نحتاج لدراسات إجتماعية للتحولات النفسية والمجتمعية للشعب، بالإستناد إلى تحليل المعطيات الثقافية الراهنة. للأسف؛ يهتم المثقفون بقضايا سياسية أكبر حتى من تصوراتهم المنحازة تارة والطوباوية الزائفة أحيانا أخرى. ويتم إهمال دراسة ما يؤدي لفهمنا، هذا الفهم الذي قد يعين على إيجاد حلول لمعضلاتنا السياسية نفسها.
مما تم إهماله، هو أغاني الزنق، والتي تعرفت عليها قبل سنة فقط تقريباً، من خلال صديق، وقد لفت نظري فرقة عازفين إثنين يرتديان نظارات شمس، أحدهما صبي والأخر شاب، فتتبعت هذه الأغاني، وأسماء المغنين والعازفين التي ترتبط غالباً بمناطق هامشية داخل العاصمة، كالأمبدات والحاج يوسف ومايو...الخ، حيث تتمركز الطبقات المهمشة عرقياً وسياسياً والتي تحيط بالعاصمة كالإسورة. وهذا الإرتباط في حد ذاته مدعاة للدراسة المتعمقة، فذات هذه المناطق ارتبطت بغناء محمود عبد العزيز، ثم تحولت تحولاً جذرياً. فمحمود كان أيقونة الحرية والتمرد على السلطة قبل أن يكون مطرباً، حيث ارتبط اسمه بالشرب، وجلده في محاكم النظام العام، وأتذكر أنه وفي أحدى حفلاته التي تجمع الأعمى والبصير، نام احد المعاقين تحت رجلي محمود من كثرة تأثره بالطرب..، هكذا تحول الهامش الخرطومي، من الغناء الرصين ألى أغاني الزنق. ولو عدنا إلى الماضي القريب، سنجد أن المهمشين عرقياً من الجنوبيين، ظلوا ينأون بأنفسهم عن الغناء الشمالي، ويستمعون لبوب مارلي كمطرب يقاوم العنصرية ويدعوا إلى نهوض المضطهدين. وهكذا إزدادت شقة التباعد الثقافي بين الشماليين والجنوبيين حتى ساعة الإنفصال. مع ذلك، وبعد إنفصال الجنوب بدأت حالات إرتداد إلى الغناء الشمالي في الجنوب. ليس كظاهرة، ولكن يبدو أنه إعلان تمرد على الواقع الإقتصادي المنهار.
ونعود للزنق، كأغاني، لها خصائص معينة، إذا توفرت هذه الخصائص، فسنصفها بأنها أغاني زنق؛ من ضمنها، الإيقاعات الصاخبة، السريعة، والمليئة بالضجيج. ارتباط إسم الفنان أو العازف بمنطقة فقيرة، أو يكون الإسم دليلاً على البوهيمية، وتعتبر النساء أصيلات في هذا النوع من الطرب، أما الذكور فغالباً ما يكونون عازفين لآلة البيانو، وفي حفلات الزنق، لا يهتم أي شخص بالملابس، حيث يميل مجتمع الزنق والقونات إلى الفوضوية، واللا سلطوية، أي أنه مجتمع آيدولوجي، ولكنها آيدولوجيا خفية لم توثق منهجياً، لأنها ترفض ذلك التوثيق، الذي سيعتبر سلطة في حد ذاته. والسلطة عدوة المجتمعات المهمشة، التي كرست للفواصل الطبقية. حيث قلة تملك كل شيء، وأغلبية لا تملك أي شيء، وهذه القلة تتمرد على طريقتها الخاصة. تتمرد بالغناء، عبر خلق نموذجها الطربي الخاص، الذي ينعزل عن نموذج الطبقة المسيطرة على المال والسلطة. فهي تنحو ذات منحى الجنوبيين الذين عزلوا أنفسهم ثقافياً، حيث تبنوا اللغة الإنجليزية كلغة تواصل وخطاب سياسي، كرفض للعربية التي تمثل لغة الغزاة العنصريين. إذاً، فأغاني الزنق، تمهد لإنفصال ما، ولكنها لا تملك رقعة قابلة للإنفصال مثل الجنوب، بل أنها في الواقع منفصلة عن أصولها في الأقاليم المهمشة، فهي مجتمعات خرطومية، ولا خرطومية في نفس الوقت، لها أصول انقطعت عنها. ولذلك فموقفها السياسي صعب التغيير. وإزاء هذه الصعوبة، فإنها تعزل نفسها ثقافياً. فهو إنفصال بلا أرض وبلا مستقبل للتحرر.
تعج حفلات الزنق بالفوضى، وينتهي عهد وقوف الفنان في مسرح، بل يندمج المطرب والمتفرجون، ويتداخلون، فيغني الجميع ويرقص الجميع في نفس الوقت. والرقص نفسه، يبدو مبتذلاً جداً، إذ أن الرقص كفن يجب أن يتضمن تناسقاً حركياً، أما هنا فلا يوجد تناسق، بل يتحول لحالة جنونية، أشبه بالأخذ الصوفي تارة، وبرقصات الزار تارة أخرى، أو ذوبان مع الذات الجماعية، في تفريغ شحنات من طاقة الألم والحزن والشعور بالعدمية المفرطة التي تنتج حباً شاملاً وغير محدد. غالباً ما ترتدي المطربة ملابس فاضحة، تكشف عن الصدر والمؤخرة، وترقص أيضاً رقصات مثيرة، ومع ذلك فالقونات، يستخدمن صوتاً ذكورياَ، بارتفاعات وانخفاضات صوتية ذكورية، فصوت القونة خليط ما بين الأنوثة والذكورة، مع إيقاعات صاخبة. وبالرغم من أن أصل هذه الإيقاعات سوداني، إلا أنها تمتزج بإيقاعات غربية، وفي أحيان كثيرة يترك العازف العنان لنفسه ليمارس سولو على إيقاع غربي مليئ بالضجيج والسرعة، وهنا يجن جنون الجماهير وتدخل في حالة جذب، ورقص هستيري، مودعة واقعها، وداخلة في عالم وهمي، تختلط فيه أحلام الحرية والقوة والرفض بالحركة والنشوة.
غير أن أغاني الزنق ليست بدعاً، فهناك توجه عالمي اليوم لهذا النوع من الضجيج الذي يستلب الفرد من واقعه. كموسيقى الهارد ستايل، والتي يستخدمها لاعبو الدي جي، في الصالات الضخمة، مع إضافات ترفية لا تتوفر لمغني الزنق في السودان، كالسماعات ثلاثية الأبعاد، وأضواء الليزر، والألعاب النارية،..الخ. وهذا التوجه الذي ينتظم العالم، ليس بعيد المسببات عن الزنق السوداني، فالشعور باللا جدوى والطبقية والتهميش والعجز عن تغيير الواقع، قد تكرس بإنتصار الرأسمالية، والتي وجهت كل قوتها الدعائية كهوليوود لإعلان الإنسان السوبر، أي الإنسان الذي يجب أن يقهر أعداءه دائماً، والإنسان العبقري، الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، والفهلوي، وعصابات سرقة البنوك. كما تكرس الرأسمالية، لضرورة العمل من أجل الحصول على المال، والمال بغرض الرفاهية. فقناة مثل إم تي في، تشوه صورة المشاهد أمام نفسه، إذ تطلب منه دائماً أن لا يكون عادياً. بل منافساً من أجل تملك السيارات الرياضية الحديثة، والفتيات الحسناوات، والشبان ذوي العضلات. وهكذا يترسخ الشعور بالنقص والقصور، حيث حياة لا يعيشها الفرد كما يجب. لقد دمرت الرأسمالية الإنسان العادي بحدوده الطبيعية وإمكانياته المتوسطة. لذلك انقسمت طبقة المقهورين، إلى فئتين، غالبية تنحط بنفسها إلى عالم المظهر مبتعدة عن الجوهر مما خلق بيئة من البلادة الذهنية بسبب تسليم العقل لمعايير وسائل الإعلام، وأقلية تحاول التمرد عبر الإيقاعات الصاخبة التي تمنحها شعوراً زائفاً بالإمتلاء الروحي. فالزنق في كل مكان.
إن أغاني الزنق، تحول ثقافي يجب دراسته، وفهمه، لنعرف أمرين هامين: أولهما ماهي أوجه القصور في مجتمعاتنا، وثانيهما إلى أين نتجه. ومن ثم محاولة معالجة مشاكلنا على نحو علمي، يكبح أو يؤخر إنحطاطنا أكثر من ذلك.
مما تم إهماله، هو أغاني الزنق، والتي تعرفت عليها قبل سنة فقط تقريباً، من خلال صديق، وقد لفت نظري فرقة عازفين إثنين يرتديان نظارات شمس، أحدهما صبي والأخر شاب، فتتبعت هذه الأغاني، وأسماء المغنين والعازفين التي ترتبط غالباً بمناطق هامشية داخل العاصمة، كالأمبدات والحاج يوسف ومايو...الخ، حيث تتمركز الطبقات المهمشة عرقياً وسياسياً والتي تحيط بالعاصمة كالإسورة. وهذا الإرتباط في حد ذاته مدعاة للدراسة المتعمقة، فذات هذه المناطق ارتبطت بغناء محمود عبد العزيز، ثم تحولت تحولاً جذرياً. فمحمود كان أيقونة الحرية والتمرد على السلطة قبل أن يكون مطرباً، حيث ارتبط اسمه بالشرب، وجلده في محاكم النظام العام، وأتذكر أنه وفي أحدى حفلاته التي تجمع الأعمى والبصير، نام احد المعاقين تحت رجلي محمود من كثرة تأثره بالطرب..، هكذا تحول الهامش الخرطومي، من الغناء الرصين ألى أغاني الزنق. ولو عدنا إلى الماضي القريب، سنجد أن المهمشين عرقياً من الجنوبيين، ظلوا ينأون بأنفسهم عن الغناء الشمالي، ويستمعون لبوب مارلي كمطرب يقاوم العنصرية ويدعوا إلى نهوض المضطهدين. وهكذا إزدادت شقة التباعد الثقافي بين الشماليين والجنوبيين حتى ساعة الإنفصال. مع ذلك، وبعد إنفصال الجنوب بدأت حالات إرتداد إلى الغناء الشمالي في الجنوب. ليس كظاهرة، ولكن يبدو أنه إعلان تمرد على الواقع الإقتصادي المنهار.
ونعود للزنق، كأغاني، لها خصائص معينة، إذا توفرت هذه الخصائص، فسنصفها بأنها أغاني زنق؛ من ضمنها، الإيقاعات الصاخبة، السريعة، والمليئة بالضجيج. ارتباط إسم الفنان أو العازف بمنطقة فقيرة، أو يكون الإسم دليلاً على البوهيمية، وتعتبر النساء أصيلات في هذا النوع من الطرب، أما الذكور فغالباً ما يكونون عازفين لآلة البيانو، وفي حفلات الزنق، لا يهتم أي شخص بالملابس، حيث يميل مجتمع الزنق والقونات إلى الفوضوية، واللا سلطوية، أي أنه مجتمع آيدولوجي، ولكنها آيدولوجيا خفية لم توثق منهجياً، لأنها ترفض ذلك التوثيق، الذي سيعتبر سلطة في حد ذاته. والسلطة عدوة المجتمعات المهمشة، التي كرست للفواصل الطبقية. حيث قلة تملك كل شيء، وأغلبية لا تملك أي شيء، وهذه القلة تتمرد على طريقتها الخاصة. تتمرد بالغناء، عبر خلق نموذجها الطربي الخاص، الذي ينعزل عن نموذج الطبقة المسيطرة على المال والسلطة. فهي تنحو ذات منحى الجنوبيين الذين عزلوا أنفسهم ثقافياً، حيث تبنوا اللغة الإنجليزية كلغة تواصل وخطاب سياسي، كرفض للعربية التي تمثل لغة الغزاة العنصريين. إذاً، فأغاني الزنق، تمهد لإنفصال ما، ولكنها لا تملك رقعة قابلة للإنفصال مثل الجنوب، بل أنها في الواقع منفصلة عن أصولها في الأقاليم المهمشة، فهي مجتمعات خرطومية، ولا خرطومية في نفس الوقت، لها أصول انقطعت عنها. ولذلك فموقفها السياسي صعب التغيير. وإزاء هذه الصعوبة، فإنها تعزل نفسها ثقافياً. فهو إنفصال بلا أرض وبلا مستقبل للتحرر.
تعج حفلات الزنق بالفوضى، وينتهي عهد وقوف الفنان في مسرح، بل يندمج المطرب والمتفرجون، ويتداخلون، فيغني الجميع ويرقص الجميع في نفس الوقت. والرقص نفسه، يبدو مبتذلاً جداً، إذ أن الرقص كفن يجب أن يتضمن تناسقاً حركياً، أما هنا فلا يوجد تناسق، بل يتحول لحالة جنونية، أشبه بالأخذ الصوفي تارة، وبرقصات الزار تارة أخرى، أو ذوبان مع الذات الجماعية، في تفريغ شحنات من طاقة الألم والحزن والشعور بالعدمية المفرطة التي تنتج حباً شاملاً وغير محدد. غالباً ما ترتدي المطربة ملابس فاضحة، تكشف عن الصدر والمؤخرة، وترقص أيضاً رقصات مثيرة، ومع ذلك فالقونات، يستخدمن صوتاً ذكورياَ، بارتفاعات وانخفاضات صوتية ذكورية، فصوت القونة خليط ما بين الأنوثة والذكورة، مع إيقاعات صاخبة. وبالرغم من أن أصل هذه الإيقاعات سوداني، إلا أنها تمتزج بإيقاعات غربية، وفي أحيان كثيرة يترك العازف العنان لنفسه ليمارس سولو على إيقاع غربي مليئ بالضجيج والسرعة، وهنا يجن جنون الجماهير وتدخل في حالة جذب، ورقص هستيري، مودعة واقعها، وداخلة في عالم وهمي، تختلط فيه أحلام الحرية والقوة والرفض بالحركة والنشوة.
غير أن أغاني الزنق ليست بدعاً، فهناك توجه عالمي اليوم لهذا النوع من الضجيج الذي يستلب الفرد من واقعه. كموسيقى الهارد ستايل، والتي يستخدمها لاعبو الدي جي، في الصالات الضخمة، مع إضافات ترفية لا تتوفر لمغني الزنق في السودان، كالسماعات ثلاثية الأبعاد، وأضواء الليزر، والألعاب النارية،..الخ. وهذا التوجه الذي ينتظم العالم، ليس بعيد المسببات عن الزنق السوداني، فالشعور باللا جدوى والطبقية والتهميش والعجز عن تغيير الواقع، قد تكرس بإنتصار الرأسمالية، والتي وجهت كل قوتها الدعائية كهوليوود لإعلان الإنسان السوبر، أي الإنسان الذي يجب أن يقهر أعداءه دائماً، والإنسان العبقري، الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، والفهلوي، وعصابات سرقة البنوك. كما تكرس الرأسمالية، لضرورة العمل من أجل الحصول على المال، والمال بغرض الرفاهية. فقناة مثل إم تي في، تشوه صورة المشاهد أمام نفسه، إذ تطلب منه دائماً أن لا يكون عادياً. بل منافساً من أجل تملك السيارات الرياضية الحديثة، والفتيات الحسناوات، والشبان ذوي العضلات. وهكذا يترسخ الشعور بالنقص والقصور، حيث حياة لا يعيشها الفرد كما يجب. لقد دمرت الرأسمالية الإنسان العادي بحدوده الطبيعية وإمكانياته المتوسطة. لذلك انقسمت طبقة المقهورين، إلى فئتين، غالبية تنحط بنفسها إلى عالم المظهر مبتعدة عن الجوهر مما خلق بيئة من البلادة الذهنية بسبب تسليم العقل لمعايير وسائل الإعلام، وأقلية تحاول التمرد عبر الإيقاعات الصاخبة التي تمنحها شعوراً زائفاً بالإمتلاء الروحي. فالزنق في كل مكان.
إن أغاني الزنق، تحول ثقافي يجب دراسته، وفهمه، لنعرف أمرين هامين: أولهما ماهي أوجه القصور في مجتمعاتنا، وثانيهما إلى أين نتجه. ومن ثم محاولة معالجة مشاكلنا على نحو علمي، يكبح أو يؤخر إنحطاطنا أكثر من ذلك.