُ إليهم، أو ثملاً أُسْحَق تحت عجلات أوتوبيس دورين [يقصد أتوبيسات لندن ذات طابقين – المترجم]. اختصمنا كثيراً حول هذا الأمر. أن أُقلِع عن شُرب الخمر. أنا أحب الشّراب. أن أُقلّل من اللترات، لا أرغب في ذلك. أن احتسي النّبيذ. النّبيذ غالي الثّمن، ثُمّ إنّه لا يُعربدني كما أُريد. أن أشرب في البيت. جرّبته مرتين، وفي كلاهما كانت فزعةً.
كثيراً ما قلتُ لها أن تتركني، لكنّها لا تصغي. أحياناً، أُرعِبها إلى درجةٍ كافية في أن تحزم أشياءها وتهرب لتسكن مع أصدقائها. وقد أوعزوا إليها بأن تهجرني. لم تصغِ. قالت لها والدتها ذات الشئ، وشقيقها أيضاً. في الأوقات ألّتي استيقظ فيها أُعاني من صداع الخَمر، ولا أجدها هناك، كنتُ أحاول أن أتذكّر إن كنت ضربتها، أو تحدّثت إليها بطريقةٍ أثارت ذعرها. كنت أُجيد ذلك، إثارة الذعر في النّفوس. جاءت الشّرطة مرات عديدة. كانت تصيح وتقول لهم أن يحجزوني تحت الأرض. عادةً، كانوا يهزّون أكتافهم بلا مبالاةٍ، يقولون: “إنّه شأنُ منزلي.”
“لكنّه هشّم قيثارتي، حطّم مذياعي، ومزّق ثيابي!” قالت.
حدّجوني بنفورٍ.
كنتُ أُمجّ عقبٍ من أعقاب سجائر يوم أمس.
“يُمكنكِ أن تجرّبي القسم المدني، لأنّ هذا ليس من اختصاصنا.”
ثُمّ يرحلون. أُتناوَل قنينة ستينغو** أخرى. أما هي، فتحمل رأسها بين يديها، تجهشُ بالبُكاء.
أحسستُ بشعراتِ عانتي، هائجةً، قلقةً. هل كل ذلك كان يحدث بسببِ الجّنس؟ ألأنّها بيضاء، وكنتُ أنا أُكدّس عليها الإذلالِ والمَهانَةِ كانتقامٍ للسنوات ألّتي قضيتها، أرزح تحت حِذاء أيان سميث***؟ هل كنتُ ساديّاً؟ أم كنتُ في مطاردةٍ مسعورة وراء تملك كامل لشيء لا طائل منه؟ أتذكّر أنّ ألبرتو مورافيا في كتابه “المأساة” الرّواية ألّتي حَاوَلَت أن تُظهر “جنون التملُك، استحالة القيام بها، والضّجَر ألّذي ينبع نتيجة لهذا الفشل”. هل تَحدُث ذات الآلية عندما يكون الهدف المُراد حيازته، قطعة أرض، أو جزءاً من دولةٍ يُراد استرداده من المُستعمر؟ بعباراتٍ أكبر، هل أختَبِر أنا شخصياً، ما يتجاوز دولتي المُستقلة، زيمبابوي، في شكل فساد، صراعات سُلطة، وتفسّخ إداري؟
في هذه اللّحظة، أكبح جماح خيالي. أَلَم أقُل دوماً إنّ كل شيء مسموح به لا يُسبّب أذى لشخصٍ آخر؟
ألقيتُ بالقنينة الفارغة في ركنٍ قصي. كنتُ أرتعش.
في الخارج، كان ثمت هزيم شاحنات، وأزيز سيارات، وموسيقى الميتال تصخب، وصرخاتُ بغايا يُضربن. معظم جيراني كانوا منبوذين، مشرّدين، مغتصبين لأراضي الغير، وآباء وحيدون استسلموا للحياة صاغرين. شبّان كبار في السّن اعتبروا أنفسهم نحّاتين، ورسّامين. هؤلاء هم ناسي الآن. كنتُ واحداً منهم، التائه ألّذي لا يملك شروى نقيرٍ، وقد كان يوماً يؤلّف الكُتُب.
تمزّق شيئاً بداخلي. اقشعرّ بدني. قبل يومين، كان ذلك قد حدث مرةً أخرى. كنتُ ثملًا، وحاولت أن أُنهي كل شيء بمديةِ مطبخ كبيرة. كان هناك دمٌ في كل مكان. تقريباً، كنت أرى دواخل هذياني الهائجة. لم أرَها تُغادِر. حاولتُ أن أجزّ حنجرتي لكنّي لم أُصِب وريدي.
جالسا هنا مرةً أخرى، عنقي ملتف بضمادةٍ سميكة، أكتب هذه القصة القصيرة جداً. كلما مرّ شخصٌ على السلم، أميل برأسي لأصغي، أفكّر، مُتمنيّاً أن تكون عودتها.
بالأمس، قُطِعَت الكهرباء. أملك هذه الشّموع. لا أستطيع أن أُشاهد التلفاز. فقط، أشاهد وانتظر عودتها.
* دمبودزو ماريشيرا: شاعر وقاص وروائي زيمبابويّ تُوفِي عام 1985 عن عمر ناهز الـ35 عاماً.
** ستينغو: جعة بريطانية
*** إيان سميث، هو إيان دوجلاس سميت رئيس وزراء روديسيا (زِيمبابوي حالياً) 1964- 1979.
قد يتضخّم الصّرصور ويتوهّج بمعتقداتٍ عبثيّة، في حياةٍ بعد الموت، في البِر، في سدّ ديون المرء، في الالتزام بدفع الإيجار. هذا النّوع من التّفاصيل الرّخيصة والوَسِخة هي قنوات عبرها تنساب حياتي، سلبياً. المسيح، سلبيّ دوماً.
اقضي معظم الأيام في شِقّتي، جالساً، اقرأ. اقرأ كل شيء. دانتي، جيمس هادلي شيس، شكسبير، سيرفانتس، دي ساد، ألبرتو مورافيا، وولتر بيتر، بلاي بوي. كنتُ مُفلّساً كالعادة. لا املك مالًا لقضاء وقت خارج الشِقّة. تصرخُ فيّ: “لم تأخذني إلى أي مكانٍ غير الحانات. إنّها تسقمني!”
هذا أمر آخر. احتساء الخمر. على الدّوام أكون في الحانة، اشتري نشوَة رخيصة، نصف لترٍ وراء نصف لتر آخر. الشكر لمجلس الفنون الذي ينعم على كُتّاب مثلي، بمنحةٍ ضئيلة كافية لسلب عقولنا ونحن نعمل على رواية تالية. باركهم الرّب. لكنّها كانت تظنّ أنّ عليّ عدم تبديد موهبتي في كتابة قصص لا نهائيّة عن فوضويين، ومنحرفين، وكُتّابُ سُود، بذكاءٍ، ومُخيّلاتٍ تستهجِن كل ما هو بخس، قذِر.
طالما كنتُ لا اكترث بما أفعله عندما أثمل، كانت تُرافقني إلى الحانة لتطمئن بأنّي لا أجُر على نفسي المتاعب فينتهي بي الحال في سجن بريكستون، أو اُضْرَب ضرباً مبرحاً بمن أسأتُ إليهم، أو ثملاً أُسْحَق تحت عجلات أوتوبيس دورين [يقصد أتوبيسات لندن ذات طابقين – المترجم]. اختصمنا كثيراً حول هذا الأمر. أن أُقلِع عن شُرب الخمر. أنا أحب الشّراب. أن أُقلّل من اللترات، لا أرغب في ذلك. أن احتسي النّبيذ. النّبيذ غالي الثّمن، ثُمّ إنّه لا يُعربدني كما أُريد. أن أشرب في البيت. جرّبته مرتين، وفي كلاهما كانت فزعةً.
كثيراً ما قلتُ لها أن تتركني، لكنّها لا تصغي. أحياناً، أُرعِبها إلى درجةٍ كافية في أن تحزم أشياءها وتهرب لتسكن مع أصدقائها. وقد أوعزوا إليها بأن تهجرني. لم تصغِ. قالت لها والدتها ذات الشئ، وشقيقها أيضاً. في الأوقات ألّتي استيقظ فيها أُعاني من صداع الخَمر، ولا أجدها هناك، كنتُ أحاول أن أتذكّر إن كنت ضربتها، أو تحدّثت إليها بطريقةٍ أثارت ذعرها. كنت أُجيد ذلك، إثارة الذعر في النّفوس. جاءت الشّرطة مرات عديدة. كانت تصيح وتقول لهم أن يحجزوني تحت الأرض. عادةً، كانوا يهزّون أكتافهم بلا مبالاةٍ، يقولون: “إنّه شأنُ منزلي.”
“لكنّه هشّم قيثارتي، حطّم مذياعي، ومزّق ثيابي!” قالت.
حدّجوني بنفورٍ.
كنتُ أُمجّ عقبٍ من أعقاب سجائر يوم أمس.
“يُمكنكِ أن تجرّبي القسم المدني، لأنّ هذا ليس من اختصاصنا.”
ثُمّ يرحلون. أُتناوَل قنينة ستينغو** أخرى. أما هي، فتحمل رأسها بين يديها، تجهشُ بالبُكاء.
أحسستُ بشعراتِ عانتي، هائجةً، قلقةً. هل كل ذلك كان يحدث بسببِ الجّنس؟ ألأنّها بيضاء، وكنتُ أنا أُكدّس عليها الإذلالِ والمَهانَةِ كانتقامٍ للسنوات ألّتي قضيتها، أرزح تحت حِذاء أيان سميث***؟ هل كنتُ ساديّاً؟ أم كنتُ في مطاردةٍ مسعورة وراء تملك كامل لشيء لا طائل منه؟ أتذكّر أنّ ألبرتو مورافيا في كتابه “المأساة” الرّواية ألّتي حَاوَلَت أن تُظهر “جنون التملُك، استحالة القيام بها، والضّجَر ألّذي ينبع نتيجة لهذا الفشل”. هل تَحدُث ذات الآلية عندما يكون الهدف المُراد حيازته، قطعة أرض، أو جزءاً من دولةٍ يُراد استرداده من المُستعمر؟ بعباراتٍ أكبر، هل أختَبِر أنا شخصياً، ما يتجاوز دولتي المُستقلة، زيمبابوي، في شكل فساد، صراعات سُلطة، وتفسّخ إداري؟
في هذه اللّحظة، أكبح جماح خيالي. أَلَم أقُل دوماً إنّ كل شيء مسموح به لا يُسبّب أذى لشخصٍ آخر؟
ألقيتُ بالقنينة الفارغة في ركنٍ قصي. كنتُ أرتعش.
في الخارج، كان ثمت هزيم شاحنات، وأزيز سيارات، وموسيقى الميتال تصخب، وصرخاتُ بغايا يُضربن. معظم جيراني كانوا منبوذين، مشرّدين، مغتصبين لأراضي الغير، وآباء وحيدون استسلموا للحياة صاغرين. شبّان كبار في السّن اعتبروا أنفسهم نحّاتين، ورسّامين. هؤلاء هم ناسي الآن. كنتُ واحداً منهم، التائه ألّذي لا يملك شروى نقيرٍ، وقد كان يوماً يؤلّف الكُتُب.
تمزّق شيئاً بداخلي. اقشعرّ بدني. قبل يومين، كان ذلك قد حدث مرةً أخرى. كنتُ ثملًا، وحاولت أن أُنهي كل شيء بمديةِ مطبخ كبيرة. كان هناك دمٌ في كل مكان. تقريباً، كنت أرى دواخل هذياني الهائجة. لم أرَها تُغادِر. حاولتُ أن أجزّ حنجرتي لكنّي لم أُصِب وريدي.
جالسا هنا مرةً أخرى، عنقي ملتف بضمادةٍ سميكة، أكتب هذه القصة القصيرة جداً. كلما مرّ شخصٌ على السلم، أميل برأسي لأصغي، أفكّر، مُتمنيّاً أن تكون عودتها.
بالأمس، قُطِعَت الكهرباء. أملك هذه الشّموع. لا أستطيع أن أُشاهد التلفاز. فقط، أشاهد وانتظر عودتها.
* دمبودزو ماريشيرا: شاعر وقاص وروائي زيمبابويّ تُوفِي عام 1985 عن عمر ناهز الـ35 عاماً.
** ستينغو: جعة بريطانية
*** إيان سميث، هو إيان دوجلاس سميت رئيس وزراء روديسيا (زِيمبابوي حالياً) 1964- 1979.