المستشار بهاء المري - مِن أغرب القضايا.. مَقذوفٌ مُستقر بدون فتحة دُخول!

لستُ أدري وأنا مِمَّن يَنهارون لمَنظر الدم؛ لماذا كنتُ أحرصُ على حضور تشريح الجُثث مع الطبيب الشرعي من ألفِها إلى يائِها من دون تَأفف مهما كانت بالية، ولو كانت مُستَخرجةً من قبرها في أعقاب دفن حديث على أثر شُبهة جنائية، ومهما كان التمزيق والتقطيع والتفتيت.
وكلما ازدَدتُ حضورًا أثناء عمليات التشريح كلما أحبَبتُ هذه المهنة الدقيقة، مهنة الطب الشرعي، وأحببتُ عمل القائمين بها، فالطبيب الشرعي قاض، وهو أيضا فنان، وهو عالم منطق.
يكفيه أن ينظر في جُرح أو ملابس مجني عليه ليقول كل شيء عن الجريمة والمجني عليه والقاتل، القاتل ضربَ على مسافة كذا، ووضع القتيل كان كذا، والمسافة كذا، وكان جالسًا أو واقفًا، وهذه الاستنتاجات غالبًا ما تَصدق.
قتيلٌ في الحقل، ذهبَ إلى حقله فَجرًا كعادته ليَعزق الأرض، وفي نحو الساعة الثامنة صباحًا ذهبت إليه زوجته بالطعام لتجده جثة هامدة مُنكفئًا على الأرض وفأسه إلى جواره، صرخت، هُرع إليها الجيران وتم إبلاغ الشرطة.
انتقلتُ مع رجال البحث إلى الحقل، رجل في نهاية العقد الرابع من العمر تقريبًا، ليس به أية إصابات، ولا حتى سحَجَة واحدة، ولا أثرَ لعلامات تَسمُم، أو ضغط على الرقبة، أو، أو.... إلخ، ولولا أنَّ زوجته اتهمت أحد جيرانه لمَا أُثيرت شُبهة جنائية في الوفاة؟
واجهتها بهذه الملاحظات، ولكنها أصرت على أنه مقتول، أما تحريات الشرطة فوقفت عند حد وجود خلافات بالفعل مع الجار ولم تقطع باتهام، فكيف تقطع بالاتهام والحال كذلك؟!
وجاء الطبيب الشرعي، فقابلته في المشرحة وسلمته مذكرة بملخص الواقعة واتهام الزوجة لجاره، وما قالته من أنه لم يكن يعاني أية أمراض.
قرأها وهزَّ رأسه وبدأ في التشريح، حتى كان الإجراء الأخير، فحص المُخ لبيان مدى وجود نزيف به من عدمه، ذبَحَ مساعده فروة الرأس من الخلف وقلَبَها للأمام كأنها طاقية، وراح ينشرُ بالمنشار نشرًا بالعَرض من أعلى الرأس حتى فصل هذا الجزء من العظام وصار الباقي كأنه إناء رُفِع من فوقه غِطاء، وإذا بالمفاجأة المُدوية، مقذوفٌ ناري استقر في الجمجمة ولم يَخرج منها؟
بُهت الرجل، حملَقَ في مساعدة الذي فغر فاهُ دون أن ينطق، وراح يُقلِّب في الجثة من جديد وهو يُردد "سبحان الله، سبحان الله، لا توجد فتحة دُخول، يا إلهي ألهمنا الصواب".
ثم سحَبَ كرسيًا حديديًا صَدئًا كان في زاوية من زوايا غرفة التشريح بالمستشفى العام، ولصَقه في الحائط وعاد برأسه إلى الخلف حتى استطاع إسنادها على الحائط وأغمَض عينيه.
التزمنا الصمت أنا ومساعده، وبقي على هذه الحال لفترة لا أدري كم طالت من الوقت، ولكن الصمت والمفاجأة كانا سيد الموقف، ثم عاد ليسألني: مَن سُئل في التحقيق؟ قلتُ: زوجته فقط، وإذا به يقف ويقترب من الجثة ويُقلبُ فيها من جديد وهو يحدث نفسه بكلام لم نسمعه.
نظرتُ أنا ومساعده كل إلى الآخر ولم نَنبس بحرف، وقلتُ في نفسي إن الطبيب الشرعي في حاجة إلى طبيب نفسي!
وإذا برئيس المباحث يدخل علينا غرفة التحقيق، جاء بعد أن علم أني هنا، قال: توصلنا إلى شاهد، جار غير مُلاصق للمجني عليه، سأله الطبيب الشرعي أين هو؟ قال: في النيابة: فوجَّه حديثه إلىَّ: اسمح لي بمناقشته.
جِئنا به، قال: مَررتُ بالقتيل بعد الفجر وأنا في طريقي إلى حقلي، كان يَعزق، ولم أرَ أحدًا غيره في هذا الوقت، ولما بلغتُ حقلي سَمِعتَ صوت عيار ناري ولم أسمَع استغاثة ولا صُراخًا فلم أهتم.
سأله الطبيب الشرعي: ما الوضع الذي كان عليه عندما رأيته؟ قال: "بيعزق" يا أستاذ، "بيعزق"، يَعنى "مُوطي" على "الفاس"! انفرجَت أسارير الرجل، صاح، الحمد لله، الحمد لله.
مازال الصمتُ يلفني أنا ومساعده، إلى أنْ قال يُخاطب الأخير، شُق فتحة الشَرج، ويَستمر التشريح، ليَثبُتَ بالدليل الفني أنَّ الطلق الناري أخذ مساره من تلك الفتحة والقتيل على تلك الحالة حتى استقر في الرأس، ولم يخرج لحُصول الإطلاق من مَسافة بعيدة!
وتشاء عدالة السماء أنْ تتوصل جهات التحقيق للفاعل ويَعترف بإطلاق النار والرجل على هذا الوضع.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى