في القديم السحيق كانوا يقولون، إما أن تكون فما يأكل أو لقمة سائغة فتؤكل. وإما أن تكون صيادا أو صيدا. هكذا هي الامور كما كانت تجري وسط الغابات في الازمنة الغابرة، حيث العراء والليل مثل النهار. وحيث الانسان أضعف الكائنات في مملكة الحيوانات الأرضية.
يتساءل الكاتب الكبير " إدواردو غاليانو"، كيف تمكنا من العيش والبقاء طوال هذه الازمنة السحيقة عندما كان البقاء مستحيلا؟. ويجيب على هذا التساؤل بالقول: لقد عرفنا كيف ندافع عن أنفسنا معا كجماعة، وكيف نقتسم الطعام فيما بيننا، وكيف نبني بيوتا متشابهة تأوينا معا. هذا هو ما نسميه التضامن الاجتماعي الذي نفتقده اليوم ونناضل من أجل بنائه. فلم يكن الانسان لينجو ويستمر لو فكر فقط بمنطق " أنا ومن بعدي الطوفان" أو البقاء للأقوى.
هذا تاريخ لحضارة انسانية قديمة تم إتلافه وإضاعته، في خضم تاريخ صعد على انقاضه، قام بعد بروز التجمعات الانسانية الكبرى على الانهار والبحيرات، وظهور الملكية الفردية وتقسيم العمل وانقسام هذه التجمعات الطبقي.
من الاكيد ان هذه الحضارة الانسانية الغابرة لم تدم فترة من الزمن قليلة. ولم يكن الانسان القديم كما تصوره لنا الإيديولوجيات العنصرية الراهنة. ذلك الحيوان العاكف على تشذيب الاحجار وصنع الهراوات والرماح للقتل فحسب.
إن الرسوم على جدران الكهوف وسقوفها التي ولدت منذ آلاف السنين، المكتشفة من علماء الحفريات في الصحاري الكبرى لأفريقيا. وهي رسوم لحيوانات مختلفة، ثيران ودببة وخيول و فيلة ونسور وغيرها. لم تكن متخيلة، فقد رسمت عندما لم تكن هذه الصحاري صحاري. وكانت عامرة بالبحيرات والانهار والاشجار التي توفر المرعى لهذه الكائنات .
هذه الرسوم القديمة والطريفة للحيوانات، التي كانت إلى جانبها رسوما لنساء ورجال عراة بلا أعمار. أبدعتها أيادي بدون شك تحتوي على حس مرهف و لا تخلو من حس جمالي. ومن الاكيد انها تختلف عن تلك الايادي التي تصورها لنا الايديولوجيا العنصرية الراهنة كما قلت، كأيادي عارية لقساة يصارعون الوحوش. فكيف وجدوا الوقت الكافي للرسم والنحت؟ وكيف هربوا من وقت تشذيب وصقل الصخر إلى عمل فني بامتياز؟ ينبغي لنا أن نتساءل كيف حصل ذلك؟ فهؤلاء هم من عرف كيف يقتسم الطعام ، وكيف يبني بيوتا متشابهة للمأوى تم يخلد مآثره على سقوف الكهوف.
حقيقة بقائنا واستمرارنا منذ السنين الغابرة هو التضامن الانساني- الاجتماعي، الذي نفتقده الان. وكان يأخذ معانيه آنذاك في الوجود والبقاء. أما اليوم فقد تعمقت معانيه وصار يمتلك اسما لحلم الانسانية الجمعاء، الذي هو النضال الموحد في الطريق الطويل نحو بناء الاشتراكية.
هو نضال يزداد وعيا، بمعنى انه يستند إلى المعرفة العلمية التي راكمتها الانسانية في تجربتها المريرة. ليس لاستعادة ماض قد مضى، فذلك يتناقض مع العقل والعلم والتاريخ البشري. بل لأنه حلم الانسانية الممكن في المستقبل. بسواعد وعقول المنتجين للخيرات المادية والعلمية، وضد الافاقين الذين يقتاتون من جوع وحرمان الاغلبية.
يطرح علينا سؤال، هل يعني انه علينا ان نؤجل كل اشكال التضامن الانساني و الاجتماعي حتى بناء الاشتراكية؟ سيكون هذا الامر مدعاة للسخرية والغباء. أما الذين يزعمون في عملهم اليومي غير ذلك، فهم منافقون وكذابون. فبناء الغد تبدأ أحجاره وملامحه وأسسه في الظهور من اليوم. واليوم هو المحك لصدق النوايا.
أشكال التضامن الاجتماعي والانساني المطلوبة، هي أشكال النضال الأفقي، تتم داخل وبين الطبقات الكادحة والفئات المستغلة والمحرومة. وترسم حدا فاصلا وخندقا بينها وبين الصدقات والاعمال الخيرية، التي توزع في هذه المناسبة او تلك. و تأتي من يد فوقية بهدف الابقاء على الاحوال كما هي وتطويع المحكومين للقبول بها.
فكلما تفاقمت الأزمات واحتدت تبرز الحاجة بين الطبقات الكادحة والمستغلة والمحرومة إلى تقوية أشكال التضامن الاجتماعي والانساني لتعميقها وتعميمها. يقوم بها مناضلات ومناضلين يتواجدون في إطارات مناضلة كالنقابات مثلا، وليسوا محسنين. ومثلما يبرمجون خططهم النضالية للدفاع عن مصالح الفئات التي ينتمون إليها، يضعون الخطط والأدوات الملائمة لتنفيذ مشاريع للتضامن الاجتماعي والانساني. وحتى يكون الفعل التضامني ملموسا وواقعيا، ينبغي ان ينطلق من القطاع المشترك: القطاع المنجمي، قطاع الطاقة، قطاع النقل الحضري العمومي، قطاع التعليم، قطاع الصحة ..الخ.
إن إشاعة قيم التضامن الاجتماعي والانساني لابد ان تسود داخل الاطارات المناضلة سياسية او نقابية أو جمعوية أو أهلية داخل الاحياء الشعبية. ولابد أن تكون مبدئية أي تبتعد عن الحسابات والولاءات الضيقة كيفما كانت، التي كرست تفتيت وحدة الطبقات الشعبية المغربية؛ لتصبح مكشوفة ومخترقة من طرف أعدائها الطبقيين.
هل يمكن ان نعيد هنا أن خسارة العديد من المعارك الصغيرة و الكبيرة في التاريخ النضالي الشعبي المعاصر، كان بسبب غياب التضامن المشترك. أما أعداء قيم التضامن المنغرسين في صفوف الاطارات المناضلة، الذين لا تنقصهم المبررات عن التقاعس والعرقلة ونشر الشكوك. فلا مجال للمهادنة معهم. فالأزمة العامة الحالية التي تعمقت بسبب تفشي الوباء، سوف لن تفلت أحدا. والمسالة محددة فقط في من يأتي دوره. وسيكون اول الخاسرين المعارك المعزولة والصغيرة.
سعيد كنيش
تمارة في 02/09/2020
يتساءل الكاتب الكبير " إدواردو غاليانو"، كيف تمكنا من العيش والبقاء طوال هذه الازمنة السحيقة عندما كان البقاء مستحيلا؟. ويجيب على هذا التساؤل بالقول: لقد عرفنا كيف ندافع عن أنفسنا معا كجماعة، وكيف نقتسم الطعام فيما بيننا، وكيف نبني بيوتا متشابهة تأوينا معا. هذا هو ما نسميه التضامن الاجتماعي الذي نفتقده اليوم ونناضل من أجل بنائه. فلم يكن الانسان لينجو ويستمر لو فكر فقط بمنطق " أنا ومن بعدي الطوفان" أو البقاء للأقوى.
هذا تاريخ لحضارة انسانية قديمة تم إتلافه وإضاعته، في خضم تاريخ صعد على انقاضه، قام بعد بروز التجمعات الانسانية الكبرى على الانهار والبحيرات، وظهور الملكية الفردية وتقسيم العمل وانقسام هذه التجمعات الطبقي.
من الاكيد ان هذه الحضارة الانسانية الغابرة لم تدم فترة من الزمن قليلة. ولم يكن الانسان القديم كما تصوره لنا الإيديولوجيات العنصرية الراهنة. ذلك الحيوان العاكف على تشذيب الاحجار وصنع الهراوات والرماح للقتل فحسب.
إن الرسوم على جدران الكهوف وسقوفها التي ولدت منذ آلاف السنين، المكتشفة من علماء الحفريات في الصحاري الكبرى لأفريقيا. وهي رسوم لحيوانات مختلفة، ثيران ودببة وخيول و فيلة ونسور وغيرها. لم تكن متخيلة، فقد رسمت عندما لم تكن هذه الصحاري صحاري. وكانت عامرة بالبحيرات والانهار والاشجار التي توفر المرعى لهذه الكائنات .
هذه الرسوم القديمة والطريفة للحيوانات، التي كانت إلى جانبها رسوما لنساء ورجال عراة بلا أعمار. أبدعتها أيادي بدون شك تحتوي على حس مرهف و لا تخلو من حس جمالي. ومن الاكيد انها تختلف عن تلك الايادي التي تصورها لنا الايديولوجيا العنصرية الراهنة كما قلت، كأيادي عارية لقساة يصارعون الوحوش. فكيف وجدوا الوقت الكافي للرسم والنحت؟ وكيف هربوا من وقت تشذيب وصقل الصخر إلى عمل فني بامتياز؟ ينبغي لنا أن نتساءل كيف حصل ذلك؟ فهؤلاء هم من عرف كيف يقتسم الطعام ، وكيف يبني بيوتا متشابهة للمأوى تم يخلد مآثره على سقوف الكهوف.
حقيقة بقائنا واستمرارنا منذ السنين الغابرة هو التضامن الانساني- الاجتماعي، الذي نفتقده الان. وكان يأخذ معانيه آنذاك في الوجود والبقاء. أما اليوم فقد تعمقت معانيه وصار يمتلك اسما لحلم الانسانية الجمعاء، الذي هو النضال الموحد في الطريق الطويل نحو بناء الاشتراكية.
هو نضال يزداد وعيا، بمعنى انه يستند إلى المعرفة العلمية التي راكمتها الانسانية في تجربتها المريرة. ليس لاستعادة ماض قد مضى، فذلك يتناقض مع العقل والعلم والتاريخ البشري. بل لأنه حلم الانسانية الممكن في المستقبل. بسواعد وعقول المنتجين للخيرات المادية والعلمية، وضد الافاقين الذين يقتاتون من جوع وحرمان الاغلبية.
يطرح علينا سؤال، هل يعني انه علينا ان نؤجل كل اشكال التضامن الانساني و الاجتماعي حتى بناء الاشتراكية؟ سيكون هذا الامر مدعاة للسخرية والغباء. أما الذين يزعمون في عملهم اليومي غير ذلك، فهم منافقون وكذابون. فبناء الغد تبدأ أحجاره وملامحه وأسسه في الظهور من اليوم. واليوم هو المحك لصدق النوايا.
أشكال التضامن الاجتماعي والانساني المطلوبة، هي أشكال النضال الأفقي، تتم داخل وبين الطبقات الكادحة والفئات المستغلة والمحرومة. وترسم حدا فاصلا وخندقا بينها وبين الصدقات والاعمال الخيرية، التي توزع في هذه المناسبة او تلك. و تأتي من يد فوقية بهدف الابقاء على الاحوال كما هي وتطويع المحكومين للقبول بها.
فكلما تفاقمت الأزمات واحتدت تبرز الحاجة بين الطبقات الكادحة والمستغلة والمحرومة إلى تقوية أشكال التضامن الاجتماعي والانساني لتعميقها وتعميمها. يقوم بها مناضلات ومناضلين يتواجدون في إطارات مناضلة كالنقابات مثلا، وليسوا محسنين. ومثلما يبرمجون خططهم النضالية للدفاع عن مصالح الفئات التي ينتمون إليها، يضعون الخطط والأدوات الملائمة لتنفيذ مشاريع للتضامن الاجتماعي والانساني. وحتى يكون الفعل التضامني ملموسا وواقعيا، ينبغي ان ينطلق من القطاع المشترك: القطاع المنجمي، قطاع الطاقة، قطاع النقل الحضري العمومي، قطاع التعليم، قطاع الصحة ..الخ.
إن إشاعة قيم التضامن الاجتماعي والانساني لابد ان تسود داخل الاطارات المناضلة سياسية او نقابية أو جمعوية أو أهلية داخل الاحياء الشعبية. ولابد أن تكون مبدئية أي تبتعد عن الحسابات والولاءات الضيقة كيفما كانت، التي كرست تفتيت وحدة الطبقات الشعبية المغربية؛ لتصبح مكشوفة ومخترقة من طرف أعدائها الطبقيين.
هل يمكن ان نعيد هنا أن خسارة العديد من المعارك الصغيرة و الكبيرة في التاريخ النضالي الشعبي المعاصر، كان بسبب غياب التضامن المشترك. أما أعداء قيم التضامن المنغرسين في صفوف الاطارات المناضلة، الذين لا تنقصهم المبررات عن التقاعس والعرقلة ونشر الشكوك. فلا مجال للمهادنة معهم. فالأزمة العامة الحالية التي تعمقت بسبب تفشي الوباء، سوف لن تفلت أحدا. والمسالة محددة فقط في من يأتي دوره. وسيكون اول الخاسرين المعارك المعزولة والصغيرة.
سعيد كنيش
تمارة في 02/09/2020