المجموعة الشعرية «أبواب» التي صدرت عام 2003 هي التجربة الثانية للشاعرة سمية السوسي، بعد ديوانها «رشفة من صدر البحرـ سنة 1998»، ويقع ديوانها «أبواب» في مائة وخمسة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط ، ويحتوي على خمسة عشر قصيدة، سنحاول قراءة الديوان قراءة دلالية إشارية سيميائية (قلب الأشياء عن حقائقها إلى أشياء أخرى) لتوظيف القرائن التي جاءت في متن القصيد.. وأشعر أنني لا أقف إزاء القصائد إلا إذا أدهشتني وحركتني ارتكازاتها وحركت في داخلي ارتباطا بين اللغة الشاعرية وبين انزياحاتها الفاعلة، ولا أتذكر من القائل: «أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرع منه..»، فإذا ما عشتُ أنا في النص؛ فإن قلمي يخرج عن طوعي ولا أدري كيف يسوح؟!
عنونت قصيدتها الأولى بـ «الباب الأول» وهي عبارة عن تسعة أيقونات شعرية مرقمة بالأحرف الهجائية من الهمزة إلى الزين، باستثناء حرفي الثاء والراء، وافتتحت الشاعرة ديوانها بالإبحار عميقا في الآخر! والآخر هنا ليس إلاّ الوجه الآخر للذات الإنسانية كأنثى؛ فهي تختبر النشاطات الغريبة والمتناقضة والغامضة في النفس البشرية، ليس في مجال عظمتها العارمة، أو خذلانها الرهيب، بل في مجال تلك الصراعات الصغيرة الأكثر إثارة ضمن إيمان عميق بأن هذه الصراعات جديرة بالاهتمام والتفهم والتقدير، فهاهي تبدأ ديوانها مفسرة الحياة / العمر؛ بأنها أبوابٌ لا تفضي إلى سكينة أو معنى، وتُلحِقُ هذه الصورة بصورة أخرى توضح رؤيتها لأبواب العمر فهي لدى الشاعرة كالسيجارة الأولى التي يفتتح بها المدخن نهاره.. بعدها تصبح السجائر اللاحقة عادية دون متعة أو لذّة، وهكذا أبواب العمر عند الشاعرة.. تستعد لها وتنبهر لولوجها في المرة الأولى لتصير بعدها فعلا عاديا مثل كل الأشياء .. ويمرُّ الإنسان أحيانا من أبوابٍ لا يعرفها، أو هي لا تعرفه، وكذلك مفاتيح تلك الأبواب قد تكون في يد أديب أو فيلسوفٍ يبحث عن الحكمة ليُشيّدها دربا جميلا يسيرا لمن يريد السير فيه؛ ليجد أسمه بارزا أينما سار في ذلك الدرب، والشاعر في يده مفتاحا لبوابة واحدة على الأقل.. هنا تستحضر الشاعرة مقولة: "إن الشاعر عليه أن يعرف شيء عن كل شيء، وكل شيء عن شيء واحد.." هذه البوابة التي يمتلكها الشاعر وبيده مفاتيحها، لكنه يبقى حزينا لا يقدر على الضحك أو يلتفت للأحاديث العابرة.
للعمر أبواب ندخنها كسيجارة أولى
لا نعرف الأبواب
المفاتيح ملك لراوٍ صغير
يرسمنا طريقا مزينة حيطانه بأنفاس يعرف من كتَبَها
في الأيقونة الثانية تتدفق القصيدة لدى الشاعرة فتغوص عميقا في الذات الأنثوية عندما تقف أمام المرآة، وهذا الفعل تمارسه المرأة أكثر من مرةٍ في اليوم؛ لكن الشاعرة تعكس الصورة حيث المرآة هي التي تمارس هذا الفعل، في حين تظن الشاعرة أنها ترى في المرآة صورتها التي تبحث عنها.. أيُّ جدلية هذه التي يبحث عنها الإنسان دائما عندما ينظر إلى ذاته في المرآة؟؟ وهل هذه الممارسة الدائمة هي العشق نفسه ليصبح طقسا وعادة مستدامة؟ على الأقل لدى الشاعرة سمية السوسي..
العشق طقس يوميّ تمارسه المرايا
فيما نظن أنها صورة الأخر فينا
في الأيقونة (ت) تقرر انعتاقها من الموروث الاجتماعي والثقافي بقيوده، إلا أن الآخر/ الرجل/ ولو كان أديبا؛ فهو يهرب من مواجهة الواقع، ويعزل نفسه، وليس لديه القدرة على تنفيذ رؤيته وفلسفته وعقيدته التي يؤمن بها، حتى لو كان شريكا لها فيما تمنحه هي ما يلزمه من قوة، وتحصين بما يبعد عنه الشر.. رغما عن ذلك فإنه لا يقدر على المواجهة أو حمل الرسالة؛ فيخيب ظنها وأملها فيه.. لعلها هنا تفضح المستور عند الرجل الذي يمارس الثرثرة الفكرية الأيروسية بين أمثاله من الرجال، ولا يستطيع البوح بها أو ممارستها مع شريكته.. وفولتير كان قد قال: "إن عظمة الإنسان تكمن في ممارسته لما هو مقتنع به.." ويبدو هذا حال كثير من المثقفين الشرقيين أو العرب يمتلكون الرؤية ولا يمتلكون العظمة!
تُتعبني الوصايا
فيما تمارس عزلتك الإرادية جدا
ظننتك قادر على كسر النبوءة
أعطيتك رائحتي
تميمة
تحملها
( تغرق دائما)
الأيقونة (ج) تستحضر الشاعرة الآخر/ الرجل في حالة من السريالية لاستبطان الذات وتسأل هي بدلا منه عن ذاتها الحائرة المعذبة بتجربتها المؤلمة وواقع مجتمعها القاسي الذي لا يسمح للمرأة بأن تخطئ، وإذا ما أخطأت، أو طُلِقت فكيف سيكون الآخر؟! وهل ستعترف هي بخطيئتها وتسجلها بين أوراقها ووثائقها من جديد؟!
لو كنتِ في حجرتي
هل ستعيدين ترتيب أوراقك من جديد؟
لتحملَ صراحةَ الخطيئةِ الأولى كما يسميها من أعلنوا ظمأهُم؟
الأيقونة الخامسة (ح) هي رسالة إضافية كنتيجة لصرخات الشاعرة المتكررة على أمل أن يتغير شيء بالنسبة لها، إلا أن الحلّ معقود في جيل الصبايا اللاتي يعرفن تجربتها كي يقمن بترتيب الأمور، ويكتبن تجربة جديدة ممثلا ذلك في ابتنها الصغيرة التي تعيش معها التجربة..
أدرج في قائمتي
صرخةً نسيت من أضافها للسطر الأخير
تعرفني الصبايا
كما صغيرتي تعيد كتابتي
مرة بعد مرة
في الأيقونة السادسة (خ) لغة أيروتيكية مغلفة بخجل شفاف تقفز به الشاعرة عن تابوهات المقدس والمحرم، تومض به خفايا الظلم الذي لحق بها اجتماعياً من قبل الرجل الغارق في الموروث الذكوري، وتهتك ستار الثالوث المحرم: الدين، الصراع الطبقي، والجنس الذي كان ولازال أكثر التابوهات التي تجرأت عليها المرأة العربية، فتقول:
شفتاكَ تلتهمان ضياعي الأول
ما بين الصور الداكنة في باديتك
وخرافتي[ما ينبعث منك فيّ
ما يذوب في جسدي
صيغة بدائية لآهات لم نخفها عن أعيننا]
في مضمون الأيقونة السابقة تبوح الشاعرة عن حبيبها البدوي وهو يكتنز في شفتيه شبقا يلتهم تجربتها، أو حرمانها الأول، وسواء كان حقيقة! أم رمزية للرجل الذي يبقى بدائيا فطريا في موضوع الجنس.. وهي تقترب من قصيدة "الرعوي" للشاعرة المصرية ـ فاطمة ناعوت، عندما اختارت بالمقابل رجلا فلاحا، وعنونت قصيدتها بالرعوي دليلا على البدائية؛ فتقول:
تكسِرُني و…
مثل جَوْزةٍ
تحملُ مِجسّاتِها ونبضَها وبللَ أجزائِها
وتتهيأُ للحياة.
ترفعُني
مثل توتةٍ تفتحُ مخملَها
وتهبُ عصارتِها لقرويٍّ خشنْ
يحملُ مِعولاً
وسلّةَ خوصْ.
الأدب الأيروتيكي في البلاد العربية والإسلامية عميق وخطير، ويطال بنية الشخصية العربية التي تقمع وتكبت كل ما يساعد على تفتحها وبلورتها، خاصة في ما يتعلق بالحب والجنس الذي يتم تحقيرهما واستبعادهما من مستوى التداول الطبيعي إلى الزوايا المعتمة المخجلة، حتى أصبح الإنسان العربي اليوم يقرأ الرواية الجنسية أو الشعر على استحياء، أو خفية لا يراه حينها أحد سواء من بيئته أو خشية القوانين والاعتبارات الدينية التي تقف بالمرصاد لمثل كتابات أدبية كهذه..
تختم الشاعرة بابها الأول بثلاثة أيقونات (د ، ذ ، ز) صغيرة، لكنها تحمل أسئلتها الغامضة، فهي تسأل الحبيب/ البدوي، إن كان مخزون الشبق الذي يحمله هو الحب والحميمية الصادقة؟ أم أنه تفريغ مؤقت لطاقة مخزونة..؟ / هل حمّلتكَ الحمائم هذا الشبق؟/ الحكايةُ ترفضني / بلا دليل يذيلُ نهايتها بتوقيع صغير/ شتاؤك الفضيّ ينثر سحابته الصغيرة/ أين أنت يا شفتي؟/ هنا ينتهي بابها الأول في انتشاء شبقي تضيع فيها شفتيها المدخل الأول للنشوة التي تنتهي بغيث سحابة صغيرة..
"باب الدخول" هو القصيدة الثانية في ديوان الشاعرة السوسي، وفيها تلميح يوحي للقارئ برسم الصور في خياله.. وبذا يحافظ النص، بل كل نصوص الديوان على رومانسية جميلة، بعيدا عن القول المباشر والصريح بالتفصيل الجرافيكي الذي لا يُبقي للقارئ مجالا للخيال فيفقد النص فنيته، إلا أن شاعرتنا تبقي قارئ نصوصها في متعة ولذّة كبيرتين قلّما نجدهما عند نظرائها الحداثويين؛ فها هي تغفو بلا نوم.. والنوارس (طيور مائية جميلة) تعيش على الشواطئ ترفع ريشها تحية للملل تعبيرا عن صبايا ونساء غزة اللواتي مللن هن الأخريات من روتين غزة وسواحلها، إذ يعرف القاصي والداني غزة على أنها سجن كبير لا يوجد بها متنفسات ثقافية، أو متنزهات طبيعية سوى البحر الصغير بصغرها إضافة للموروث الذكوري الذي يقمع الأنثى ويقيّض من مساواتها وحريتها.. أما بحرها الذي استيقظ من موته ليضاجع موجة باردة، حيث أنسَنَت الشاعرة البحر والموجة في صورة أيروسية أو إباحية.. قد تكون إشارة لحالة الكبت الجنسي في مجتمع الشاعرة..؟ ولو افترضنا أننا نعيش في مرحلة ما بعد الفرويدية بأن الثورة الجنسية حدّت من ظاهرة الكبت الجنسي؛ فهل هي وسيلة للشهرة؟ أم رد فعل على التهميش والإقصاء الذي تعاني منه المرأة في هذه المجتمعات؟
غفوت
لم أنم
النوارس ترفع ريشها تحية للملل
البحر أيقظ موته
ضاجع موجته الباردة
لم ير جيدا أن ما كان يشغله هو البداية
لعل مظلة الحداثة منحت الشاعرة حرية في توظيف تشظيات ما بعد الحداثة ببراعة وذكاء مذهل ورغبة صاعقة في تحدي النظم الإيديولوجية لما يعرف بالأمر الواقع، وتهديم قداسة القواعد المقبولة للشكل واللغة، ها هي شاعرتنا تلتحق بالعديد من النساء الأديبات في إعادة هيكلة نظم عفا عليها الزمن وتناضل من أجل المساواة، والتنقيب عن نظم لغوية أيضا تتشظى بعيدا عن الافتراضات المعرفية؛ فكيف لرائحة الدخان أن تمتص جسد امرأة..؟ وتحرجها غرابة القبلة التي باغتت كنز أنوثتها؟؟ فيما تحطم الخوف الذي ينام فيها منذ طفولتها..؟
"تمتصني رائحة الدخان الممتزج بقبلة تحمل معنى الحنين إلى ما يضج في من أنوثة. تحرجني بصراحتها الغريبة، تكسرني، تزلزل ذلك الكائن البدائي النائم في خوفي، تذكره بمعالم أليفة لذاكرة يحاول تناسيها أو اعتبارها طيفا قديما. الخمار البنفسجي يرتعش حول شفتيك الصاخبتين، الدرب الصغير الموغل في دمك.."
ونلمس هنا دعوة إلى المغامرة وتشكيل التجارب الحسية لتحقيق التكامل النفسي.. وأيضا رد فعل على بُنى اجتماعية قائمة على تحقير الجسد وتنزيله مرتبة دونية وخاصة جسد المرأة الذي اقترن بأحكام تنعته بالدنس وتحيطه بمحرمات شتى.. سعت الشاعرة إلى إسقاطها، منطلقة من رؤية تتجه إلى إعادة هيكلة وعي القارئ وإعادة ترتيب الكيان الجسدي للأنثى عبر توظيف الجسد للتعبير عن المعاناة والرغبة في الانعتاق من وضع اجتماعي يعكس بنية مفاهيم عادية تتسم بالجمود الفكري. وفي أثناء تصويرها لذاتها فهي تبحث عن ظلالها، تصارع الظلمة، تتلمس خطواتها في العتمة، لتسترد حضورها..
أشق ثوب المكان
كخطيئة أولى
ترتجف اللعنة
تنطفئ المشاعل في لهفتي
[يغلفني البرود]
............
تشبهنا العتمة، مذاق الشهوة غرائبي
يصعب اجتيازه مرة واحدة
.......... تكتنز بي
الجرة ما زالت فارعة
أحتاجك لنملأ الحكاية
[هذه اللوحة ليست للبيع]
الشعر يكشف حتما عن الحقائق السيكولوجية للذات الشاعرة، وتحديد مكانتها كامرأة يترتب عليها مناهضة أنظمة اجتماعية ساهمت في تكريس وضعها الدوني بِعلّة الأصل البيولوجي، أو العادات والتقاليد الموروثة، في هذا الإطار تشير الدراسات الإنثروبولوجية: أن النساء ما قبل التاريخ في عصر الجماعة القبلية كن متساويات للرجال، وأن الرجال كانوا يعترفون بتلك المساواة، وأن العشيرة التي كان يعمل جميع أفرادها رجالا ونساء كخلية نحل، لا تعرف الاضطهاد والاستغلال..
"نقفل باب شهوتنا الغضة، نعيد كتابة الحكاية بحروف نلونها كيفما نشاء، هذا حديث ضيق، أبوابه تتنهد في وجه العاشقات، الكسولات يؤرقهن النوم المخدر بالوعود، وابتسامات حارقة مذاقها يدمي التفاحات في أيديهن. الصديقات يبتلعن ما أعدته المدينة من موائد الشرف الأخير، يتسلقن أسوار الحاكورة البعيدة، ليمونة تعيد اختزال ما ضاع من أصباغهن...."
في اللوحة السابقة تتقدم شاعرتنا خشبة المسرح الشعري من خلفها جوقة نساء حالمات تخذّرن بالأسطورة الأيروسية في مشهد احتجاجي، صورة للوحة فاتنة، مؤلمة، نادرة في شجاعتها كذلك.. تقدمها للجمهور، للكون ونفحته، للآلام، للأشياء، للأحلام، وللوجه الأمامي والجانبي، لوحة مكتملة العناصر لعذابات المرأة في مجتمع الذكورة بنرجسيتها الخاسرة..! لنقف مرة واحدة ونتحلى بخصلة الشجاعة، ونطالب بالوجه الآخر الذي تروم له الشاعرة.. رهاننا الوحيد، على حد تعبير هايدغر، للخروج ربما من عدميتنا المحضة..
الأصابع الصغيرة تعبث بخاصرتي
تمتزج بما يلعقه الليل مني
رمال أيقظت مرساتها
تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة
ترتجف البقايا في داخلي
حزن برتقالي يمزق نافذتي
تمتلك الحزن
لنبدأ من هذه النقطة
كما في مجمل قصائدها، تلعب الشاعرة على أسلوب التشتت الدلالي، أو ما يطلق عليه تأجيل الدلالة ومراوغتها؛ فالمعنى لديها ملتبس دائما، وهو ليس هناك حيث النظام الدّالي أي التجلي المادي (الفيزيقي) للعلامة وبقدر ما يغلّف النص معناه ببنيته العلاماتية تكون مراوغة المعنى، وفيما يبدو أنها إشارة إلى الكثافة التعبيرية التي تبخل بالإشارة إلى شيء محدد.. كما هي إشارة إلى ضعف العلاقة بين الدال والمدلول وبعد المسافة بينهما، هذا البعد المسافي هو تلك الفجوة التي يتحقق فيها اللعب الحر للمدلولات وتتحقق في الوقت نفسه، وتبعا لذلك كل أشكال التشتت الدلالي من تعدد ولا نهائية وتأجيل وروغان، ولندقق في قول الشاعرة: "الأصابع الصغيرة تعبث بخاصرتي.." فالأصابع تعبث بالخاصرة، لكنها أصابع من؟؟ فيما تذهب في المراوغة وتشتيت الدلالة أو تقريبها عندما تمتزج هذه الأصابع بما لعقه الليل من الشاعرة أو من خاصرتها، فأي ليل هذا الذي يلعق جسد امرأة..؟ يبقى المعنى في قلب الشاعر ومن حق المتلقي أن يفسره حسب ذوقه وثقافته.. في البيت الذي يلي البيت الأول: " رمال أيقظت مرساتها / تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة" تغيب الروابط وتنقطع العلاقات بين عناصر النص وتراكيبه؛ فما علاقة الرمال التي توقظ المرساة بالأصابع التي تعبث بخاصرة امرأة؟؟ وكيف لتلك الرمال أن تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة؟؟ بقدر ما يبقى المتلقي بعيدا عن الدلالة يبقى متلذذا متمتعا بالصور التي تدفعه للنهوض وسد الفجوات التي خلقتها الشاعرة في التشتت الدلالي والمراوغة والتأجيل..
أقشر بذور الصمت
في لوحتي العالقة بجدار متعرق
الملوحة تحفر أوديتها
أتذوق الخطوط
أدعي معرفتي بالطعم
أنسى
أن ملح الحجرات مذاقه
كمذاق الأسرار
المخبأة جيدا
لقد قال التصورْيون الروس بأن الصورة هي "النفتالين" الذي يحفظ النتاج من عثّ الزمن. ولعل الشعر العربي بمختلف أزمانه قد لجأ إلى الصورة للتعبير عن تلك الحالات الغامضة التي يتعذر عنها بصورة مباشرة أو لأداء الخصوصية الفعلية لما يحسه الشاعر.. أي صورة تلك التي رسمتها الشاعرة؟؟ ما هي اللوحة المصورة التي تقصدها..؟ التشويش على الحواس تمارسه الشاعرة في صورها المجازية، ولوحتها هنا ليست إلا حياتها بطعمها المالح رسمتها كأودية مالحة دلالة على صعوبة القفز عنها أو معالجة ملوحتها.. وفي البداية تقرر بصوت عال أنها تفضح المستور وتكشف عنه كمن يقشر بذرة جوز مثلا.. الخطوط المالحة تعرف مذاقها تماما، مهما تغيرت حجراتها بأسرارها المخفية تبقى مالحة..
أصحو
يذوب الجليد في خطوتي
للحديث حصّادة يخرج بها من الفناء
تسقط الحبات
الموسم جيد
لا أظن، هذه القصيدة
تكفي
لعلنا من قبل تجوَلْنا ضمن الاختناق الضروري، قادتنا إليه الشاعرة من خلال حرمان مزدوج، خاضته بقوة مهولة يجعلنا غير قادرين على فصل الخيط الأبيض عن الأسود، وهكذا يبقى "القول الشعري" أمينا لمراهناته الغير متوقعة.. أو ما يمكن تسميته شق ملغز وغريب في سماء ملبدة، يعقبها برق يترك آثارا حارقة على الأرض، ولأنها كذلك.. تقربنا أكثر من استمراء اللعبة ورمي النرد لكي يتشكل الرقم الأكبر، الرابح دائما حتى ضمن خسارته الأشد فداحة، إن لم يكن عبر ثقة عالية بالنفس.. وهذا ما توعدت به في المقطع الأخير من قصيدتها الأخيرة في الديوان: أصحو/ يذوب الجليد في خطوتي/ فهي تقرر بثقة عالية لذوبان الجليد تحت فعل كبير هو فعل الشاعرة وخطواتها وثقتها بقصائدها التي لن تنتهي عند القصيدة الأخيرة من الديوان، وحيث أن ديوانها "أبواب" قد صدر قبل ثمان سنوات فمن المؤكد بعدها قالت الكثير من القصائد إن لم يكن ديوان أو أكثر، لكن ظروف النشر والطباعة في غزة ليست بالأمر اليسير..
أخيرا نقول أن المرأة التي لا تتعرى على الورق، ولا تكشف عن رغباتها الطبيعية، فكتابتها لا تلفت الانتباه بما فيه الكفاية، وتصبح صوتا نشازا. فلم تعد الكتابة الأيروسية مصدر اتهام ولم تعد تثير الريبة أو الامتعاض ... لم نعد نشعر في هذه الفترة الزمنية بأن الكتابة النسائية الأيروسية فضيحة تخشاها المبدعة أو تقصيها الرقابة أو يمجها القارئ الرجل، على العكس فكتابات المرأة فاقت كتابات الرجل في الكشف عن المسكوت عنه....
عبد الكريم عليان
عنونت قصيدتها الأولى بـ «الباب الأول» وهي عبارة عن تسعة أيقونات شعرية مرقمة بالأحرف الهجائية من الهمزة إلى الزين، باستثناء حرفي الثاء والراء، وافتتحت الشاعرة ديوانها بالإبحار عميقا في الآخر! والآخر هنا ليس إلاّ الوجه الآخر للذات الإنسانية كأنثى؛ فهي تختبر النشاطات الغريبة والمتناقضة والغامضة في النفس البشرية، ليس في مجال عظمتها العارمة، أو خذلانها الرهيب، بل في مجال تلك الصراعات الصغيرة الأكثر إثارة ضمن إيمان عميق بأن هذه الصراعات جديرة بالاهتمام والتفهم والتقدير، فهاهي تبدأ ديوانها مفسرة الحياة / العمر؛ بأنها أبوابٌ لا تفضي إلى سكينة أو معنى، وتُلحِقُ هذه الصورة بصورة أخرى توضح رؤيتها لأبواب العمر فهي لدى الشاعرة كالسيجارة الأولى التي يفتتح بها المدخن نهاره.. بعدها تصبح السجائر اللاحقة عادية دون متعة أو لذّة، وهكذا أبواب العمر عند الشاعرة.. تستعد لها وتنبهر لولوجها في المرة الأولى لتصير بعدها فعلا عاديا مثل كل الأشياء .. ويمرُّ الإنسان أحيانا من أبوابٍ لا يعرفها، أو هي لا تعرفه، وكذلك مفاتيح تلك الأبواب قد تكون في يد أديب أو فيلسوفٍ يبحث عن الحكمة ليُشيّدها دربا جميلا يسيرا لمن يريد السير فيه؛ ليجد أسمه بارزا أينما سار في ذلك الدرب، والشاعر في يده مفتاحا لبوابة واحدة على الأقل.. هنا تستحضر الشاعرة مقولة: "إن الشاعر عليه أن يعرف شيء عن كل شيء، وكل شيء عن شيء واحد.." هذه البوابة التي يمتلكها الشاعر وبيده مفاتيحها، لكنه يبقى حزينا لا يقدر على الضحك أو يلتفت للأحاديث العابرة.
للعمر أبواب ندخنها كسيجارة أولى
لا نعرف الأبواب
المفاتيح ملك لراوٍ صغير
يرسمنا طريقا مزينة حيطانه بأنفاس يعرف من كتَبَها
في الأيقونة الثانية تتدفق القصيدة لدى الشاعرة فتغوص عميقا في الذات الأنثوية عندما تقف أمام المرآة، وهذا الفعل تمارسه المرأة أكثر من مرةٍ في اليوم؛ لكن الشاعرة تعكس الصورة حيث المرآة هي التي تمارس هذا الفعل، في حين تظن الشاعرة أنها ترى في المرآة صورتها التي تبحث عنها.. أيُّ جدلية هذه التي يبحث عنها الإنسان دائما عندما ينظر إلى ذاته في المرآة؟؟ وهل هذه الممارسة الدائمة هي العشق نفسه ليصبح طقسا وعادة مستدامة؟ على الأقل لدى الشاعرة سمية السوسي..
العشق طقس يوميّ تمارسه المرايا
فيما نظن أنها صورة الأخر فينا
في الأيقونة (ت) تقرر انعتاقها من الموروث الاجتماعي والثقافي بقيوده، إلا أن الآخر/ الرجل/ ولو كان أديبا؛ فهو يهرب من مواجهة الواقع، ويعزل نفسه، وليس لديه القدرة على تنفيذ رؤيته وفلسفته وعقيدته التي يؤمن بها، حتى لو كان شريكا لها فيما تمنحه هي ما يلزمه من قوة، وتحصين بما يبعد عنه الشر.. رغما عن ذلك فإنه لا يقدر على المواجهة أو حمل الرسالة؛ فيخيب ظنها وأملها فيه.. لعلها هنا تفضح المستور عند الرجل الذي يمارس الثرثرة الفكرية الأيروسية بين أمثاله من الرجال، ولا يستطيع البوح بها أو ممارستها مع شريكته.. وفولتير كان قد قال: "إن عظمة الإنسان تكمن في ممارسته لما هو مقتنع به.." ويبدو هذا حال كثير من المثقفين الشرقيين أو العرب يمتلكون الرؤية ولا يمتلكون العظمة!
تُتعبني الوصايا
فيما تمارس عزلتك الإرادية جدا
ظننتك قادر على كسر النبوءة
أعطيتك رائحتي
تميمة
تحملها
( تغرق دائما)
الأيقونة (ج) تستحضر الشاعرة الآخر/ الرجل في حالة من السريالية لاستبطان الذات وتسأل هي بدلا منه عن ذاتها الحائرة المعذبة بتجربتها المؤلمة وواقع مجتمعها القاسي الذي لا يسمح للمرأة بأن تخطئ، وإذا ما أخطأت، أو طُلِقت فكيف سيكون الآخر؟! وهل ستعترف هي بخطيئتها وتسجلها بين أوراقها ووثائقها من جديد؟!
لو كنتِ في حجرتي
هل ستعيدين ترتيب أوراقك من جديد؟
لتحملَ صراحةَ الخطيئةِ الأولى كما يسميها من أعلنوا ظمأهُم؟
الأيقونة الخامسة (ح) هي رسالة إضافية كنتيجة لصرخات الشاعرة المتكررة على أمل أن يتغير شيء بالنسبة لها، إلا أن الحلّ معقود في جيل الصبايا اللاتي يعرفن تجربتها كي يقمن بترتيب الأمور، ويكتبن تجربة جديدة ممثلا ذلك في ابتنها الصغيرة التي تعيش معها التجربة..
أدرج في قائمتي
صرخةً نسيت من أضافها للسطر الأخير
تعرفني الصبايا
كما صغيرتي تعيد كتابتي
مرة بعد مرة
في الأيقونة السادسة (خ) لغة أيروتيكية مغلفة بخجل شفاف تقفز به الشاعرة عن تابوهات المقدس والمحرم، تومض به خفايا الظلم الذي لحق بها اجتماعياً من قبل الرجل الغارق في الموروث الذكوري، وتهتك ستار الثالوث المحرم: الدين، الصراع الطبقي، والجنس الذي كان ولازال أكثر التابوهات التي تجرأت عليها المرأة العربية، فتقول:
شفتاكَ تلتهمان ضياعي الأول
ما بين الصور الداكنة في باديتك
وخرافتي[ما ينبعث منك فيّ
ما يذوب في جسدي
صيغة بدائية لآهات لم نخفها عن أعيننا]
في مضمون الأيقونة السابقة تبوح الشاعرة عن حبيبها البدوي وهو يكتنز في شفتيه شبقا يلتهم تجربتها، أو حرمانها الأول، وسواء كان حقيقة! أم رمزية للرجل الذي يبقى بدائيا فطريا في موضوع الجنس.. وهي تقترب من قصيدة "الرعوي" للشاعرة المصرية ـ فاطمة ناعوت، عندما اختارت بالمقابل رجلا فلاحا، وعنونت قصيدتها بالرعوي دليلا على البدائية؛ فتقول:
تكسِرُني و…
مثل جَوْزةٍ
تحملُ مِجسّاتِها ونبضَها وبللَ أجزائِها
وتتهيأُ للحياة.
ترفعُني
مثل توتةٍ تفتحُ مخملَها
وتهبُ عصارتِها لقرويٍّ خشنْ
يحملُ مِعولاً
وسلّةَ خوصْ.
الأدب الأيروتيكي في البلاد العربية والإسلامية عميق وخطير، ويطال بنية الشخصية العربية التي تقمع وتكبت كل ما يساعد على تفتحها وبلورتها، خاصة في ما يتعلق بالحب والجنس الذي يتم تحقيرهما واستبعادهما من مستوى التداول الطبيعي إلى الزوايا المعتمة المخجلة، حتى أصبح الإنسان العربي اليوم يقرأ الرواية الجنسية أو الشعر على استحياء، أو خفية لا يراه حينها أحد سواء من بيئته أو خشية القوانين والاعتبارات الدينية التي تقف بالمرصاد لمثل كتابات أدبية كهذه..
تختم الشاعرة بابها الأول بثلاثة أيقونات (د ، ذ ، ز) صغيرة، لكنها تحمل أسئلتها الغامضة، فهي تسأل الحبيب/ البدوي، إن كان مخزون الشبق الذي يحمله هو الحب والحميمية الصادقة؟ أم أنه تفريغ مؤقت لطاقة مخزونة..؟ / هل حمّلتكَ الحمائم هذا الشبق؟/ الحكايةُ ترفضني / بلا دليل يذيلُ نهايتها بتوقيع صغير/ شتاؤك الفضيّ ينثر سحابته الصغيرة/ أين أنت يا شفتي؟/ هنا ينتهي بابها الأول في انتشاء شبقي تضيع فيها شفتيها المدخل الأول للنشوة التي تنتهي بغيث سحابة صغيرة..
"باب الدخول" هو القصيدة الثانية في ديوان الشاعرة السوسي، وفيها تلميح يوحي للقارئ برسم الصور في خياله.. وبذا يحافظ النص، بل كل نصوص الديوان على رومانسية جميلة، بعيدا عن القول المباشر والصريح بالتفصيل الجرافيكي الذي لا يُبقي للقارئ مجالا للخيال فيفقد النص فنيته، إلا أن شاعرتنا تبقي قارئ نصوصها في متعة ولذّة كبيرتين قلّما نجدهما عند نظرائها الحداثويين؛ فها هي تغفو بلا نوم.. والنوارس (طيور مائية جميلة) تعيش على الشواطئ ترفع ريشها تحية للملل تعبيرا عن صبايا ونساء غزة اللواتي مللن هن الأخريات من روتين غزة وسواحلها، إذ يعرف القاصي والداني غزة على أنها سجن كبير لا يوجد بها متنفسات ثقافية، أو متنزهات طبيعية سوى البحر الصغير بصغرها إضافة للموروث الذكوري الذي يقمع الأنثى ويقيّض من مساواتها وحريتها.. أما بحرها الذي استيقظ من موته ليضاجع موجة باردة، حيث أنسَنَت الشاعرة البحر والموجة في صورة أيروسية أو إباحية.. قد تكون إشارة لحالة الكبت الجنسي في مجتمع الشاعرة..؟ ولو افترضنا أننا نعيش في مرحلة ما بعد الفرويدية بأن الثورة الجنسية حدّت من ظاهرة الكبت الجنسي؛ فهل هي وسيلة للشهرة؟ أم رد فعل على التهميش والإقصاء الذي تعاني منه المرأة في هذه المجتمعات؟
غفوت
لم أنم
النوارس ترفع ريشها تحية للملل
البحر أيقظ موته
ضاجع موجته الباردة
لم ير جيدا أن ما كان يشغله هو البداية
لعل مظلة الحداثة منحت الشاعرة حرية في توظيف تشظيات ما بعد الحداثة ببراعة وذكاء مذهل ورغبة صاعقة في تحدي النظم الإيديولوجية لما يعرف بالأمر الواقع، وتهديم قداسة القواعد المقبولة للشكل واللغة، ها هي شاعرتنا تلتحق بالعديد من النساء الأديبات في إعادة هيكلة نظم عفا عليها الزمن وتناضل من أجل المساواة، والتنقيب عن نظم لغوية أيضا تتشظى بعيدا عن الافتراضات المعرفية؛ فكيف لرائحة الدخان أن تمتص جسد امرأة..؟ وتحرجها غرابة القبلة التي باغتت كنز أنوثتها؟؟ فيما تحطم الخوف الذي ينام فيها منذ طفولتها..؟
"تمتصني رائحة الدخان الممتزج بقبلة تحمل معنى الحنين إلى ما يضج في من أنوثة. تحرجني بصراحتها الغريبة، تكسرني، تزلزل ذلك الكائن البدائي النائم في خوفي، تذكره بمعالم أليفة لذاكرة يحاول تناسيها أو اعتبارها طيفا قديما. الخمار البنفسجي يرتعش حول شفتيك الصاخبتين، الدرب الصغير الموغل في دمك.."
ونلمس هنا دعوة إلى المغامرة وتشكيل التجارب الحسية لتحقيق التكامل النفسي.. وأيضا رد فعل على بُنى اجتماعية قائمة على تحقير الجسد وتنزيله مرتبة دونية وخاصة جسد المرأة الذي اقترن بأحكام تنعته بالدنس وتحيطه بمحرمات شتى.. سعت الشاعرة إلى إسقاطها، منطلقة من رؤية تتجه إلى إعادة هيكلة وعي القارئ وإعادة ترتيب الكيان الجسدي للأنثى عبر توظيف الجسد للتعبير عن المعاناة والرغبة في الانعتاق من وضع اجتماعي يعكس بنية مفاهيم عادية تتسم بالجمود الفكري. وفي أثناء تصويرها لذاتها فهي تبحث عن ظلالها، تصارع الظلمة، تتلمس خطواتها في العتمة، لتسترد حضورها..
أشق ثوب المكان
كخطيئة أولى
ترتجف اللعنة
تنطفئ المشاعل في لهفتي
[يغلفني البرود]
............
تشبهنا العتمة، مذاق الشهوة غرائبي
يصعب اجتيازه مرة واحدة
.......... تكتنز بي
الجرة ما زالت فارعة
أحتاجك لنملأ الحكاية
[هذه اللوحة ليست للبيع]
الشعر يكشف حتما عن الحقائق السيكولوجية للذات الشاعرة، وتحديد مكانتها كامرأة يترتب عليها مناهضة أنظمة اجتماعية ساهمت في تكريس وضعها الدوني بِعلّة الأصل البيولوجي، أو العادات والتقاليد الموروثة، في هذا الإطار تشير الدراسات الإنثروبولوجية: أن النساء ما قبل التاريخ في عصر الجماعة القبلية كن متساويات للرجال، وأن الرجال كانوا يعترفون بتلك المساواة، وأن العشيرة التي كان يعمل جميع أفرادها رجالا ونساء كخلية نحل، لا تعرف الاضطهاد والاستغلال..
"نقفل باب شهوتنا الغضة، نعيد كتابة الحكاية بحروف نلونها كيفما نشاء، هذا حديث ضيق، أبوابه تتنهد في وجه العاشقات، الكسولات يؤرقهن النوم المخدر بالوعود، وابتسامات حارقة مذاقها يدمي التفاحات في أيديهن. الصديقات يبتلعن ما أعدته المدينة من موائد الشرف الأخير، يتسلقن أسوار الحاكورة البعيدة، ليمونة تعيد اختزال ما ضاع من أصباغهن...."
في اللوحة السابقة تتقدم شاعرتنا خشبة المسرح الشعري من خلفها جوقة نساء حالمات تخذّرن بالأسطورة الأيروسية في مشهد احتجاجي، صورة للوحة فاتنة، مؤلمة، نادرة في شجاعتها كذلك.. تقدمها للجمهور، للكون ونفحته، للآلام، للأشياء، للأحلام، وللوجه الأمامي والجانبي، لوحة مكتملة العناصر لعذابات المرأة في مجتمع الذكورة بنرجسيتها الخاسرة..! لنقف مرة واحدة ونتحلى بخصلة الشجاعة، ونطالب بالوجه الآخر الذي تروم له الشاعرة.. رهاننا الوحيد، على حد تعبير هايدغر، للخروج ربما من عدميتنا المحضة..
الأصابع الصغيرة تعبث بخاصرتي
تمتزج بما يلعقه الليل مني
رمال أيقظت مرساتها
تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة
ترتجف البقايا في داخلي
حزن برتقالي يمزق نافذتي
تمتلك الحزن
لنبدأ من هذه النقطة
كما في مجمل قصائدها، تلعب الشاعرة على أسلوب التشتت الدلالي، أو ما يطلق عليه تأجيل الدلالة ومراوغتها؛ فالمعنى لديها ملتبس دائما، وهو ليس هناك حيث النظام الدّالي أي التجلي المادي (الفيزيقي) للعلامة وبقدر ما يغلّف النص معناه ببنيته العلاماتية تكون مراوغة المعنى، وفيما يبدو أنها إشارة إلى الكثافة التعبيرية التي تبخل بالإشارة إلى شيء محدد.. كما هي إشارة إلى ضعف العلاقة بين الدال والمدلول وبعد المسافة بينهما، هذا البعد المسافي هو تلك الفجوة التي يتحقق فيها اللعب الحر للمدلولات وتتحقق في الوقت نفسه، وتبعا لذلك كل أشكال التشتت الدلالي من تعدد ولا نهائية وتأجيل وروغان، ولندقق في قول الشاعرة: "الأصابع الصغيرة تعبث بخاصرتي.." فالأصابع تعبث بالخاصرة، لكنها أصابع من؟؟ فيما تذهب في المراوغة وتشتيت الدلالة أو تقريبها عندما تمتزج هذه الأصابع بما لعقه الليل من الشاعرة أو من خاصرتها، فأي ليل هذا الذي يلعق جسد امرأة..؟ يبقى المعنى في قلب الشاعر ومن حق المتلقي أن يفسره حسب ذوقه وثقافته.. في البيت الذي يلي البيت الأول: " رمال أيقظت مرساتها / تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة" تغيب الروابط وتنقطع العلاقات بين عناصر النص وتراكيبه؛ فما علاقة الرمال التي توقظ المرساة بالأصابع التي تعبث بخاصرة امرأة؟؟ وكيف لتلك الرمال أن تحتضن شجرة لا تعرف الرائحة؟؟ بقدر ما يبقى المتلقي بعيدا عن الدلالة يبقى متلذذا متمتعا بالصور التي تدفعه للنهوض وسد الفجوات التي خلقتها الشاعرة في التشتت الدلالي والمراوغة والتأجيل..
أقشر بذور الصمت
في لوحتي العالقة بجدار متعرق
الملوحة تحفر أوديتها
أتذوق الخطوط
أدعي معرفتي بالطعم
أنسى
أن ملح الحجرات مذاقه
كمذاق الأسرار
المخبأة جيدا
لقد قال التصورْيون الروس بأن الصورة هي "النفتالين" الذي يحفظ النتاج من عثّ الزمن. ولعل الشعر العربي بمختلف أزمانه قد لجأ إلى الصورة للتعبير عن تلك الحالات الغامضة التي يتعذر عنها بصورة مباشرة أو لأداء الخصوصية الفعلية لما يحسه الشاعر.. أي صورة تلك التي رسمتها الشاعرة؟؟ ما هي اللوحة المصورة التي تقصدها..؟ التشويش على الحواس تمارسه الشاعرة في صورها المجازية، ولوحتها هنا ليست إلا حياتها بطعمها المالح رسمتها كأودية مالحة دلالة على صعوبة القفز عنها أو معالجة ملوحتها.. وفي البداية تقرر بصوت عال أنها تفضح المستور وتكشف عنه كمن يقشر بذرة جوز مثلا.. الخطوط المالحة تعرف مذاقها تماما، مهما تغيرت حجراتها بأسرارها المخفية تبقى مالحة..
أصحو
يذوب الجليد في خطوتي
للحديث حصّادة يخرج بها من الفناء
تسقط الحبات
الموسم جيد
لا أظن، هذه القصيدة
تكفي
لعلنا من قبل تجوَلْنا ضمن الاختناق الضروري، قادتنا إليه الشاعرة من خلال حرمان مزدوج، خاضته بقوة مهولة يجعلنا غير قادرين على فصل الخيط الأبيض عن الأسود، وهكذا يبقى "القول الشعري" أمينا لمراهناته الغير متوقعة.. أو ما يمكن تسميته شق ملغز وغريب في سماء ملبدة، يعقبها برق يترك آثارا حارقة على الأرض، ولأنها كذلك.. تقربنا أكثر من استمراء اللعبة ورمي النرد لكي يتشكل الرقم الأكبر، الرابح دائما حتى ضمن خسارته الأشد فداحة، إن لم يكن عبر ثقة عالية بالنفس.. وهذا ما توعدت به في المقطع الأخير من قصيدتها الأخيرة في الديوان: أصحو/ يذوب الجليد في خطوتي/ فهي تقرر بثقة عالية لذوبان الجليد تحت فعل كبير هو فعل الشاعرة وخطواتها وثقتها بقصائدها التي لن تنتهي عند القصيدة الأخيرة من الديوان، وحيث أن ديوانها "أبواب" قد صدر قبل ثمان سنوات فمن المؤكد بعدها قالت الكثير من القصائد إن لم يكن ديوان أو أكثر، لكن ظروف النشر والطباعة في غزة ليست بالأمر اليسير..
أخيرا نقول أن المرأة التي لا تتعرى على الورق، ولا تكشف عن رغباتها الطبيعية، فكتابتها لا تلفت الانتباه بما فيه الكفاية، وتصبح صوتا نشازا. فلم تعد الكتابة الأيروسية مصدر اتهام ولم تعد تثير الريبة أو الامتعاض ... لم نعد نشعر في هذه الفترة الزمنية بأن الكتابة النسائية الأيروسية فضيحة تخشاها المبدعة أو تقصيها الرقابة أو يمجها القارئ الرجل، على العكس فكتابات المرأة فاقت كتابات الرجل في الكشف عن المسكوت عنه....
عبد الكريم عليان