عندما تزوجت وغادرت قريتي الأسوانية لأقيم بصفة نهائية ودائمة في القاهرة بكيت بشدة وحرقة بطول المسافة من أسوان إلى القاهرة . بكيت لأني أيقنت أنني سأفتقد براح بيتنا الواسع والشجرة الكبيرة والدكة القابعة في ظل الشجرة . سأفتقد شاي الصباح وشاي العصاري تحت ظل هذه الشجرة لحظات لهونا وأخواتي ولعب السيجة التي أحبها واتقن مناورة الخصم وهزيمته مهما كانت قدرته وبراعته في رص الكلاب في عيون استراتيجية. سافتقد النخلة القريبة والتي تنضج ثمارها قبل الأخريات فيكون لنا سبق الفوز ببلحاتها الرطبة. سأفتقد بيت العائلة بضجيجه وصخبه ودسائس نسائه في كواليس المشهد . سأفتقد يوم الخبيز . العجين الذي أصبحت أقلبه بخفة خبير ماهر. سأفتقد لحظات شرودي تتبعا لخيال يطور قصة أكتبها فتفسد مناقير العصافير شكل أرغفتي ولا أفيق إلا على صوت أمي التي تصرخ لتهش العصافير وتعيدني إلى مكاني في ظل الحائط اجلس إلى جوار أرغفتي انتظارا لاكتمال اختمارها لأشعل الفرن والاستمتاع بمشهد اكتمال أرغفة العيش الشمسي الشهية والتي اباهي بين صديقاتي بكبر حجمها نظرا لامتلاك جدي لطاحونة تتيح لنا الدقيق مجانا .سأفتقد حكايات القرية التي لا تنقطع والتي شكلت مخزونا يتجدد باستمرار ويمنحني زخما لنصوص لا تنقطع . سأفتقدخطاطة الودع التي طالما جلست أمامها بإنصات وهي تصف لي الرجل الذي سأتزوجه وعدد الأطفال الذين سأنجبهم والبيت الذي سأسكنه و ..و...و...
مفتونة كنت بالعرافات وخطاطات الودع ربما لأن الخطّاطة كانت سيدة جلسة العصاري التي تعقدها جداتي في ساحة النجع أمام بيوت العائلة . ما بين غزل الصوف وتضفير سعف النخيل كان الوقت يمضي بالجدات ، وحين يكون اليوم لتنظيف القمح استعدادًا للطحن تحتفي فيه الجدات بتناوب هز الغربال والتقاط حبات الطين السوداء المدسوسة بين القمح وزخم الحكايات والذكريات . في كل الأحوال جلسة الجدات لم تكن تخلو يوما من الخطاطة التي تبشرهن، وبحجم البشارة يعدنها بالمزيد وكلما تحقق ما أردن كن يغدقن عليها، من القمح والسكر وغيرها من الهدايا .مثل جداتي كنت أرمي أمام الخطاطة بياضي من النقود المعدنية وبعيدا عن عين أمي أدس لهن مبالغ أخرى وأعدها بكسوة من الحرير أن تحقق ما بشرتني به ..
كان لخطاطة الودع مكانة تقترب من قدسية الأولياء الصالحين الذين تنذر لهم الجدات الكثير من النذور ربما لأنها تضع لهن المستقبل الغامض والمجهول بين أيديهن ليستبشرن بالفرح القادم أو يتهيأن لأستقبال ما هو غير ذلك .
سافتقد كل هذا وأرحل . هل يمكنني أن أخبئه داخلي واحتفظ بزخمه ووهج حكاياته ؟؟
عندما سافرت نهائيا كنت لا زلت عروسًا على يديها ورجليها ومناطق خفية من جسدها نقوش الحنة بلون مميز حصلت عليه بعد عدة تجارب أجرتها حنانة سودانية . ظلت الحنانة تخلط عجينة الحنة بعدد من المواد الطبيعية بنسب معينة. وفي كل مرة تختبر اللون حتى توصلت للون يرضيني ويناسب بشرتي السمراء . أيضا كانت رائحة الدلكة والخُمرة المعتقة تعبقان جسدي وينتشر أثرهما في أرجاء عربة القطار فتلفتت بعض النسوة عن مصدرها مما نبه ركاب العربة لوجود عروس معهم فبادرت بعض النسوة بتقديم التهنئة بوجوههن الباسمة بعضهن كان يلبس الجرجار النوبي ، وأخريات كن يرتدن العباءات السوداء المميزة لنساء القبائل الأخرى .
مازالت رائحة الحنة و الدلكة والخُمرة تلخص لي عبق المكان الذي عشقته . ربما لهذا السبب خبأت قطعا من الدلكة في دولاب ملابسي ظلت لسنوات عديدة تعبق ملابسي برائحتها . كما احتفظت بزجاجة خُمرة كبيرة كانت أمي قد انفقت لتجهيزها عشرات الجنيهات و استعانت بذوات الخبرة في صناعتها وكان ذلك في احتفال بهيج سبق أيام الزفاف .. كانت تميزني رائحة الدلكة والخمرة وتثير زميلات العمل ليسألن عن اسمها ويوصين بشرائها لهن ان ذهبت إلى أسوان .
كنت ابتهج للرائحة التي تميزني تلك الرائحة القادرة على الأحتفاظ باستقلالها وتأثيرها وسط روائح مختلطة من عطور غالية لم انشغل يوما بمعرفة أسمائها . ومثلما حرصت على رائحة الدلكة فقد حرصت على الاحتفاظ بالحنة في بيتي وأوصي كل قادم من هناك أن يحمل لي من محصول العام الجديد لتعبق رائحته فضاء بيتي . لفترة قريبة كنت حريصة على رسم الحنة على يدي وساقي . حتى أن أثر الحنة لم يغب من يدي وقدمي لفترات طويلة ..
كان شبح افتقاد المكان يدفعني لممارسات عديدة كأن افتش عن مبررات واهية للسفرإلى هناك . زواج أحد الأقارب أو مرضهم أو تقديم واجب العزاء في قريب . سرعة اتخاذ قرار السفر لم تكن تمهلني لاختيار وسيلة مواصلات تناسب الرحلة الطويلة ولا امكانياتي المالية وقتها ولا ظروف عملي أو حتى تحمل أطفالي الصغار لظروف الرحلة الطويلة .. لحظة واحدة تنزاح كل العقبات أمام قرار السفر لحظة واحدة أجند الجميع بداية من زوجي حتى أقارب الأقارب أو أصدقاء الأقارب للحصول على تذكرة في أي قطار . ولا مانع من السفر بوسيلة أخرى لا توفر الراحة التي يوفرها القطار مثل الميكروباص!! ساعات تتوغل فيها الحافلة في الطريق الزراعي أو الصحراوي المظلم غالبا . ساعات قدأغفو فيها من شدة التعب أو ربما لاقلل من إحساسي بطول الرحلة . مع بداية ضوء الفجرأاستيقظ على رائحة النخل ، وهمس المسافرين وارتفاع رنات المحمول وصوت منير المنعش يغني لنعناع الجنينة. أحب السفر بالقطار من أجل تلك اللحظة. جميلة بواكير الصباح على قمم النخيل . مثل جمال رائحته أوقات التلقيح ، ومتابعة تطور نضج الثمار وبشائر الرطب المحصنة من عبث الأيدي بسلاء حادة ، وأوقات الحصاد الذي أشبه بعيد سنوي ..
قريتي هي النخل ..
لا يخلو بيت من نخلة .. كل يحرص على غرسه لعمار المكان وتواصل العطاء .. للنخل قدرة ممتدة على العطاء . هكذا نعتقد.. ثمة نخلة عجوز استطال جذعها وانحنى حتى صار يخشى صعودها امهر طالع نخل . تلك النخلة الواقفة على حافة نيل قريتي عاصرت ثلاثة أو أربعة أجيال من أفراد قبيلتي حتى صار بلحها يتوزع وفق شريعة التوريث على مايقرب من نصف بيوت القبيلة .
ما الذي يجرفني إلى هذا المكان ؟ الجغرافيا الحادة والشمس الملتهبة ..
ربما يكون مناسبا أن أتناول الجغرافيا الحادة التي تجعل سطح الأرض عندنا أبعد عن الإستواء نتوءات الجبال الحادة واقترابها من حافة النيل في بعض المناطق حتى يخيل لك أنهما في صراع عنيف إذ يقترب الاثنان كثيرا لا يفصل بينهما سوى طريق ضيق شق بصعوبةيمتد فيه خط السكة الحديد الواصل من شمال البلاد لجنوبها وبمحاذاته الطريق الزراعي الذي يصل بلدان المنطقة . على انحدار هذا الجبل تتراص البيوت بصورة تجعلك تفكر أي قانون صاغته الطبيعة ليحفظ توازن البناء ومحتوياته وسكانه من الانحدار ؟!
بيت هو عبارة عن سور يرتفع أعلى من مترين يحدد مساحة واسعة يحرص ساكنه على غرس شجرة أو نخلة تعبيرًا عن عمّار المكان وربما ليكون رمزًا للعطاء الذي يتسابق فيه الجميع على اختلاف امكاناتهم . وفي جانب ساحة البيت القبلية غالبا غرف تتراص بانتظام يوحي بحرص البناء على البعد الجمالي للبيت يمتد أمامها سقيفة لجلب نسمات الهواء في نهارات الصيف الساخنة . كل البيوت متشابهة تقريبا ربما يضاف مندرة واسعة هنا ملحقة ببيت وربما تتقلص مساحة المندرة لغرفة وحيدة تفتح خارج البيت ، قد يضاف رسوم للكعبة على جدران البيت تؤرخ لحصول صاحبة على لقب حاج لكنها في النهاية بيوت متشابهة تقريبا .لا تختلف البيوت عن بعضها مثلما لايظهر الفارق الاجتماعي بين الناس هنا . ربما لأن أكثرنا ثراء تعتبره أنظمةاجتماعية أخرى من المستورين فقط . تتفق جدران البيوت كلها في أن قوامها الطين وأسقفها من جريد النخل يدعمها الطين أيضا . تظل البيوت راسخة تقاوم السقوط على انحدار الجبل بفعل الجاذبية. تكون البيوت المنتشرة بين تجمعات النخيل أوفر حظا وأكثر رسوخا واستقرارا .إذ تتمتع بأرض شبه مستوية . غير أنهاجميعا ترتعش تحت زخات المطر المباغت وكثيرا ما تنهار وتخلف في الهواء رائحة التراب المبلل ، رائحة الطمي الذي تحتفظ به ذاكرتي من أيام الطفولة حيث كان يتاح لمن هن في مثل عمري الذهاب لأراضينا الزراعية برفقة العم أو الجد ..
ذات مطر شديد حمل الجميع أولادهم وعجائزهم ولاذوا بالجامع القريب ..إمام الجامع كان فظا احتجز النساء وقاوم دخولهن بحجة عدم ثقته في طهارتهن !! لم يجادله أحد تراجع كثير من الرجال خجلا بنسائهم وأطفالهم احتمت القرية بالسماء التي ترش بردها بديلا عن الأسقف التي شربت ماء المطر وثقلت وانحنت وكادت تسقط أو سقطت معانقة الأرض مخلفة دمار الحدث ووجع الذكرى ..
ذات مطر شديد فقدت عددا من الكتب ومسودات القصص وأفسد ماء المطر المتسرب من جريد السقف المغطى بالطين صورة معلقة على حائط غرفتي الطيني ، صورة هي الذكرى الوحيدة من أبي الراحل .
أين ذهبت الشمس الساطعة ؟؟ بعد أيام أطلت علينا بوجه هادئ على عكس ما نرى منها .هل أشفقت علينا مما فعله المطر بنا ؟ لا أظن أنها كانت طيبة أو حنونة فقد عاندت وضنت بنفسها علينا حتى لم نعد نستطيع صنع أرغفتنا الشمسية وظلت الأمهات يتحايلن على الجوع بصنع فطائر رقيقة على صاجات وضعنها على نار المواقد . فطائر لم نستسغ طعمها مع كثير من الأطعمة . ولا تمنحنا أحساسا بعمار الدار كما العيش الشمسي الذي تباهي به العائلات ..
على كل حال كان الحدث موجعا دفع الجميع لاستثمار امكاناته القليلة لأعادة بناء بيت جديد يتحمل ظروف الطبيعة وتقلباتها المزاجية الحادة . بيوت تزعجني كثيرا لعدم تطابق مواصفاتها مع ظروف المكان ومناخه المتطرف وشمسه القاسية .لعدم استخدامها خامات تناسب شمسنا الحارقة . تزعجني أنها تقليد غبي لنماذج يظنها البعض مثالا للرقي ، ليس لدي حنين مرضي لبيوت الطين ولكني كنت أتمنى بيوتا تناسب طيبعة المكان / الجغرافيا والبشر أيضا .
مثلما نخاف المطر نخاف الصيف واشتداد الحرارة الذي يمنح العقارب فرصة الخروج من جحورها والتخلص من ثقل سمها في دم مخدوع أمن المكان فمشى على أرض بيته دون وجل أو استند بيده على حائط البيت دون أن يكون حذرا بما يكفي . أو سيدة وضعت يدها في جوال الدقيق لتبدأ الغربلة استعدادا ليوم الخبيز ، أو بين خزين البيت من السلع الغذائية . حكايات العقرب التي تتجول بحرية في ليالي الصيف بحثا عن مخدوع تفرغ في جسده حمولتها كثيرة، ولم تعد تثير انتباهنا كثيرا، تصيب الكبار فنزورهم ونتمنى لهم السلامة وقد لا ينجو من سمها القاتل الأطفال فنذهب لتقديم العزاء متمنين الصبر لأهلهم . لم تعد تلك الحوادث تدهشنا فقط نزداد حذرا ونزداد خوفا .. حذر يلازمنا تقريبا طوال فترة الصيف ، تحديدا أيام اشتداد الحرارة . يتضاعف الخوف ويتزايد الحذر و يثقلان حركتنا كثيرا لا ينزاحان إلا بعرس يقام في البراح الواسع . عُرس تشكل فيه جلسة الرجال نصف الدائرة وتكتمل الدائرة بجلسة النساء اللاتي يطلقن زغارديهن فيزداد توهج المكان الأضواء خاصة حين يصدح في الفضاء صوت مطرب من مطربي الكف أو النميم وتتعايق فيه البنات برقص مباح أمام جموع الرجال !!
رقص البنات أمام جموع الرجال في مجتمع مغلق كقريتي !!
أي تناقض هذا الذي يحويه عالمي .. أي مفردات يمكن أن تصفه ؟؟
لما الدهشة ؟ ولما علامات التعجب التي أنثرها وكأنني لست من هذا المكان ؟
لا.. لا ينبغي أن أقول أنا من هذا المكان . الأدق أن أقول أنا صنيعة هذا المكان .. نعم صنيعة هذا المكان .. لا أظن أن المكان صهر كائنا وشكله مثلما فعل معي .
ألا تحمل روحي تلك التناقضات . في حدة التعامل مع زميلات العمل وفي رقتي المفرطة أحيانا . في اختلاف ملابسي حين أذهب للعمل وحين أذهب لزيارة الأقارب هنا ، في عشقي للمكان الذي بكيت بشدة يوم غادرته ووجعي منه وهو يجهض أحلامي كلما تعارضت مع تعاليمه .
هل يمكنني أن أجد تفسيرا لبكائي وحزني وأنا أغادره وقتها غير أنني أحب هذا المكان أكثر مما كنت أتخيل .على عكس المتوقع لم أكن أبدا فرحة بانتقالي لمكان يتيح لي الانفلات عنه. كنت أخبؤه في روحي بصور عديدة .. كنت ومازلت متعلقه به حد التجذر ..
بعيدا عنه كنت استعيده بمخزون الذاكرة ورائحة الدلكة والحنة .. كنت أستعيده بإصراري على التواصل مع أفراده رغم المشاغل ومعوقات العمل وظروف الأسرة . تندهش زميلات العمل ويسألن من أين آتي بالوقت الذي يكفي هؤلاء؟! وأنا أحكي لهن عن الرحلات الشاقة التي أقوم بها لزيارة بعض أقارب الدرجة الثانية أو الثالثة .
بعد مغادرته كنت اتطلع إلى صورتي في المرآة أفتش عن ملامحه في روحي .. المكان الذي خبأت رائحته في دولاب ملابسي خوفا عليه من الاندثاراسترحت حين اكتشفت أنه صهرني وشكلني مثلما تشكل أمي وكل نساء قريتي أرغفة العيش الشمسي .. عند اكتمال اختمارها وبعدما تجهز لهاالفرن ساخنا متوهجا تجرحها بسن إبرة رفيعة حادة حتى تسيل العجينة على جوانب الجرح . لم تكن أمي تنزعج من العجين الذي يسيل على جوانب الجرح تدرك أنه سيلتئم في النار المتوهجة ويحتفظ باستدارة الرغيف القرصية كما أرادت .
____________________
الدلكة: عجينة من الدقيق المخلوط بزيوت عطرية تنضج على دخان خشب الصندل
الخُمرة: خليط من زيوت عطرية بنسب معينة يضاف إليها مطحون حبات المحلب والقرنفل
مفتونة كنت بالعرافات وخطاطات الودع ربما لأن الخطّاطة كانت سيدة جلسة العصاري التي تعقدها جداتي في ساحة النجع أمام بيوت العائلة . ما بين غزل الصوف وتضفير سعف النخيل كان الوقت يمضي بالجدات ، وحين يكون اليوم لتنظيف القمح استعدادًا للطحن تحتفي فيه الجدات بتناوب هز الغربال والتقاط حبات الطين السوداء المدسوسة بين القمح وزخم الحكايات والذكريات . في كل الأحوال جلسة الجدات لم تكن تخلو يوما من الخطاطة التي تبشرهن، وبحجم البشارة يعدنها بالمزيد وكلما تحقق ما أردن كن يغدقن عليها، من القمح والسكر وغيرها من الهدايا .مثل جداتي كنت أرمي أمام الخطاطة بياضي من النقود المعدنية وبعيدا عن عين أمي أدس لهن مبالغ أخرى وأعدها بكسوة من الحرير أن تحقق ما بشرتني به ..
كان لخطاطة الودع مكانة تقترب من قدسية الأولياء الصالحين الذين تنذر لهم الجدات الكثير من النذور ربما لأنها تضع لهن المستقبل الغامض والمجهول بين أيديهن ليستبشرن بالفرح القادم أو يتهيأن لأستقبال ما هو غير ذلك .
سافتقد كل هذا وأرحل . هل يمكنني أن أخبئه داخلي واحتفظ بزخمه ووهج حكاياته ؟؟
عندما سافرت نهائيا كنت لا زلت عروسًا على يديها ورجليها ومناطق خفية من جسدها نقوش الحنة بلون مميز حصلت عليه بعد عدة تجارب أجرتها حنانة سودانية . ظلت الحنانة تخلط عجينة الحنة بعدد من المواد الطبيعية بنسب معينة. وفي كل مرة تختبر اللون حتى توصلت للون يرضيني ويناسب بشرتي السمراء . أيضا كانت رائحة الدلكة والخُمرة المعتقة تعبقان جسدي وينتشر أثرهما في أرجاء عربة القطار فتلفتت بعض النسوة عن مصدرها مما نبه ركاب العربة لوجود عروس معهم فبادرت بعض النسوة بتقديم التهنئة بوجوههن الباسمة بعضهن كان يلبس الجرجار النوبي ، وأخريات كن يرتدن العباءات السوداء المميزة لنساء القبائل الأخرى .
مازالت رائحة الحنة و الدلكة والخُمرة تلخص لي عبق المكان الذي عشقته . ربما لهذا السبب خبأت قطعا من الدلكة في دولاب ملابسي ظلت لسنوات عديدة تعبق ملابسي برائحتها . كما احتفظت بزجاجة خُمرة كبيرة كانت أمي قد انفقت لتجهيزها عشرات الجنيهات و استعانت بذوات الخبرة في صناعتها وكان ذلك في احتفال بهيج سبق أيام الزفاف .. كانت تميزني رائحة الدلكة والخمرة وتثير زميلات العمل ليسألن عن اسمها ويوصين بشرائها لهن ان ذهبت إلى أسوان .
كنت ابتهج للرائحة التي تميزني تلك الرائحة القادرة على الأحتفاظ باستقلالها وتأثيرها وسط روائح مختلطة من عطور غالية لم انشغل يوما بمعرفة أسمائها . ومثلما حرصت على رائحة الدلكة فقد حرصت على الاحتفاظ بالحنة في بيتي وأوصي كل قادم من هناك أن يحمل لي من محصول العام الجديد لتعبق رائحته فضاء بيتي . لفترة قريبة كنت حريصة على رسم الحنة على يدي وساقي . حتى أن أثر الحنة لم يغب من يدي وقدمي لفترات طويلة ..
كان شبح افتقاد المكان يدفعني لممارسات عديدة كأن افتش عن مبررات واهية للسفرإلى هناك . زواج أحد الأقارب أو مرضهم أو تقديم واجب العزاء في قريب . سرعة اتخاذ قرار السفر لم تكن تمهلني لاختيار وسيلة مواصلات تناسب الرحلة الطويلة ولا امكانياتي المالية وقتها ولا ظروف عملي أو حتى تحمل أطفالي الصغار لظروف الرحلة الطويلة .. لحظة واحدة تنزاح كل العقبات أمام قرار السفر لحظة واحدة أجند الجميع بداية من زوجي حتى أقارب الأقارب أو أصدقاء الأقارب للحصول على تذكرة في أي قطار . ولا مانع من السفر بوسيلة أخرى لا توفر الراحة التي يوفرها القطار مثل الميكروباص!! ساعات تتوغل فيها الحافلة في الطريق الزراعي أو الصحراوي المظلم غالبا . ساعات قدأغفو فيها من شدة التعب أو ربما لاقلل من إحساسي بطول الرحلة . مع بداية ضوء الفجرأاستيقظ على رائحة النخل ، وهمس المسافرين وارتفاع رنات المحمول وصوت منير المنعش يغني لنعناع الجنينة. أحب السفر بالقطار من أجل تلك اللحظة. جميلة بواكير الصباح على قمم النخيل . مثل جمال رائحته أوقات التلقيح ، ومتابعة تطور نضج الثمار وبشائر الرطب المحصنة من عبث الأيدي بسلاء حادة ، وأوقات الحصاد الذي أشبه بعيد سنوي ..
قريتي هي النخل ..
لا يخلو بيت من نخلة .. كل يحرص على غرسه لعمار المكان وتواصل العطاء .. للنخل قدرة ممتدة على العطاء . هكذا نعتقد.. ثمة نخلة عجوز استطال جذعها وانحنى حتى صار يخشى صعودها امهر طالع نخل . تلك النخلة الواقفة على حافة نيل قريتي عاصرت ثلاثة أو أربعة أجيال من أفراد قبيلتي حتى صار بلحها يتوزع وفق شريعة التوريث على مايقرب من نصف بيوت القبيلة .
ما الذي يجرفني إلى هذا المكان ؟ الجغرافيا الحادة والشمس الملتهبة ..
ربما يكون مناسبا أن أتناول الجغرافيا الحادة التي تجعل سطح الأرض عندنا أبعد عن الإستواء نتوءات الجبال الحادة واقترابها من حافة النيل في بعض المناطق حتى يخيل لك أنهما في صراع عنيف إذ يقترب الاثنان كثيرا لا يفصل بينهما سوى طريق ضيق شق بصعوبةيمتد فيه خط السكة الحديد الواصل من شمال البلاد لجنوبها وبمحاذاته الطريق الزراعي الذي يصل بلدان المنطقة . على انحدار هذا الجبل تتراص البيوت بصورة تجعلك تفكر أي قانون صاغته الطبيعة ليحفظ توازن البناء ومحتوياته وسكانه من الانحدار ؟!
بيت هو عبارة عن سور يرتفع أعلى من مترين يحدد مساحة واسعة يحرص ساكنه على غرس شجرة أو نخلة تعبيرًا عن عمّار المكان وربما ليكون رمزًا للعطاء الذي يتسابق فيه الجميع على اختلاف امكاناتهم . وفي جانب ساحة البيت القبلية غالبا غرف تتراص بانتظام يوحي بحرص البناء على البعد الجمالي للبيت يمتد أمامها سقيفة لجلب نسمات الهواء في نهارات الصيف الساخنة . كل البيوت متشابهة تقريبا ربما يضاف مندرة واسعة هنا ملحقة ببيت وربما تتقلص مساحة المندرة لغرفة وحيدة تفتح خارج البيت ، قد يضاف رسوم للكعبة على جدران البيت تؤرخ لحصول صاحبة على لقب حاج لكنها في النهاية بيوت متشابهة تقريبا .لا تختلف البيوت عن بعضها مثلما لايظهر الفارق الاجتماعي بين الناس هنا . ربما لأن أكثرنا ثراء تعتبره أنظمةاجتماعية أخرى من المستورين فقط . تتفق جدران البيوت كلها في أن قوامها الطين وأسقفها من جريد النخل يدعمها الطين أيضا . تظل البيوت راسخة تقاوم السقوط على انحدار الجبل بفعل الجاذبية. تكون البيوت المنتشرة بين تجمعات النخيل أوفر حظا وأكثر رسوخا واستقرارا .إذ تتمتع بأرض شبه مستوية . غير أنهاجميعا ترتعش تحت زخات المطر المباغت وكثيرا ما تنهار وتخلف في الهواء رائحة التراب المبلل ، رائحة الطمي الذي تحتفظ به ذاكرتي من أيام الطفولة حيث كان يتاح لمن هن في مثل عمري الذهاب لأراضينا الزراعية برفقة العم أو الجد ..
ذات مطر شديد حمل الجميع أولادهم وعجائزهم ولاذوا بالجامع القريب ..إمام الجامع كان فظا احتجز النساء وقاوم دخولهن بحجة عدم ثقته في طهارتهن !! لم يجادله أحد تراجع كثير من الرجال خجلا بنسائهم وأطفالهم احتمت القرية بالسماء التي ترش بردها بديلا عن الأسقف التي شربت ماء المطر وثقلت وانحنت وكادت تسقط أو سقطت معانقة الأرض مخلفة دمار الحدث ووجع الذكرى ..
ذات مطر شديد فقدت عددا من الكتب ومسودات القصص وأفسد ماء المطر المتسرب من جريد السقف المغطى بالطين صورة معلقة على حائط غرفتي الطيني ، صورة هي الذكرى الوحيدة من أبي الراحل .
أين ذهبت الشمس الساطعة ؟؟ بعد أيام أطلت علينا بوجه هادئ على عكس ما نرى منها .هل أشفقت علينا مما فعله المطر بنا ؟ لا أظن أنها كانت طيبة أو حنونة فقد عاندت وضنت بنفسها علينا حتى لم نعد نستطيع صنع أرغفتنا الشمسية وظلت الأمهات يتحايلن على الجوع بصنع فطائر رقيقة على صاجات وضعنها على نار المواقد . فطائر لم نستسغ طعمها مع كثير من الأطعمة . ولا تمنحنا أحساسا بعمار الدار كما العيش الشمسي الذي تباهي به العائلات ..
على كل حال كان الحدث موجعا دفع الجميع لاستثمار امكاناته القليلة لأعادة بناء بيت جديد يتحمل ظروف الطبيعة وتقلباتها المزاجية الحادة . بيوت تزعجني كثيرا لعدم تطابق مواصفاتها مع ظروف المكان ومناخه المتطرف وشمسه القاسية .لعدم استخدامها خامات تناسب شمسنا الحارقة . تزعجني أنها تقليد غبي لنماذج يظنها البعض مثالا للرقي ، ليس لدي حنين مرضي لبيوت الطين ولكني كنت أتمنى بيوتا تناسب طيبعة المكان / الجغرافيا والبشر أيضا .
مثلما نخاف المطر نخاف الصيف واشتداد الحرارة الذي يمنح العقارب فرصة الخروج من جحورها والتخلص من ثقل سمها في دم مخدوع أمن المكان فمشى على أرض بيته دون وجل أو استند بيده على حائط البيت دون أن يكون حذرا بما يكفي . أو سيدة وضعت يدها في جوال الدقيق لتبدأ الغربلة استعدادا ليوم الخبيز ، أو بين خزين البيت من السلع الغذائية . حكايات العقرب التي تتجول بحرية في ليالي الصيف بحثا عن مخدوع تفرغ في جسده حمولتها كثيرة، ولم تعد تثير انتباهنا كثيرا، تصيب الكبار فنزورهم ونتمنى لهم السلامة وقد لا ينجو من سمها القاتل الأطفال فنذهب لتقديم العزاء متمنين الصبر لأهلهم . لم تعد تلك الحوادث تدهشنا فقط نزداد حذرا ونزداد خوفا .. حذر يلازمنا تقريبا طوال فترة الصيف ، تحديدا أيام اشتداد الحرارة . يتضاعف الخوف ويتزايد الحذر و يثقلان حركتنا كثيرا لا ينزاحان إلا بعرس يقام في البراح الواسع . عُرس تشكل فيه جلسة الرجال نصف الدائرة وتكتمل الدائرة بجلسة النساء اللاتي يطلقن زغارديهن فيزداد توهج المكان الأضواء خاصة حين يصدح في الفضاء صوت مطرب من مطربي الكف أو النميم وتتعايق فيه البنات برقص مباح أمام جموع الرجال !!
رقص البنات أمام جموع الرجال في مجتمع مغلق كقريتي !!
أي تناقض هذا الذي يحويه عالمي .. أي مفردات يمكن أن تصفه ؟؟
لما الدهشة ؟ ولما علامات التعجب التي أنثرها وكأنني لست من هذا المكان ؟
لا.. لا ينبغي أن أقول أنا من هذا المكان . الأدق أن أقول أنا صنيعة هذا المكان .. نعم صنيعة هذا المكان .. لا أظن أن المكان صهر كائنا وشكله مثلما فعل معي .
ألا تحمل روحي تلك التناقضات . في حدة التعامل مع زميلات العمل وفي رقتي المفرطة أحيانا . في اختلاف ملابسي حين أذهب للعمل وحين أذهب لزيارة الأقارب هنا ، في عشقي للمكان الذي بكيت بشدة يوم غادرته ووجعي منه وهو يجهض أحلامي كلما تعارضت مع تعاليمه .
هل يمكنني أن أجد تفسيرا لبكائي وحزني وأنا أغادره وقتها غير أنني أحب هذا المكان أكثر مما كنت أتخيل .على عكس المتوقع لم أكن أبدا فرحة بانتقالي لمكان يتيح لي الانفلات عنه. كنت أخبؤه في روحي بصور عديدة .. كنت ومازلت متعلقه به حد التجذر ..
بعيدا عنه كنت استعيده بمخزون الذاكرة ورائحة الدلكة والحنة .. كنت أستعيده بإصراري على التواصل مع أفراده رغم المشاغل ومعوقات العمل وظروف الأسرة . تندهش زميلات العمل ويسألن من أين آتي بالوقت الذي يكفي هؤلاء؟! وأنا أحكي لهن عن الرحلات الشاقة التي أقوم بها لزيارة بعض أقارب الدرجة الثانية أو الثالثة .
بعد مغادرته كنت اتطلع إلى صورتي في المرآة أفتش عن ملامحه في روحي .. المكان الذي خبأت رائحته في دولاب ملابسي خوفا عليه من الاندثاراسترحت حين اكتشفت أنه صهرني وشكلني مثلما تشكل أمي وكل نساء قريتي أرغفة العيش الشمسي .. عند اكتمال اختمارها وبعدما تجهز لهاالفرن ساخنا متوهجا تجرحها بسن إبرة رفيعة حادة حتى تسيل العجينة على جوانب الجرح . لم تكن أمي تنزعج من العجين الذي يسيل على جوانب الجرح تدرك أنه سيلتئم في النار المتوهجة ويحتفظ باستدارة الرغيف القرصية كما أرادت .
____________________
الدلكة: عجينة من الدقيق المخلوط بزيوت عطرية تنضج على دخان خشب الصندل
الخُمرة: خليط من زيوت عطرية بنسب معينة يضاف إليها مطحون حبات المحلب والقرنفل