حسين علي محمد ـ قراءة في كتاب «أشياء شخصية» للدكتور عبد السلام العجيلي

هذه هي الطبعة الثالثة من كتاب "أشياء شخصية" للدكتور عبد السلام العجيلي، ويقول في مقدمتها: "هذه الطبعة ليست صورة مكرورة من الطبعة الأولى القليلة في صفحاتها، ولا من الطبعة الثانية المزيدة، ولكنها تُشبه أن تكون كتاباً جديداً. إنها كتاب جديد، لأن ما احتوته من حوارات ومقابلات ضاعف حجم الكتاب قي طبعتيه الأوليين، أو جعله يتجاوز الضعف، هذا مع أني لم أثبت فيه إلا القليل مما تحدثت فيه عن أشيائي الشخصية" كما سميتها عندما أعددت طبعتها الأولى، مكتفياً بهذا القليل من عشرات المُقابلات والمُحاورات الأخرى"(1).
ويضم الكتاب في طبعته الثالثة تسعة وعشرين لقاءً ومحاضرة، يعود أقدمها إلى عام 1965م (حوار مع ياسين رفاعية نُشر في جريدة "النهار" البيروتية (2)، وآخرها كلمة أُلقيت في بيلفور بفرنسا في عام 1999م (3).
وتضم هذه الحوارات الكثير من المحاور التي تتناول حياة العجيلي الأديب والطبيب والإنسان، ومواقفه الاجتماعية، ورؤاه السياسية، واعترافاته الذاتية .. ممّا يجعله كتاباً لا غنى عنه لمن يريد دراسة هذا الكاتب الكبير، والتعرُّف على عالمه الإبداعي.
لكننا نجد في الكتاب أربعة محاور، من العسير أن يتجاهلها قارئ الكتاب، لأنها تتردّد بكثرة في أكثر من حوار ومُحاضرة، نشير إليها في هذا العرض إشارات سريعة:
1-من القومية إلى الإنسانية
في كثير من الحوارات يُشير العجيلي إلى حبه العرب وتعلقه بهم، ومع هذا فهو لا يحمل نزوعاً عدوانيا نحو الآخرين. يقول له الدكتور محيي الدين صيحي: "على حلاوة ما تعرض من أحاسيس العربي في مواجهة الأقوام الأخرى، منطلقاً من منظور قومي أو عرقي، هناك ناحية تلفت النظر، وهي فقدان الصدام بين المنظور العربي والمنظور الأوربي. هذا الصدام نجده أحياناً مدمراً عند توفيق الحكيم، ونجده أحيانا عابثا في رواية الدكتور سهيل إدريس "الحي اللاتيني" مثلاً، هناك تساوق وتعايش في روايتك … ليس هناك مأساة باللقاء العرقي، مع ما يبدو من أن المأساة تكون في الصدام الحضاري، فهل هذه الملاحظة واردة في نظركم؟".
فيُجيبه:
"هذا صحيح. الواقع إنني على تعلقي بقوميتي، وعلى حبي لقومي، لستُ شوفينيا. أنا محب للإنسانية، وأعتبر نفسي ـ كعربي ـ جزءاً من الإنسانية. ليس لي مآخذ عرقية، وليس لي التعصب الشوفيني ضد الآخرين. أحب قومي لأنني منهم، وأحب الآخرين لأنني منهم كذلك … ليس لديّ أو لدى أبطالي حقد حتى إذا حلّت بهم المصائب"(4).
2-بين الطب والأدب
يُمارس الدكتور عبد السلام العجيلي مهنة الطب منذ أكثر من خمسين عاماً، وتأخذ مهنته منه وقتاً طويلاً. يقول: "أعترف أني أعمل عشرين ساعة يوميا، فالمرضى لا ينتظرون، ولا يبقى لي كي أكتب سوى النزر اليسير من الوقت، وللقراءة بالتالي وقت أقل"(5).
ورغم شهرته في الأدب لم يترك مهنة الطب، مما جعل بعض محاوريه يسألونه لماذا لم يتفرّغ للأدب، فكانت إجابته التي تكررت في بعض المحاورات:
"كثيراً ما أُردِّد كلمة تشيخوف على من يسألني هذا السؤال، حين قال: "الطب زوجتي والأدب عشيقتي"، وهو ما يعني أن الطب هو الواجب والمستقر، بينما الأدب هو المتعة واللذة النفسية. وأضيف للذين يُطالبونني بالتوقف عن ممارسة الطب لأتفرّغ للأدب: إنكم بهذا تُفضلون متعكم الشخصية على الوفاء بحاجة من يحتاجون إلى خدماتي الطبية، هذا من ناحية. ثم ماذا تريدون مني أكثر من إنتاج خمس روايات كبيرة وثلاث عشرة مجموعة قصصية وخمس مجموعات من المحاضرات، وثلاثة كتب على هامش نشاطي الطبي، وثلاثة كتب عن أسفاري، وغير هذا من الكتب المتنوعة؟ ثم إن قيمة الأديب لا تُقاس بالكثرة، فديوان المتنبي يفوق قيمة أبي العلاء المعري الذي ألّف عشرات الكتب، و"أزهار الشر" لبودلير أكثر أهمية من كتب فيكتور هوجو التي تملأ الرفوف"(6).
وحينما يسأله سائل سؤالاً مستفزا عن الأدب والطب: أيهما يحتل المكانة الأولى في حياته، وأيهما يحتل المكانة الثانية، لا يجد مفرا من الإجابة:
"أعتبر نفسي طبيباً، ووقتي مشغول كله بالطب، ولا سيما أنني أعيش في بلدتي "الرقة" على ضفاف الفرات حيث عدد الأطباء لا يزال قليلاً، كنت أشعر ـ ولا أزال ـ بضرورة مُعالجة الناس. لكن الأدب بهالته المتسعة وجاذبيته الآسرة يُغطِّي أحياناً على نشاطي الطبي … الأدب يأتي في المقام الثاني، وقد بدأتُ هاوياً، ولا أزال أعتبر نفسي أديباً هاوياً"(7).
3-العزلة المستحيلة
يرى الدكتور عبد السلام العجيلي أنه "في عصرنا الحاضر تكاد تكون مستحيلة عزلة المثقف في برجه العاجي، منصرفاً إلى لذائذ المعرفة أو إلى متعة الإبداع الفني؛ فالقضايا العامة من محلية وقومية وإنسانية تنفذ إليه مع خبزه اليومي. والمثقف العربي ـ مثل كل مثقف في العالم ـ مسوق إلى الاهتمام بالقضايا الكبيرة، وباتخاذ موقف منها" ( 8 ).
واتخاذ موقف يعني أن للكاتب دوراً سياسيا، ومن ثم أصبح الكاتبُ مسيَّساً، لا يُمكنه أن يبتعد عن السياسة، حتى لو أراد. يقول: "في عصور سابقة كان يمكن لأي إنسان أن يبقى بعيداً عن السياسة، لبساطة الحياة وقلة التواصل بين الناس، ولكن السياسة في العصر الحاضر أصبحت طبيعة ثانية لكل إنسان، والأديب مضطر أن يكون سياسيا من قريب أو بعيد … وبهذا يكون عليه أن يعي دوره وأن يقدر إمكاناته ويؤدي واجباً. عليه بألا تكون كتاباته لمجرد الإبداع والتسلية، بل أن ينتهزها وسيلة ويسلكها طريقة لإفادة الآخرين، بفتح عيونهم على ما ينالهم من ظلم أو ما يتهددهم من مخاطر أو على ما يكون سبيلاً لتحسين عيشهم"(9).
4-استقلاله السياسي
يشير العجيلي في كثير من مواضع الكتاب إلى ارتباط الحرية الشخصية للأديب أو المفكر بالاستقلال عن المؤسسات الحزبية: "أنا حريص قدر الإمكان على حريتي الشخصية، وإذا كنت لم أنتسب إلى حزب سياسي، وابتعدت عن كل منظمة فكرية أو ثقافية … فذلك حرصاً مني على أن لا يحد انتسابي إلى أي مؤسسة من حريتي"(10).
ورغم أنَّه تبوّأ منصب الوزارة، إلا أنه ظل حريصاً على استقلاله السياسي، وعلى عدم الانتماء إلى حزب من الأحزاب. يقول:
"إن تجربتي السياسية والنوع الذي مارست فيه هذه التجربة يتلاءم مع أسلوبي في التعبير ومعتقدي في التفكير، عملت نائباً، وحكتُ وزيراً، وكتبتُ في السياسة دون أن ألتزم بمذهب سياسي معين، وإنما كنتُ أعتقد أن لكل مذهب سياسي في الغالب ناحية تتفق مع المثل الأعلى، وأنا آخذ بها، وأتجنّب نقاط الضعف في ذلك المذهب"(11).
ويرى في التحزب عدواناً على الحرية الشخصية التي يحرص عليها، يقول في موضع آخر:
"لقد نفرت من التقولب، أعني في صب نفسي في قالب جاهز من صنعي أنا أو من صنع غيري، كما حرصتُ دوماً على حريتي الشخصية في التفكير، مثل حرصي عليها في السلوك" (12).
5-حس ساخر
والدكتور عبد السلام العجيلي يكشف في "أشيائه الشخصية" عن حس ساخر في هذه الحوارات حيث يفسر اهتمام البعض بإجراء حوارات معه على النحو التالي: "لستُ الوحيد في التعرض إلى أسئلة … مثلي في هذا مثل الرياضي الذي يكسر رقماً قياسيا، وبائع الحمص الذي يربح ورقة يانصيب، والفائز بجائزة نوبل، والمتسنم منصباً سياسيا كبيراً، والبائس الذي يفقد زوجته وأطفاله في انهيار سقف المنزل عليهم. كلهم عرضة لمثل هذه الأسئلة التي تُرضي غرورهم أول الأمر، أو تشغلهم عن بؤسهم بعض الوقت، ثم لا تلبث حتى تنقلب، إذا جاوزت حدَّها، جحيماً يُضاعف البؤس، ويُنغِّص الفوز"(13).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. عبد السلام العجيلي: أشياء شخصية، ط3، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2000م، ص5.
(2) السابق، ص ص9-24.
(3) السابق، ص ص243-246.
(4) السابق، ص110.
(5) السابق، ص133.
(6) السابق، ص240.
(7) السابق، ص215.
( 8 ) السابق، ص51.
(9) السابق، ص89.
(10) السابق، ص216 ، 217.
(11) السابق، ص60، 61.
(12) السابق، ص75.
(13) السابق، ص7.

أ. د. حسين علي محمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى