د. عبد الكريم اليافي - اللاحتمية وعلائق الارتياب:

لعل اللاالحتمية أهم النتائج التي تكشفت عنها الميكروفيزياء. وقد استغرب كثير من العلماء أن يفضي العلم الحديث إلى اللاالحتمية بعد أن كانت الحتمية تعتبر شرطاً من شروط وجوده.

كتب هنري بوانكاريه قائلاً: «العلم الحتمي وذلك بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات لأنه لولا هي ما أمكن أن يكون».

كان من الصعب على العلماء أن يتقبلوا اللاحتمية لما ظهرت، لكنها تمكنت بعد نقاشات عديدة أن تستقر في الأذهان.

يقوم تعريف الحتمية في الفيزياء على إمكان توقع الظواهر توقعاً دقيقاً، أي انتظار حصولها في مكان معين وفي زمان معين بالضبط، مثلاً إن أمكن معرفة موقع متحرك وسرعته الابتدائيين أمكن معرفة موقع هذا المتحرك وسرعته بالضبط بعد مرور مدة معينة من الزمن.

إن الطبيعة تبدو متداخلة متشابكة العناصر، وقد تكون حركة أي جزء متأثرة بأبعد كوكب من الكواكب عندئذ نعرف حالة الكون أجمع معرفة تامة شاملة وذلك متعذر.

إن أهم اعتراض على الحتمية هو إن مشاهداتنا وقياسنا للظواهر تقريبية لا تجري بمنتهى الدقة ولا تبلغ غاية الضبط بل لابد أن يلحق بها بعض التقريب وأن يشوبها بعض الأخطاء التجريبية ولو كانت يسيرة.

ولكن هل إذا ازدادت دقة ملاحظتنا واشتد الضبط في القياس دق التوقع (أصبح دقيقاً) وبالتالي الحتمية صحيحة.

إن فيزياء الجسيمات الدقيقة تثبت عكس ذلك، يلخص العالم الألماني هايزنبرغ نتائج أساسية في فيزياء الكم:
1. كلما دق قياس موقع الجسيم غيرت هذه الدقة كمية حركته وبالنتيجة سرعته.
2. كلما دق قياس كمية حركته التبس موقعه.
3. يمتنع أن يقاس موقع الجسيم وحركته معاً قياساً دقيقاً.
4. إذا قسنا موقع الجسيم وكمية حركته معاً كان جداء الخطأ المرتكب في تعيين الموقع والخطأ المرتكب في تعيين كمية الحركة على أحد المحاور هو:

∆ س ×∆ كحك س ≥ ها

نصل إلى النتيجة التالية: لو أردنا حساب موقع الجسيم بدقة فإننا نستطيع ذلك، إلا أن الخطأ المرتكب في قياس كمية حركته تكون لا نهاية، وهنا يجب أن نضرب صفحاً عن حساب السرعة لأنه لا يمكن حسابها قط.

ونفرض أن حسابنا لسرعة الجسيم صحيح، أي أن الخطأ المرتكب في حساب السرعة يساوي الصفر، عندئذ فالخطأ المرتكب في حساب الموقع يكون لا نهاية، وبالتالي لا نستطيع قياس موقع الجسيم.

هذان الاعتباران المتنافران الفرضيان هما شكل لتتامية بور بين الموقع والسرعة، يشبه تتامية بور الحاصلة بين الجسيم والموجة.

وهكذا فإن معرفة الموقع بالضبط يؤدي بنا إلى تمثيل الجسيم بنقطة هندسية أي الجانب الجسيمي للظاهرة، وإن معرفة السرعة بالضبط يؤدي بنا إلى تمثيل شعاع السرعة بمستقيم أي يفضي بنا إلى الصفة الموجية.

والخلاصة في هذه التتامية لو صح لنا أن نعرف بالضبط موقع الجسيم، فلن نعرف كيف يتحرك الجسيم، وبالعكس لو عرفنا سرعته بالضبط امتنع أن نعرف أين يقع.

مبدأ الاشتباه:
ينشا عن اللاحتمية هذه أمر مهم وهو عدم إمكان التفريق بين الجسيمات المفحوصة في الميكروفيزياء وزوال فردياتها عنها، ومن المعلوم أن الذهن البشري في مباحثه العلمية قد قرب بين القطع المختلفة وماثل بين الحبات المتفاوتة بعضها ببعض وجردها من صفاتها الفردية تلك وانتهى إلى النقطة الهندسية في الهندسة والنقطة المادية في الميكانيك التقليدي.

إننا في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع تعيين موقع نقطة مادية بدقة في إطاري الزمان والمكان، أما في اللاحتمية فلا نستطيع تعيين موقع الجسيم في إطاري الزمان والمكان.

يقول لويس دوبروي: «لو راقبنا في الشارع توأمين من الناس متشابهين يمثلان لنا كهربين إلا إنهما سالكان لطريقين مختلفين فدخلا داراً أي غدوا متجاورين متقاربين ثم خرجا من هذه الدار لتعذر علينا حينئذ تفريقهما». وهكذا يستبين إن اللاحتمية يتبعها اللاتمايز وغياب الفردية بين الجسيمات الدقيقة.

اللاحتمية والسببية:
نأخذ جهازاً قاذفاً للكهارب يضرب بها سطح بلورة من البلورات وضع اتجاهها تقريباً حاجز مطلي بمادة متلألئة، فتأتي الكهارب إلى سطح البلورة وتنتثر، وكلما وقع منها كهرب على الحاجز تلألأ موقعه. وإذا كان القذف بطيئاً متمهلاً تتابع التلألؤ حيناً بعد حين. بيد أنه يمتنع علينا أن نحزر كل مرة في أي نقطة سوف يقع عليها الكهرب المنتثر على الحاجز فيحصل التلألؤ. وكل ما يمكن فعله هو حساب مقدار الاحتمال لتلألؤ نقطة من نقاط الحاجز أو غيرها. ولا يخفى إن بعض مناطق الحاجز يكون مقدار الاحتمال فيها صفراً لخروجها عن منطقة التلألؤ وامتناع التوقع في هذه التجربة صورة من صور اللاحتمية في الميكروفيزياء.

وللاحتمية وعدم التوقع في هذه التجربة حد وهو أنه متى تسارع القذف بالكهارب وتكاثرت، تيسر حساب التوقع عندئذ بالضبط وحلت الحتمية مكان اللاحتمية. إلا أنها حتمية إحصائية تبيح توقعاً إحصائياً ناجماً عن كثرة الكهارب إذ تقع على سطح البلورة غمامة منها تنتثر في كل وقت وتقع على الحاجز فيتلألأ قسم منه. وتوزع هذا التلألؤ على الحاجز يمثل أشكالاً انعراجية يمكن توقعها بحساب انعراج الموجة التي ترافق الكهارب، أي يمكن أن نعلن سلفاً كيف يكون شكل الحاجز عندما يتلألأ متى اشتعل الجهاز القاذف للكهارب.

إن الفيزياء الحديثة قد أبطلت الحتمية دون أن تبطل السببية، فتكون السببية أعم من الحتمية خلافاً لبعض الباحثين الذي وهموا فحسبوا إن هذه الفيزياء إنما أبطلت السببية لا الحتمية ظناً منهم إن الحتمية أوسع وأعم.

لنأخذ المثال السابق، يبدأ الجهاز يشتعل فيحدث التلألؤ على الحاجز في بعض نقاطه ويقف الجهاز فينقطع التلألؤ فاشتغال الجهاز إذن سبب للتلألؤ.

فالسببية إذن موجودة في هذه التجربة، على أن الحتمية هنا باطلة لأنه يمتنع توقع التلألؤ بالضبط في نقطة معينة على سطح الحاجز ولا يتيسر إلا حساب الاحتمال.

وينبغي ألا يتبادر إلى الظن أن اللاحتمية في الميكروفيزياء معناها الفوضى والجهل، وإنما معناها عدم إمكان التوقع الدقيق للظواهر الدقيقة، وهناك فرق كبير بين قولنا إن الكهرب مثلاً موجود في المكان ولكننا لا نعرف أين هو، وبين قولنا كل نقطة من ذلك المكان موقع محتمل للكهرب.

اللاحتمية صميمية:
هل اللاحتمية صميمية صرف في الظواهر الميكروفيزيائية؟ ليس لنا يد في تغييرها والنفوذ إلى باطنها؟ أم هي لا حتمية ظاهرية نقف على حدودها اليوم لأن أدواتنا وأجهزتنا ومناهجنا القياسية لم تبلغ الغاية في الدقة ولا أحرزت النهاية في الضبط؟

يمكن القول بوجود حتمية أساسية صميمية تخضع الظواهر لها لم يكشف عنها العلم في هذا الوقت ويجوز أن يكشف عنها في المستقبل، إذا زادت دقته وتحسنت وسائل بحثه. ومثل هذه الحتمية لا تهم الباحث الإيجابي ما بقيت ممتنعة على العلم ومحجوبة عنه. مثلها في ذلك مثل تلك الحتمية الميتافيزيائية التي تتجاوز العلم الإنساني.

إن الباحث الإيجابي إنما يعنى بنتائج التجربة والقياس من أجل تعرف الواقع، فهو إذن يقول باللاحتمية في نطاق الظواهر الميكروفيزيائية دون اهتمام بالتفريق بين حتمية باطنية وحتمية ظاهرية. ولكن مثل هذا التفريق مهم جداً عند المفكر الواقعي لأن الواقع عنده نقطة البداية في البحث العلمي،إذ كانت غاية هذا البحث عنده وصف الواقع المستقل عن الفكر وصفاً دقيقاً مطابقاً. لذلك يهتم بهذا التفريق ويسأل عن اللاحتمية في الميكروفيزياء أظاهرية هي أم باطنية؟ ويجوز له في اعتباراته أن يقول بلا حتمية أساسية صميمية.

أما الباحث المثالي فذلك تابع عنده لنوع اعتباراته الفكرية. فإن كانت اعتباراته الفكرية تدفعه إلى القول بالحتمية فإنه تناسبه عندئذ اللاحتمية الظاهرية، ويعتقد من ورائها بالحتمية الباطنية، ويعد النظريات اللاحتمية الصميمية نظريات سيئة. وإن لم تدفعه اعتباراته الفكرية إلى القول بالحتمية فإنه لا يرى مانعاً إذ ذاك من القول باللاحتمية الصميمية.

وإذا أخذنا وجهة نظر المعادلات الرياضية فإننا نجد اللاحتمية في الحوادث الفيزيائية صميمية وأساسية. ومهما تقدمت وسائل البحث وأدواته فلن تنتصر الحتمية على اللاحتمية الصميمية.


* من كتاب «الفيزياء الحديثة والفلسفة»

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى