الشيوعيون المصريون فصيل سياسى وطنى ينتمى عضويا الى الحركة الوطنية والاجتماعية والثقافية المصرية, ويمثل واحدا من أنضر وجوهها وأكثرها طليعية . ولقد ساهم الشيوعيون المصريون فى الحركة الوطنية والسياسية المصرية منذ ماقبل تأسيس حزبهم فى أعقاب الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 وخاضوا نضالاتها المتواصلة على مدار هذا التاريخ حتى يومنا, وذلك رغم اغلاق حزبهم عام 1924 واضطرارهم اللجوء للعمل السرى وتعرضهم للملاحقات البوليسية والاعتقال والتعذيب, حتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة. وهى الثورة التى حملت – الى جانب كل الثورات السابقة والتى سيلى الحديث عنها – روح اليسار وتبنت جزءا من شعاراته .. ألا وهو شعار العدالة الاجتماعية الذى يتوازى ويتقاطع دلاليا ومعنويا مع الشعارين الآخرين تغيير وحرية , ويتبادل المواقع متماهيا مع شعار رابع هو : كرامة انسانية.
لقد ساهم الشيوعيون المصريون فى اشعال نيران الثورة الوطنية بعد النجاح الناقص لثورة 1919 حيث كان للطلاب الشيوعيين بجامعة فؤاد الأول الدور الأكبر فى قيادة الثورة الطلابية التى اندلعت فى عام 1935 وقدموا شهيدين بطلين هما الشهيد عبدالحكم الجراحى والشهيد عبدالمجيد مرسى , وهما الشهيدان اللذان خلدتهما الجامعة المصرية بأن أطلقت اسميهما على مدرجين من أهم مدرجاتها العلمية. كذلك فجر الشيوعيون, ممثلين فى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) ثورة العمال والطلبة فى 21 فبراير عام 1946 بتشكيلهم اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة والتى كانت بمثابة البوتقة التى انصهرت فيها كل القوى التقدمية من الشيوعيين وحلفائهم من الشباب التقدمى فى الطليعة الوفدية وجماعة الخبز والحرية .. الخ. وهى الثورة التى أقدم فيها الاحتلال الانجليزى وأذنابه من الخونة المصريين وعلى رأسهم جلاد الشعب اسماعيل صدقى على فتح كوبرى عباس (الجيزة حاليا) أثناء مرور الطلاب عليه وقتلهم بالرصاص أو بالغرق, فى الحادثة الشهيرة التى خلدها التاريخ الوطنى واحتفت بها الأوساط التقدمية العالمية واعتمدت تاريخ وقوعها (21 فبراير) يوما عالميا للطلاب.
ثورة يوليو 1952
لقد كانت ثورة 1946, وسابقتها عام 1935, بمثابة الفتيل الذى حافظ على اتقاد روح الثورة والكفاح لدى المصريين بعد ثورة 19, كما كانتا بمثابة المقدمة الضرورية لثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952. ولقد كان للشيوعيين, الى جانب دورهم فى تمهيد المسرح الفكرى والسياسى لها, ودورهم الكبير فى المشاركة فى حركة الكفاح المسلح التى اندلعت فى مدن القناة عام 1951, كان لهم الدور الأكبر فى تكريس التوجهات الرئيسية ذات الطابع التقدمى واليسارى لهذه الثورة. فقد تمكنوا عبر نضالهم الدؤب وتضحياتهم المتواصلة من حفر مجرى التغيير الثورى ذى المنحى الوطنى التقدمى, وتأسيس المقولات النظرية والسياسية التى أثرت على نحو بالغ فى كل أدبيات الحركة الوطنية المصرية, بل وحكمت مساراتها الرئيسية, ومن بينها أدبيات الضباط الأحرار. مثل مقولات "الاشتراكية العلمية" و"تحالف العمال والفلاحين" و"حقوق المرأة" و"التأميم" و"التصنيع" و"السلام العالمى".. الخ. والتى انبنت عليها معظم الاجراءات والقرارات السياسية التى اتخذتها السلطة الناصرية. وانبنى عليها, كذلك, الخطاب السياسى الرسمى لهذه السلطة, متمثلا فى الميثاق الوطنى الصادر عام 1961. ويذكر التاريخ أن منشورات الضباط الأحرار كانت تطبع فى مطبعة (حدتو – الحزب الشيوعى المصرى لاحقا). كما كان الضباط الشيوعيون يقفون على أعلى قمة فى هرم حركة الضباط الأحرار, وشغل اثنان منهم منصب عضوية مجلس قيادة الثورة, وهما البكباشى (المقدم) يوسف صديق, والصاغ ( الرائد) خالد محى الدين. ويعزى للرفيق يوسف صديق أنه كان صاحب الضربة الرئيسية فى نجاح الحركة الثورية للضباط الأحرار فى ليلة الثالث والعشرين من يوليو, حين بكر بالخروج على رأس كتيبته الى مبنى رئاسة الأركان وتمكن من اقتحامه والقبض على كل أعضائه من قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة, وهو الأمر الذى شل فاعلية أية حركة مضادة محتملة, يمكن أن تقوم بها الوحدات الموالية للنظام الملكى, والتى تمثل بقية وحدات الجيش التى لايسيطر عليها الضباط الأحرار. وكان لهذا الانجاز الدور الحاسم فى تسهيل نجاح الحركة واستيلائها على السلطة.
الصدام الأول
لقد أيد الشيوعيون ثورة يوليو على أن تقوم بتنفيذ برنامجها المتمثل فى المبادىء الستة المعروفة, والتى جاء من ضمنها "اقامة حياة ديمقراطية سليمة". ومن ثم نادوا باقامة الديمقراطية وعودة الجيش الى ثكناته بعد انجاز الجلاء وتطهير البلاد من أدران النظام الملكى الفاسد. ولكن يبدو أنه قد كان للفريق الذى قاده الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رأى آخر, فحدثت أزمة مارس 1954 التى أسفرت عن اقالة يوسف صديق وخالد محى الدين من مجلس قيادة الثورة. حيث حكم على الأول بالوضع تحت الاقامة الجبرية, الى أن توفى, وتم نفى الآخر الى سويسرا. وهكذا بدأت فترة معاداة الشيوعية !!!! فى الفترة الناصرية.
الا أن اللا فت للنظر أنه فى الوقت الذى تم فيه القبض على الشيوعيين وايداعهم السجون منذ عام 1954, فأن عبد الناصر كان ينفذ بشكل يكاد أن يكون حرفيا البرنامج السياسى للشيوعيين , بداية من الاسهام فى مؤتمر باندونج ونأسيس حركة الحياد الايجابى وعدم الانحياز عام 1954, وتدشين نوع من العلاقة الوطيدة مع بلدان المعسكر الاشتراكى متمثلة فى الدلالة الرمزية التى أوحت بها صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 , ثم تأميم قناة السويس عام 1956. ورغم وجود بعض الشيوعيين فى السجون الا أن رفاقهم الآخرين الأحرار قاموا بالتطوع فى حرب الفدائيين فى بورسعيد وأيدوا بقوة خطوة التأميم الجبارة التى قام بها عبدالناصر.
الصدام الثانى
وكان مشروع الوحدة مع سوريا عام 1958 محكا جديدا لاختبار طبيعة العلاقة بين الشيوعيين وعبدالناصر. فقد عارض الشيوعيون الوحدة على أساس أنها قد تمت على نحو فوقى ودون أسس شعبية حقيقية رغم تأييد الجماهير لها. كما أنها قد تمت على أساس استنساخ التجربة المصرية فى مايتعلق بالاجراءات الاقتصادية والسياسية من تأميم والغاء لكل الأحزاب السياسية وتأسيس حزب واحد هو الاتحاد القومى. وقد كانت فكرة الشيوعيين (المؤيدين للوحدة بالطبع) أن تقوم هذه الوحدة على أساس فيدرالى بما يمكن من مراعاة الخصائص النوعية المختلفة لكل قطر على حدة. وكذلك ضرورة احترام التعددية الحزبية فى كلا البلدين والمناداة بنوع من الجبهة التقدمية التى تشمل كل الأحزاب والقوى التقدمية فى كلا البلدين. خاصة بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 فى العراق, والتى شهدت تأسيس جبهة بين الشيوعيين والقوميين من حزب البعث العراقى. وقد نتج عن هذا الاختلاف أن زجت السلطة الناصرية بالبقية الباقية من الشيوعيين فى السجون مرة أخرى. وكان السجن ,كما هو فى كل الأحوال, مصحوبا بتعذيب وحشى غير مبرر أدى الى مصرع العديد من القادة والأنصار الشيوعيين .. وعلى رأسهم الشهيد القائد شهدى عطية الشافعى. والذى صارت طريقة مصرعه نموذجا دالا على مابلغه التوحش الأمنى لنظام يوليو فى علاقته بخصومه السياسيين. لقد مكث الشيوعيون فى السجون حتى عام 1965. ومنهم من كان قابعا فيها منذ عام 1954. وحتى فى أثناء فترة السجن والتعذيب لم يتخل الشيوعيون عن موقفهم المبدئى فى تأييد الاجراءات التقدمية الكبرى التى قادها عبد الناصر فى مجالى الاقتصاد والسياسة فى مصر. فى فصل, يكاد أن يكون مثاليا ويندر وجوده, بين المشاعر الذاتية والموقف الوطنى والسياسى الموضوعى. وكان حال الشيوعيين فى السجون, كما عبر أحد مؤرخيهم .. "يشبه حال حواريى المسيح, فكان دعاؤهم اللهم اغفر لجلادينا". فهم مع الثورة ويدعمون الاجراءات الاشتراكية, ولكنهم محرومون من قبل قائد الثورة نفسها من المشاركة فى بنائها, بل ومغضوب عليهم ومهانون ومذلون ممن كان ينبغى أن يكون أخلص حلفائهم, وذلك بغير جريرة منهم ولاذنب. هكذا كانت المشاعر المزدوجة التى حملها الشيوعيون لعبدالناصر ولتجربته التحررية التنموية ذات الملامح الاشتراكية التى لاتخطئها العين, والتى تتم بالتعاون مع بلدان المعسكر الاشتراكى (وتلك مفارقة ثانية لاتقل غرابة عن الأولى) والتى ماكانوا ليصنعوا شيئا مختلفا عنها لو كانوا فى السلطة. ولكن للأسف فان عبدالناصر كان يبنى الاشتراكية ويقمع الاشتراكيين, فى الآن نفسه. وأظن أن الخلاف كان يكمن فى الموقف من الديمقراطية والتعددية السياسية وايمان الشيوعيين المبكر بهما على خلاف ما كان عليه الحال فى وعى عبدالناصر.
حل الحزب – بناء الحزب
لقد تميزت سلطة عبدالناصر بأنها لاتقبل الا الخضوع التام من قبل كل أغيارها السياسيين , وكان شرطها الرئيس هو أنه على كل من يريد المشاركة فى الحياة السياسية أن يقوم بحل أى بناء تنظيمى ينتمى اليه وأن يلتحق بالحزب الواحد الذى لاشريك له. وكان قرار حل الحزب.. الذى يختلف المؤرخون على من صاحب المبادرة فى اتخاذه حتى الآن . لقد كان هذا القرار بمثابة خطيئة كبرى وقع فيها الشيوعيون , فقد مثل نوعا من الرضوخ الى سلطة الاستبداد وتشجيعا لها والتحاقا بها, وهو مالم يكن ينبغى لهم الوقوع فيه, مهما كانت آلام السجون والتعذيب والتنكيل.
الا أن التجربة الناصرية نفسها لم تلبث أنتهت بوفاة عبدالناصر نفسه (وربما بسبب هذه الممارسات غير الديمقراطية بحد ذاتها) وتولى أنور السادات السلطة , حيث قام بهدر والغاء معظم وجوهر ما بنته وتبنته التجربة الناصرية. وللمفارقة الثالثة, لم يجد عبدالناصر من يدافع عنه وعن تجربته, ميتا, الا الشيوعيين الذين تصدوا للهجمة اليمينية الشرسة والمدعومة أمريكيا واسرائيليا والتى قادها أنور السادات . حيث ساهموا بقوة وعنفوان فى قيادة الحركة الطلابية العارمة فى بداية السبعينيات والتى يعزى اليها تحقيق قدر هائل من الضغط السياسى الذى أجبر السادات على خوض حرب أكتوبر المجيدة والتى أجهض هو نفسه نتائجها فيما بعد. وأعاد الشيوعيون بناء حزبهم فى عام 1975ليواصلوا نضالهم المرير مع سلطة اليمين الساداتى الذى ارتمى بكل قوته فى احضان الامبريالية والصهيونية والرأسمالية العالمية , وواصل الشيوعيون النضال والزيارات الدورية للسجون والمعتقلات, فى الآن نفسه.
الى السجون مرة أخرى
لقد كان اسهام الشيوعيين فى انتفاضة الخبز التى اندلعت فى 18 و 19 يناير 1977, بمثابة حجر الزاوية الذى حكم علاقة السادات بالشيوعيين فيما بعد. فمنذ البداية ألقت السلطة الساداتية بالمسئولية فى تفجير هذه الانتفاضة على عاتق الشيوعيين ومن ثم جرت الملاحقات الشهيرة فى حقهم وكذلك جرى دعم واحياء قوى التطرف الدينى وتجنيدها لمواجهتهم , من قبل ذلك ومن بعده على حد سواء. وكانت زيارة العار الى القدس فى نفس العام برهانا قاطعا على خروج السادات عن الخط الوطنى الذى حاول تغليفه بهامش ديمقراطى أضيق من سم الخياط. وكانت, كذلك, برهانا قاطعا على صحة التحليل السياسى والخط النضالى اللذين اعتمدهما الشيوعيون فى علاقتهم بهذه السلطة وبامتداداتها فى عصر مبارك.
ورغم انهيار منظومة المعسكر الاشتراكى فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الذى تحمل الشيوعيون المصريون جزءا من تبعاته, ورغم الهجوم الاعلامى الشرس والتشويه المتعمد للشيوعية وربطها, ظلما, بالالحاد ومعاداة الأديان, ورغم القمع والسجن والتشريد المتواصل عبر العصور, فان الشيوعيين لم يتخلوا للحظة واحدة عن حلمهم بمصر القوية الديمقراطية التى ترفرف على ربوعها رايات العدل والحرية. ولذلك لم يتوقفوا عن النضال ضد سياسات التطبيع والفساد والعمالة للأمريكان التى سادت عصر مبارك. وكان دورهم هائلا فى النضال السياسى الذى مهد للثورة المصرية الثالثة فى العصر الحديث فكانوا فى القلب من الحركات السياسية التى حركت وعمقت الوعى المصرى باتجاه الثورة على هذا النظام. فكانوا القوة الرئيسية المؤسسة للحملة الوطنية من أجل التغيير, واحدى القوى المؤسسة لحركة كفاية, وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات, وكانوا من القوى الدافعة والمحركة للحركات الاحتجاجية والاضرابات العمالية فى المحلة الكبرى وكفر الدوار وغيرهما, وكذلك تواصل دورهم فى المجال الحقوقى ومنظمات المجتمع المدنى ومنظمات حقوق الانسان .. الخ.
ثورة يناير المجيدة
فمثلما حدث من تمهيد وحراك وحراثة للتربة السياسية وتغذية للوعى السياسى والاجتماعى والوطنى فى يوليو 1952 حدث الاسهام الكبير(الى جانب باقى القوى الوطنية) فى التمهيد للثورة المصرية الأجمل والأكثر حضارية وشعبية فى يناير 2011 . بل ان الثورة قد اتخذت من شعارات الشيوعيين وقوى اليسار شعاراتها الأكثر دلالة وتعبيرا, كما أسلفت فى صدر هذا المقال.
واليوم يعمل الشيوعيون, جنبا الى جنب مع جماهير وقوى ثورة يناير المجيدة, على تحقيق حلمهم التأسيسى, (الذى خرجوا بسببه من كنف ثورة يوليو وذاقوا الويلات), والذى يمثل الشرط الرئيسى, وربما, الوحيد لأى تقدم اقتصادى أو ازدهار حضارى أو عدالة اجتماعية .. هذا الشرط – الحلم هو اقامة الدولة المدنية الديمقراطية .. دولة القانون والمؤسسات .. دولة الشعب الحر والسلطة القابلة للمحاسبة والتداول السلمى .. دولة المواطنة وحقوق الانسان...
وسيبقى النصر دوما حليف الشعوب والى جانب قواها الحية الصامدة الصابرة
لقد ساهم الشيوعيون المصريون فى اشعال نيران الثورة الوطنية بعد النجاح الناقص لثورة 1919 حيث كان للطلاب الشيوعيين بجامعة فؤاد الأول الدور الأكبر فى قيادة الثورة الطلابية التى اندلعت فى عام 1935 وقدموا شهيدين بطلين هما الشهيد عبدالحكم الجراحى والشهيد عبدالمجيد مرسى , وهما الشهيدان اللذان خلدتهما الجامعة المصرية بأن أطلقت اسميهما على مدرجين من أهم مدرجاتها العلمية. كذلك فجر الشيوعيون, ممثلين فى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو) ثورة العمال والطلبة فى 21 فبراير عام 1946 بتشكيلهم اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة والتى كانت بمثابة البوتقة التى انصهرت فيها كل القوى التقدمية من الشيوعيين وحلفائهم من الشباب التقدمى فى الطليعة الوفدية وجماعة الخبز والحرية .. الخ. وهى الثورة التى أقدم فيها الاحتلال الانجليزى وأذنابه من الخونة المصريين وعلى رأسهم جلاد الشعب اسماعيل صدقى على فتح كوبرى عباس (الجيزة حاليا) أثناء مرور الطلاب عليه وقتلهم بالرصاص أو بالغرق, فى الحادثة الشهيرة التى خلدها التاريخ الوطنى واحتفت بها الأوساط التقدمية العالمية واعتمدت تاريخ وقوعها (21 فبراير) يوما عالميا للطلاب.
ثورة يوليو 1952
لقد كانت ثورة 1946, وسابقتها عام 1935, بمثابة الفتيل الذى حافظ على اتقاد روح الثورة والكفاح لدى المصريين بعد ثورة 19, كما كانتا بمثابة المقدمة الضرورية لثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952. ولقد كان للشيوعيين, الى جانب دورهم فى تمهيد المسرح الفكرى والسياسى لها, ودورهم الكبير فى المشاركة فى حركة الكفاح المسلح التى اندلعت فى مدن القناة عام 1951, كان لهم الدور الأكبر فى تكريس التوجهات الرئيسية ذات الطابع التقدمى واليسارى لهذه الثورة. فقد تمكنوا عبر نضالهم الدؤب وتضحياتهم المتواصلة من حفر مجرى التغيير الثورى ذى المنحى الوطنى التقدمى, وتأسيس المقولات النظرية والسياسية التى أثرت على نحو بالغ فى كل أدبيات الحركة الوطنية المصرية, بل وحكمت مساراتها الرئيسية, ومن بينها أدبيات الضباط الأحرار. مثل مقولات "الاشتراكية العلمية" و"تحالف العمال والفلاحين" و"حقوق المرأة" و"التأميم" و"التصنيع" و"السلام العالمى".. الخ. والتى انبنت عليها معظم الاجراءات والقرارات السياسية التى اتخذتها السلطة الناصرية. وانبنى عليها, كذلك, الخطاب السياسى الرسمى لهذه السلطة, متمثلا فى الميثاق الوطنى الصادر عام 1961. ويذكر التاريخ أن منشورات الضباط الأحرار كانت تطبع فى مطبعة (حدتو – الحزب الشيوعى المصرى لاحقا). كما كان الضباط الشيوعيون يقفون على أعلى قمة فى هرم حركة الضباط الأحرار, وشغل اثنان منهم منصب عضوية مجلس قيادة الثورة, وهما البكباشى (المقدم) يوسف صديق, والصاغ ( الرائد) خالد محى الدين. ويعزى للرفيق يوسف صديق أنه كان صاحب الضربة الرئيسية فى نجاح الحركة الثورية للضباط الأحرار فى ليلة الثالث والعشرين من يوليو, حين بكر بالخروج على رأس كتيبته الى مبنى رئاسة الأركان وتمكن من اقتحامه والقبض على كل أعضائه من قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة, وهو الأمر الذى شل فاعلية أية حركة مضادة محتملة, يمكن أن تقوم بها الوحدات الموالية للنظام الملكى, والتى تمثل بقية وحدات الجيش التى لايسيطر عليها الضباط الأحرار. وكان لهذا الانجاز الدور الحاسم فى تسهيل نجاح الحركة واستيلائها على السلطة.
الصدام الأول
لقد أيد الشيوعيون ثورة يوليو على أن تقوم بتنفيذ برنامجها المتمثل فى المبادىء الستة المعروفة, والتى جاء من ضمنها "اقامة حياة ديمقراطية سليمة". ومن ثم نادوا باقامة الديمقراطية وعودة الجيش الى ثكناته بعد انجاز الجلاء وتطهير البلاد من أدران النظام الملكى الفاسد. ولكن يبدو أنه قد كان للفريق الذى قاده الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رأى آخر, فحدثت أزمة مارس 1954 التى أسفرت عن اقالة يوسف صديق وخالد محى الدين من مجلس قيادة الثورة. حيث حكم على الأول بالوضع تحت الاقامة الجبرية, الى أن توفى, وتم نفى الآخر الى سويسرا. وهكذا بدأت فترة معاداة الشيوعية !!!! فى الفترة الناصرية.
الا أن اللا فت للنظر أنه فى الوقت الذى تم فيه القبض على الشيوعيين وايداعهم السجون منذ عام 1954, فأن عبد الناصر كان ينفذ بشكل يكاد أن يكون حرفيا البرنامج السياسى للشيوعيين , بداية من الاسهام فى مؤتمر باندونج ونأسيس حركة الحياد الايجابى وعدم الانحياز عام 1954, وتدشين نوع من العلاقة الوطيدة مع بلدان المعسكر الاشتراكى متمثلة فى الدلالة الرمزية التى أوحت بها صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 , ثم تأميم قناة السويس عام 1956. ورغم وجود بعض الشيوعيين فى السجون الا أن رفاقهم الآخرين الأحرار قاموا بالتطوع فى حرب الفدائيين فى بورسعيد وأيدوا بقوة خطوة التأميم الجبارة التى قام بها عبدالناصر.
الصدام الثانى
وكان مشروع الوحدة مع سوريا عام 1958 محكا جديدا لاختبار طبيعة العلاقة بين الشيوعيين وعبدالناصر. فقد عارض الشيوعيون الوحدة على أساس أنها قد تمت على نحو فوقى ودون أسس شعبية حقيقية رغم تأييد الجماهير لها. كما أنها قد تمت على أساس استنساخ التجربة المصرية فى مايتعلق بالاجراءات الاقتصادية والسياسية من تأميم والغاء لكل الأحزاب السياسية وتأسيس حزب واحد هو الاتحاد القومى. وقد كانت فكرة الشيوعيين (المؤيدين للوحدة بالطبع) أن تقوم هذه الوحدة على أساس فيدرالى بما يمكن من مراعاة الخصائص النوعية المختلفة لكل قطر على حدة. وكذلك ضرورة احترام التعددية الحزبية فى كلا البلدين والمناداة بنوع من الجبهة التقدمية التى تشمل كل الأحزاب والقوى التقدمية فى كلا البلدين. خاصة بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 فى العراق, والتى شهدت تأسيس جبهة بين الشيوعيين والقوميين من حزب البعث العراقى. وقد نتج عن هذا الاختلاف أن زجت السلطة الناصرية بالبقية الباقية من الشيوعيين فى السجون مرة أخرى. وكان السجن ,كما هو فى كل الأحوال, مصحوبا بتعذيب وحشى غير مبرر أدى الى مصرع العديد من القادة والأنصار الشيوعيين .. وعلى رأسهم الشهيد القائد شهدى عطية الشافعى. والذى صارت طريقة مصرعه نموذجا دالا على مابلغه التوحش الأمنى لنظام يوليو فى علاقته بخصومه السياسيين. لقد مكث الشيوعيون فى السجون حتى عام 1965. ومنهم من كان قابعا فيها منذ عام 1954. وحتى فى أثناء فترة السجن والتعذيب لم يتخل الشيوعيون عن موقفهم المبدئى فى تأييد الاجراءات التقدمية الكبرى التى قادها عبد الناصر فى مجالى الاقتصاد والسياسة فى مصر. فى فصل, يكاد أن يكون مثاليا ويندر وجوده, بين المشاعر الذاتية والموقف الوطنى والسياسى الموضوعى. وكان حال الشيوعيين فى السجون, كما عبر أحد مؤرخيهم .. "يشبه حال حواريى المسيح, فكان دعاؤهم اللهم اغفر لجلادينا". فهم مع الثورة ويدعمون الاجراءات الاشتراكية, ولكنهم محرومون من قبل قائد الثورة نفسها من المشاركة فى بنائها, بل ومغضوب عليهم ومهانون ومذلون ممن كان ينبغى أن يكون أخلص حلفائهم, وذلك بغير جريرة منهم ولاذنب. هكذا كانت المشاعر المزدوجة التى حملها الشيوعيون لعبدالناصر ولتجربته التحررية التنموية ذات الملامح الاشتراكية التى لاتخطئها العين, والتى تتم بالتعاون مع بلدان المعسكر الاشتراكى (وتلك مفارقة ثانية لاتقل غرابة عن الأولى) والتى ماكانوا ليصنعوا شيئا مختلفا عنها لو كانوا فى السلطة. ولكن للأسف فان عبدالناصر كان يبنى الاشتراكية ويقمع الاشتراكيين, فى الآن نفسه. وأظن أن الخلاف كان يكمن فى الموقف من الديمقراطية والتعددية السياسية وايمان الشيوعيين المبكر بهما على خلاف ما كان عليه الحال فى وعى عبدالناصر.
حل الحزب – بناء الحزب
لقد تميزت سلطة عبدالناصر بأنها لاتقبل الا الخضوع التام من قبل كل أغيارها السياسيين , وكان شرطها الرئيس هو أنه على كل من يريد المشاركة فى الحياة السياسية أن يقوم بحل أى بناء تنظيمى ينتمى اليه وأن يلتحق بالحزب الواحد الذى لاشريك له. وكان قرار حل الحزب.. الذى يختلف المؤرخون على من صاحب المبادرة فى اتخاذه حتى الآن . لقد كان هذا القرار بمثابة خطيئة كبرى وقع فيها الشيوعيون , فقد مثل نوعا من الرضوخ الى سلطة الاستبداد وتشجيعا لها والتحاقا بها, وهو مالم يكن ينبغى لهم الوقوع فيه, مهما كانت آلام السجون والتعذيب والتنكيل.
الا أن التجربة الناصرية نفسها لم تلبث أنتهت بوفاة عبدالناصر نفسه (وربما بسبب هذه الممارسات غير الديمقراطية بحد ذاتها) وتولى أنور السادات السلطة , حيث قام بهدر والغاء معظم وجوهر ما بنته وتبنته التجربة الناصرية. وللمفارقة الثالثة, لم يجد عبدالناصر من يدافع عنه وعن تجربته, ميتا, الا الشيوعيين الذين تصدوا للهجمة اليمينية الشرسة والمدعومة أمريكيا واسرائيليا والتى قادها أنور السادات . حيث ساهموا بقوة وعنفوان فى قيادة الحركة الطلابية العارمة فى بداية السبعينيات والتى يعزى اليها تحقيق قدر هائل من الضغط السياسى الذى أجبر السادات على خوض حرب أكتوبر المجيدة والتى أجهض هو نفسه نتائجها فيما بعد. وأعاد الشيوعيون بناء حزبهم فى عام 1975ليواصلوا نضالهم المرير مع سلطة اليمين الساداتى الذى ارتمى بكل قوته فى احضان الامبريالية والصهيونية والرأسمالية العالمية , وواصل الشيوعيون النضال والزيارات الدورية للسجون والمعتقلات, فى الآن نفسه.
الى السجون مرة أخرى
لقد كان اسهام الشيوعيين فى انتفاضة الخبز التى اندلعت فى 18 و 19 يناير 1977, بمثابة حجر الزاوية الذى حكم علاقة السادات بالشيوعيين فيما بعد. فمنذ البداية ألقت السلطة الساداتية بالمسئولية فى تفجير هذه الانتفاضة على عاتق الشيوعيين ومن ثم جرت الملاحقات الشهيرة فى حقهم وكذلك جرى دعم واحياء قوى التطرف الدينى وتجنيدها لمواجهتهم , من قبل ذلك ومن بعده على حد سواء. وكانت زيارة العار الى القدس فى نفس العام برهانا قاطعا على خروج السادات عن الخط الوطنى الذى حاول تغليفه بهامش ديمقراطى أضيق من سم الخياط. وكانت, كذلك, برهانا قاطعا على صحة التحليل السياسى والخط النضالى اللذين اعتمدهما الشيوعيون فى علاقتهم بهذه السلطة وبامتداداتها فى عصر مبارك.
ورغم انهيار منظومة المعسكر الاشتراكى فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الذى تحمل الشيوعيون المصريون جزءا من تبعاته, ورغم الهجوم الاعلامى الشرس والتشويه المتعمد للشيوعية وربطها, ظلما, بالالحاد ومعاداة الأديان, ورغم القمع والسجن والتشريد المتواصل عبر العصور, فان الشيوعيين لم يتخلوا للحظة واحدة عن حلمهم بمصر القوية الديمقراطية التى ترفرف على ربوعها رايات العدل والحرية. ولذلك لم يتوقفوا عن النضال ضد سياسات التطبيع والفساد والعمالة للأمريكان التى سادت عصر مبارك. وكان دورهم هائلا فى النضال السياسى الذى مهد للثورة المصرية الثالثة فى العصر الحديث فكانوا فى القلب من الحركات السياسية التى حركت وعمقت الوعى المصرى باتجاه الثورة على هذا النظام. فكانوا القوة الرئيسية المؤسسة للحملة الوطنية من أجل التغيير, واحدى القوى المؤسسة لحركة كفاية, وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات, وكانوا من القوى الدافعة والمحركة للحركات الاحتجاجية والاضرابات العمالية فى المحلة الكبرى وكفر الدوار وغيرهما, وكذلك تواصل دورهم فى المجال الحقوقى ومنظمات المجتمع المدنى ومنظمات حقوق الانسان .. الخ.
ثورة يناير المجيدة
فمثلما حدث من تمهيد وحراك وحراثة للتربة السياسية وتغذية للوعى السياسى والاجتماعى والوطنى فى يوليو 1952 حدث الاسهام الكبير(الى جانب باقى القوى الوطنية) فى التمهيد للثورة المصرية الأجمل والأكثر حضارية وشعبية فى يناير 2011 . بل ان الثورة قد اتخذت من شعارات الشيوعيين وقوى اليسار شعاراتها الأكثر دلالة وتعبيرا, كما أسلفت فى صدر هذا المقال.
واليوم يعمل الشيوعيون, جنبا الى جنب مع جماهير وقوى ثورة يناير المجيدة, على تحقيق حلمهم التأسيسى, (الذى خرجوا بسببه من كنف ثورة يوليو وذاقوا الويلات), والذى يمثل الشرط الرئيسى, وربما, الوحيد لأى تقدم اقتصادى أو ازدهار حضارى أو عدالة اجتماعية .. هذا الشرط – الحلم هو اقامة الدولة المدنية الديمقراطية .. دولة القانون والمؤسسات .. دولة الشعب الحر والسلطة القابلة للمحاسبة والتداول السلمى .. دولة المواطنة وحقوق الانسان...
وسيبقى النصر دوما حليف الشعوب والى جانب قواها الحية الصامدة الصابرة
صلاح السروى - الشيوعيون المصريون بين ثورتين
صلاح السروى - الشيوعيون المصريون بين ثورتين
www.ahewar.org