-12- عن منابر الفضيلة: نيتشه وفنّ الهجاء
امتَدَحَ الناس لزرادشت حكيماً زعموا أنّ له حديث العارف في مسائل النوم والفضيلة، وكان على ما بدو يخظى مقابل ذلك ببالغ التقدير ويُغدَق عليه بالمكافآت، وإلى منبره يجلس كل الفتيان. ذهب إليه زرادشت إذاً وجلس مع كل الفتيان هناك. وهكذا تكلّم الحكيم:
الاحترام والحَياء تجاه النوم! إنّها أولى الأمور! ولتبتعد عن طريق الذين لاينامون جيداً ويسهرون الليل!
بحياء يتصرّف اللص أيضاً أمام النوم: إنّه يتسلّل دوماً بهدوء بين طيّات الليل. لكنّ المولَعَ بالسهر لايعرف الحياء، ودون حَياء يرفع قرنه.
ليس عملاً سهلاً هو النوم: على المرء أن يُهَيّئ نفسه له بالصحو طوال النهار.
عشرُ مَرّاتٍ في اليوم عليك أن تتجاوز نفسك، فذلك يمنح تَعَباً جيداً، وهو زهرة الخشخاش المُهَدّئة للروح.
عشرُ مَرّاتٍ عليك أن تتصالح مع نفسك، ذلك أنّ المُغالَبَة مَرارة، والذي لم يتصالح مع نفسه نوماً قلقاً ينام.
عشرُ حقائق عليك أن تجد في نهارك، وإلا فإنّك ستبحث عن الحقيقة في ليلكَ أيضاً، وتظلُّ نفسكَ على الطوى.
عشرُ مرّاتٍ عليك أن تضحك في يومك وأن تكون فرحاً، وإلا أزعجتكَ معدتكَ ليلاً، بيت الداء وأم الأحزان.
قليلون هم الذين يعرفون هذا: لكن على المرء أن يكون حاملاً لكلّ الفضائل كي يستطيع أن ينام نوماً جيداً. أن أشهدَ شهادة زورٍ؟ أن أزني؟ أن أراود خادمة جاري؟ كل هذا ما لا يتلائم ونوماً جيداً.
وحتى وإن كان المرء حائزاً على كل الفضائل، فإنّه عليه أن يكون على درايةٍ بأمرٍ آخر، أن يبعث بالفضائل نفسها إلى النوم في الوقت المناسب, كي لا تتناوش في ما بينها، تلك الإناث اللطيفات _وذلك فوق رأسك أنت المسكين!
سلامٌ مع الله ومع الجار: ذلك ما يبتغيه النوم الجيد. وسلامٌ كذلك حتى مع جارك الشيطان! وإلا ظَلّ يقضّ مضجعك طوال الليل.
احترام السلطة وطاعتها، بما في ذلك ما كان سلطة مُعوَجّة! ذلك ما يتطلّبه النوم الجيد. وما ذنبي أنا إن كانت السلطة تحبّذ السير على قَدَمٍ عَرجاء.
راعٍ جيدٍ في نظري دوماً ذاك الذي يقود خِرافه إلى المراعي الأكثر خضرةً: كذا يمكن التلاؤم مع نومٍ جيد!
لا أريد تشريفات كثيرة، ولا كنوزاً كبيرة: إنّ ذلك يُلهِبَ المَرارة والطحال. لكنْ نوماً قلقاً سينام المرء دون سمعة جيّدة وكنزٌ صغير.
إنّ علاقات محدّدة أحَبُّ إليَّ من رفقة السوء، لكن على أن تأتي وتمضي في الوقت المناسب. ذلك هو ما يتلائَم ونوماً جيداً.
يعجبني كثراً المساكين بالروح أيضاً، إنهم يسهّلون النوم. سعداء هُم وهنيئين، خاصةً إلى ما شَهِدَ المرءُ لهم بالحق في كل أمرٍ.
هكذا ينقضي يوم الرجل الفاضل، لكنني عندما يأتي الليل أحترسُ جيداً من طلب النوم! لأنه لايُحَبَّذ البَتّة أن يُستدعى، سيّد الفضائل كلها.
بل إنني أفكرّ في ما فعلتُ طوال نهاري وفي ما فكّرتُ به. مُجتَرَّاً بصبرٍ مثل بقرة أسأل نفس: ما هي التجاوزات العشرة ليومك؟
وما هي المصالحات العشر والحقائق العشر والضحكات العشر التي أدخَلَت السرور على قلبك؟
مُمَحّصاً هكذا ومُهَدهَداً بأربعين خاطرة يداهمني النوم دفعةً واحدة، ذاك الذي لم أطلبه، سيد الفضائل كلها!
يطرق النوم عيني، وإذا عيني قد ثَقُلَت. ولامس النوم فمي، فيظلّ مفتوحاً.
حقاً، على نِعال خفيفة ناعمة يأتيني، أحَبُّ اللصوص إلى القلب، ويسرق مني خواطري وأفكاري: متبلّداً أظلُّ واقفاً مكاني مثل هذا الكرسي.
لكنّ وقوفي لن يطول بعدها: وإذا أنا مُستَلقٍ،_
ولما سمع زرادشت ذلك الحكيم يتحدّث بهذا الكلام ضحك في ما بينه وبين نفسه: إذ، وهو يستمع إليه أشرق في ذهنه وضوحٌ جديد. وهكذا تحدّث إلى قلبه:
أحمقٌ في نظري هو هذا الحكيم وخواطره الأربعين، لكنني أظنّه على دراية جيّدة بأمر النوم.
سعيدٌ من يسكن إلى جوار هذا الحكيم، إنّ نوماً كهذا لمُعْدٍ، وهو قادرٌ على التسرّب حتى عبر جدارٍ سميك.
هناك سحرٌ يسكن حتى داخل كرسيّه. ولا غرابة إذاً أن يجلس أمام خطيب الفضيلة هذا كل هؤلاء الفتيان.
حكمته تعني: أن تصحو من أجل أن تنام جيداً. وحقاً، لو كانت هذه الحياة خالية من أي معنى، وكان عليّ أن أختار سخافة ما لَبِدَت هذه لي أنا أيضاً السخافة الأكثر جدارةً بالاختيار.
الآن أصبحتُ أفهم بوضوحٍ ما الذي يبحث عنه المرء أكثر من أي شيء في ما مضى عندما كان يبحث عن معلّم فضائل. نوماً جيداً وفضائل بخصائص زهرة الخشخاش كان المرء يريد.
النوم دون أحلام هي الحكمة بالنسبة لحكماء المنابر المُنَوّه بهم على الدوام، فهؤلاء لم يعرفوا من معنى أفضل للحياة.
واليوم أيضاً ما يزال هناك بعض ممّن يشبهون داعية الفضيلة دون أن يكونوا بمثل صدقه دوماً، لكنّ زمنهم قد ولّى ومضى، ولن يتسنّى لهم الوقوف طويلاً بعد الآن: وها هم الآن يضطجعون.
طوبى لهؤلاء الناعسين، فهم عمّا قريب سيغفون)).
هكذا تكلّم زرادشت.
################################
[] نيتشه وفنّ الهجاء
كلّما كان النصّ ينتقد قضايا قريبة من الثقافة المعاصرة، يقترب أسلوب الكتابة من أسلوب التهكّم والسخرية والهجاء. هناك الكثير من لحظات السخرية في الجزء الأول، أمّا الجزء الثاني فيركّز بشكلٍ أكبر على معاصري نيتشه. في الجزء الرابع، يصبح الهجاء شخصياً وحاداً ولاذعاً بشكلٍ خاص. يعمل فنّ الهجاء عن طريق السخرية من موضوعه والمبالغة في استعراض سماته السلبية، وغالباً مايتمّ ذلك من خلال التشويه والتحريف والزيادة: التوسّع في التطرّق إلى التفاصيل الجانبية وغير الجوهرية/والتقليل من شأن الميّزات الرئيسية، والمحاكاة الساخرة الجسيمة والفاضحة، وتسخيف موضوعها.
غالباً ما يكون العالم الذي يوصّف عن طريق الهجاء "واقفاً على رأسه" Verkehrte Welt أو العالم في الاتجاه الخاطئ. يتبع الهجاء عند زرادشت خُطى تقليد قديم وطويل من أسلوب الهجاء الأوروبي يعود في تاريخه إلى زمن لوسيليوس، صاحب الأسلوب ومُبتَكِرُهُ، ويوفينال، وفي العصر الحديث إلى سيرفانتس وسويفت وشتيرن وليشتنبيرغ.
أمّا الشخصيات الأمثر حَداثةً وبروزاً فهما كاتبان رومنسيان ألمانيان: جان بول فريدريك ريختر (يُدعى جان بول 1763-1825)، وفريدريك كلينغمان (1777-1831) الذي نشر في عام 1804 تحت اسم مستعار "بونافينتورا" روايته الساخرة "أحلام يقظة ليلية" Nachtwachen. وفي ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، ازدهرت حركة Zeitkritik الهجائية الساخرة (حركة من الراديكاليين الشباب بمن فيهم كارل غوتزكو، وهنريك هاينه، ولودفيك بيورن، وجورج بوخنر). أصبح النقد الهجائي سمَة بارزة وواسعة الانتشار للاحتجاج السياسي والأدبي ضدّ السياسة والثقافة الألمانيتين. هنا الصورة النموذجية الشائعة هي صورة "مايكل الألماني Der Deutsche Michel"، نموذج الشخصية الوطنية الألمانية على غرار صورة البولدوغ الإنكليزي. وغالباً ما يُصَوّر على أنّه صبي ضخم سمين وبدين، وأبله، غالباً ما يعاني من السهو والنسيان والنعاس. وكتعزيز استعاري داعم: غالباً مايرتدي قبّة نوم شبيهة بالقمع تنتهي بسلك تتدلّى منه كرة صوفية _شخصية بليدة للغاية يكاد يوجد مثيل لها في كل ثقافة شعبية.
تمّ حظر أعمال هؤلاء النقّاد والهجائيون الراديكاليون من قبل السلطات، حتى أنّ بعضهم فَرّ إلى المَنافي هَرَباً من المُلاحقة القضائية. إلا أنّ هذا الهجاء السياسي استمرّ بشكل ساخر خلال فورمارز، أي الفترة التي سبقت أحداث عام 1848. وقد تمّ بناء أسلوب هجاء نيتشه في كتاب زرادشت وأماكن أخرى على نماذج من هذا النوع الذي شاع ضمن أفراد الحركة، والتي يمكن العثور عليها أيضاً في الشخصية الأكثر "احتراماً" ضمن أعمال الروائي والكاتب المسرحي كارل إيمرمان. [Simon Wiliams (2004), pp. 5-19]
إذن نرى أنّ هناك أصداء قوية لرواية بونافينتورا "أحلام اليقظة اليلية" في كتاب زرادشت، وضمن هذا القسم تحديداً. فهناك، الحارس الليلي في محرسه الوحيد مع كل البشر النيام من حوله في المدينة المهجورة، حيث يرى العالم كما لايستطيع أيّ شخص آخر أن يراه. زرادشت مثل هذا الشخص اليَقِظ الذي يرى العالَم خلال الليل. فأمثال زرادشت، والحارس الليلي، في هذا القسم يُسَمّون "بالوقحين" حسب تعبير حكيم علم الأخلاق عن نموذجه الأولي، الذي يريد أن يبقى مستيقظاً خلال عمله أثناء النهار حتى يتمكّن من النوم بهدوء خلال الليل (في "كرسيّه": هو حالسٌ بالفعل).
إنّ الهجاء في هذا القسم يصوّر الحكيم كرجل متفلسف يضع على رأسه قبّعة نومه الليلية، وكسول، وغير طموح، وغير قادر على الانفتاح على المجهول _إنّه مثل "مايكل" العقل. لقد اعتبر روتين الفضيلة كنشاط نهاري، متضخّم وعبثي وسخيف، ولغرض إبقاء الفرد مستيقظاً فقط حتى يخدّر النوم مخاوفه الليلية.
إنّ التجربة الحقيقية للنهار والليل يتمّ تجنّبها من خلال أعمال روتينية من صنع الإنسان وبهندسة اصطناعية عالية. إذ يؤثّر هذا الاصطناع للعقلانية القصدية، أو التي تتحرّك وفقاً لغايات، على مضمون ما تمّ تلقينه. هنا بالكاد تمّ تعريف الفضيلة تعريفاً سليباً محايداً.
يذكّرنا العدد أربعون من المجموعات الأربعة للمهام الأخلاقية الموصوفة هنا (التغلّب على الذات، والتصالح مع الذات، واكتشاف الحقائق، والضحك والابتهاج) بالأربعين يوماً التي قضاها يسوع في الصحراء، والاختبارات الأخلاقية التي مَرَّ بها. وهكذا يُلَمّحُ نيتشه إلى الأخلاق المسيحية، لكنّ المبادئ كما تمّ الاستشهاد بها وصياغتها بشكلٍ غريب خالية بالمُطلَق من الجوهر الأخلاقي المسيحي الحقيقي. وهكذا، على سبيل المثال، أصبحت الوصايا العشر في منتهى السخافة من خلال الأمثلة المُقَدّمة: ((أن أراود خادمة جاري؟)). بهذه المبادئ يقدّم لنا الكتاب نسخة أكاديمية حديثة ومُخَفّفة من الأخلاق اليهو-مسيحية التي استَبدَلَت ضراوة العَدالة الاجتماعية في الوصايا العَشر الأصلية وأصالتها التاريخية وحَلّت محلّها كتعبير عن أسلوب خياة شعب. وهكذا تنشر الفلسفة نوعاً من الأخلاق التي تحافظ على الوضع الراهن، وتمنع طبعاً إثارة أيّ أسئلة مهمّة أو صعبة أو خطيرة. إنّ صورة المهرّج كمجرم شاحب في القسم السادس، وصورته كشاب يهمس لزرادشت في القسم الثامن أكثر تقدّما وتطوّراً في طريقه نحو الإنسانية الفائقة التي تتجاوز ذاتها إلى الإنسان الأعلى. وينتهي هذا القسم باستحضار صورة المقصلة الثورية: رؤوس أمثال هذا الحكيم ستتساقط قريباً.
نلاحظ في هذا القسم من الكتاب الأول المُعَنوَن "خُطَب زرادشت" أنّ الجزء الأكبر لم يُلقِهِ زرادشت، بل الحكيم. وبهذا يتأكّد تعلّم زرادشت بهذه الطريقة. بالنسبة للآذان المضطربة والمُصغية لهُراء الحَدَاثة، هذا مايبدو عليه الحكماء أو أساتذة الأخلاق. إنّ نقد الفلسفة الأكاديمية التقليدية هي النقطة التي انطلق منها نيتشه لتوضيح معنى تحوّلات العقل وشكل الفهم الجديد للأخلاق. يجب التخلّص من التناقضات الصارخة والمُعَنّدة كطريقة مؤسّسة للفكر: الخير والشر، تماماً مثل اليقظة والنوم، والحياة والموت، لايمكن أن يوجد أحدهما من دون الآخر.
يجب اختبار العقل والزمن كأجزاء من سلسلة من اللحظات المتدفّقة المتّصلة ببعضها (كما سنناقش ذلك لاحقاً في قسم "عن محبّة القريب" في الكتاب الأول، والشذرات القليلة الأولى من كتاب "ماوراء الخير والشر"). إذ يقوم مفهوم زرادشت عن صحّة الإنسان على التجربة الحيّة للجسم الطبيعي، فهناك "إحساسٌ بالحياة": "الإحساس بالأرض".
إبراهيم قيس جركس 2020
امتَدَحَ الناس لزرادشت حكيماً زعموا أنّ له حديث العارف في مسائل النوم والفضيلة، وكان على ما بدو يخظى مقابل ذلك ببالغ التقدير ويُغدَق عليه بالمكافآت، وإلى منبره يجلس كل الفتيان. ذهب إليه زرادشت إذاً وجلس مع كل الفتيان هناك. وهكذا تكلّم الحكيم:
الاحترام والحَياء تجاه النوم! إنّها أولى الأمور! ولتبتعد عن طريق الذين لاينامون جيداً ويسهرون الليل!
بحياء يتصرّف اللص أيضاً أمام النوم: إنّه يتسلّل دوماً بهدوء بين طيّات الليل. لكنّ المولَعَ بالسهر لايعرف الحياء، ودون حَياء يرفع قرنه.
ليس عملاً سهلاً هو النوم: على المرء أن يُهَيّئ نفسه له بالصحو طوال النهار.
عشرُ مَرّاتٍ في اليوم عليك أن تتجاوز نفسك، فذلك يمنح تَعَباً جيداً، وهو زهرة الخشخاش المُهَدّئة للروح.
عشرُ مَرّاتٍ عليك أن تتصالح مع نفسك، ذلك أنّ المُغالَبَة مَرارة، والذي لم يتصالح مع نفسه نوماً قلقاً ينام.
عشرُ حقائق عليك أن تجد في نهارك، وإلا فإنّك ستبحث عن الحقيقة في ليلكَ أيضاً، وتظلُّ نفسكَ على الطوى.
عشرُ مرّاتٍ عليك أن تضحك في يومك وأن تكون فرحاً، وإلا أزعجتكَ معدتكَ ليلاً، بيت الداء وأم الأحزان.
قليلون هم الذين يعرفون هذا: لكن على المرء أن يكون حاملاً لكلّ الفضائل كي يستطيع أن ينام نوماً جيداً. أن أشهدَ شهادة زورٍ؟ أن أزني؟ أن أراود خادمة جاري؟ كل هذا ما لا يتلائم ونوماً جيداً.
وحتى وإن كان المرء حائزاً على كل الفضائل، فإنّه عليه أن يكون على درايةٍ بأمرٍ آخر، أن يبعث بالفضائل نفسها إلى النوم في الوقت المناسب, كي لا تتناوش في ما بينها، تلك الإناث اللطيفات _وذلك فوق رأسك أنت المسكين!
سلامٌ مع الله ومع الجار: ذلك ما يبتغيه النوم الجيد. وسلامٌ كذلك حتى مع جارك الشيطان! وإلا ظَلّ يقضّ مضجعك طوال الليل.
احترام السلطة وطاعتها، بما في ذلك ما كان سلطة مُعوَجّة! ذلك ما يتطلّبه النوم الجيد. وما ذنبي أنا إن كانت السلطة تحبّذ السير على قَدَمٍ عَرجاء.
راعٍ جيدٍ في نظري دوماً ذاك الذي يقود خِرافه إلى المراعي الأكثر خضرةً: كذا يمكن التلاؤم مع نومٍ جيد!
لا أريد تشريفات كثيرة، ولا كنوزاً كبيرة: إنّ ذلك يُلهِبَ المَرارة والطحال. لكنْ نوماً قلقاً سينام المرء دون سمعة جيّدة وكنزٌ صغير.
إنّ علاقات محدّدة أحَبُّ إليَّ من رفقة السوء، لكن على أن تأتي وتمضي في الوقت المناسب. ذلك هو ما يتلائَم ونوماً جيداً.
يعجبني كثراً المساكين بالروح أيضاً، إنهم يسهّلون النوم. سعداء هُم وهنيئين، خاصةً إلى ما شَهِدَ المرءُ لهم بالحق في كل أمرٍ.
هكذا ينقضي يوم الرجل الفاضل، لكنني عندما يأتي الليل أحترسُ جيداً من طلب النوم! لأنه لايُحَبَّذ البَتّة أن يُستدعى، سيّد الفضائل كلها.
بل إنني أفكرّ في ما فعلتُ طوال نهاري وفي ما فكّرتُ به. مُجتَرَّاً بصبرٍ مثل بقرة أسأل نفس: ما هي التجاوزات العشرة ليومك؟
وما هي المصالحات العشر والحقائق العشر والضحكات العشر التي أدخَلَت السرور على قلبك؟
مُمَحّصاً هكذا ومُهَدهَداً بأربعين خاطرة يداهمني النوم دفعةً واحدة، ذاك الذي لم أطلبه، سيد الفضائل كلها!
يطرق النوم عيني، وإذا عيني قد ثَقُلَت. ولامس النوم فمي، فيظلّ مفتوحاً.
حقاً، على نِعال خفيفة ناعمة يأتيني، أحَبُّ اللصوص إلى القلب، ويسرق مني خواطري وأفكاري: متبلّداً أظلُّ واقفاً مكاني مثل هذا الكرسي.
لكنّ وقوفي لن يطول بعدها: وإذا أنا مُستَلقٍ،_
ولما سمع زرادشت ذلك الحكيم يتحدّث بهذا الكلام ضحك في ما بينه وبين نفسه: إذ، وهو يستمع إليه أشرق في ذهنه وضوحٌ جديد. وهكذا تحدّث إلى قلبه:
أحمقٌ في نظري هو هذا الحكيم وخواطره الأربعين، لكنني أظنّه على دراية جيّدة بأمر النوم.
سعيدٌ من يسكن إلى جوار هذا الحكيم، إنّ نوماً كهذا لمُعْدٍ، وهو قادرٌ على التسرّب حتى عبر جدارٍ سميك.
هناك سحرٌ يسكن حتى داخل كرسيّه. ولا غرابة إذاً أن يجلس أمام خطيب الفضيلة هذا كل هؤلاء الفتيان.
حكمته تعني: أن تصحو من أجل أن تنام جيداً. وحقاً، لو كانت هذه الحياة خالية من أي معنى، وكان عليّ أن أختار سخافة ما لَبِدَت هذه لي أنا أيضاً السخافة الأكثر جدارةً بالاختيار.
الآن أصبحتُ أفهم بوضوحٍ ما الذي يبحث عنه المرء أكثر من أي شيء في ما مضى عندما كان يبحث عن معلّم فضائل. نوماً جيداً وفضائل بخصائص زهرة الخشخاش كان المرء يريد.
النوم دون أحلام هي الحكمة بالنسبة لحكماء المنابر المُنَوّه بهم على الدوام، فهؤلاء لم يعرفوا من معنى أفضل للحياة.
واليوم أيضاً ما يزال هناك بعض ممّن يشبهون داعية الفضيلة دون أن يكونوا بمثل صدقه دوماً، لكنّ زمنهم قد ولّى ومضى، ولن يتسنّى لهم الوقوف طويلاً بعد الآن: وها هم الآن يضطجعون.
طوبى لهؤلاء الناعسين، فهم عمّا قريب سيغفون)).
هكذا تكلّم زرادشت.
################################
[] نيتشه وفنّ الهجاء
كلّما كان النصّ ينتقد قضايا قريبة من الثقافة المعاصرة، يقترب أسلوب الكتابة من أسلوب التهكّم والسخرية والهجاء. هناك الكثير من لحظات السخرية في الجزء الأول، أمّا الجزء الثاني فيركّز بشكلٍ أكبر على معاصري نيتشه. في الجزء الرابع، يصبح الهجاء شخصياً وحاداً ولاذعاً بشكلٍ خاص. يعمل فنّ الهجاء عن طريق السخرية من موضوعه والمبالغة في استعراض سماته السلبية، وغالباً مايتمّ ذلك من خلال التشويه والتحريف والزيادة: التوسّع في التطرّق إلى التفاصيل الجانبية وغير الجوهرية/والتقليل من شأن الميّزات الرئيسية، والمحاكاة الساخرة الجسيمة والفاضحة، وتسخيف موضوعها.
غالباً ما يكون العالم الذي يوصّف عن طريق الهجاء "واقفاً على رأسه" Verkehrte Welt أو العالم في الاتجاه الخاطئ. يتبع الهجاء عند زرادشت خُطى تقليد قديم وطويل من أسلوب الهجاء الأوروبي يعود في تاريخه إلى زمن لوسيليوس، صاحب الأسلوب ومُبتَكِرُهُ، ويوفينال، وفي العصر الحديث إلى سيرفانتس وسويفت وشتيرن وليشتنبيرغ.
أمّا الشخصيات الأمثر حَداثةً وبروزاً فهما كاتبان رومنسيان ألمانيان: جان بول فريدريك ريختر (يُدعى جان بول 1763-1825)، وفريدريك كلينغمان (1777-1831) الذي نشر في عام 1804 تحت اسم مستعار "بونافينتورا" روايته الساخرة "أحلام يقظة ليلية" Nachtwachen. وفي ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، ازدهرت حركة Zeitkritik الهجائية الساخرة (حركة من الراديكاليين الشباب بمن فيهم كارل غوتزكو، وهنريك هاينه، ولودفيك بيورن، وجورج بوخنر). أصبح النقد الهجائي سمَة بارزة وواسعة الانتشار للاحتجاج السياسي والأدبي ضدّ السياسة والثقافة الألمانيتين. هنا الصورة النموذجية الشائعة هي صورة "مايكل الألماني Der Deutsche Michel"، نموذج الشخصية الوطنية الألمانية على غرار صورة البولدوغ الإنكليزي. وغالباً ما يُصَوّر على أنّه صبي ضخم سمين وبدين، وأبله، غالباً ما يعاني من السهو والنسيان والنعاس. وكتعزيز استعاري داعم: غالباً مايرتدي قبّة نوم شبيهة بالقمع تنتهي بسلك تتدلّى منه كرة صوفية _شخصية بليدة للغاية يكاد يوجد مثيل لها في كل ثقافة شعبية.
تمّ حظر أعمال هؤلاء النقّاد والهجائيون الراديكاليون من قبل السلطات، حتى أنّ بعضهم فَرّ إلى المَنافي هَرَباً من المُلاحقة القضائية. إلا أنّ هذا الهجاء السياسي استمرّ بشكل ساخر خلال فورمارز، أي الفترة التي سبقت أحداث عام 1848. وقد تمّ بناء أسلوب هجاء نيتشه في كتاب زرادشت وأماكن أخرى على نماذج من هذا النوع الذي شاع ضمن أفراد الحركة، والتي يمكن العثور عليها أيضاً في الشخصية الأكثر "احتراماً" ضمن أعمال الروائي والكاتب المسرحي كارل إيمرمان. [Simon Wiliams (2004), pp. 5-19]
إذن نرى أنّ هناك أصداء قوية لرواية بونافينتورا "أحلام اليقظة اليلية" في كتاب زرادشت، وضمن هذا القسم تحديداً. فهناك، الحارس الليلي في محرسه الوحيد مع كل البشر النيام من حوله في المدينة المهجورة، حيث يرى العالم كما لايستطيع أيّ شخص آخر أن يراه. زرادشت مثل هذا الشخص اليَقِظ الذي يرى العالَم خلال الليل. فأمثال زرادشت، والحارس الليلي، في هذا القسم يُسَمّون "بالوقحين" حسب تعبير حكيم علم الأخلاق عن نموذجه الأولي، الذي يريد أن يبقى مستيقظاً خلال عمله أثناء النهار حتى يتمكّن من النوم بهدوء خلال الليل (في "كرسيّه": هو حالسٌ بالفعل).
إنّ الهجاء في هذا القسم يصوّر الحكيم كرجل متفلسف يضع على رأسه قبّعة نومه الليلية، وكسول، وغير طموح، وغير قادر على الانفتاح على المجهول _إنّه مثل "مايكل" العقل. لقد اعتبر روتين الفضيلة كنشاط نهاري، متضخّم وعبثي وسخيف، ولغرض إبقاء الفرد مستيقظاً فقط حتى يخدّر النوم مخاوفه الليلية.
إنّ التجربة الحقيقية للنهار والليل يتمّ تجنّبها من خلال أعمال روتينية من صنع الإنسان وبهندسة اصطناعية عالية. إذ يؤثّر هذا الاصطناع للعقلانية القصدية، أو التي تتحرّك وفقاً لغايات، على مضمون ما تمّ تلقينه. هنا بالكاد تمّ تعريف الفضيلة تعريفاً سليباً محايداً.
يذكّرنا العدد أربعون من المجموعات الأربعة للمهام الأخلاقية الموصوفة هنا (التغلّب على الذات، والتصالح مع الذات، واكتشاف الحقائق، والضحك والابتهاج) بالأربعين يوماً التي قضاها يسوع في الصحراء، والاختبارات الأخلاقية التي مَرَّ بها. وهكذا يُلَمّحُ نيتشه إلى الأخلاق المسيحية، لكنّ المبادئ كما تمّ الاستشهاد بها وصياغتها بشكلٍ غريب خالية بالمُطلَق من الجوهر الأخلاقي المسيحي الحقيقي. وهكذا، على سبيل المثال، أصبحت الوصايا العشر في منتهى السخافة من خلال الأمثلة المُقَدّمة: ((أن أراود خادمة جاري؟)). بهذه المبادئ يقدّم لنا الكتاب نسخة أكاديمية حديثة ومُخَفّفة من الأخلاق اليهو-مسيحية التي استَبدَلَت ضراوة العَدالة الاجتماعية في الوصايا العَشر الأصلية وأصالتها التاريخية وحَلّت محلّها كتعبير عن أسلوب خياة شعب. وهكذا تنشر الفلسفة نوعاً من الأخلاق التي تحافظ على الوضع الراهن، وتمنع طبعاً إثارة أيّ أسئلة مهمّة أو صعبة أو خطيرة. إنّ صورة المهرّج كمجرم شاحب في القسم السادس، وصورته كشاب يهمس لزرادشت في القسم الثامن أكثر تقدّما وتطوّراً في طريقه نحو الإنسانية الفائقة التي تتجاوز ذاتها إلى الإنسان الأعلى. وينتهي هذا القسم باستحضار صورة المقصلة الثورية: رؤوس أمثال هذا الحكيم ستتساقط قريباً.
نلاحظ في هذا القسم من الكتاب الأول المُعَنوَن "خُطَب زرادشت" أنّ الجزء الأكبر لم يُلقِهِ زرادشت، بل الحكيم. وبهذا يتأكّد تعلّم زرادشت بهذه الطريقة. بالنسبة للآذان المضطربة والمُصغية لهُراء الحَدَاثة، هذا مايبدو عليه الحكماء أو أساتذة الأخلاق. إنّ نقد الفلسفة الأكاديمية التقليدية هي النقطة التي انطلق منها نيتشه لتوضيح معنى تحوّلات العقل وشكل الفهم الجديد للأخلاق. يجب التخلّص من التناقضات الصارخة والمُعَنّدة كطريقة مؤسّسة للفكر: الخير والشر، تماماً مثل اليقظة والنوم، والحياة والموت، لايمكن أن يوجد أحدهما من دون الآخر.
يجب اختبار العقل والزمن كأجزاء من سلسلة من اللحظات المتدفّقة المتّصلة ببعضها (كما سنناقش ذلك لاحقاً في قسم "عن محبّة القريب" في الكتاب الأول، والشذرات القليلة الأولى من كتاب "ماوراء الخير والشر"). إذ يقوم مفهوم زرادشت عن صحّة الإنسان على التجربة الحيّة للجسم الطبيعي، فهناك "إحساسٌ بالحياة": "الإحساس بالأرض".
إبراهيم قيس جركس 2020