رسائل الأدباء رسالتان من الحساني حسن عبدالله الى ريبال

بسم الله الرحمن الرحيم
ريبال

تقول إنك تجد صعوبةً أحيانًا في فهم العربية، كأنك تقرأُ لغةً أجنبية. وسألتني أن أعينَك على ما تجد. أقولُ أولًا إن شكواك هذه تدلّ على خير. على أن عقلك يَعْمل. أنك تطلب “المعنى”، فإذا لم تجدْه – لعائقٍ ما – توقفتَ حتى تعالج الصعوبة ويستبينَ المعنى. و هذا غرضُ كلّ قِراءةٍ جادّة. أما القارئُ المستهينُ فهو لا يتوقف. وهذا عيبُ كثيرٍ من الناس. شكواك إذَنْ تدل على أنك بريءٌ مِن ذلك العيب. على أنك بدأتَ الطريقَ الطويلَ إلى “المعرفة”. والمعرفة هي الغاية الكبرى، الغاية القُصوى، في الوجود، الوجودِ الذى يُراد له أن يكون وجودًا “إنسانيًا” لا “حيوانيًا”. نحن هنا لنعرف. أي لنرتفع من حضيض البهيمية إلى سماء الملائكية. وذلك هو “الخير” وهو “الحق” وهو “الجمال”، وهو نشدان “المعنى”، وهو السعي إلى عِلِّيين.
ثم أقول إن معالجة كل صعوبة، في اللغة أو غيرها، تستلزم فحص العناصر، أو المكوّناتِ الداخلة في تركيب ذلك “الصعبِ” حتى تُعرف طبيعةُ العائق أو صفتُه أو حقيقته، فيمكن مِنْ ثَمَّ إزاحتُهُ وحلُّ المسألة. واللغة “ظاهرة” من “ظواهر” الطبيعة. و”الظاهرة” كلمة جدَّت على العربية في العصر الحديث ترجمةً لكلمةٍ أجنبية، وهي في الإنجليزية Phenomenon، وجمعُها Phenomena .
وإذا أُريد تذليل الصعوبة التي وجدتَها، أو إزاحةُ العقبة، فعلينا أن نبدأ بفحص الظاهرة التي صادفتنا في التعاملِ معها تلك الصعوبةُ. فحْصُها أولًا من حيثُ هي، أي مِن حيثُ صفتُها أو صفاتُها الجوهرية، قَبْلَ طروءِ غيرِ الجوهري، فإن الصعوبة صفةٌ طارئة، وليست هي الأصل. ولن نفهمها إلا بفهم الأصل أولًا. وهنا نسأل : ما حقيقةُ تلك الظاهرة المسماة باللغة ؟ إنها ألفاظ. نعم. لكنَّ هذا لا يكفي، أوْ لا يُعرِّف.لأن الألفاظ مفردةً، مستقلًّا بعضُها عن بعض، ليست “لغة” بالمعنى الصحيح، المتعارفِ عليه.
والمعنى الصحيحُ المتعارفُ عليه أن اللغة لا تكون لغة إلا بانضمام الألفاظ بعضِها إلى بعضٍ صانعةً ما سُمي بالمعنى. واللغةُ على هذا لفظٌ ومعنى. والسؤال الآن : مِن أين جاء “المعنى”؟ والجواب الفوريُّ: من التضامّ، من التركّبِ، من اجتماعِ الألفاظ بعضِها إلى بعض في “بِنْيةٍ” Structure أو جملة Sentence. والمطلوب إذَنْ أمران : فحصُ الألفاظِ مفردةً، وهو الفحصُ الذى أنشأ ما سُمي بعلم الصرف، وفحص البِنىَ أو الجملِ أو القواعدِ التي بها تنتظمُ الألفاظُ في بِنىً أو جُملٍ لينشأ “المعنى”، وهذا الفحصُ هو الذي أنشأ ما سُمى بعلم النحو. واللغةُ إذَنْ صرفٌ ونحو. لكن هذين العِلْمين – على جلالة شأنهما – ليسا كل شيء. هناك شيء قَبْلهما: دلالةُ الألفاظ. فإن اللفظ أصواتٌ – إذا نظرنا إلى اللغة منطوقةً – أو حروفٌ -إذَا نظرنا إليها مكتوبةً – دالةٌ على تصورٍ أو مفهومٍ، أو “ما صَدَقَ” بمصطلح المناطقة، أو معنى. وأولُ الطريق إذَنْ معرفةُ دلالة اللفظِ أو معناه.
وتلك مهمةُ علم الدلالة – أعني دلالة الألفاظ المفردة – أو علم معاني الألفاظ، أو علم “المعاجم”. واللغة على هذا علوم متنوعة: علم الصرف، وعلم النحو، وعلم المعاجم. وليس هذا كلَّ شيء. بقي طرائق نطق الأصوات؛ علمُ الأصواتِ، وهو فرع من علم اللغة العام، وطرائقُ رسْم الألفاظ على الورق، أي كتابتها، وذلك علم “الإملاء”، وطرائق تحسين رسم الحروف وأشكال الرسم المختلفة، وذلك علم “الخط”. تلك علوم العربية التى صار بعضَ مهمتك في هذه الحياة أن تدرسها، أقول بعض مهمتك وأعني ما أقول، لأن مهمتنا في هذه الحياة الدنيا أكبرُ من الإحاطة بعلوم العربية، أو بعلومٍ غيرها، فإن العلم لا يُراد لذاته، وإنما يُراد لغاية أبعدَ ليست موضوعنا الآن. وكأن الله أراد بك خيرًا، وأراد أن يحقق لي بعض أملي فيك، بعد يأسٍ من تحقيق أي أملٍ فيك. رغبتُ إليك منذ بضعة أعوام أن تدخل دار العلوم فأبيت، لكن الله أعادك إلى ما أبيت. وهأنتذا تدرسُ علوم العربية كما رجوت لك – ليس المهم أن تدرسها في دار العلوم أو غير دار العلوم، لكن المهم أن تدرسها، وأن تدرسها كما يجب أن يكون الدرس. والدرس الواجب ليس الذي يكون غرضه الأول تحصيل الدرجات الكبيرة، بل الذي يكون غرضه تطويع اللغة وتذليلها لتكون وسيلة إلى “المعرفة”، المعرفة التي هي الغاية من الوجود كله التي خلق الله الجنَّ والإنس لأجْلها. قال تعالى: … ليعبدونِ. أي ليعرفوني – كما قال ابن عباسٍ على ما أذكر.
الحديث ذو شجون. وشجون هنا معناها “فروع” لا “أحزان” كما يظن بعض مَن لا يفهم، أو بعض من لا يتوقف [انظْر أول هذه الرسالة]. يُقال لفروع الشجرة”شجون”. أي أن الحديث بطبيعته يتفرع، ويخرج من معنى إلى معنى. ولكنْ علينا أن نقاوم في أحاديثنا هذه الصفة لأنها تكون أحيانًا ضارةً، وتُباعدُ بيننا وبين ما هو أجْدرُ بالاهتمام. والذي أكتبُ لك الآن فيه هو هدايتك إلى ما يُستعان به على تَيسير الفهم، وإحسانِ الأخذِ عن اللغة، وجَعْلِ العربيةِ لغة قوميةً بعد أن كادت تسمى لغة أجنبية. فلنعدْ إلى ما كنّا فيه. كيف تحسن الفهم للجملة العربية، أو ما الذي يعينك على هذا. لم يبق في هذه الورقة إلا القليل. ولم أستطع الكتابة إلا صباح هذا اليوم – الخميس 24/5 الذي انتظرتك فيه. لهذا أؤجل الكتابة، داعيًا الله أن يطيل أعمارنا في عمل صالح. يجيئك بقيةُ الجواب في رسالة قادمة إن شاء الله.
ولسبب آخر أيضًا، أني أريد بعد إنهاء هذه الكلمة أن أكتب كلمة أخرى في مشكلة المعيشة. لديَّ ما أقوله بشأنها. وأسأل الله التوفيق لي ولك، والسلام ،




****


بسم الله الرحمن الرحيم
ريبال

كنتُ أريد متابعة الكتابة إليك بعد الورقة الأولى، لكني لم أنشط إلا بعد اطّلاعي على كلامك ببضعة أيام. وفوجئتُ بشيءٍ أعجبني وأدهشني، تطابقِ الفكر، أو ما يُسمى أحيانًا “تواردَ الخواطر”، قلتُ في الورقة الأولى إن اللغة وسيلة إلى معرفة الله، وإننا نتعلم علومَها لأجْل هذه الغاية الكُبرى أو القُصوى لا لمجرد التحصيل أو الإحاطة. وقلتَ أنت إنها وسيلة إلى فهم كلام الله وكلام خاتم رسله – صلى الله عليه وسلم- وإنه بموتها يموت الدين – لا قدّر الله- أي وبحياتها يحيا، مع اشتراك عواملَ أخرى بطبيعة الحال. أعجبني أن الله هداك وعلّمك أن تمد بصرك إلى بعيد. أما الدهشة فلأني لم أكن أحسب أنك بلغت هذا المبلغَ في الهدى. وحمدتُ اللهَ على هذا كثيرًا. وأدعوه أن يزيدك بصرًا وتوفيقًا.
ثم أعود إلى ما كنتُ فيه من حديثٍ عن علوم العربية التي قلتُ إنه صار بعضَ مهمتك التي خُلقتَ لها أن تعكف على دَرْسها. ذكرتُ الصرفَ والنحوَ والمعاجمَ وعلمَ اللغة، أو فقه اللغة، بفروعه التي من أبرزها علمُ الأصوات، والإملاءُ، والخط. أضفْ إليها العلمين الخاصين بالشعر: العروضَ والقافية. والعلومَ المتعلقة بالبيان، كالبلاغة والأدب والنقد الأدبي، وأضف إليها علمًا أجنبيًا هو الأدب المقارن. هذه العلوم جميعًا إضاءاتٌ متعددةٌ لتلك الظاهرةِ المركبةِ من جوانبَ أو عناصرَ مختلفةٍ اتحدتْ – على اختلافها – لتصنع شيئًا مُدْمجًا مُعَيَّنًا هو المسمى باللغة على العموم، أو باللغة العربية على الخصوص. تلك الظاهرة الفذّة الغريبة العجيبة التي يشهد تأملها بأن العالم المسمى بالماديّ ليس هو كل شيء. إن معه أو وراءه عالما آخر، من جنسٍ مختلفٍ بتاتًا عن جنس المادة. يشهد بأننا لسنا وحدنا في هذا “العالم”. ولكن هذه الشهادة لا تتيسر لكل أحد. ليس سهلًا أن يتجلّى لكل أحد ما تدلُّ عليه تلك الظاهرة المركبة المعقدة الفذة الغريبة العجيبة. وليس سهلًا قبلُ أن تكشف اللغة عن أسرارها لكل أحد. لكنْ مِن فضل الله على عباده أن هيَّأ فئةً لطلب تلك الغاية النبيلة، أقْدرهم على الفحص والغوص استكشافًا لتلك الأسرار، لتحليل المدمج، لإضاءة الجوانب المتعددة من تلك الظاهرة التي تبدو شيئًا واحدًا لا تعدد فيه عند التعامل معها أو استعمالها، هُمْ علماءُ اللغة. وهم الذين كشفوا شيئًا فشيئًا عن علومها، وما يزال سعيهم متتابعًا . وسيبقى بلا ريب ما بقيت الحياة وما بقيت اللغة، لأن اللغة كائن حيّ، معَرَّضٌ للمؤثرات المختلفة ككل كائن حي. وبعضُ وظيفة علماء اللغة أن يتابعوا تلك الحياةَ المتجددة، أو يراقبوها، أن يتفهموا ما يطرأ من مؤثراتٍ حتى لا يُسيءَ إليها، وحتى تبقى مؤدية لوظيفتها التي خُلقتْ لأجْلها أحسنَ أداءٍ ممكن. بَعضُ وظيفتهم أن يكونوا حُرّاسًا عليها، حُماةً لحِماها. أدعو الله أن تكون يومًا ما أحد أولئك الحراس، ولِمَ لا ؟ لقد بدأتَ، الطريقَ الطويلَ. نعمْ. لكنك بدأت الخطوة الأولى فيه، دلّ على هذا كلامك عن الغاية من طلب اللغة، أو علومها، أو العلوم كلها على وجه العموم. أعانك الله وأتمَّ عليك هداه.
حَفَزَ العربَ إلى إنشاء النحو طروءُ “اللحن” على ألسنة بعض عامّتهم، أي الخطأ. قال رسول الله تعقيبًا على لاحنً لَحَنَ “أرشدوا أخاكم، فقد ضلّ”. أي جهِلَ الصواب. وانزعج عُمرُ للحنٍ آخر. بدأ اللحن حوادثَ فرديةً شاذة. لكنها كانت كافيةً لحفز ولاة الأمر إلى تدارك ذلك الأمر الخطير. وُجِد اللحنُ، ووُجِدَ التأذّي من اللحن. وانبعثت همةُ الحراس للعمل. وبدأ أبو الأسود الدّؤلي، بتوجيه من عليٍّ بن أبي طالب، الخطوة الأولى، التي صارت بعد زمن غير طويل حركةً علمية ضخمة، من أعلامها الخليلُ وسيبويهِ والكسائي والأخفشُ، وغيرهم من العباقرة الأفذاذ مصابيحِ الهدى. واستمرت الجهود، هائلةً ضخمةً، ولكنها لم تفلح مع هذا في وقْف عوامل الهدم. وبعد زمن من الصراع بين اللغة ولحن العامة شاع اللحن حتى استبدّ، ونشأت إلى جانب العربية الفصحى عربية أخرى صنعها الجهلُ والتهاون من ناحية، ودخولُ غير العرب في الإسلام أفواجًا من ناحية أخرى. ولم تزل العاميةُ، أو العامياتُ، تقوى حتى صارت العربية غريبةً في ألسنة أهلها، وصرنا نتعلمها الآن كأنها لغة أجنبية، وصرنا فريقين في مواجهة الأزمة، بعضنا لا يبالي، وبعضنا يقاوم وسط أحوال اجتماعية غير مساعدة. ولا يزال الخَطْبُ مشتدًا، وسيزداد – أغلبَ الظن – شدةً مع الأيام مع انحطاط الأمة العامّ علميًا وأخلاقيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعد. الظلام كثيف، ولكنا مأمورون بالسعي والعمل، وكراهة العجز والفشل. ولن يدفع الظلام إلا رجال، رجالٌ خلقهم اللهُ أصحابَ أنَفَةٍ وغَيْرةٍ وصلابة. مِثلُ هؤلاء لهم وجودٌ عندنا، صاروا قلةً، لكنهم موجودون، وهم كذلك موجودون عند غيرنا. أعني عند أعدائنا. الرجولة خُلُق، أما الدِّين فشيء آخر، يُضافُ إليها أو لا يُضاف. أدخلَ الإنجليز الأفيون إلى الصين أيام احتلَالهم لها لإضعاف أهلها وصرْفهم عن العمل الجادّ المخوف. لكنْ وُجِد فيهم رجال كرهوا الضعف والهوان، وعزموا على المقاومة. وبدأت الحرب بين الطرفين. الإنجليز الطرف القوي، والصينيون الطرف الضعيف. وفي أول معركة خاضوها بزعامة “صنْ يات صنْ” انهزموا. فانظرْ، وتأملْ ماذا كان ردُّ الفعل. قال الزعيم لأصحابه: “هذا فشلُنا الأول”. الأول!! أي سيجيء فشل ثانٍ وثالث، لكن الفشل لو تتابع يجب أن لا يكسرَ عزائمنا. تلك طبيعةُ الحياة، وطبيعة الحرب، كرٌّ وفرّ. إنْ أصابنا اليوم قَرحٌ فغدًا يصيب عدوَّنا قرحٌ مثله. هذا هو نوع الرجال المطلوبين لوقْف الطوفان الذي يجتاح هذه الأيامَ بلادَ العرب والمسلمين.
ولهذا أنكرتُ رأيَك في الرجل الذي تتربص الدنيا به هذه الأيام. وما تربصتْ به إلا لأنه أَبَى. أَبَى وفي استطاعته أن لا يأبى. في استطاعته أن يكون مِثْلَ غيره. ما أسهل هذا.
هكذا علّمنا المتنبي:
مَنْ يَهُنْ يسهلُ الهوانُ عليه؛ ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ
دعوتُ الله أن يتمَّ عليك هداه. ومن تمامِ الهدى أن يكون المسلمُ ذا إباء، أن يكون رجلًا.
تفرعَ الحديث. إنه حقًّا ذو شجون. فلنعدْ إلى الغرض الأصلي. وعسى أن يكون في تلك الشجون ما يفيد.
ذلك الذى تعاني منه، وترجو الخلاص منه، يرجع إلى سببين، ذكرتَ أحدَهما، وهو الخاصُّ بك، أو بالفترة العصيبة التي قدّر اللهُ أن تتخبط فيها، وأن تتلعب بك الشياطين، ولكنْ هناك سببٌ آخرُ عام هو سوء التعليم. وسوء التعليم عندنا تاريخ طويل، نسجته عوامل متعددة، من أبرزها العوامل السياسية، وكيد العدوّ لنا حتى نبقى متخلّفين دائمًا عنه. و نجح العدو، وبقينا متخلفين حتى الآن، بل إن التخلف يزداد، وما زَعْمُ الزاعمين بغير هذا إلا لَغَطٌ يُرادُ به التعميةُ علينا حتى نظل مخدوعين بالقشور، مستسلمين لسوء الحال، ونحن نحسب في غفلتنا أنا نتقدم لأنا نلتقط فتاتًا من موائد الحضارة الغربية المنتصرة. وقد بلغ بنا سوء الحال أن مناهج التعليم يقررها في وزارة التربية مستشارون أجانب.
كان يقررها قبل سبعين عامًا الإنجليزى “دنلوب”، عَلَنًا، ولكنْ يقَررها الآن أجانب لا نعرف أسماءهم، لأن الأمر يجري في غير العَلَن. وسواء قررها أجانبُ أو غير أجانبَ فالنتيجةُ واحدة، هي ما يريده غيرُنا لا ما نريده نحن. وهل نحن نريد ؟! إن الإرادةَ أمر صعب. لأنها تَقتضى الحرية والاستقلال، وقد فقدتهما الأمة منذ زمن بعيد. أما نصوص الدساتير فحبر على ورقٍ، واأسفا. ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد.
من مظاهر سوء التعليم – فيما يتعلق بموضوعنا – أن اللغة العربية عُوملت معاملة إحدى المواد المقررة، ولم يُنظرْ إليها كما كان الواجب أن يُنظر إليها، على أنها علمُ العلوم، العلم الذي هو الطريق إلى كل علم سواه. يُشْكَل كتابُ النصوص، أو المطالعة، ولكنَّ كتبَ التاريخ والجغرافيا والطبيعة والكيمياء وغير ذلك من المواد المقررة لا تُشْكل. كأن هذه الكتب شيء مختلف عن كتب “اللغة العربية” وهي – لو اختلفت النظرةُ واستقامت – كتبُ لغةٍ قبل كل شيء. اللغةُ واحدة، لا فرق بين أن يُكتب بها شعرٌ لامرئ القيس ووصفٌ للجهاز الهضمي وعَرْضٌ “لنظرية” “ذات الحدّين”. والشكلُ جزء لا يتجزأ من طريقة كتابة العربية. وُضِع لغرضٍ، ولم يُوضع ليُهْمل. وُضع لمساعدة العين على متابعة الكلام والتقاط المعنى تَوًّا. اللغةُ صوامت Consonants وصوائت أو متحركات Vowels، وعلامات الشكل هي الدالة على الحركات، أي على نصف اللغة، بل على نصفها الأهم. وقد كان الواجب، وقد أُهملتْ إهمالًا عامًا، أن لا تشاركَ وزارات التربية والتعليم -وهي جهةُ اختصاص وظيفتُها أن تفطن إلى ما لا يفطن إليه غيُرها- في ذلك الإهمال، ذلك الجُرمِ الكبير. ومظهرٌ آخر، قلةُ الوقت المخصص لدرس العربية في المدارس. وقتٌ كوقت أي مادة. كان الواجب أن يتضاعف الوقت.
يُقال مِن أين نأتي بالوقت المضاعف، وهو قسمة بين موادَّ متعددةٍ يجب الوفاء بتدريسها جميعًا في اليوم الدراسي؟ الجواب سهل. مِنْ إزالة عيبٍ فاشٍ في الكتب التعليمية كلها، باعتراف وزراء التربية أنفسهم، هو “الحشو”. يَعْنُون به أن الكتب مليئة بما لا حاجة إليه. ولو تخلصنا من الحشو أمكن إعادة توزيع الوقت بحيث يذهب الوقت الذي يُنفق في تحصيل الحشو إلى اللغة العربية للقيام بالمنهج الصحيح في تعليمها. والحشوُ هو كل معرفة تُعطى للطالب في غير الوقت المناسب. وما أكثرَ هذه المعارفَ في كتبنا. وشيوع هذه الآفة في كتبنا يدل على أنا نجهل أو نتجاهل الغاية الصحيحة من التعليم. إن الغاية الصحيحة من التعليم ليست إعطاء المتعلم “معارفَ” أو “معلومات”. ولكنها تهيئة عقله للعمل. أي للحركة المستقلة. أي للإبداع. وفرقٌ ضخم بين أن يُكتب الكتاب ليبتعث نشاط العقل أو بيْن أن يُكتب ليكون رُكامًا يُنقل من الكتاب إلى ذهن قارئ الكتاب. أي يُنقل من مخزنٍ إلى مخزن. لم يَخلق الله العقلَ ليكون مخزنًا، وإن كان التخزين من وظائفه، ولكنْ خَلَقه للتفكر. للتساؤل. للتعجب. للكشف عن الجديد. لاستشراف المستقبل بعد إحسان فهم الماضي. يتحدث الخبراءُ بين الحين والحين عن هذه الغاية الجليلة، ويَكذبُ بعضهم فيزعم أن الوزارة تتوخاها. ادّعاء في ادّعاء. كلامٌ رأوْه في كتب الأجانب، فأخذوا في ترديده كالببغاوات. وهُم بين جاهل سيئ الفهم، أو عارفٍ سيئ النية. وقد عانت العربية كما عانى كلُّ علم سواها من “الحشو” ومن “التخزين”، ومن فقدان الهدف الأول من التعليم، أن يصبحَ المتعلمُ يومًا ما قادرًا على أن يَعْلمَ بنفسه.
ومظهرٌ ثالث هو نتيجة لما سبق. أن العربية تُدرس على أنها طائفةٌ من “المعارف” أو “المعلومات”. (أذكرُ أن وزارة التربية والتعليم كان اسمها أيام الاحتلال الإنجليزى وزارة “المعارف”، وأن الاسم تغيّر في عهد “الثورة”. لكنه – واأسفا– لم يتغيّر لإحلال غاية جديدة محل الغاية التي ظُن أولَ الأمر أن “الثورة” عَرَفَتْ خطأَها، بل ظل الأمر على حاله، بل ازداد سوءًا، وصارت الوزارة أَدْخَلَ في “المعارفية” أو “المعلوماتية” منها في “التربية”. أغلبُ الظن أنهم نظروا إلى “التربية” من الناحية الخلقية، لا من الناحية الأهم للتعليم وهي أنها تربية للعقل وإقدارٌ له على أن “يعرفَ” أو “يعلمَ” مستقلًا عن المدرسة والمعلِّم بعد سنوات التعليم .) متعلمُ العربية في مدارسنا يتلقّى ركامًا من معلومات متناثرة عن علوم العربية، مطلوبًا منه تحصليها واستظهارُها وقت الامتحان، كما يفعل في كل مادة أخرى. تحصيلٌ للتفريغ. كأنه زمبيل، يُملأ ثم يُفرغ، ثم يُملأ ثم يُفرغ. زمبيلٌ لا عقلٌ متحرك جيّاش مبدع. فرقٌ ضخم بين أن تُعلَّم النحو معارفَ متفرقةً متناثرة وأن تُعلمه ليكون وسيلة متضافرةً مع وسائِلَ أخرى لإنطاق اللسان باللغة عفوًا صحيحةً مُبِينةً، وأحيانًا عند أصحاب المواهب “جميلةً”.
لكل ما تقدّم وجدتَ نفسك تعاني صعوبة فى فهم لغتك. مع أنك حاصلٌ على الدرجة النهائية في النحو. لكل ما تقدّم – ولغيره، أقول إن الموضوع صعب ودقيق وواسع. وأنوي إن شاء الله، أدعوه العون عز وجل، عملَ كتاب فيه، يعالج المشكلة في زواياها المختلفة.
والآن علينا أن نقطعَ هذا الاسترسالَ الذي قد يبدو بعيدًا عن صلب الموضوع، ولكنه لم يكن منه مناصٌ، فإن طبيعة الموضوع هي التي فرضته. أنت تريد “منهجًا متدرجًا” كما تقول للتغلب على بُطء الفهم، “وعدم المقدرة على جدولة ومنطقة الأفكار بالسرعة المطلوبة” حسب عبارتك. ولو أني عرضتُ اقتراحاتي لعلاج العيب بعيدًا عن بيئته أو مجاله، أو “الظاهرة” التي تكتنفه[ انظر أول هذه الرسالة ] لما أقنَعْتك الإقناع المطلوب لمن كان في مثل سنك. أنت الآن في أيامك الأولى من الرابعة والعشرين. رجلٌ كاملُ الرجولة. مرشحٌ لأن يكون صاحب شأن. تقول إنك انصرفت عن فكرة الاشتغالِ سائقَ سيارةِ أجرةٍ لأنك لم تخلق لهذا، “بل خُلقتَ لما هو أجل”. وهذا كلام طيب جيد. وهو يرضيني. وهو ما كان أملًا لي عبَّرتُ عنه في الأبيات التي قلتُها لتُنشد احتفالًا بيوم ميلادك العاشر، لتكون بديلًا للعبارة الإنجليزية التي جرتْ بها العادةُ – واأسفا– في بيوتنا ونوادينا. كانت بدايةَ تغييرٍ أردتهُ متدرجًا حتى يأتيَ التغيير الأكبر وهو تَرْكُ الاحتفال بتاتًا بما يُسمى “عيد الميلاد”. أنت الآن رجل أراد الله له – حمدًا له عزَّ وجلَّ – أن يُفيقَ من ضلاله ويعرفَ متعة الصلاح والاستقامة، بعد أن زيّن له إبليس ما زيّن. رجلٌ لا طفلٌ. وطريقةُ تعليم الرجال غيرُ طريقة تعليم الأطفال. الأطفالُ يُعوّدون ويُؤمرون ليفعلوا حسبَ العادةِ والأمرِ ما فيه صلاحُهم، أو ما يُرى أن فيه صلاحَهم. أمّا الكبار فقد صاروا بشرًا ذوي عقول اتسع إدراكها للأشياء وللدنيا بحكم السن. فهم يتساءلون عما يفعلون أو يُطلب منهم فعلُه. لهذا وجدتُ من اللازم قبل أن أقول لك افعلْ أو لا تفعلْ أن تعرفَ شيئًا عن السياق العام للمشكلة اللغوية في بلادنا. أنْ تعرفَ أنَّ المشكلة ليست خاصةً بك، بل إنها مشكلة قومية. عسى أن يوفقك الله يومًا – إذا صرت ذا شأن وصاحب قدرةٍ لغوية- إلى عملٍ نافع للأمة كلها. المشكلة ليست خاصةً بك. والمشكلة -بعدُ- ليست جديدة. عَرَفها- وعانى ما عانيتَه، لكنْ لأسبابٍ تختلف بعض الاختلاف- الشيخُ محمد عبده، رحمة الله عليه. عندما بلغ الرابعة عشرة كان قد حفظ القرآن الكريم، حفظه في عامين، وعندما بلغ السابعة عشرة هَرَبَ من بيت أبيه إلى بيت خاله ضِيقًا بنظام التعليم في الجامع الأحمدي بطنطا. كان أبوه مُصرًا على أن يتعلم، وأصرَّ هو على أن لا يتعلَّم. وكان السببُ الذي دفعه إلى الهروب شبيهًا إلى حدّ ما بما وجدتَه أنت الآن من صعوبة في فهم العربية. وَجَدَ نفسه لا يفهم ما يُلقى إليه . وجدَ نفسَه بين أمرين : أن يحفظ حفظًا ما لا يَفهم ليفرغه يوم الامتحان، أو أن يَترك العلم والتعليم إلى عمل آخر لا يكلفه تلك المعاناة التي تشُق على ضمير مفطورٍ على الصدق مع النفس. واختار الهروب. لكن الله كان مريدًا له غيرَ ما أراد لنفسه. وقدَّر له أن يلتقي في قرية خاله برجل متصوف، على شيء من العلْم باللغة والدين لم يزل به حتى أزال من نفسه الجفوة، ويسَّر له فهْم ما لم يكن يفهم، وفتح شهيته للعلم حتى عاد من تلقاء نفسه إلى الجامع الأحمدي لاستئناف الدرس. وانفتح له ما كان مغلقًا، وسار في طريق النور حتى صار أحد رجالات الإسلام البارزين في العصر الحديث. سأل شيخَه المتصوفَ ما وِرْدكم؟ فقال الشيخ: لا شيء إلا القرآن. نَقْرأُ أربعة أرباع بعد كل صلاةٍ مفروضةٍ قراءة فهم وتدبر. قال الفتى: وأنَّى لي بفهم القرآن؟ اُنظرْ واعجبْ!! غلامٌ حَفظ القرآن في الرابعة عشرة، وفي السابعة عشرة يجد نفسه عاجزًا عن القراءة المتفهمة المتدبرة للقرآن. ثم يصبح هذا الفتى الذي عَرَفَ ذلك العجز في أول الشباب أحدَ مفسِّري القرآن بعد أن شاء الله أن ينضج. سبحان مَن بيده كل شيء !
في بداية هذه الرسالة قلتُ إن شكواك تُطمئن. لأنها تدل على أنك تتثبت وتتوقف طلبًا للمعنى. تلك صفةُ أصحاب الرهافة الفكرية. وقد كان أحدَهم”محمد عبده “. وسيرتهُ الدليل. وأدعو الله أن تكون أنت كذلك أحدَهم. وأن يطيل عمرك في عمل الخير حتى تكون سيرتُك دليلًا على موهبةِ الله لك؛ الرهافةِ؛ الشعورِ بأن الفكر أمانةٌ ووديعةٌ نحن مسئولون عنها. كان ” محمد عبده ” أَشَبَّ منك عند إحساسه بالمشكلة. وتأخرتَ أنت بضعةَ أعوام. أراد اللهُ. لا بأس. لقد حمدتَ اللهَ على ما أصابك. وهذا خير، بل هو أعظم الخير. ولكنْ انتبه. حمدُ اللهِ ليس شيئًا إذا لم يصاحبْه الصدق. والصدقُ ليس كلمة. الصدق عمَل. يجب بعد حمدِ الله واستشعار المشكلة أن يكون عملك مصدّقًا لشعورك. أن يتوالى سعيُك نحو “المعنى”. نحو ” المعرفة “. المعرفة الصحيحة. نحو ” الله “.
والآن أقترح عليك ما يلي :
1 – انتفعْ بالسَّحَر. وبما يشْبهه؛ أعني بأوقاتك بعد النوم في ليل أو نهار. الفكرُ جُهد. وجُهد صعب. يتطلبُ أن يُقدم عليه المرء موفور العافية. والعافيةُ هنا عافية العَصَب قبل عافية العَضَل. فإذا كان الجهازُ العصبي مستريحًا مستجمًا أقْبل العقلُ على عمله في نشاط وانبساط وحَسُنَ تحصيلُه. يَعمل العقل في كل وقت وكل حال. لكنَّ عملَه ساعةَ الجَمامِ خير من عمله في غيرها. وكثيرًا ما ينحلّ الصعب في تلك الساعة، ويأتيك الله بنوره في غير تعب. أو هكذا يُهيَّأ للمرء. والحقيقة أن الله يسعَى إلى من يسعَى إليه. اجْهَدْ واجْتَهِد وانتظرْ أن تسقط الثمارُ بين يديك كأنما تسقط من تلقاء نفسها .
2 – حاولْ تَرْكَ اللغو. واللغوُ هو كل قول، أو فعلٍ، لا لزوم له. وترْكُ اللغو إحدى صفات المؤمنين: ” قد أفلح المؤمنون … والذين هم عن اللغو مُعْرضون”، ربما قلتَ وما عَلاقةُ اللغو أو تَرْكُ اللغو بما نحن فيه. أي باللغة ووسائل إجادتها؟ العلاقةُ قائمةٌ ووثيقة. اللغوُ إعمال للفكر فيما هو تافه أو سخيف. أي إعمالٌ للّغة في غير ما خُلقتْ له ؟ وهو البيان. “… خَلَق الإنسان علَّمه البيان”. فإذا اعتاد اللسانُ اللغو ضعفتْ قدرة العقل على العمل الصحيح. العملِ النافع. وشيئًا فشيئًا تصبح اللغة عجفاء فقيرة لا تقوى على الحركة الصعبة عند الحاجة. لذلك تجدُ أهل اللغو ينفرون من مجالس الجدِّ والعِلم، لأنها تكلفهم ما لا يَقْوَوْن عليه. واعلمْ أن هذا الذي أطلبه منك شيء صعب. وعليك أن تستعين اللهَ عليه. لأن اللغو مَرضٌ فاشٍ في الناس.
3 – اللغةُ أربعةُ وجوه: منطوقةً، ومسموعةً، ومكتوبةً ومقروءةً. وبَيْنَ النطق والسمع صلةٌ، وبين الكتابة والقراءة صلة. وبينها جميعًا صلة. ومِن عيب التعليم أن يُعنى بوجهٍ ويُهمَل وجه. وهذا هو الحاصلُ في مدارسنا. ولهذا قلما تجدُ مَن يحسنها جميعًا. هناك أمثلة مؤسفة. أساتذة جامعيون يخطئون في المحافل أخطاءً بشعة. بلا أدنى شعور بالخطأ. مشكلتُك أنك تجدُ صعوبة في فهم المقروء. ستُعالَج هذه الصعوبةُ بإذن الله. لكنْ لو اكتفيتَ بإحسان القراءة وأهملتَ سائر الوجوه فقد تجدُ نفسَك غيرَ مجيدٍ للكتابة، أو غيَر مجيد للتعبير عن نفسك إذا طُلب منك الحديث إلى الناس بالعربية، أو غيرَ قادر على متابعة المعاني وهي تتتابع من متحدثٍ مُجيدٍ للعربية متصرفٍ بها تصرفًا واسعًا. والصوابُ العنايةُ بالوجوه كلِّها بقدر الإمكان معًا. أعرفُ أن هذا غير متيسر، لكنْ يجب أن تحاول. ويجب أن تكون عالما بما هو مطلوب منك حتى تتجنب الضرر المتوقَّع من إحسان شيء وإهمال شيء. عليك أن تقرأ كلَّ يوم. وأن تكتب كل يوم. وأن تستمع كل يوم إلى عربية جيدة من متحدثين محسنين. وأن تنطق اللغة كل يوم قارئًا قراءة جهريةً ربعَ ساعةٍ مستمرةً من نصًّ جيد مكتوب مشكول. ثم تترك الورقة وتتناسى ما قرأت، وتتخيل نفسك تواجه جمهورًا وتكلمُه ببعض المعاني التي بقيت في نفسك مما قرأت، أقولُ بقيتْ في نفسك – لا في ذاكرتك – دقيقةً واحدةً، تزيدُها كلما آنست القدرةَ على الزيادة. هكذا تَعمل اللغة بكل وجوهها معًا. اللغةُ يُفضي بعضُها إلى بعض، يقوِّي بعضُها بعضًا. يصقل بعضُها بعضًا. هكذا يمكنك شيئًا فشيئًا أن تستخلص لنفسك لغةً مختارةً مُسعفةً إذا تحدثتَ، مسعفةً إذا كتبت، تعينك إلى حد كبير إذا استمعت إلى حديث غيرك، وإذا قرأتَ ما كتبه غيرك.
4 – تقولُ في رسالتك:” أقترح أن تضع لي منهجًا متدرجًا حتى لا أضيّع الوقت في دراسة وقراءة كتب لا ينبغي أن تُقرأ الآن”. ما الكتبُ التي لا ينبغي قراءتُها الآن؟ ابنُ عقيل وابن هشام؟ الكامل والأغاني؟ طبقاتُ الشعراء والبيان والتبيين؟ امرؤ القيس وحسان وجرير والمتنبي وأبو العلاء؟ محمد عبده وطه حسين والعقاد؟ ليس هناك كُتب لا ينبغي قراءتها الآن عند رجل يُعِدُّ نفسه ليكون أحدَ العارفين بالعربية. أقول “عند رجل”، انتبه. لم تعدْ طفلًا، ولا غلامًا. أنت ” الآن ” في السن التي يجب عليك أن تأخذ فيها عن كل مصادر اللغة. إذا لم ترجع “الآن ” إليها فمتى؟ أما الصعوبةُ التي تواجهها فلا يصح أن تَثنيَك عن الإقدام على ما لا تفهم ومعالجته حتى تفهم . ولا تُسيئنَّ فَهْمَ ما صنعه “محمد عبده” أولَ الشباب.
مشكلة “محمد عبده” الغلامِ أنه لم يجدْ مَن يدلّه على كيفية قراءة الكتب ذاتِ اللغة الصعبة . مشكلته كانت نظامَ تعليمٍ فاسد، وأنه لم يكن في تلك السن المبكرة قادرًا على أن يعرفَ فساد النظام ويطلبَ بنفسه الوسيلة إلى معالجته. فلمّا قيّض الله له من يُحببه في اللغة ويفكُّ مغاليقها له عاد مِن تلقاء نفسه إليها وصار شخصًا غير الذي كان، حتى كره أصحابَه الذين كانوا يُغْرونه بتركِ العلم والإقبال على اللهو. يقول صرتُ أفرُّ منهم كما يفرُّ السليمُ من الأجرب. وانتبهْ، كان في السابعة عشرة لا في الرابعة والعشرين. دعْ عنك تلك الفكرة. وابدأ. والخطْبُ هيّن. ماذا في أن تقرأ الجملةَ مرارًا لا مرةً واحدة؟ وأين هو العلمُ –لغةً أو غيرَ لغةٍ– الذي يعطِي نفسه لطالبه توًّا وفورًا ؟! الخطْبُ هيّن. ما عليك إلا أن تصبر على ما لا تفهم، وأن تطلب الوسيلة إلى الفهم حتى تفهم. وإن لمْ تجد شيخًا يُعِينك كالذي أعان “محمد عبده” فكنْ شيخَ نفسك. أعني أنَّ لديك الوسائلَ الموصلة إلى الفهم، أو بعضَها، فإذا عرفتَ كيف تُفيدُ منها كنت شيخ نفسك.
لديكَ المعاجم. ومِن حُسن حظك أن في بيتك لسانَ العرب، والقاموسَ المحيط. وغدًا تضيف بإذن الله إليهما. وبين يديك تحقيقُ الشيخ محيي الدين عبد الحميد لكتب النحو. وقد ذلل فيه كثيرًا من صعوبات تلك الكتب. وبين يديك بعضُ الكتب المشروحة. إن لم تكن في البيت فاحصلْ عليها. ولديك رجلٌ أقدره الله على أن يكون مفيدًا في تذليل بعض الصعب، يمكنك أن تقصدَ إليه بين الحين والحين. يقيم في “القطّا”، يُقال إنه سجين، ويقول هو إنه غيرُ سجين، لأن الله أعطاه روحًا طيّارةً طوّافةً لا تعتاقُها الأسوار.
ولديك بعدَ هذا وقَبْل هذا فضلُ الله، وسعيُه إليك إذا سعيتَ إليه. سيعطيك من فضله إذا دعوته وأخلصتَ الدعاء. إذا شقّ عليك شيءٌ فاتركْه، وارجعْ إليه في السَّحَر. قد يفتَح اللهُ عليك من حيث لا تدري.
إذا جئتَ إلى العقبة فلا تترك الكتاب. أشرْ إليها وتَخطَّها. قد تجدُ في الكتاب نفسِه ما يزيلها بعد اجتيازها. وقد تجدُه في كتاب آخرَ للكاتب نفسه أو لغيره. كثيرًا ما يحصُل هذا. وكلما تمرَّستَ بالعقبات وصبرتَ عليها وتعوَّدت التعاملَ معها صرتَ أقْوَى عليها.
5 – اللغةُ كلها عندنا وعند غيرنا ” مسند إليه ” و” مسند “. المبتدأ مسند إليه والخبر مسند. والفعلُ مسند والفاعل مسند إليه. في العربية جملتان، اسمية وفعلية. أما الإنجليزية فالجملة فيها اسمية فقط إلا في حالات نادرة. إذا غمض عليك الكلام فاطْلبْ هذين العنصرين الأساسيين اللذين لا يتركب الكلامُ بغيرهما. إذا أخطأتَ هنا ضاع المعنى. وإذا أصبتَ سهُل عليك أن تعرف بقية الكلام المتوزعةَ حول المسند إليه والمسند، قبْلًا أو بعْدًا أو وَسَطًا. وسيُعِينك على سرعة الالتقاط أن اللغة بطبيعتها قائمة على”الترابط”. الصفةُ والموصوف. الحال وصاحب الحال. البدل والمبدل منه. الجار والمجرور. المضاف والمضاف إليه. المستثنى والمستثنى منه. العدد والمعدود. هذه الصفة اللغويةُ “الترابطُ” بين شيئين هي صفة ” عقلية “. وما العقل وما اللغة؟ كأنهما وجهان لعملة واحدة. إننا نفكرُ باللغة أو عن طريقها. لهذا اعتنى بها أهْلُ العلم أو أهلُ العقل لأنهم عرفوا لها خطرها.
6 – عليكَ أن تتفكّر في المصطلحات. في علل التسميات. فما وُضعتْ إلا بعدَ تأمل طويل لواضعيها في جوانب اللغة أو مظاهرها. سيعينك هذا التفكرُ والتبيّنُ على أن تحس بالمعاني إحساسًا أرهف، معنى العلاقةِ الإسنادية. معنى الابتداء والإخبار. معنى الفِعلية والفاعلية. وهكذا. لماذا سُمي الحالُ حالًا والبدلُ بدلًا والصفةُ صفةً، والاستثناءُ استثناءً، والعطفُ عطفًا، والرفعُ رفعًا، والنصبُ نصبًا، والجرُّ جرٍّا. كلما غُصتَ في هذه العِلل انكشف لك أفقٌ تِلو أفق، وذلَّت لك اللغة شيئًا فشيئًا.
7 – أن تقود سيارةً شيءٌ، وأن تعرفَ حقيقةَ العلاقة بين أجزائها وكيف تدور شيءٌ آخر. ليس من اللازم أن تعرف هذه العلاقةَ لكي تقودها. لكنك لو عرفتها صرت قائدًا أمهر، صرت أَقْدرَ على مواجهةِ الطوارئ أو المشكلات التي تعرض لك في أثناء القيادة. واللغة بِنيةٌ، أو بِنًى. مطلوبٌ لنستعملها أَنْ ندركها “كُلًّا “. وأنْ تُدركها ” كُلًّا ” شيءٌ، وأن تعرف حقيقة العلاقة بين أجزاء ” الكُلّ ” شيء آخر. ليس من اللازم أن تعرف تفاصيل هذه العلاقة لاستعمال اللغة. لكنك لو عرفتَها صرت أعرفَ بها وأعانك هذا على مواجهةِ المشكلات التي تَعرض لك عند الاستعمال. كان خلفاء بني أمية يرسلون بأبنائهم إلى البادية لأخْذ العربية عن أهلها، قبل أن يعرفوا النحو والصرف. ومع هذا كان أولئك الخلفاءُ يجالسون علماءَ اللغة والنحو، ويحفزون العلماء إلى مزيدٍ من العناية بكل علوم اللغة. وتدلُّنا المناقشات العلمية التي كانت تدور بين العلماء في تلك المجالس على أن ” المعرفة التحليلية ” مطلوبةٌ لمزيدٍ من الوعي باللغة، أنّ تحصيل “الكل” أو البِنىَ ليس كلَّ شيء. اللغةُ تركيب وتحليل، بناءٌ لجُمَلٍ، ونظرٌ فاحصٌ لكيفية البناء. هذا مطلوب، وهذا مطلوب. وإذا أردنا أن نحصّل اللغةَ التحصيل الأمثل فيجب العنايةُ بالأمرين معًا. والسبيلُ إلى تحصيل “البنية” حفظُ النصوص المختارة الممتازة، ولا بأس بنسيانها إذا نُسيت. ستكون قد حققتْ الغرضَ منها، تعويدَ اللسان أنْ يلهج باللغة في غير تعمّلٍ أو تكلف. وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ انطبعتْ في العَصَبِ انطباعًا يجعلُها دائمًا “تَحت الطلب”.
اقرأْ، وعندما يعجبك الكلام كررْه، متأملًا ما فيه من جمال، وعُدْ إليه بين الحين والحين تجدْ نفسك “حافظًا ” له، وتجدْه يجيئك – إذا اقتضت مناسبةٌ – عفوًا دون تعمّل أو تكلف. هكذا شيئًا فشيئًا تصبح اللغةُ طوعَ أمرك.
8 – اعتنِ عنايةً خاصة بكل ما تُنَبَّه إليه من أخطاء. كثيرًا ما يكون الخطأُ عادةً تمكّنتْ. ولا يزيلُ العادةَ إلا اهتمامٌ شديد بالإحسان، ونيةٌ، وعزم. تقول في رسالتك “الصبر من أعظم نعم الله التي يرزقها إلى عباده … ” والصوابُ “يرزقها عبادَه” . يتعدّى هنا الفعل إلى المفعول بدون حرف جر. وتقول “ربط الجمل والمعاني ببعضها البعض” والصواب “…بعضِها ببعض ” . وتقول: ” … لو كانت المقالة مصاغةً …” والصواب ” مصوغة” . الكلمةُ مشتقة من “صاغ” والمضارع “يَصوغ”، واسم الفاعل “صائغ” واسم المفعول على وزن “مفعول” [مَصْوُوغ] وينقل إلى ” مَصُوغ ” لعلل مشروحة في علم الصرف. وتقول: ” عدم القدرة على جدولة ومنطقة الأفكارَ” والصوابُ “جدولة الأفكار ومنطقتِها”، لأنه لا يُفصل بين المضاف والمضاف إليه. هما كالكلمة الواحدة. وتقول: ” الوقتُ يتجاوز العشر ساعات” والصواب “عشر” لأنه لا يصح إضافة المعرفة إلى النكرة. وتقول “… طيلةَ حياتنا”، في مثل هذا اعتدتُ أنا أن أقول” طَوَالَ” لتأكدي من صحتها، أما “طيلة” فلا أعرفها. ارجعْ إلى المعجم لتعرف كيف تستعمل. وتقول : ” ولا تصح ولا تستقيم العبادة … ” والصوابُ ” لا تصح العبادةُ ولا تستقيم ” لأنه لا موجب للفصل هنا بين الفعل والفاعل. وتقول :” وهذا حال قدوتنا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم”، وهذه لغة حديثة في تمجيد الرسول يَحْسن ترْكُها، والتزامُ ما جرى عليه السلفُ رضوانُ الله عليهم عند ذكره. وهي لغةُ أكثر منها الشيخ كشك حتى أشاعها وأخذها عنه كثير من الخطباء، غيرَ واعين أنها في الحقيقة لا تدل على تمجيد، بل على عكس التمجيد. محمد – بأبي هو وأمي – هو رسول الله المصطفى مِن بين كل أهل الأرض ليكون الرسول الخاتم. ووصفه بأنه معلم يشابه بينه وبين غيره من ” المعلمين”. ثم إن الكفارَ بما جاء به، المكذبين له، لا ينكرون أنه معلم. ولا مانع عندهم من الاعتراف له بهذه الصفة. فإذا كان هذا شأنَهم فيجب أن تكون لغة المؤمنين عند الحديث عنه مختلفة. رحم الله الشيخ كشك. لا يخلو من فضل، لكنه كان يميل أحيانًا إلى إرضاء الغوغاء. والغوغاءُ لأنها غوغاءُ يعجبها الكلامُ الذي “على قدّها”.
9 – طالت الرسالةُ ولم يبق في هذه الورقة إلا القليل وأريد أن أختمها. ولم أقلْ كل ما عندي. أقولُ إن شاء الله إذا مدَّ الله في العمر. أقول أخيرًا قبل أن أتركك إن رسالتك – ولا عليك مما شابها من خطأٍ قليل – تدلّ على أنك بدأتَ تفكر تفكيرًا مستقلًا، وهذه صفة المرشحين لأن يكونوا كتَّابًا. لا يكون الكاتبُ كاتبًا لأنه يقول كلامًا صائبًا، ولكن لأنه يقول ما يقول في لهجة متميزة. وإنما يأتيه التميزُ من إجالة كلام غيره في فكره وشعوره وضميره وتفحصّه ونقده، فإذا كَتب بعدُ فهو يقول كلامه هو، وصوابَه هو، وإن اتفق مع غيره. تلك هي ما يُسمى عندنا بالأصالة، وما يسُمى عند الإنجليز Originality . رسالتُك هذه هي الصفحةُ الأولى من رسالة “ الماجستير” إن شاء الله. اكتبْ كلما انشرح صدرك للكتابة، بل حتى بلا انشراح، تجد اللغةَ تلين، والكلامَ يتحدر. أعانك الله، والسلام .
الحـسّـــاني حسن عبد الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
1,004
آخر تحديث
أعلى