منيب مختار - ما بين أرسطو و"حوش حسين ودحمد".. قصة قصيرة

في الصباح البهيّ العبق بنسائم الرياح الخريفية البهيجة، وعنفوان الحدائق التي على تخوم الأودية المتسربة داخل المدينة، تحشر الرغبة في الأطفال بالتماهي وتوقِظ في ذاكرةِ المدمنين جلسات السمر أسفل زُرقة السماء التي تُحرض على الإلتباس، ربما الطبيعة الفرايحية هي من تُشيء طريقة لإنفاق فائض النشوة
أصوات الديكة تخدش سكون الحي، وبعض الشباب يحاولون فتح مجاري للمياه السائبة علّهم ينقذون ما تبقى من أوصال البيوت الصامدة، في الوقت الذي أنفق "حاج موسى" قوتهُ في إستيضاحِ الأمر "لحاجة بحرِية" التي أقسمت على أن لا يمر المجرى من أمام منزلها إلا على جُثتها وجثة إبنها المسافر وجُثث شخوص كُثر لم تفصح عنهم، هي هكذا منذ أمد تحتفظ بذاكرة الجثث وروائح الموت، تحتفظ بالمجاعات والسيول، وتُقسِم بها لإيمانها العميق بمجيئها
هبط المساء وإستراحت الشوارع من الوطء، إستباح "مصطفى شلش" هذا التوقيت ليُعلِن عن عُرسهِ الميمون، من إبنة عمه سماهر التي ترتاد مدرسة "حمدنالله الأساسية" ، داهمتهُ برودة سبتمبر العارية من الروية، أقحم نفسه في داومة كرهها وحذر الآخرين منها، ولج بفداحة البساط الأحمديّ الذي أعدهُ والدهُ _ شلش الكبير، لا بأس في ذلك طالما أنهُ بات محاصراً من الجميع ومن رغبتهِ خصوصاً أو كما قال:
لكلِ أجلٍ كتاب
نافياً ومستنكراً فلسفته العميقة التي عبر عنها كثيراً، بأن الزواج مشروع يُجهض سواهُ، بأن الزواج أسفل سماء الوطن النازف أمراً بوهيميّ لا معنى له إذ ينتج ضحايا جُدد، ها هو الآن يبزق معتقداته بالقرب من مركوبهِ، ويتخلى عن الشفيفة التي في ذاكرتهِ، الرفيقة التي قاسمتهُ المقاعد والأرصفة، قاسمتهُ مقاهي العصاميات، أركان النقاش، كافتيريا ممشى آداب، حديقة كلية الهندسة، ومنتزه كنانة العائلي، تخلى عن كل ذاكرتهِ دفعة واحدة تخلى عن تركِ العنان لنمو شعره وطاقيتهِ "السايت كاب" من أجل إبنة عمه، تنصل عن روائح جواربه النتنة وهو يقفذ للطابق الثاني من السرير الحديدي في إحدى أزقة "داخلية أم دبيكرات" أو "داخلية غوانتانامو _ الأندلس" عن قهوة الليل وكافاكا وميلينا، عن أرسطو، وإشكالية المثقف، عن الخصام الأبدي للإستحمام
الأضواء تملأ فضاء "حوش حسين ودحمد" ويذهب فائضها إلى الفلوات، النسوة بأبهى الحُليّ وافخم الأزياء، الرجال بناصع البياض، "مصطفى شلش" يمشى بزهو كما لو أنه على وشك أن يفتح مكة أخرى تناساها الأنبياء الأولين، يمشى وسط حاشيتهِ، أبناء عمومته وأصدقاءه وأبناء السبيل، يمشى مُخضَبْ الكفين مبتسماً مرتعداً من لحظة المثول الأولى أمام إمرأةٍ _ عروس، والذي ظهر جلياً عندما صرخ الجميع بصوتٍ واحد
أبشِر، أبشِر يا عريس
يدك فوق
أبشِر يا عريس
والنِسوة من خلفهم: يُزغرِتنٰ
الفتيات غنيّن عبر إيقاعهن التقليدي "الدلوكة" فقط، لم يكن هنالك موسيقى جاز أو حتى مارسيل خليفة، كما كان يحلُم "مصطفى شلش" على رصيف الماضي، ربما تنازل عن رغبته في هذا الأمر أيضاً أو ربما تقلص مارسيل خليفة إلى ود البكري في ذاكرته المشروخة
مصطفى بصوتٍ مرتبك ومتقطع _ أبشِر، أبشِر
بعد شهرين، في فترة حصاد السمسم تحديداً، كان عليهِ أن يدخل السوق لكسب رزقة، طالما أن في ذمتهِ زوج وثمة مشروع أسريّ قد يلوح في أيّ وقت، إمتطى عزيمته ومشى، وسط المُباركين والمُهنئين، وسط الباعة والمُشترين والسماسِرة لعنة الله عليهم كما قال أحمد شقيقه الأكبر، صفق بجناجيهِ إلى أن وصل، وللمصادفة أن والدهُ _ شلش الكبير، لديه شاحنة سمسم محملة إلى الخرطوم ولا ينقصه سوى وكيلاً يقاسمها السفر، لأن أحمد إبنهُ الأكبر مشغولاً بعملية التعبئة والتخزين فحرضهُ داخله العميق بأن الحل إبنه الأصغر مصطفى
إقترح عليه، فقال:
انا عريس يا حاج، عريييس
ما ممكن ياااخ
فألّح عليه حتى إمتثل للأمر، وسافر إلى العاصمة المثلثة
حسم شلش الكبير أمر السفر كما حسم أمر الزواج.
على المرأى البعيد، لا شيء سوى أسفلت الشوارع الممتدة، اشجاراً قصيرة تعدو بجانب الطريق بسرعة رتيبة، ملامح البيوت المتاخمة لشارع الأسفلت كانت مرتعاً خصب لمخيلتهِ، سيارات مزارع الألبان، شاحنات أم درمان الممتلئة، ناقلات الوقود وبائعات الشاي، الباصات السفرية، جميعهم مرتبطين وجدانياً بهذا الأسفلت المُتعرج، ممتعضين الإستمرار في المشي أو الإنتظار أو التهيؤ، هي رحلة أشبة بالتعرف على الذاكرة، على إستدارتها السريعة وهذيانها الطويل
لم يستيقظ من رحلة الهذيان تلك إلا في السوق الشعبي _ أم درمان، إلا على أصوات المزامير الحادة وضجة الفراغ العائم في التلاشي، حيث كان السائق قد كلف نفسة نيابةً عن الوكيل بتقديم الأوراق، قال له أكثر من مرة ولم يسمع إلا حينما نفض عنهُ السديري:
انزل، امشي الفطور، أنا ماشي التفريغة
مشى، أخذ يزرع أزقة السوق الشعبي، حشر نفسهُ داخل الأماكن والأزقة، كان طرفاً في عملية بيعٍ وشراء أكثر من مرّه لصالح مجهولين لم يلتقي بهم بتاتاً، أحسَّ بنداء معِدته في نهاية المطاف فولج إحدى المطاعم الشعبية، وللمصادفة أيضاً أو ربما لعبة القدر، رآها، رأى تلك الشفيفة، إرتعش وأعاد سريعاً ذاكرته، هي "بشحمها ولحمها"، هديل الحبيبة، هديل إمرأةُ المرحلة وكل المراحل، إستجمع قواهُ ووقف أمامها، أمام "الكاشير"
قال برقة وعنفوان:
واحد كبدة، وواحد فول
رفعت رأسها، نظرت إليه عن قُرب مدّت نحو "ماركات الطعام" لم تتعرف عليه أو ربما هو أيضاً كان حبيب المرحلة، نزع بسرعة طاقيتهِ البيضاء، نظرت إليه بغرابه أكثر، نزع السديري أيضاً، فنظرت إليه بغرابة فاضحة جداً ثم صرخت:
_ دي الماركات وين القروش
تمطأ مصطفى، أرخى شفتهِ السفلى لتسقط "السفة"، ربما ستتعرف عليه، نظر إليها مبتسماً
رمقتهُ بنظرة حادة ثم اردفت:
_ انت مجنون يا راجل
حينها أدرك مصطفى بأن الأمر إنتهى بالنسبة لها، باتت الجميله لا تعرفهُ، لقد نسيت هذا المعتوه الصغير أو ربما لم تصطحبهُ مطلقاً من أحد الأرصفة، الأرصفة التي ستتحدث إذا أستنطقها المشهد
مدّ النقود مضيفاً:
_ إتفضلي يا شفيفة، وفي السر تلاشى كما لم يكن




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى