يُشكل التعارض بين الفرد والمجتمع موضوعَ التراجيديا الحديثة منذ القرن الثامن عشر تقريبًا، وبمقياس الحداثة، فإن شكسبير لم يكن مُضطرًا أن يختار بين آراء القرون الوسطى وعصر النهضة، إنما هو صوّر هذا النزاع لا أكثر. لكن إذا وُضع المؤلف المسرحي المُعاصِر في هذا الصراع فلأي الجانبين سينحاز.. الفرد أم المجتمع؟
انحاز أتباع المذهب المستقبلي إلى جانب الآلة ضد الإنسان، أما المحافظون والماركسيون -على السواء- من أمثال "ألفونسو ساستري" و"أروين بسكاتور"؛ ضحوا بالفرد في سبيل المجتمع، ورغم أن سقوط الأيدولوجيات الكبرى ومنصات الدفاع عن المجتمع مثل الاتحاد السوفيتي؛ دليل دامغٌ على خرافة "الصالح العام"؛ إلا أنه حتى المتشكك الذي لا ينحاز إلى هذا الفريق أو ذاك لن يحاول في هذه الأيام أن يقلد شكسبير في مقدرته العبقرية على استجلاء مواطن الأمور. ولعل المؤلف المسرحي العصري يميل في معظم الأحيان إلى مناصرة الفرد ضد الجماعة، إذْ إنه يرى في الصراع بينهما صراعا بين النبوغ والقصور، بين الحياة والجمود. أليس هذا موقف نيتشة بعينه في تراجيديته "هكذا قال زرادشت"، وموقف ت. إس. إليوت في مسرحيته شبه التراجيدية "الأرض الخراب"؟ ثم أليس هذا هو موقف هنريك إبسن في مسرحيته إيولف الصغير؟
شملت مرحلة الواقعية الاجتماعية في إنتاج هنريك إبسن أهم أعماله مثل هيدا جابلر، وبيت الدمية، وعائلة آل روزمر، والبطة البرية، وإيولف الصغير، وسيد البنائين. ورغم اشتمال بعض هذه المسرحيات على نماذج تعاني عجزا جسديا كما في البطة البرية وإيولف الصغير، أو اضطرابا في الإرادة مثل هيدا جابلر وبيت الدمية، وعندما نبعث نحن الموتى، إلا أن مسرحيات إبسن لم تنل قدرًا كبيرًا من اهتمام دراسات الإعاقة.
نادت الدراسات الاجتماعية منذ مطلع القرن العشرين بالاهتمام بالمعاقين وتوفير البيئة الصالحة لهم، ورعايتهم الحب والأمان وتذليل الوسائل الممكنة لمساعدتهم على التعلم والإسهام مع زملائهم القادرين في رحلة الوجود الإنساني. وعلى هذا تنهض مسرحية «إيولف الصغير» لهنريك ابسن، مُتخذة من الانغماس في الملذات وإهمال المسؤولية؛ بنية رئيسية، فهما الإعاقة الحقيقية لأي شخص لم ينل القدر الذي يحتاج من الحب والرعاية، فإصابة "إيولف" بالكساح، لم تكن سوى نتيجة قُبلة انغمس فيها الأب والأم فنسيا والوجود بأركانه، حتى سقط إيولف من على الطاولة ولم يستطع السير مرة أخرى. ولذا عزم الأب "آلمرز" على توجيه كامل اهتمامه لرعاية ابنه، من منطلق الشعور بالذنب، وأن الرعاية والحب، يُمكن أن يبددا لدى الطفل الكسيح شعوره بالعجز، لكن هذا التحول أثار غيرة الأم التي تريد حبه لها وحدها، حتى لو سيأتي ذلك على حساب ابنها، ويرى الأب أنانية الأم خطيئة لا تغتفر، ويشير لها بالذنب بعد اختفاء الصغير عن البيت وغرقه في النهر في لحظة إهمال من الأب والأم.
تتجه معالجة ابسن الدرامية إلى التركيز على صراع الأشخاص مع ذواتهم، ومحاولة استرجاع الماضي ومواجهة الخطايا التي ارتكبوها، وكثير من القيم التي أكد عليها في مسرحياته السابقة مثل الصدق والحرية والمسؤولية والحب الصادق، إلا أن الموضوع الرئيسي الذي يتجلى ويسيطر هنا هو الخطيئة أو الجزاء. وبالتالي بعد أن يلقى إيولف حتفه يعاود آلمرز التفكير في نوايا ريتا.
"آلمرز: الآن كما تمنيت يا ريتا.
ريتا: أنا؟ ماذا تمنيت؟
آلمرز: أن يبتعد إيولف عن طريقنا.
ريتا: لم أتمنى ذلك لحظة واحدة. تمنيت ألا يقف بيننا -نعم- ولكن..
آلمرز: حسن. لن يفعل الآن.
ريتا: (بهدوء إلى نفسها) ربما الآن أكثر من أي وقت (ترتجف) هذا المنظر البشع!
آلمرز: (يومئ) نعم. عين الطفل الشريرة.
ريتا: (تبتعد عنه في خوف) ألفريد! دعني وشأني. أنت تخيفني. لم أرك هكذا من قبل.
آلمرز: (جامد وبارد) الحزن يجعل الإنسان قاسيا".
ليس الموضوع عند إبسن هو إيولف/ المعاق، إنما هو دور المجتمع ناحية المعاق/ إيولف، من خلال إدانة الأطفال الذين رأوا إيولف يغرق ولم يجاهدوا لإنقاذه، وهي إدانة يوجهها إبسن إلى الكل الذي تخلى عن مسؤوليته تجاه الفرد، ويوجه أصابع الاتهام لهؤلاء الأطفال الذين لا يقلون أنانية عن الأم التي تمنت موت ابنها كي لا يكون شريكا في حب زوجها لها.
وتقود التساؤلات الفلسفية الأب "آلمرز" في «إيولف الصغير»، إلى توفير بيئة صالحة من الحب للأطفال الفقراء الذين أخذتهم أنانيتهم إلى السخرية من "إيولف"، وتهميشه حتى سقط نهائيًا، فلو كانوا استوعبوا حالته الخاصة وأدركوا أنه بظروفه يمكنه مُشاركتهم اللعب، كان من الممكن أن يجد مكانًا له بينهم بدلًا من الإنزواء إلى التلصص عليهم حتى انزلقت قدمه في النهر وغرق دون أن يبذلوا مجهودًا لإنقاذه. وتعد مسرحية «إيولف الصغير» مادة خصبة لدراسات الإعاقة والمسؤولية الاجتماعية، وربما هي الأقل حظا من أعمال إبسن في التجسيد على خشبة المسرح رغم أهميتها.
في مسرحية «عندما نبعث نحن الموتى» كانت إيرين هي النموذج الذي أوحى إلى "روبك" بالشكل الرئيسي لرائعته "يوم البعث": "كانت على هيئة امرأة شابة تستيقظ من رقدة الموت.... وكان يُراد تصوير استيقاظ أنبل وأطهر وأكمل نساء العالم". وكان "روبك" يخشى أن يلمس إيرين أو يشتهيها، هو أن روبك فضّل العمل الفني على الكائن الإنساني، حتى إذا ما انتهى من عمله الفني قال لها: أشكرك من أعماق قلبي. لقد كانت قصة لا تُقدر بثمن في نظري. وعند ذلك فارقته وحين يلتقيا مرة أخرى بعد سنوات، ترميه بخطايا الشعراء: "لأنك واهن القوى كسول ممتلئ صفحا عن كل خطايا حياتك، إن بالفكر أو بالفعل، فلقد قتلت روحي ولهذا فإنك تصوغ نفسك في صورة الندم، واتهام الذات والتفكير".
لقد كانت خطيئة "روبك" هي إخضاع الحياة للفن، فأهمل "إيرين"، وعندما غادرته، فقد الوحي، السحر الذي كان يبثه في أعماله فتشع نورا وحياة، لم يعد باستطاعته أن يستمر في النجاح كما كان، وتحول عن وجهته، وصار يشعر بالخواء، وإلى أي مدى الحياة عصية على الاحتمال، فاقترن بفتاة مادية النزعة، شرهة إلى الأكل والشرب والجنس، ولم يستمر ذلك طويلًا ففي كل مرة كانت تنمو لديه نوازع عدمية، وميول إلى الانتحار، وتصبح أعماله مجرد وسيلة للثروة، ولإماطة الكراهية عن قلبه:
"إنهم جميعا في أعماق أبعادها وجوه جياد موقرة ذات جلال وخطم حمير عنيدة وجماجم كلاب مسترخية الآذان ضيقة الجباه وأنوف خنازير مسمنة وأحيانا جباه ثيران بليدة متوحشة".
ويهب من سباته فيدرك أنه خان نفسه كفنان حين ضحى بالحب في سبيل الفن. ونحن حين نلتقي به في بداية المسرحية نجده مشهورا وناجحا، ولكنه قد سئم زواجه، وغدا محتقرا للجمهور، محتقرا للنقاد، غير مؤمن بشيء. وكعادة "إبسن" تنعكس أخطاء شخصياته بصورة مادية كالوصمة، فإيرين أصيبت بالجنون، وصار التواصل معها أمرًا مستحيلًا، إنها تلوح له كذنب، أشبه بجثة قامت من القبر حديثًا. وتتحدث عن نفسها على أساس أنها ميتة، وتقول إنها قد قتلت زوجها وجميع أطفالها. وهي نفسها تقول لروبك:
"قد مت منذ عدة سنوات. لقد جاءوا وربطوني، قيدوا ذراعي خلف ظهري بشريط، ثم أنزلوني إلى قبو تسد القضبان الحديدية كوته، وله جدران مبطنة، حتى لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يسمع الصرخات المنبعثة من هذا القبر، ولكني الآن أبدأ على نحو ما، في القيام من الموت".
ولقد أدان كثير من النقاد مسرحية "عندما نبعث نحن الموتى" فذهب "آرتشر" إلى أن الباعث فيها مرضي إلى حد كبير، وأنها "تصوير هزلي للذات"، وأن إبسن قد ضحى فيها بالواقع الموجود على السطح في سبيل المعنى الكامن تحته.
متى يظهر العجز أو التشوه عند إبسن؟ عندما نهمل مسوؤلياتنا تجاه من حولنا؟ عندما تبتلعنا ذواتنا ونرفض معها الشعور بأي شيء آخر؟ إن اختيار نموذج الشاعر أو الكاتب في «إيولف الصغير» أو «عندما نبعث الموتى»، له جذور ذاتية لم ينكرها ريموند وليمز في تحليله هذا الملمح الغالب على مسرحيات إبسن الأخيرة، والذي إذا تتبعناه جيدا وجدنا أن إبسن يلجأ إلى إبراز التشوه أو الخلل أو العجز المادي عندما تختل منظومة القيم، وتبدأ حلقة المبادئ في الانفراط، فتضطرب السلوكيات، ونلاحظ أن الجنس وإن كان واهيًا للغاية في العملين المشار إليهما إلا إنه موجود كخطيئة انغمس فيها آلمرز فصار لديه ولد كسيح، أو أهملها "روبك" ففقدت محبوبته عقلها، وهو ما يوجه دفة الاتهام إلى الغرائز والانغماس فيها، ما يؤدي إلى عالم مشوه، وهذا العالم المشوه يعيشه طفل كسيح أو امرأة مجنونة.
يرى إبسن أن الماهية يحددها الفرد والمجتمع، دون أن يفصل التشوه المادي على عواهنه، فما هو إلى انعكاس لتشوه في منظومة القيم. ولذلك يسعى للبحث عن علاج أخلاقي وروحي، فاللغة لن تجدي نفعًا عند التواصل مع امرأة مجنونة، "وعندما يعتلي "إيرين" و"روبك" الجبل فإنما يفعلان رامزين به إلى بعثهما، بعث الحب الذي رفضه "روبك" في الماضي، إنه صعود إلى ذروة الأماني، حيث تستطيع كل قوى النور أن تنظر إليهما في حرية وكذلك قوى الظلمة جميعًا".
انحاز أتباع المذهب المستقبلي إلى جانب الآلة ضد الإنسان، أما المحافظون والماركسيون -على السواء- من أمثال "ألفونسو ساستري" و"أروين بسكاتور"؛ ضحوا بالفرد في سبيل المجتمع، ورغم أن سقوط الأيدولوجيات الكبرى ومنصات الدفاع عن المجتمع مثل الاتحاد السوفيتي؛ دليل دامغٌ على خرافة "الصالح العام"؛ إلا أنه حتى المتشكك الذي لا ينحاز إلى هذا الفريق أو ذاك لن يحاول في هذه الأيام أن يقلد شكسبير في مقدرته العبقرية على استجلاء مواطن الأمور. ولعل المؤلف المسرحي العصري يميل في معظم الأحيان إلى مناصرة الفرد ضد الجماعة، إذْ إنه يرى في الصراع بينهما صراعا بين النبوغ والقصور، بين الحياة والجمود. أليس هذا موقف نيتشة بعينه في تراجيديته "هكذا قال زرادشت"، وموقف ت. إس. إليوت في مسرحيته شبه التراجيدية "الأرض الخراب"؟ ثم أليس هذا هو موقف هنريك إبسن في مسرحيته إيولف الصغير؟
شملت مرحلة الواقعية الاجتماعية في إنتاج هنريك إبسن أهم أعماله مثل هيدا جابلر، وبيت الدمية، وعائلة آل روزمر، والبطة البرية، وإيولف الصغير، وسيد البنائين. ورغم اشتمال بعض هذه المسرحيات على نماذج تعاني عجزا جسديا كما في البطة البرية وإيولف الصغير، أو اضطرابا في الإرادة مثل هيدا جابلر وبيت الدمية، وعندما نبعث نحن الموتى، إلا أن مسرحيات إبسن لم تنل قدرًا كبيرًا من اهتمام دراسات الإعاقة.
نادت الدراسات الاجتماعية منذ مطلع القرن العشرين بالاهتمام بالمعاقين وتوفير البيئة الصالحة لهم، ورعايتهم الحب والأمان وتذليل الوسائل الممكنة لمساعدتهم على التعلم والإسهام مع زملائهم القادرين في رحلة الوجود الإنساني. وعلى هذا تنهض مسرحية «إيولف الصغير» لهنريك ابسن، مُتخذة من الانغماس في الملذات وإهمال المسؤولية؛ بنية رئيسية، فهما الإعاقة الحقيقية لأي شخص لم ينل القدر الذي يحتاج من الحب والرعاية، فإصابة "إيولف" بالكساح، لم تكن سوى نتيجة قُبلة انغمس فيها الأب والأم فنسيا والوجود بأركانه، حتى سقط إيولف من على الطاولة ولم يستطع السير مرة أخرى. ولذا عزم الأب "آلمرز" على توجيه كامل اهتمامه لرعاية ابنه، من منطلق الشعور بالذنب، وأن الرعاية والحب، يُمكن أن يبددا لدى الطفل الكسيح شعوره بالعجز، لكن هذا التحول أثار غيرة الأم التي تريد حبه لها وحدها، حتى لو سيأتي ذلك على حساب ابنها، ويرى الأب أنانية الأم خطيئة لا تغتفر، ويشير لها بالذنب بعد اختفاء الصغير عن البيت وغرقه في النهر في لحظة إهمال من الأب والأم.
تتجه معالجة ابسن الدرامية إلى التركيز على صراع الأشخاص مع ذواتهم، ومحاولة استرجاع الماضي ومواجهة الخطايا التي ارتكبوها، وكثير من القيم التي أكد عليها في مسرحياته السابقة مثل الصدق والحرية والمسؤولية والحب الصادق، إلا أن الموضوع الرئيسي الذي يتجلى ويسيطر هنا هو الخطيئة أو الجزاء. وبالتالي بعد أن يلقى إيولف حتفه يعاود آلمرز التفكير في نوايا ريتا.
"آلمرز: الآن كما تمنيت يا ريتا.
ريتا: أنا؟ ماذا تمنيت؟
آلمرز: أن يبتعد إيولف عن طريقنا.
ريتا: لم أتمنى ذلك لحظة واحدة. تمنيت ألا يقف بيننا -نعم- ولكن..
آلمرز: حسن. لن يفعل الآن.
ريتا: (بهدوء إلى نفسها) ربما الآن أكثر من أي وقت (ترتجف) هذا المنظر البشع!
آلمرز: (يومئ) نعم. عين الطفل الشريرة.
ريتا: (تبتعد عنه في خوف) ألفريد! دعني وشأني. أنت تخيفني. لم أرك هكذا من قبل.
آلمرز: (جامد وبارد) الحزن يجعل الإنسان قاسيا".
ليس الموضوع عند إبسن هو إيولف/ المعاق، إنما هو دور المجتمع ناحية المعاق/ إيولف، من خلال إدانة الأطفال الذين رأوا إيولف يغرق ولم يجاهدوا لإنقاذه، وهي إدانة يوجهها إبسن إلى الكل الذي تخلى عن مسؤوليته تجاه الفرد، ويوجه أصابع الاتهام لهؤلاء الأطفال الذين لا يقلون أنانية عن الأم التي تمنت موت ابنها كي لا يكون شريكا في حب زوجها لها.
وتقود التساؤلات الفلسفية الأب "آلمرز" في «إيولف الصغير»، إلى توفير بيئة صالحة من الحب للأطفال الفقراء الذين أخذتهم أنانيتهم إلى السخرية من "إيولف"، وتهميشه حتى سقط نهائيًا، فلو كانوا استوعبوا حالته الخاصة وأدركوا أنه بظروفه يمكنه مُشاركتهم اللعب، كان من الممكن أن يجد مكانًا له بينهم بدلًا من الإنزواء إلى التلصص عليهم حتى انزلقت قدمه في النهر وغرق دون أن يبذلوا مجهودًا لإنقاذه. وتعد مسرحية «إيولف الصغير» مادة خصبة لدراسات الإعاقة والمسؤولية الاجتماعية، وربما هي الأقل حظا من أعمال إبسن في التجسيد على خشبة المسرح رغم أهميتها.
في مسرحية «عندما نبعث نحن الموتى» كانت إيرين هي النموذج الذي أوحى إلى "روبك" بالشكل الرئيسي لرائعته "يوم البعث": "كانت على هيئة امرأة شابة تستيقظ من رقدة الموت.... وكان يُراد تصوير استيقاظ أنبل وأطهر وأكمل نساء العالم". وكان "روبك" يخشى أن يلمس إيرين أو يشتهيها، هو أن روبك فضّل العمل الفني على الكائن الإنساني، حتى إذا ما انتهى من عمله الفني قال لها: أشكرك من أعماق قلبي. لقد كانت قصة لا تُقدر بثمن في نظري. وعند ذلك فارقته وحين يلتقيا مرة أخرى بعد سنوات، ترميه بخطايا الشعراء: "لأنك واهن القوى كسول ممتلئ صفحا عن كل خطايا حياتك، إن بالفكر أو بالفعل، فلقد قتلت روحي ولهذا فإنك تصوغ نفسك في صورة الندم، واتهام الذات والتفكير".
لقد كانت خطيئة "روبك" هي إخضاع الحياة للفن، فأهمل "إيرين"، وعندما غادرته، فقد الوحي، السحر الذي كان يبثه في أعماله فتشع نورا وحياة، لم يعد باستطاعته أن يستمر في النجاح كما كان، وتحول عن وجهته، وصار يشعر بالخواء، وإلى أي مدى الحياة عصية على الاحتمال، فاقترن بفتاة مادية النزعة، شرهة إلى الأكل والشرب والجنس، ولم يستمر ذلك طويلًا ففي كل مرة كانت تنمو لديه نوازع عدمية، وميول إلى الانتحار، وتصبح أعماله مجرد وسيلة للثروة، ولإماطة الكراهية عن قلبه:
"إنهم جميعا في أعماق أبعادها وجوه جياد موقرة ذات جلال وخطم حمير عنيدة وجماجم كلاب مسترخية الآذان ضيقة الجباه وأنوف خنازير مسمنة وأحيانا جباه ثيران بليدة متوحشة".
ويهب من سباته فيدرك أنه خان نفسه كفنان حين ضحى بالحب في سبيل الفن. ونحن حين نلتقي به في بداية المسرحية نجده مشهورا وناجحا، ولكنه قد سئم زواجه، وغدا محتقرا للجمهور، محتقرا للنقاد، غير مؤمن بشيء. وكعادة "إبسن" تنعكس أخطاء شخصياته بصورة مادية كالوصمة، فإيرين أصيبت بالجنون، وصار التواصل معها أمرًا مستحيلًا، إنها تلوح له كذنب، أشبه بجثة قامت من القبر حديثًا. وتتحدث عن نفسها على أساس أنها ميتة، وتقول إنها قد قتلت زوجها وجميع أطفالها. وهي نفسها تقول لروبك:
"قد مت منذ عدة سنوات. لقد جاءوا وربطوني، قيدوا ذراعي خلف ظهري بشريط، ثم أنزلوني إلى قبو تسد القضبان الحديدية كوته، وله جدران مبطنة، حتى لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يسمع الصرخات المنبعثة من هذا القبر، ولكني الآن أبدأ على نحو ما، في القيام من الموت".
ولقد أدان كثير من النقاد مسرحية "عندما نبعث نحن الموتى" فذهب "آرتشر" إلى أن الباعث فيها مرضي إلى حد كبير، وأنها "تصوير هزلي للذات"، وأن إبسن قد ضحى فيها بالواقع الموجود على السطح في سبيل المعنى الكامن تحته.
متى يظهر العجز أو التشوه عند إبسن؟ عندما نهمل مسوؤلياتنا تجاه من حولنا؟ عندما تبتلعنا ذواتنا ونرفض معها الشعور بأي شيء آخر؟ إن اختيار نموذج الشاعر أو الكاتب في «إيولف الصغير» أو «عندما نبعث الموتى»، له جذور ذاتية لم ينكرها ريموند وليمز في تحليله هذا الملمح الغالب على مسرحيات إبسن الأخيرة، والذي إذا تتبعناه جيدا وجدنا أن إبسن يلجأ إلى إبراز التشوه أو الخلل أو العجز المادي عندما تختل منظومة القيم، وتبدأ حلقة المبادئ في الانفراط، فتضطرب السلوكيات، ونلاحظ أن الجنس وإن كان واهيًا للغاية في العملين المشار إليهما إلا إنه موجود كخطيئة انغمس فيها آلمرز فصار لديه ولد كسيح، أو أهملها "روبك" ففقدت محبوبته عقلها، وهو ما يوجه دفة الاتهام إلى الغرائز والانغماس فيها، ما يؤدي إلى عالم مشوه، وهذا العالم المشوه يعيشه طفل كسيح أو امرأة مجنونة.
يرى إبسن أن الماهية يحددها الفرد والمجتمع، دون أن يفصل التشوه المادي على عواهنه، فما هو إلى انعكاس لتشوه في منظومة القيم. ولذلك يسعى للبحث عن علاج أخلاقي وروحي، فاللغة لن تجدي نفعًا عند التواصل مع امرأة مجنونة، "وعندما يعتلي "إيرين" و"روبك" الجبل فإنما يفعلان رامزين به إلى بعثهما، بعث الحب الذي رفضه "روبك" في الماضي، إنه صعود إلى ذروة الأماني، حيث تستطيع كل قوى النور أن تنظر إليهما في حرية وكذلك قوى الظلمة جميعًا".