أعود لمناقشة طبيعة التحولات التي تعرفها الصين المعاصرة. في مقالي موضوع هذه المناقشة تحدثت عن الشرط الذي لابد من توفره للحديث عن البناء الاشتراكي الطويل. وليس الاشتراكية كهدف نهائي ( وهناك فرق جوهري بينهما سأوضحه في السياق )؛ هذا الشرط هو إنجاز مهام “ثورة وطنية ديمقراطية شعبية" بقيادة الحزب السياسي للطبقة العاملة، وبتحالف مع الفلاحين الفقراء وباقي الكادحين ( حسب شروط الصراع الطبقي في كل بلد معين ). وهو ما تم في الصين بعد انتصار الثورة وقيام الصين الديمقراطية الشعبية في 1949.
التصدي من طرف قيادة الصين المعاصرة لعملية البناء الاشتراكي الطويل ، بدأت من فك الارتباط مع الرأسمالية العالمية عبر هزيمة حليفتها المحلية "البورجوازية الكمبرادورية"، والاقطاع، من خلال الاصلاح الزراعي الذي تم تعميمه على كل الأرياف. وتأميم الصناعة والتجارة. وسياسيا إقامة سلطة العمال والفلاحين بقيادة الحزب الشيوعي. هذه هي الاسس المتينة الذي سوف تنبني عليها فيما بعد العملية المتحولة للبناء الاشتراكي الطويلة الأمد إلى اليوم.
هذه المهام الثورية ( الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية ) في مضمونها الاجتماعي من الناحية التاريخية هي مهام بورجوازية؛ ولكنها سياسيا أصبحت من مهام تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بقيادة حزب الطبقة العاملة، لأن البورجوازية لم تعد مؤهلة في عصر الهيمنة الامبريالية العالمي القيام بهذا الدور التاريخي ( انظر بتفصيل كتاب لينين خطتان للاشتراكية الديمقراطية/ الاعمال الكاملة المجلد الثاني دار التقدم).و هي الشروط للبدء بخلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل التحول للبناء الاشتراكي الطويل الأمد.
مهمة الثورة الديمقراطية الشعبية، ومهمة التحول من أجل البناء الاشتراكي، هما مهمتين متداخلتين ومترابطتين؛ يشكلان فصلين لكتاب واحد؛ شرط انجازهما هو تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بقيادة حزب الطبقة العاملة. الذي يقود التحولات والاصلاحات القائمة على الصراع الطبقي بين تحالف العمال والفلاحين ، وضد القوى الرأسمالية الامبريالية وحلفائها. ولا يستبعد خلال هذا الصراع أن تنتصر من جديد القوى الرأسمالية قبل الانتصار الحاسم على الإمبريالية.
ليس موضوع هذه المقالة تناول كل التحديات والصعوبات التي واجهتها الصين من فترة الخمسينات حتى السبعينات، فهذا تاريخ يشبه كثيرا التحديات التي واجهتها الثورة البلشفية في روسيا. أعني مسالة التنمية والخروج من دائرة التخلف التاريخي الذي كان يرزأ تحته الشعب. فالثورة ليست فقط قضايا نظرية وفكرية، فهي أيضا برامج وخطط تجيب عن حاجيات اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وسياسية ملموسة وحيوية للطبقات الشعبية. اختزلها القائد لينين عشية نجاح الثورة في روسيا المتخلفة بتعبير " سلطة السوفياتات اي السلطة الديمقراطية للعمال والفلاحين، زائد الكهرباء لكل روسيا، وتعني الثورة الصناعية والمكننة ومحو الامية ونشر العلم ومحو الفقر والمجاعة والوقاية الصحية...إلخ".
لتقريب الصورة من القارئ، فالصين الشعبية في 1950 أي عشية الثورة، لا تختلف كثيرا عن بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. إضافة إلى كونها بلدا خرج من حرب اهلية، ووطنية ضد المستعمر دمرت البلد والشعب. أزيد من 90% من ساكنتها كانوا يعيشون في البوادي تطحنهم المجاعات والاوبئة والفقر والامية والفيضانات الموسمية. وبالاعتماد على قواها الذاتية انطلقت قيادة الصين الشعبية في التصدي لمعالجة أوضاع الشعب والبلد. طبعا هذه العملية في البناء لا تخلوا من صراعات طبقية واخفاقات، وايضا نجاحات مبهرة. هذه التحديات الداخلية مرتبطة بتحديات خارجية تفرضها إعادة انتشار الرأسمالية وعولمتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والاشتراكية الديمقراطية وكثلة عدم الانحياز. ولا يمكن مواجهتها بالانغلاق والانكفاء الذاتي/Autarcie كما فعلت القيادة البئيسة في ألبانيا سابقا.
وعلى عكس الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، لم يعش الحزب الشيوعي الصيني نفس الهزات السياسية والفكرية الخطيرة التي عاشها في تاريخه. وخرج الحزب الشيوعي الصيني منها اكثر وحدة وتماسكا. اعني بعد وفاة " ماو" عام 1976 حيث شهدت الساحة الصينية صراعا على السلطة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي داخل القيادة السياسية للحزب الشيوعي الصيني. وقد حسم هذا الصراع خلال الدورة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني في نهاية عام 1978 بتولي الزعامة "دنغ تشاو بينغ". الذي قاد مهمة إعادة البناء وتنظيم البيت الصيني من الداخل. و تمت هزيمة وعزل التيار الانقلابي كأقلية، بسبب إخفاقه في تقديم معالجة لمشاكل الصين والشعب الملموسة آنذاك. وتجاوز الاخطاء التي سببت الركود في التنمية والمجاعة في وسط الستينات بعيدا عن الشعارات الجوفاء. وهناك تقليد مستمر داخل الحزب الشيوعي الصيني إلى اليوم، هو الحفاظ على مكانة وتكريم زعمائه التاريخيين( ماو تسي تونغ، دين شيان بينغ، هوجين تاو…).
الاشتراكية كهدف كما قلت تختلف عن البناء الاشتراكي. هنا مطروحة كحضارة انسانية جديدة. ولكي تكسب معانيها الحقيقية لا بد ان تشكل تجاوزا للنظام الرأسمالي المعولم؛ اي لا بد ان تشكل حلا نهائيا للتناقضات الجوهرية في النظام الرأسمالي:
التناقض ببن الرأسمال والعمل بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وجعلها في ملكية المجتمع تدار بواسطته وفق حاجياته وبهذا يتم زوال استيلاب واغتراب المنتجين عن ثمار إنتاجهم. والتناقض بين المراكز والاطراف اي القضاء على قوانين التبعية والتخلف وتوزيع العمل الدولي. والتناقض بين قوانين التراكم و التنمية الذي يسبب تدمير نظم البيئة.
ولا يمكن الوصول لهذا الهدف إلا عندما تصبح التحولات الديمقراطية ( بمفهومها الواسع ) قوية إلى درجة يتحول معها المواطنون المنتجون إلى أسياد لكل القرارات التي تتخذ على كل مستويات الحياة الاجتماعية من مكان العمل إلى قمة الدولة". لهذا فالديمقراطية شرط اساسي لبناء الاشتراكية. و لا يمكن بلوغ هذه النتيجة في بضع سنوات، أوفي بلد واحد في العالم. لان الامر يتعلق بقضايا لا تقل اهمية عن بناء ثقافة جديدة وانسان جديد، ويتطلب توالي أجيال، و يجب كذلك ان تتحول تدريجيا في حركتها الخاصة. أما إلغاء ملكية وسائل الانتاج (الرساميل والارض ) ليس إلغاء الملكية القانونية فقط، ولكن الحيازة الخاصة لوسائل الانتاج. فهي المقدمة الضرورية التي تفتح الطريق الطويل الممكن نحو بناء ملكية المجتمع / الاشتراكية. فهل مثلا يمكن اليوم تصور تراجع دور الدولة المركزي في الصين امام تحديات الامبريالية الامريكية العدوانية؟ وهل يمكن تصور إقامة سلطة المنتجين ( العمال والخبراء الفنيين ) في بلد متخلف يشكلون فيه اقلية.
أما مواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية المتداخلة ، فلا يمكن أن تتم بفكر منغلق يعيش على الحنين إلى الماضي. أو صياغات فكرية تكرر نفسها بمسميات مختلفة (ستالينية، تروتسكية، ماوية). فماركسية القرن الواحد والعشرون لابد ان تغتني بنقد تاريخها حتى تدرك معنى ومدى الجديد الفعلي الذي يطرحه التوسع العالمي للرأسمالية والتحديات التي تفرضها. ولا بد ان يكون هذا النقد كونيا متحررا من أية مركزية غربية. فلا مجال بعد الان لإعطاء الدروس من أحد اسمه مثلا "الاخ الاكبر".
تقدم الصين المعاصرة تجربة متميزة في البناء الاشتراكي الطويل الامد في رايي، واستطاعت بقيادة الحزب الشيوعي ان تحل عمليا العديد من التحديات الداخلية والخارجية؛ ولا ازعم انها مثال يجب تقليده. عملية البناء هذه يسميها الصينيون "البناء الاشتراكي وفق خصائص الصين"، ولا تقوم بتصديره كنموذج. هذا المفهوم للبناء الاشتراكي الطويل ينسجم مع المدى الزمني في حكمتهم، التي تعتبر مائة سنة هي المدى الزمني المتوسط. وهذا سر صبرهم في معالجة التحديات والمشاكل ؛ وليس ترددا او نكوصا او خوفا من المواجهة. و أيضا تستند على تفكيرهم الاستراتيجي، ومهاراتهم العالية في التعلم من أخطاء الآخرين. ولا بد من متابعة هذه التجربة بالنقد الموضوعي عوض إطلاق الاحكام الجاهزة.
أحد المعلقين على مقالي السابق سألني بشيء من الدكاء الماكر: لم تجب عن السؤال المطروح، هل الصين رأسمالية ام اشتراكية؟ أقول إن مقاربة الصين المعاصرة يجب ان تكون بناء على كونها تشكيلة اجتماعية اقتصادية ملموسة/ formation socio- économique concrète ، وليس كنمط انتاج مجرد/ mode de production abstrait ، الذي يعتبر مفهوما/ concept علميا، بلوره كارل ماركس لتحليل نمط الانتاج الرأسمالي في منتصف القرن 19. فالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية لمجتمع معين هي واقعية وتاريخية ، وتكون مركبة من عدة انماط للإنتاج، ويكون نمط انتاج واحد هو المهيمن وهو بمثابة الحاضنة/ La matrice.
على ضوء هذه المقاربة، أجيب بان الصين المعاصرة في رايي تمشي على رجلين، في إطار الاقتصاد المختلط الكلي. وتتشكل من أسلوب إنتاج اشتراكي وهو الحاضنة، يستند إلى الملكية العامة لوسائل الانتاج ومشاريع الدولة الصناعية والتجارية، وتعميق سياسة الإصلاح الزراعي . متداخل مع أسلوب إنتاج رأسمالي. يسمح فيه بالأخذ بآليات اقتصاد السوق الرأسمالي، من حيث الضرائب والقروض والتبادل الخارجي، وتعديل نظام التسعير والربح في تقييم الأداء والاستثمار؛ لتشجيع النمو القوي للقطاع الخاص غير الحكومي وفي المناطق الاقتصادية الحرة، وحتى في بعض المؤسسات الخاصة المملوكة للدولة. هذا الاقتصاد المختلط الكلي يخضع إلى التخطيط والضبط، وليس لآليات السوق الرأسمالية العمياء التي تهدف فقط إلى إرباح الرأسماليين وإفقار المنتجين. و ذلك من أجل وبهدف التحكم في توزيع العوائد المادية العامة للقضاء على الفقر وعدم المساواة والتنمية البشرية المستديمة. بفعل حزب شيوعي قوي، منظم تنظيماً تراتبيا صارما، تتداخل اختصاصاته مع اختصاصات الهيئات الحكومية والدولتية المركزية والمناطقية. يتخذ نهجاً مدروساً للتحول الشامل الاقتصادي والاجتماعي والاصلاحات النوعية المطلوبة في كل مرحلة. وصياغة السياسات العمومية للدولة داخليا وخارجياً. ويمثل إطارا فكريا وإيديولوجيا متكاملا. يبلور ويحدد الغايات النهائية للمجتمع ويقدم تفسيرا للواقع الاجتماعي العام. طبعا فالمجتمع الصيني يشهد تناقضات طبقية، يشكل العمال الاغلبية في المدن والارياف والبورجوازية الصغيرة والمتوسطة كذلك، وفئة من الرأسماليين الكبار.
هذا الاقتصاد المختلط الكلي الخاضع للتخطيط هو الذي بوأ الصين المرتبة التي تحتلها الان، ويمثل 25% من الاقتصاد العالمي، ويسجل معدلا للنمو بحوالي 7% في ظل الازمة التي تخيم على النظام الرأسمالي المعولم. وحقق تنمية بشرية للشعب الصيني. فما جدوى النمو الاقتصادي إن لم ينعكس على تحسين حياة الشعب؛ التي ينبغي أن يتمتع بها الأفراد في سياق عملية التنمية. فكلما تقلص هامش الفقر والحرمان، إلا وتمدد هامش التنمية وتوسع نطاق الحريات والقدرات والخيارات.
والتنمية البشرية المستديمة هي نقيض للرأسمالية، ونقيض لوصفات المؤسسات المالية الدولية المفروضة على دول الجنوب تحث مسمى اللحاق بركب التقدم/Le rattrapage. وهو الذي مكن الصين من انتشال 800 مليون فرد صيني من الفقر (سبة سكان الصين الذين يعيشون في فقر مدقع انخفضت من 97.5 في المئة في عام 1978 إلى 1.7 في المئة فقط في عام 2019، في حين زاد دخل الفرد 20 ضعفاً خلال نفس الفترة). ومكن من تسجيل 4 % كمعدل للبطالة، و حققت الصين تسع سنوات من التعليم الإلزامي بشكل شامل. وعلى مدى العقد الاخير، التحق 99 % في المئة من الأطفال بالمدرسة . ووفر نظاما صحيا وتغطية اجتماعية لجميع العاملين في المدن والبوادي. وشبكة تعليمية وجامعات وبحث علمي جعل من الصين الاولى في الاصدارات العلمية والاكتشافات في مجالات عدة تعد دقيقة/ Technologie de pointe.
اما على الصعيد الخارجي، فقد نهجت الصين المعاصرة الانفتاح الخارجي في إطار نظام دولي تهيمن فيه الرأسمالية المعولمة من دون التسليم للولايات المتحدة بالدور المهيمن والقيادي و القبول بوضعية التبعية في علاقتها عموما بالدول الغربية. وأن هذا التحول في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والتجاري، او كما يسميه أحدهم "بالتشابك الاقتصادي والتجاري"، كان هادئا وعميقا ومتدرجا حتى وإن بدا بطيئا. ويخضع وهذا هو الاهم لمصلحة التنمية الداخلية في الصين. فقد دخلت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ونظام النقد العالمي الذي تقوده السياسة النقدية والمالية الأمريكية ،ويقوم على اعتبار الدولار العملة الاحتياطية الاولى؛ وذلك وفق شروط الصين. اعطي كمثال فقد رفضت الصين التوقيع على الاتفاقية الخاصة بالملكية الفكرية ( براءة الاختراع ) وجاء على لسان رئيس وزراء الصين قوله: "تطلبون من الصين ان تعترف لكم بحقوق الملكية، فلماذا لا تعترفون بحقوق الصين التاريخية في صناعة البارود والة الطباعة والورق وغيرها، و كان لهذه الاختراعات الصينية دورا حاسما في مسيرة تقدم الانسانية". هذه السياسة الخارجية مكنت الصين من استعادة هونغ كونغ ومكاو المستعمرتين.
أما سياسة النقد المتبعة في ظل هيمنة الدولار كعملة احتياطية اولى ، وهي إحدى الادوات التي بنت عليها الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية والتجارية والسياسية. فعندما ظهرت لأول مرة مخاوف حقيقية حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية خصوصا بعد ازمة 2008. و في تقرير اصدره خبراء البنك الامريكي ا Goldman Sachs وجهوا تحذيرا من أن السياسة النقدية والمالية الأمريكية المتبعة التي شبهها احدهم "كرمي الأموال من طائرة مروحية" قد تقوض بشكل كبير الثقة العالمية في الدولار.
وعليه فإن الصين لم تفوت استغلال هذا الوضع. وقد لا تكون هناك لحظة أفضل لضرب السلاح المنافس الجيوسياسي الأهم، أي الدولار. وهكذا فوفقا للإدارة الحكومية للعملات الأجنبية في جمهورية الصين الشعبية، زادت في سنة 2018 النسبة المئوية للمدفوعات والإيصالات المقومة بالإيوان، في إجمالي معاملات الصرف الأجنبي التي أجرتها البنوك لعملائها على مدى عامين، من 19 إلى 37 %. ويقدر خبراء بلومبرغ بدورهم أن استخدام الدولار من قبل الشركات الصينية في المعاملات عبر الحدود انخفض، خلال هذه الفترة، من 70 إلى 56%.. فالصين تنتهج سياسة التخلي عن الدولار دون ضجيج. وأولى نتائجه تجريد الولايات المتحدة من سلاح الدولار في سياسة العقوبات التي كانت تمارسها.
لقد أضحت المعضلة الكبيرة التي تواجه الصين منذ2006 ، هي كيفية تحقيق التنمية المستدامة خلال السنوات العشرين المقبلة، مع بناء نظام إيكولوجي يرتقي بالتنمية المستدامة إلى مستوى الحضارة الإنسانية ويضيف حيوية جديدة لها في الصين. في كافة المجالات وفي كافة أعمال البناء الاقتصادي والبناء السياسي والبناء الاجتماعي والبناء الثقافي. فالأثر الكبير الذي خلقته التحولات الاقتصادية الكبيرة كان لها أثرا سلبيا ومكلفا على البيئة.
في المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 2012 ، تم وضع المنظومة النظرية لبناء الحضارة الإيكولوجية ضمن "البناءات الخمسة (البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء الاجتماعي، البناء الثقافي، البناء الإيكولوجي) المتكاملة" ، في التخطيط العام للحزب والدولة. تم وضعت منظومة قانونية صارمة، ركيزتها الهامة هي معالجة التلوث البيئي، ودعامتها هي الثقافة الإيكولوجية والحياة الخضراء.
وتوالى صدور القوانين: نظام حقوق ملكية و الثروات والأصول الطبيعية، إقامة نظام تنمية وحماية الأراضي والفضاءات الوطنية، إنشاء منظومة تخطيط الفضاءات، إكمال نظام الإدارة الشاملة والاستخدام المقتصد للموارد، إكمال نظام استخدام الثروات بمقابل والتعويض الإيكولوجي، إنشاء وإكمال منظومة معالجة البيئة، إكمال منظومة سوق معالجة البيئة وحماية البيئة الإيكولوجية، وإقامة نظام تقييم وفحص النتائج، والمساءلة والمسؤولية القانونية عن التنمية الإيكولوجية. وقد تحققت تطورات ملحوظة في بناء سيادة القانون للبيئة في الصين، حيث تم تنقيح وتعديل قانون حماية البيئة وقانون الوقاية من التلوث الجوي ومعالجته وقانون الوقاية من التلوث المائي ومعالجته، والإسراع في وضع قانون الوقاية من تلوث التربة ومعالجته.
على مستوى التشريع الجنائي تم تعزيز تطبيق قانون البيئة فقدمت محكمة الشعب العليا ونيابة الشعب العامة العليا تفسيرا قضائيا لتخفيض معايير إدانة المتهم، وأنشأت محكمة الشعب العليا دائرة قضائية خاصة بالموارد البيئية. في الوقت ذاته، فإن المراقبة البيئية التي تقوم بها الحكومة المركزية في أنحاء البلاد، تلعب دورا فعالا في حل بعض المشكلات المزمنة.
بعد دخول القوانين المنظمة حيز التنفيذ، بدأت النتائج الايجابية تظهر:
1- تصحيح انحراف تقييم الإنجازات وفقا لسرعة النمو الاقتصادي، وذلك بتحسين أعمال تقييم إنجازات الهيئات القيادية والكوادر القيادية الحزبية والحكومية المحلية. وقد شهد الهيكل الصناعي تحسنا ملحوظا، كما انخفض مستوى استهلاك الطاقة والموارد.
2- تحققت نتائج إيجابية في بناء المرافق البيئية التحتية، حيث بلغت قدرة معالجة المياه المستعملة في المناطق الحضرية الصينية 182 مليون طن يوميا، حتى نهاية عام 2015، وأصبحت الصين واحدة من أكثر دول العالم قدرة على معالجة المياه المستعملة. وارتفعت نسبة معالجة المياه المستعملة في المدن الصينية إلى 92%، وبلغت نسبة التخلص من المخلفات بدون تلويث البيئة في المناطق الحضرية 1ر94%. وتسير عملية المعالجة الشاملة للبيئة الريفية بسلاسة، وتم تطبيق منظومة المعالجة البيئية الشاملة في اثنتين وسبعين ألف قرية، وتركيب معدات لمعالجة المخلفات والتخلص منها واستخدام الموارد في واحد وستين ألف مزرعة للثروة الحيوانية.
3- ارتفاع ملحوظ للوعي الحضاري الإيكولوجي. تواصل الصين تعزيز تعميم الوعي بحماية البيئة الإيكولوجية، وتعلن بيانات جودة البيئة والانبعاثات الملوثة للمؤسسات والتقييم البيئي للمشروعات وتدقيقها والموافقة عليها وغيرها من البيانات، ووسعت قنوات ونطاق المشاركة الشعبية في ذلك، فتحول الشعب من متلق سلبي لبيانات ومعلومات الحضارة الإيكولوجية إلى متلق إيجابي متحمس، وارتفع الوعي العام بالمشاركة الجماهيرية في بناء الحضارة الإيكولوجية.
وإجمالا نقول، إن هذه الإنجازات تشمل كل المستويات وكافة الجوانب نظريا وعمليا، فتشكلت في الصين منظومة نظرية وتطبيقية كاملة لبناء الحضارة الإيكولوجية. وهو اختيار ضروري لتنمية الصين، و أيضا تجسيدا لمبادرة الصين بتحمل مسؤولية التنمية المستدامة العالمية. فالصين دولة شاسعة المساحة كثيرة السكان، مما يجعل استهلاكها للموارد وتلويث البيئة فيها يؤثران على العالم. إن الصين، التي حققت إنجازات عديدة في معالجة البيئة، تدرك أن الحضارة الإيكولوجية ترتبط بالتنمية المستدامة للأمة الصينية، ومن ثم فإنها تحرص على بناء الحضارة الإيكولوجية ، فقدمت بذلك مساهمات لمعالجة المشكلات البيئية العالمية، بالتزامن مع معالجة مشكلاتها البيئية.
لقد اعترف المجتمع الدولي ببناء الحضارة الإيكولوجية في الصين. في عام 2013، أُدرج مفهوم الحضارة الإيكولوجية للصين في قرار الدورة الثانية والسبعين لاجتماع برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفي عام 2016، أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقرير (الجبال الخضراء والمياه النقية هي جبال من ذهب وفضة: الاستراتيجيات والعمليات الصينية للحضارة الإيكولوجية). وقال أتشيم شتاينر، الرئيس التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: "بناء الحضارة الإيكولوجية في الصين استكشاف مفيد وتطبيق مفصل لمفهوم التنمية المستدامة، ويمكن للدول الأخرى أن تستفيد منه خلال مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية المتشابهة". حاولت سرد هذه المعطيات المتوفرة في برامج الامم المتحدة الخاصة بالبيئة، كجواب عملي على الشعار الجديد الذي يردده البعض حول الصين "الامبريالية البيئية"
سؤال يطرح نفسه على الماركسيين كما قدمهم الرفيق عزيز محب، الذين يعبرون ويدافعون عن وجهة نظر التي تعتبر الصين المعاصرة بلدا رأسماليا، وأنت تنتصر لهذا الراي في مناقشتك.
السؤال هو: إذا كانت الصين المعاصرة شعبا ودولة قد حققت هذه التحولات الكبيرة بشهادة أعدائها ( ملاحظة كل المعطيات والمؤشرات الرقمية في هذا المقال هي مأخوذة من تقارير الامم المتحدة ) بواسطة نظام رأسمالي كما تدعي؟ فمنطق الاشياء يقول في هذه الحالة، إن النظام الرأسمالي لم يستنفذ ضرورته التاريخية . بمعنى انه لا زال نظاما اجتماعيا واقتصاديا تقدميا قادرا على انتشال الشعوب من الفقر والتخلف وتحقيق التنمية. وما علي هؤلاء الماركسيين إلا الاعتراف اليوم قبل الغد بالرأسمالية كقوة دافعة لتطور البشرية.
سيجيب البعض بان الامر مشابه لكوريا الجنوبية أو بعض الدول الاسيوية التي يسمونها بالمعجزة. لكن ينسون ان هذه الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة قد تكونت بإرادة و دعم من الولايات المتحدة وحلفائها. وفي إطار مواجهة "المد الشيوعي " وتخضع لهيمنة امريكا في كل شيء.
لقد قلت في مقالي السابق، لكي تستقيم المقارنة مع الصين. فإن الهند هي البلد المؤهل لهذه المقارنة . فالإنجازات الايجابية التي حققتها في تاريخها الحديث، في إطار سياسات عدم الانحياز ذات الطابع الوطني التحرري . والتي مكنتها من بناء اسس تنمية بشرية واعدة . سرعان ما تبخرت هذه الانجازات بعد ان سقطت في حبال التبعية لأمريكا . و تخلت عن هذه السياسات الوطنية المستقلة ولا أقول اشتراكية. النتيجة هي ان الهند المعاصرة يتخبط شعبها في الفقر والمرض والتخلف والامية والصراعات المذهبية التي تهدد وحدتها في ظل حكم اصبح طائفي التوجه.
ملاحظة: لقد ركزت في مقالي على مناقشة طبيعة التحولات في الصين المعاصرة على ضوء الاتهامات التي عرضت، رأسمالية، امبريالية. ولم تتح لي مناقشة قضايا اخرى مرتبطة بتطور الصين. وإذا كان هناك من نقد مرتبط بالصين حاليا، ففي رأيي هو الديمقراطية السياسية. وفي هذا الصدد سأقوم عندما تسمح الظروف بتقديم وجهة نظر في الموضوع بعيدا عن المفهوم الليبرالي المزعوم للديمقراطية.
أسمح لي أيها الصديق بهذه الكلمة الاخيرة، ان أتوجه لبعض القابعين في جحورهم التي طالها العنكبوت، مختفين وراء "الجمل الثورية" التي يطلقونها بين الحين والاخر، غير قادرين على تقديم ولو فكرة نبيهة، و بالأحرى تصورا لمشروع فكري قابل للنقاش، ظنا منهم انهم يسجلون بعض النقط في شباكهم الفارغة. أقول لهم ارتاحوا في جحوركم وناموا هنيئا. (انتهى)
التصدي من طرف قيادة الصين المعاصرة لعملية البناء الاشتراكي الطويل ، بدأت من فك الارتباط مع الرأسمالية العالمية عبر هزيمة حليفتها المحلية "البورجوازية الكمبرادورية"، والاقطاع، من خلال الاصلاح الزراعي الذي تم تعميمه على كل الأرياف. وتأميم الصناعة والتجارة. وسياسيا إقامة سلطة العمال والفلاحين بقيادة الحزب الشيوعي. هذه هي الاسس المتينة الذي سوف تنبني عليها فيما بعد العملية المتحولة للبناء الاشتراكي الطويلة الأمد إلى اليوم.
هذه المهام الثورية ( الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية ) في مضمونها الاجتماعي من الناحية التاريخية هي مهام بورجوازية؛ ولكنها سياسيا أصبحت من مهام تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بقيادة حزب الطبقة العاملة، لأن البورجوازية لم تعد مؤهلة في عصر الهيمنة الامبريالية العالمي القيام بهذا الدور التاريخي ( انظر بتفصيل كتاب لينين خطتان للاشتراكية الديمقراطية/ الاعمال الكاملة المجلد الثاني دار التقدم).و هي الشروط للبدء بخلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية من أجل التحول للبناء الاشتراكي الطويل الأمد.
مهمة الثورة الديمقراطية الشعبية، ومهمة التحول من أجل البناء الاشتراكي، هما مهمتين متداخلتين ومترابطتين؛ يشكلان فصلين لكتاب واحد؛ شرط انجازهما هو تحالف الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بقيادة حزب الطبقة العاملة. الذي يقود التحولات والاصلاحات القائمة على الصراع الطبقي بين تحالف العمال والفلاحين ، وضد القوى الرأسمالية الامبريالية وحلفائها. ولا يستبعد خلال هذا الصراع أن تنتصر من جديد القوى الرأسمالية قبل الانتصار الحاسم على الإمبريالية.
ليس موضوع هذه المقالة تناول كل التحديات والصعوبات التي واجهتها الصين من فترة الخمسينات حتى السبعينات، فهذا تاريخ يشبه كثيرا التحديات التي واجهتها الثورة البلشفية في روسيا. أعني مسالة التنمية والخروج من دائرة التخلف التاريخي الذي كان يرزأ تحته الشعب. فالثورة ليست فقط قضايا نظرية وفكرية، فهي أيضا برامج وخطط تجيب عن حاجيات اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وسياسية ملموسة وحيوية للطبقات الشعبية. اختزلها القائد لينين عشية نجاح الثورة في روسيا المتخلفة بتعبير " سلطة السوفياتات اي السلطة الديمقراطية للعمال والفلاحين، زائد الكهرباء لكل روسيا، وتعني الثورة الصناعية والمكننة ومحو الامية ونشر العلم ومحو الفقر والمجاعة والوقاية الصحية...إلخ".
لتقريب الصورة من القارئ، فالصين الشعبية في 1950 أي عشية الثورة، لا تختلف كثيرا عن بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. إضافة إلى كونها بلدا خرج من حرب اهلية، ووطنية ضد المستعمر دمرت البلد والشعب. أزيد من 90% من ساكنتها كانوا يعيشون في البوادي تطحنهم المجاعات والاوبئة والفقر والامية والفيضانات الموسمية. وبالاعتماد على قواها الذاتية انطلقت قيادة الصين الشعبية في التصدي لمعالجة أوضاع الشعب والبلد. طبعا هذه العملية في البناء لا تخلوا من صراعات طبقية واخفاقات، وايضا نجاحات مبهرة. هذه التحديات الداخلية مرتبطة بتحديات خارجية تفرضها إعادة انتشار الرأسمالية وعولمتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والاشتراكية الديمقراطية وكثلة عدم الانحياز. ولا يمكن مواجهتها بالانغلاق والانكفاء الذاتي/Autarcie كما فعلت القيادة البئيسة في ألبانيا سابقا.
وعلى عكس الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، لم يعش الحزب الشيوعي الصيني نفس الهزات السياسية والفكرية الخطيرة التي عاشها في تاريخه. وخرج الحزب الشيوعي الصيني منها اكثر وحدة وتماسكا. اعني بعد وفاة " ماو" عام 1976 حيث شهدت الساحة الصينية صراعا على السلطة بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي داخل القيادة السياسية للحزب الشيوعي الصيني. وقد حسم هذا الصراع خلال الدورة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني في نهاية عام 1978 بتولي الزعامة "دنغ تشاو بينغ". الذي قاد مهمة إعادة البناء وتنظيم البيت الصيني من الداخل. و تمت هزيمة وعزل التيار الانقلابي كأقلية، بسبب إخفاقه في تقديم معالجة لمشاكل الصين والشعب الملموسة آنذاك. وتجاوز الاخطاء التي سببت الركود في التنمية والمجاعة في وسط الستينات بعيدا عن الشعارات الجوفاء. وهناك تقليد مستمر داخل الحزب الشيوعي الصيني إلى اليوم، هو الحفاظ على مكانة وتكريم زعمائه التاريخيين( ماو تسي تونغ، دين شيان بينغ، هوجين تاو…).
الاشتراكية كهدف كما قلت تختلف عن البناء الاشتراكي. هنا مطروحة كحضارة انسانية جديدة. ولكي تكسب معانيها الحقيقية لا بد ان تشكل تجاوزا للنظام الرأسمالي المعولم؛ اي لا بد ان تشكل حلا نهائيا للتناقضات الجوهرية في النظام الرأسمالي:
التناقض ببن الرأسمال والعمل بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وجعلها في ملكية المجتمع تدار بواسطته وفق حاجياته وبهذا يتم زوال استيلاب واغتراب المنتجين عن ثمار إنتاجهم. والتناقض بين المراكز والاطراف اي القضاء على قوانين التبعية والتخلف وتوزيع العمل الدولي. والتناقض بين قوانين التراكم و التنمية الذي يسبب تدمير نظم البيئة.
ولا يمكن الوصول لهذا الهدف إلا عندما تصبح التحولات الديمقراطية ( بمفهومها الواسع ) قوية إلى درجة يتحول معها المواطنون المنتجون إلى أسياد لكل القرارات التي تتخذ على كل مستويات الحياة الاجتماعية من مكان العمل إلى قمة الدولة". لهذا فالديمقراطية شرط اساسي لبناء الاشتراكية. و لا يمكن بلوغ هذه النتيجة في بضع سنوات، أوفي بلد واحد في العالم. لان الامر يتعلق بقضايا لا تقل اهمية عن بناء ثقافة جديدة وانسان جديد، ويتطلب توالي أجيال، و يجب كذلك ان تتحول تدريجيا في حركتها الخاصة. أما إلغاء ملكية وسائل الانتاج (الرساميل والارض ) ليس إلغاء الملكية القانونية فقط، ولكن الحيازة الخاصة لوسائل الانتاج. فهي المقدمة الضرورية التي تفتح الطريق الطويل الممكن نحو بناء ملكية المجتمع / الاشتراكية. فهل مثلا يمكن اليوم تصور تراجع دور الدولة المركزي في الصين امام تحديات الامبريالية الامريكية العدوانية؟ وهل يمكن تصور إقامة سلطة المنتجين ( العمال والخبراء الفنيين ) في بلد متخلف يشكلون فيه اقلية.
أما مواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية المتداخلة ، فلا يمكن أن تتم بفكر منغلق يعيش على الحنين إلى الماضي. أو صياغات فكرية تكرر نفسها بمسميات مختلفة (ستالينية، تروتسكية، ماوية). فماركسية القرن الواحد والعشرون لابد ان تغتني بنقد تاريخها حتى تدرك معنى ومدى الجديد الفعلي الذي يطرحه التوسع العالمي للرأسمالية والتحديات التي تفرضها. ولا بد ان يكون هذا النقد كونيا متحررا من أية مركزية غربية. فلا مجال بعد الان لإعطاء الدروس من أحد اسمه مثلا "الاخ الاكبر".
تقدم الصين المعاصرة تجربة متميزة في البناء الاشتراكي الطويل الامد في رايي، واستطاعت بقيادة الحزب الشيوعي ان تحل عمليا العديد من التحديات الداخلية والخارجية؛ ولا ازعم انها مثال يجب تقليده. عملية البناء هذه يسميها الصينيون "البناء الاشتراكي وفق خصائص الصين"، ولا تقوم بتصديره كنموذج. هذا المفهوم للبناء الاشتراكي الطويل ينسجم مع المدى الزمني في حكمتهم، التي تعتبر مائة سنة هي المدى الزمني المتوسط. وهذا سر صبرهم في معالجة التحديات والمشاكل ؛ وليس ترددا او نكوصا او خوفا من المواجهة. و أيضا تستند على تفكيرهم الاستراتيجي، ومهاراتهم العالية في التعلم من أخطاء الآخرين. ولا بد من متابعة هذه التجربة بالنقد الموضوعي عوض إطلاق الاحكام الجاهزة.
أحد المعلقين على مقالي السابق سألني بشيء من الدكاء الماكر: لم تجب عن السؤال المطروح، هل الصين رأسمالية ام اشتراكية؟ أقول إن مقاربة الصين المعاصرة يجب ان تكون بناء على كونها تشكيلة اجتماعية اقتصادية ملموسة/ formation socio- économique concrète ، وليس كنمط انتاج مجرد/ mode de production abstrait ، الذي يعتبر مفهوما/ concept علميا، بلوره كارل ماركس لتحليل نمط الانتاج الرأسمالي في منتصف القرن 19. فالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية لمجتمع معين هي واقعية وتاريخية ، وتكون مركبة من عدة انماط للإنتاج، ويكون نمط انتاج واحد هو المهيمن وهو بمثابة الحاضنة/ La matrice.
على ضوء هذه المقاربة، أجيب بان الصين المعاصرة في رايي تمشي على رجلين، في إطار الاقتصاد المختلط الكلي. وتتشكل من أسلوب إنتاج اشتراكي وهو الحاضنة، يستند إلى الملكية العامة لوسائل الانتاج ومشاريع الدولة الصناعية والتجارية، وتعميق سياسة الإصلاح الزراعي . متداخل مع أسلوب إنتاج رأسمالي. يسمح فيه بالأخذ بآليات اقتصاد السوق الرأسمالي، من حيث الضرائب والقروض والتبادل الخارجي، وتعديل نظام التسعير والربح في تقييم الأداء والاستثمار؛ لتشجيع النمو القوي للقطاع الخاص غير الحكومي وفي المناطق الاقتصادية الحرة، وحتى في بعض المؤسسات الخاصة المملوكة للدولة. هذا الاقتصاد المختلط الكلي يخضع إلى التخطيط والضبط، وليس لآليات السوق الرأسمالية العمياء التي تهدف فقط إلى إرباح الرأسماليين وإفقار المنتجين. و ذلك من أجل وبهدف التحكم في توزيع العوائد المادية العامة للقضاء على الفقر وعدم المساواة والتنمية البشرية المستديمة. بفعل حزب شيوعي قوي، منظم تنظيماً تراتبيا صارما، تتداخل اختصاصاته مع اختصاصات الهيئات الحكومية والدولتية المركزية والمناطقية. يتخذ نهجاً مدروساً للتحول الشامل الاقتصادي والاجتماعي والاصلاحات النوعية المطلوبة في كل مرحلة. وصياغة السياسات العمومية للدولة داخليا وخارجياً. ويمثل إطارا فكريا وإيديولوجيا متكاملا. يبلور ويحدد الغايات النهائية للمجتمع ويقدم تفسيرا للواقع الاجتماعي العام. طبعا فالمجتمع الصيني يشهد تناقضات طبقية، يشكل العمال الاغلبية في المدن والارياف والبورجوازية الصغيرة والمتوسطة كذلك، وفئة من الرأسماليين الكبار.
هذا الاقتصاد المختلط الكلي الخاضع للتخطيط هو الذي بوأ الصين المرتبة التي تحتلها الان، ويمثل 25% من الاقتصاد العالمي، ويسجل معدلا للنمو بحوالي 7% في ظل الازمة التي تخيم على النظام الرأسمالي المعولم. وحقق تنمية بشرية للشعب الصيني. فما جدوى النمو الاقتصادي إن لم ينعكس على تحسين حياة الشعب؛ التي ينبغي أن يتمتع بها الأفراد في سياق عملية التنمية. فكلما تقلص هامش الفقر والحرمان، إلا وتمدد هامش التنمية وتوسع نطاق الحريات والقدرات والخيارات.
والتنمية البشرية المستديمة هي نقيض للرأسمالية، ونقيض لوصفات المؤسسات المالية الدولية المفروضة على دول الجنوب تحث مسمى اللحاق بركب التقدم/Le rattrapage. وهو الذي مكن الصين من انتشال 800 مليون فرد صيني من الفقر (سبة سكان الصين الذين يعيشون في فقر مدقع انخفضت من 97.5 في المئة في عام 1978 إلى 1.7 في المئة فقط في عام 2019، في حين زاد دخل الفرد 20 ضعفاً خلال نفس الفترة). ومكن من تسجيل 4 % كمعدل للبطالة، و حققت الصين تسع سنوات من التعليم الإلزامي بشكل شامل. وعلى مدى العقد الاخير، التحق 99 % في المئة من الأطفال بالمدرسة . ووفر نظاما صحيا وتغطية اجتماعية لجميع العاملين في المدن والبوادي. وشبكة تعليمية وجامعات وبحث علمي جعل من الصين الاولى في الاصدارات العلمية والاكتشافات في مجالات عدة تعد دقيقة/ Technologie de pointe.
اما على الصعيد الخارجي، فقد نهجت الصين المعاصرة الانفتاح الخارجي في إطار نظام دولي تهيمن فيه الرأسمالية المعولمة من دون التسليم للولايات المتحدة بالدور المهيمن والقيادي و القبول بوضعية التبعية في علاقتها عموما بالدول الغربية. وأن هذا التحول في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والتجاري، او كما يسميه أحدهم "بالتشابك الاقتصادي والتجاري"، كان هادئا وعميقا ومتدرجا حتى وإن بدا بطيئا. ويخضع وهذا هو الاهم لمصلحة التنمية الداخلية في الصين. فقد دخلت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ونظام النقد العالمي الذي تقوده السياسة النقدية والمالية الأمريكية ،ويقوم على اعتبار الدولار العملة الاحتياطية الاولى؛ وذلك وفق شروط الصين. اعطي كمثال فقد رفضت الصين التوقيع على الاتفاقية الخاصة بالملكية الفكرية ( براءة الاختراع ) وجاء على لسان رئيس وزراء الصين قوله: "تطلبون من الصين ان تعترف لكم بحقوق الملكية، فلماذا لا تعترفون بحقوق الصين التاريخية في صناعة البارود والة الطباعة والورق وغيرها، و كان لهذه الاختراعات الصينية دورا حاسما في مسيرة تقدم الانسانية". هذه السياسة الخارجية مكنت الصين من استعادة هونغ كونغ ومكاو المستعمرتين.
أما سياسة النقد المتبعة في ظل هيمنة الدولار كعملة احتياطية اولى ، وهي إحدى الادوات التي بنت عليها الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية والتجارية والسياسية. فعندما ظهرت لأول مرة مخاوف حقيقية حول مستقبل الدولار كعملة احتياطية خصوصا بعد ازمة 2008. و في تقرير اصدره خبراء البنك الامريكي ا Goldman Sachs وجهوا تحذيرا من أن السياسة النقدية والمالية الأمريكية المتبعة التي شبهها احدهم "كرمي الأموال من طائرة مروحية" قد تقوض بشكل كبير الثقة العالمية في الدولار.
وعليه فإن الصين لم تفوت استغلال هذا الوضع. وقد لا تكون هناك لحظة أفضل لضرب السلاح المنافس الجيوسياسي الأهم، أي الدولار. وهكذا فوفقا للإدارة الحكومية للعملات الأجنبية في جمهورية الصين الشعبية، زادت في سنة 2018 النسبة المئوية للمدفوعات والإيصالات المقومة بالإيوان، في إجمالي معاملات الصرف الأجنبي التي أجرتها البنوك لعملائها على مدى عامين، من 19 إلى 37 %. ويقدر خبراء بلومبرغ بدورهم أن استخدام الدولار من قبل الشركات الصينية في المعاملات عبر الحدود انخفض، خلال هذه الفترة، من 70 إلى 56%.. فالصين تنتهج سياسة التخلي عن الدولار دون ضجيج. وأولى نتائجه تجريد الولايات المتحدة من سلاح الدولار في سياسة العقوبات التي كانت تمارسها.
لقد أضحت المعضلة الكبيرة التي تواجه الصين منذ2006 ، هي كيفية تحقيق التنمية المستدامة خلال السنوات العشرين المقبلة، مع بناء نظام إيكولوجي يرتقي بالتنمية المستدامة إلى مستوى الحضارة الإنسانية ويضيف حيوية جديدة لها في الصين. في كافة المجالات وفي كافة أعمال البناء الاقتصادي والبناء السياسي والبناء الاجتماعي والبناء الثقافي. فالأثر الكبير الذي خلقته التحولات الاقتصادية الكبيرة كان لها أثرا سلبيا ومكلفا على البيئة.
في المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 2012 ، تم وضع المنظومة النظرية لبناء الحضارة الإيكولوجية ضمن "البناءات الخمسة (البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء الاجتماعي، البناء الثقافي، البناء الإيكولوجي) المتكاملة" ، في التخطيط العام للحزب والدولة. تم وضعت منظومة قانونية صارمة، ركيزتها الهامة هي معالجة التلوث البيئي، ودعامتها هي الثقافة الإيكولوجية والحياة الخضراء.
وتوالى صدور القوانين: نظام حقوق ملكية و الثروات والأصول الطبيعية، إقامة نظام تنمية وحماية الأراضي والفضاءات الوطنية، إنشاء منظومة تخطيط الفضاءات، إكمال نظام الإدارة الشاملة والاستخدام المقتصد للموارد، إكمال نظام استخدام الثروات بمقابل والتعويض الإيكولوجي، إنشاء وإكمال منظومة معالجة البيئة، إكمال منظومة سوق معالجة البيئة وحماية البيئة الإيكولوجية، وإقامة نظام تقييم وفحص النتائج، والمساءلة والمسؤولية القانونية عن التنمية الإيكولوجية. وقد تحققت تطورات ملحوظة في بناء سيادة القانون للبيئة في الصين، حيث تم تنقيح وتعديل قانون حماية البيئة وقانون الوقاية من التلوث الجوي ومعالجته وقانون الوقاية من التلوث المائي ومعالجته، والإسراع في وضع قانون الوقاية من تلوث التربة ومعالجته.
على مستوى التشريع الجنائي تم تعزيز تطبيق قانون البيئة فقدمت محكمة الشعب العليا ونيابة الشعب العامة العليا تفسيرا قضائيا لتخفيض معايير إدانة المتهم، وأنشأت محكمة الشعب العليا دائرة قضائية خاصة بالموارد البيئية. في الوقت ذاته، فإن المراقبة البيئية التي تقوم بها الحكومة المركزية في أنحاء البلاد، تلعب دورا فعالا في حل بعض المشكلات المزمنة.
بعد دخول القوانين المنظمة حيز التنفيذ، بدأت النتائج الايجابية تظهر:
1- تصحيح انحراف تقييم الإنجازات وفقا لسرعة النمو الاقتصادي، وذلك بتحسين أعمال تقييم إنجازات الهيئات القيادية والكوادر القيادية الحزبية والحكومية المحلية. وقد شهد الهيكل الصناعي تحسنا ملحوظا، كما انخفض مستوى استهلاك الطاقة والموارد.
2- تحققت نتائج إيجابية في بناء المرافق البيئية التحتية، حيث بلغت قدرة معالجة المياه المستعملة في المناطق الحضرية الصينية 182 مليون طن يوميا، حتى نهاية عام 2015، وأصبحت الصين واحدة من أكثر دول العالم قدرة على معالجة المياه المستعملة. وارتفعت نسبة معالجة المياه المستعملة في المدن الصينية إلى 92%، وبلغت نسبة التخلص من المخلفات بدون تلويث البيئة في المناطق الحضرية 1ر94%. وتسير عملية المعالجة الشاملة للبيئة الريفية بسلاسة، وتم تطبيق منظومة المعالجة البيئية الشاملة في اثنتين وسبعين ألف قرية، وتركيب معدات لمعالجة المخلفات والتخلص منها واستخدام الموارد في واحد وستين ألف مزرعة للثروة الحيوانية.
3- ارتفاع ملحوظ للوعي الحضاري الإيكولوجي. تواصل الصين تعزيز تعميم الوعي بحماية البيئة الإيكولوجية، وتعلن بيانات جودة البيئة والانبعاثات الملوثة للمؤسسات والتقييم البيئي للمشروعات وتدقيقها والموافقة عليها وغيرها من البيانات، ووسعت قنوات ونطاق المشاركة الشعبية في ذلك، فتحول الشعب من متلق سلبي لبيانات ومعلومات الحضارة الإيكولوجية إلى متلق إيجابي متحمس، وارتفع الوعي العام بالمشاركة الجماهيرية في بناء الحضارة الإيكولوجية.
وإجمالا نقول، إن هذه الإنجازات تشمل كل المستويات وكافة الجوانب نظريا وعمليا، فتشكلت في الصين منظومة نظرية وتطبيقية كاملة لبناء الحضارة الإيكولوجية. وهو اختيار ضروري لتنمية الصين، و أيضا تجسيدا لمبادرة الصين بتحمل مسؤولية التنمية المستدامة العالمية. فالصين دولة شاسعة المساحة كثيرة السكان، مما يجعل استهلاكها للموارد وتلويث البيئة فيها يؤثران على العالم. إن الصين، التي حققت إنجازات عديدة في معالجة البيئة، تدرك أن الحضارة الإيكولوجية ترتبط بالتنمية المستدامة للأمة الصينية، ومن ثم فإنها تحرص على بناء الحضارة الإيكولوجية ، فقدمت بذلك مساهمات لمعالجة المشكلات البيئية العالمية، بالتزامن مع معالجة مشكلاتها البيئية.
لقد اعترف المجتمع الدولي ببناء الحضارة الإيكولوجية في الصين. في عام 2013، أُدرج مفهوم الحضارة الإيكولوجية للصين في قرار الدورة الثانية والسبعين لاجتماع برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفي عام 2016، أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقرير (الجبال الخضراء والمياه النقية هي جبال من ذهب وفضة: الاستراتيجيات والعمليات الصينية للحضارة الإيكولوجية). وقال أتشيم شتاينر، الرئيس التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: "بناء الحضارة الإيكولوجية في الصين استكشاف مفيد وتطبيق مفصل لمفهوم التنمية المستدامة، ويمكن للدول الأخرى أن تستفيد منه خلال مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية المتشابهة". حاولت سرد هذه المعطيات المتوفرة في برامج الامم المتحدة الخاصة بالبيئة، كجواب عملي على الشعار الجديد الذي يردده البعض حول الصين "الامبريالية البيئية"
سؤال يطرح نفسه على الماركسيين كما قدمهم الرفيق عزيز محب، الذين يعبرون ويدافعون عن وجهة نظر التي تعتبر الصين المعاصرة بلدا رأسماليا، وأنت تنتصر لهذا الراي في مناقشتك.
السؤال هو: إذا كانت الصين المعاصرة شعبا ودولة قد حققت هذه التحولات الكبيرة بشهادة أعدائها ( ملاحظة كل المعطيات والمؤشرات الرقمية في هذا المقال هي مأخوذة من تقارير الامم المتحدة ) بواسطة نظام رأسمالي كما تدعي؟ فمنطق الاشياء يقول في هذه الحالة، إن النظام الرأسمالي لم يستنفذ ضرورته التاريخية . بمعنى انه لا زال نظاما اجتماعيا واقتصاديا تقدميا قادرا على انتشال الشعوب من الفقر والتخلف وتحقيق التنمية. وما علي هؤلاء الماركسيين إلا الاعتراف اليوم قبل الغد بالرأسمالية كقوة دافعة لتطور البشرية.
سيجيب البعض بان الامر مشابه لكوريا الجنوبية أو بعض الدول الاسيوية التي يسمونها بالمعجزة. لكن ينسون ان هذه الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة قد تكونت بإرادة و دعم من الولايات المتحدة وحلفائها. وفي إطار مواجهة "المد الشيوعي " وتخضع لهيمنة امريكا في كل شيء.
لقد قلت في مقالي السابق، لكي تستقيم المقارنة مع الصين. فإن الهند هي البلد المؤهل لهذه المقارنة . فالإنجازات الايجابية التي حققتها في تاريخها الحديث، في إطار سياسات عدم الانحياز ذات الطابع الوطني التحرري . والتي مكنتها من بناء اسس تنمية بشرية واعدة . سرعان ما تبخرت هذه الانجازات بعد ان سقطت في حبال التبعية لأمريكا . و تخلت عن هذه السياسات الوطنية المستقلة ولا أقول اشتراكية. النتيجة هي ان الهند المعاصرة يتخبط شعبها في الفقر والمرض والتخلف والامية والصراعات المذهبية التي تهدد وحدتها في ظل حكم اصبح طائفي التوجه.
ملاحظة: لقد ركزت في مقالي على مناقشة طبيعة التحولات في الصين المعاصرة على ضوء الاتهامات التي عرضت، رأسمالية، امبريالية. ولم تتح لي مناقشة قضايا اخرى مرتبطة بتطور الصين. وإذا كان هناك من نقد مرتبط بالصين حاليا، ففي رأيي هو الديمقراطية السياسية. وفي هذا الصدد سأقوم عندما تسمح الظروف بتقديم وجهة نظر في الموضوع بعيدا عن المفهوم الليبرالي المزعوم للديمقراطية.
أسمح لي أيها الصديق بهذه الكلمة الاخيرة، ان أتوجه لبعض القابعين في جحورهم التي طالها العنكبوت، مختفين وراء "الجمل الثورية" التي يطلقونها بين الحين والاخر، غير قادرين على تقديم ولو فكرة نبيهة، و بالأحرى تصورا لمشروع فكري قابل للنقاش، ظنا منهم انهم يسجلون بعض النقط في شباكهم الفارغة. أقول لهم ارتاحوا في جحوركم وناموا هنيئا. (انتهى)