محمد اليعقابي - 2 - الشخصانية الواقعية لمحمد عزيز الحبابي (1922-1993)

الحرية


يخضع الحبابي تحليله لإشكالية الحرية لنزعته الواقعية التركيبية. ولهذا أراد أن يبين أن الحرية ليست صفة ولا خاصية ثابتة بل هي " مكتسب تدريجي وشمولية" «une conquête progressive et une totalité»[106] . رافضا ما يسميه بالفلسفات السلبية للحرية المتمثلة في النزعات المثالية التي تطرح الحرية كتجربة ميتافيزيقة [107]، ورديفتها النزعات التي تقف عند التجليات الخارجية للتحرر[108].

لكن عمليا يتعلق الأمر بنقد البرغسونية التي يؤاخذها على مثاليتها وثنائيتها. فالحرية عند الحبابي يجب أن تتجلى قبل كل شيء في العلاقات الاجتماعية[109]. وينتقد الحبابي البرغسونية وكأنها سليلة الرواقية التي ترد الحرية إلى مجرد حالة شعورية قائلا: "البرغسونية تدعونا إلى ضرب من "الانعزالية" التي ننشغل فيها بشعورنا فقط لأنه مقر الديمومة الحقيقية، وهو بذلك مقر الحرية"[110]. والميزة الوحيدة التي يعترق بها للبرغسونية – كما للوجودية أيضا - تكمن في "كونها تلقحنا بين حين والآخر بجرعة من الذاتية لنتسلح ضد هيمنة الأشياء"، لكنها عاجزة عن السير بنا نحو التحرر"[111].

ويعطي الحبابي في الصفحات 70 إلى 72 من "حرية أم تحرر" خلاصة عن مفهوم الحرية في عدة مؤلفات لبرغسون، ثم يلقي السؤال: " هل ستتجه هذه الأفعال الإرادية نحو المعنى الحقيقي للتحرر؟"[112]. وفي نظره كان على "منبعا الأخلاق و الدين" إعطاء أجوبة في هذا الاتجاه، إلا أن هذه الأجوبة لم تقنعه "لأننا نجد في مركز نظرية الحرية عند برغسون الحرية الإلهية، وهي حرية لا يستطيع الكائن البشري المساهمة فيها إلا إذا كان "مفعولا بها" "[113] .

لكن الحبابي لا يرى إلا الوجه الصوفي لنظرية الحرية عند برغسون ولا يعير الانتباه لقاعدتها الواقعية. والواقع أن برغسون إن كان خصص تحاليل طويلة للآليات الذاتية والداخلية للحرية فمن أجل استخلاص شروط إمكانية أي فعل حر. وفي البدء يجري برغسون هذا التحليل على المستوى الأكثر مادية ألا وهو المستوى البيولوجي. ويستنتج من هذا التحليل أن "دور الحياة هو إدخال اللاتحديد indétermination في المادة" ..."فالجهاز العصبي بخلاياه العصبية المرصوفة جنبا إلى جنب بحيث أن أطراف كل واحدة منها تنفتح على طرق متعددة تطرح العديد من الأسئلة، إنها خزان لللاتحدد"[114]. فالحرية ليست مجرد حالة شعورية بل هي مرسومة في المعطيات البيولوجية للكائن الحي.

ومن جهة أخرى يرى برغسون أن الحرية ليست مطلقة وبأنها تحتمل درجات لأنه يأخذ بالاعتبار المحيط الاجتماعي والنفسي[115]. فالأفعال الحرة قليلة لأنها قليلة تلك الأفعال التي تصدر عن الروح بكاملها[116]، والتي تخرج إلى الوجود كما تسقط الثمرة الناضجة.

إن الحبابي يقول أن المقاربة البرغسونية محصورة في شعور "فرداني مطلق يتجاهل الآخر والأنت والنحن"[117]. لكن قراءة "منبعا الأخلاق والدين" تفند هذه القراءة. فالحياة الاجتماعية sociabilité مكتوبة في غريزة الإنسان، لأنها "رسم (أو خطاطة) للمجتمع كان متشكلا في البنية الأصلية للروح البشرية"[118]. والواجب الأخلاقي نفسه لا يمكن فصله عن الغريزة[119]، فالأخلاق من "طبيعة بيولوجية"[120]. والدين هو الرابطة بين الغريزي والاجتماعي، إنه "رد فعل دفاعي من قبل الطبيعة في مواجهة السلطة المحللة (المفسخة) dissolvante للذكاء"[121]. لهذا فإن فعلا لا عقلانيا بالنسبة للفرد ليس بالضرورة كذلك بالنسبة للمجتمع[122]. وللقيام بدوره فإن الدين يلجأ إلى الوظيفة الخرافية fonction fabulatrice[123]، ف"الديانة الثابتة statique تربط الإنسان بالحياة، وتبعا لذلك الفرد بالمجتمع، بواسطة حكايات تشبه تلك التي يهدهد بها الأطفال"[124]. لكن هذه الوظيفة مصدر اختلالات (خزعبلات) aberrations وجمود، لأن اللاعقلاني يصير عبثا absurde[125]. بينما غريزة الانضباط في المجتمع المنغلق قد تعمل على اندلاع الحروب. وآنذاك يصير من الضروري العودة إلى الاندفاع الحيوي l’élan vital للعب منه (أو الارتواء منه). وهذا الاندفاع في بعده الإنساني من طبيعة صوفية. وهذه الصوفية "اتصال ... بالجهد الخلاق الذي تعبر عنه الحياة. وهذا الجهد من الله، إن لم يكن الله ذاته"[126]. إن الصوفية عند برغسون ليست بحثا انعزاليا عن الخلاص، بل التزام في الكون. وهي التي تمكن من الخروج من المجتمع المغلق إلى المجتمع المنفتح الذي يشمل الإنسانية قاطبة[127].

قد لا نتفق مع تصور برغسون للصوفية (ولفلسفته بصفة عامة)، لكن لا يجوز نعته ب "الانعزالية". لقد كان هدف برغسون تأسيس أنثروبولوجيا تصهر في نسق واحد كلا من الأبعاد البيولوجية والاجتماعية والروحانية. وهذا غير مقبول من وجهة النظر الوضعية، لكنه ليس هناك مسوغ لنعته بأنه "مغرق في الفردانية"، خاصة وأن آراء يرغسون الاجتماعية والسياسية تتميز بنزعتها المالتوزية[128]، لكونه يرى أن الاكتظاظ السكاني هو المصدر الأساس للصراعات والحروب.

كما ينتقد الحبابي نظرية الأنانين (الأنا العميق والأنا السطحي) عند برغسون بحجة أن تأسيس الحرية على الأنا العميق يعني تجاهل علاقة الكائن البشري مع محيطه[129]. فالأنا العميق لا محيط له ولا بداية معينة، فهل يجب أن تفترض له جذور سابقة للولادة (جنينية)؟ أو أنه الوعي بعالمنا الداخلي (جوانيتنا)؟[130] أسئلة لا تطرح إلا جراء الفصل المفتعل لكياننا بين أنا سطحي وآخر أساسي[131]. إلا أن هذا النقد يخطئ هدفه، لكون الحبابي لا يدرك خصوصية الثنائية البرغسونية ويخلط بينها والثنائية الديكارتية التي تميز بين الوعي والامتداد بدون حد وسط. فهو لا يدرك أن الثنائية البرغسونية عرضية لكون المادة والحياة متلاحمتان[132]. ويشرح برغسون الثنائية الظاهرة قائلا: "الاندفاع الخلاق والمادة الخام قد يمثلان وجهين متكاملين للخلق، فالحياة مرتبطة بالمادة وتخترق انقساماتها إلى كائنات مختلفة (أي أن الحياة تروي كل المظاهر المتعددة للمادة)؛ والقوى التي تحمل تبقى متلاحمة بقدر ما يسمح بذلك مكان المادة الذي يبرزها"[133] (أي أن كل القوى التي تعج بها الحياة تبقى متلاحمة بقدر ما يسمح به كون المادة مكان تتجلى فيه الكائنات بشكل منفصل). إنها ثنائية يفرضها المكان la spatialité.

وينضاف إلى هذه المكانية طريقة عمل الوعي (الشعور) الذي بكونه لا يدرك الواقع إلا بواسطة الرموز فإنه يستبدله بها. وينتج عن ذلك أنا منعكس réfracté ومنقسم subdivisé أكثر مطابقة لمتطلبات الحياة الاجتماعية وللغة، لكنه يخفي الأنا الأساسي[134]. فعند برغسون لا يوجد إلا أنا واحد، وينفي أنه أراد "تثنية الشخص". والواقع "أن الأنا نفسه هو الذي يدرك حالات (موجودات) متمايزة، وحين يركز انتباهه يشاهد تلك الحالات تتذاوب فيما بينها كإبر الثلج حين يطول مكوثها في اليد. إلا أن متطلبات اللغة تفرض عليه ألا يدخل البلبلة حيث يسود النظام، وألا يخلخل ترتيب موجودات تحولت إلى ظواهر مستقلة عن الذات، بحيث كف الأنا عن تشكيل "مملكة داخل المملكة". فحياة داخلية ذات لحظات متمايزة، وحالات محددة بوضوح، تستجيب بشكل أفضل لمتطلبات الحياة الاجتماعية"[135].

حصيلة القول أن التركيب بين الأنانين لا محل له في الإشكالية البرغسونية. ومع ذلك يريد الحبابي الجمع بين "جوانيتنا" (عالمنا الداخلي) و " برانيتنا" (عالمنا الخارجي) في "أنا شامل"[136]. وهذا التوحيد لا اعتراض مسبق عليه لولا أنه كان يهدف إلى تجاوز ثنائية مزعومة عند برغسون.

بعد هذا التحليل لنقد الحبابي للبرغسونية بصفتها ممثلة لأحد الاتجاهيين السلبيين للحرية، كان يقتضي المنطق أن يتطرق إلى الاتجاه المقابل. إلا أن الحبابي لا يعرض أي نموذج لهذا الاتجاه، وذاك لسبب بسيط يتمثل أن هذا الاتجاه مطابق لمنظوره للحرية.

فالتركيب الذي وعد به بين اتجاهي الحرية لا يتجاوز لديه مرحلة النية. وبما أنه ينفر من الذاتية فإن تصوره للحرية يتسم بالحذر وبمسحة من العقلانية والإرادية يمكن تلخيصها في هذا المقتطف الوجيز: فالحرية "تعدد يغلب فيه العقل على الأهواء والغرائز؛ والذكاء على المصادفة والعرض؛ والارادة على النزوات والعادات؛ والجهد والكفاح على السلبية والخضوع وجه الظواهر الطبيعية؛ ففي البداية يوجد الفعل، والحرية تتوقف عندما يتوقف الفعل"[137]. وكل هذه الجهود ستولد العديد من الحريات التي ستشكل التحرر الحقيقي[138]. ولو أنه وضع هذا التعريف للحرية ضمن منظور كانطي، لكان أعطاه بعدا أغنى.

وبما أن مفهوم الأخلاق عند الحبابي سقط في العلموية، كذلك الأمر بالنسبة لتصوره للحرية. فالتحرر الشامل لديه "لن يكون مؤسسا بشكل متين، حتى يتمكن من السيطرة على قوى الطبيعة والغرائز والارتكاسات ولكي يفك خيوط التناقضات والأزمات الاجتماعية، إلا باعتماده على الحتمية دون السقوط في الميكانيكية الشاملة. فالأمر يتعلق بحتمية لينة تنقذ من العوارض والفوضى"[139]. وستنهض علوم الانسان بدور مهم في هذا التأسيس، خاصة علم النفس الذي يعرفه بأنه "علم قائم على الحتمية يعرف بوضوح موضوعه وحدود وسائل بحثه". وهو ما يمكن الإنسان من السيطرة على قواه الغامضة والتحكم في أفعاله، وآنذاك "يبدأ عهد الإرادة، وبالتالي عصر الحرية. وهنا نلاقي التوازي البين بين السلسلة (أو المتتالية) الديكارتية: إذا كنت أعرف فإني أستطيع أن أتصرف agir وإذا تصرفت فأنا حر، وسلسلة أوغست كونت: المعرفة من أجل التقدير(التنبأ) prévoir، والتقدير من أجل التصرف "[140].

لكن ما لا يقوله لنا الحبابي هو: كيف يمكن للإنسان "السيطرة على قواه الغامضة"؟ وهل هذا ممكن؟ أليست هذه "القوة الغامضة" هي الجزء الغارق في الماء لجبل الثلج والذي يعطي لكل الشخصية هويتها؟

ينكشف لنا الآن أن مفهوم الحبابي للحرية ومفهومه للأخلاق لم يتأثرا بالنقد الذي وجهته الشخصانية والوجودية والبرغسونية للعلموية، وأن هذا النقد لم يترك أثرا عند الحبابي. ولا أنه أعار بعض الاهتمام للتحليل النفسي.

الكوجيتو


يقترح الحبابي تجاوز الكوجيتو الديكارتي التأملي réflexif والكوجيتو البيراني (Maine de Biran) "المادي" معا[141]. وهذا التجاوز يتحقق بفضل التشخصن بصفته "حركة مزدوجة ترسم أثناء امتدادها طريقين. طريق أول يتمثل في الكوجيتو المتداول classique الذي يكمله الكوجيتو "المادي" الذي يلج بنا في مادية الواقع كما هو معطى، ومن أولى تجلياته مقاومة الأشياء لنا. الكوجيتو الديكارتي تأملي؛ (في حين) أن الكوجيتو البيراني مادي ودينامي، فالعالم ليس مكان التقاء بل هو ما يقاومني، ولا يوجد في شعوري إلا لأنه يقاومني. أما الطريق الثاني فهو طريق التواصل البشري وتضامن الأنا مع الآخرين. والتسوية «l’ajustement » تستمد ديناميكيتها من الصراعات، أكانت ضد المحيط المادي أو ضد عالم الأشخاص. وذلك لأن "الآخر" دائم الحضور في حياة كل فرد، فهو يمثل دور المساعد أو المنافس أو النموذج أو الشيء...، بحيث أن النفسانية الفردية لا تنفصل أبدا عن النفسانية الجماعية"[142].

أن هم الحبابي هو ربط الذاتي والمثالي بواقع إنساني وشخصاني. ولهذا يؤاخذ الكوجيتو الديكارتي والديمومة البرغسونية على كونهما يقودان إلى "أنا منعزل وخارج كل موقف"[143]. أما موقفه من الأنا المتعالي le je transcendantal عند كانط، فنفضل أن ننقل نصه الفرنسي وليس الترجمة التي أعطاها هو نفسه في النسخة العربية[144]، لأنه دون الأصل الفرنسي لا نفهم جيدا مضمون النص العربي.

« Le je transcendantal de Kant est aussi bien celui d’autrui que le mien. L’analyse se place en dehors de moi et se préoccupe des conditions générales qui rendent possible un monde pour un je. Mais comme elle n’essaie pas d’identifier le je à moi-même et ensuite à autrui, le problème de l’altérité reste entier : on l’écarte sans l’avoir résolu ni même posé. Kant n’étudie pas non plus les conditions de possibilité de l’ « objet-sujet », ni celles de l’intersubjectivité, autrement dit de la pluralité des consciences ».[145]



(ومشكلة تعريب هذا النص تكمن في كون ثلاث كلمات بالفرنسية (je, moi, moi-même) لها مقابل واحد في العربية وهو "انا"). في هذ النص يعيب الحبابي على الأنا المتعالي كونه أنا مشترك أقتسمه من الآخرين، فلا هو أناي ولا هو أناهم. ويعيب أيضا كون التحليل (أو التفكير) يتموقع خارج الأنا ويهتم أساسا بالشروط العامة التي تجعل وعي العالم ممكنا بالنسبة للذات (هذا يحيل إلى السؤال الكانطي: "ماذا أستطيع أن أعرف؟"). ولكن بما أن كانط لم يحاول ربط الأنا مع ذاتي ومع الذوات الأخرى فإن مسالة الغيرية تبقى مطروحة. كما أن كانط لا يتطرق لشروط إمكانية وجود "موضوع-فاعل" « objet-sujet » ، ولا لمسألة تداخل الذوات، أو بعبارة أخرى مسألة تعدد الذوات consciences [146].

وعندما يقر بأن الظاهراتية الهيجلية تطرح إشكالية تداخل الذوات، فإنه يؤاخذ الجواب الهيجلي "رغم نزوعه إلى الواقعية " على كونه "يحرم الواقع الملموس من طبيعته الخاصة بإلغائه لكل ما هو خصوصي وعرضي حتى يتماثل مع العقل، وبهذا يرد الكائن البشري إلى بعده الروحي (أو العقلي) الخالص"[147].

أما عند هوسرل، "فالكوجيطو لا يظهر الشعور كجزء من العالم الذي أُنقذ من الشك الشامل، بل كميدان أصيل كل الأصالة، وهو مستقل عن كل وجود في العالم"[148].

كل هذه المواقف ينعتها الحبابي بانها مواقف مثالية، لأن الفكر فيها مستقل عن الأشياء. ويعترض عليها قائلا: "بما أن الواقع بمجموعه، لا يخرج من محيط الفكر (كما يزعم المثاليون) كيف يمكننا أن ننتقل من ال"أنا-فكر" (أو الوعي) إلى ال"نحن"؟ هل يقصدون بالفكر، فكر الفيلسوف عند قيامه بنشاط عقلي، أم مجموع الذوات المفكرة الخاصة؟ أيجب أن نضحي بما بين الذوات الشاعرة من تواصل، أم أن نجعل هذا التواصل يتعلق بفكر شامل (esprit universel)؟"[149]

اما البديل الذي يطرحه الحبابي لكل هذه الحلول غير المرضية فيتمثل في مقاربة الادراك perception كنتيجة لتفاعل "الذات-موضوع". ويحلل عملية المعرفة إلى أربعة عناصر وهي: الشعور la conscience، والوعي la prise de conscience، والذات الواعية le sujet conscient، وموضوع الشعور l’objet de la conscience. وتربط بين هذه العناصر علاقة تصاعدية وارتدادية يصفها قائلا (وهنا أيضا لا يساعدنا النص العربي[150] في نقل الفكرة بوضوح لهذا ننقله بتصرف على ضوء النص الفرنسي): أن المعرفة تبدأ من الشعور التلقائي، الساذج، لتصل إلى الشعور بالذات، لكنها لا تستطيع بمفردها تفسير ماهية موضوعها ولا حتى ماهية المعرفة (بما أنها معرفة). إنها تكشف الظواهر كمشاهد وكحدود في علاقة سابقة عن عملية المعرفة. إن موضوع المعرفة يبدأ بإثارة الشعور الساذج الذي يحيل إلى الشعور (أو الوعي) كمعرفة، والذي بدوره ينتقل من الموضوع الأولي إلى كائن أكثر كثافة من الناحية الأنتولوجية. ومن الشعور كمعرفة نلج المعرفة التأملية التي تمثل وجها أسمى من وجوه الشعور بالذات، أين تتأسس المعرفة والشعورعلى حتمية تحقيق الأنا كذات عاقلة.[151]

بهذا يريد الحبابي أن يقيم توازنا بين الموضوع والذات، "لأن الموضوع لا يخلق الذات، ولكن الذات، من جهتها لا تخلق الموضوع: إنهما يتعاونان بالتساوي، كلاهما يفرض، ضمنيا، وجود الآخر، بل إن وجود أحدهما شرط حتى لوجود الآخر. فبطواعية الموضوع للذات، يثبت الموضوع الذات – لذاتها. يصيرها شاعرة، لا بالعوالم الموضوعية المدركة والعوالم التي يمكن إدراكها فحسب، بل يجعلها واعية، كذلك، لعالمها الذاتي. إنه يساهم بحظ وافر في تشخصن الكائن البشري، بقدر ما يضفي هذا الأخير صبغة إنسانية على كل الأشياء التي تدخل في أفقه"... "إن الكائنات توجد مستقلة عن الفكر البشري. نعم، العقل يدرك معاني الأشياء، ولكن الأشياء توجد بذاتها، فبالنسبة ل"شيء" غير موجود، يستحيل وجود معنى. إن الذات العارفة، وموضوع المعرفة، يرتبطان، ارتباطا وثيقا، حتميا. فنظريتنا هذه، تبعدنا كل البعد، عن النظرية التي تعتقد بوجود عالم لا يتركب إلا من التصورات (الحالية منها أو الممكنة، والمادية أو الشكلية)"[152].

ولنا ملاحظتين أساسيتين على ما سبق عرضه. الملاحظة الأولى تتمثل في كون الحبابي تجاهل كون العلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة تمر عبر وسائط. وهذه الوسائط منها ما هو فيزيولوجي محض، يشتمل من ناحية على كل ما يمر من خلال الحواس. لكن العالم الخارجي الذي تنقله لنا الحواس مرهون بما هي مهيأة لنقله، والدليل على ذلك أن قدرة الحواس على نقل العالم الخارجي تختلف من حيوان لآخر (فحاسة السمع أو الشم أو الرؤية عند بعض الحيوانات أقوى بكثير من مقابلاتها عند الانسان). إذن ما تنقله الحواس ليس العالم الخارجي في ذاته، بل ذلك الجزء الذي نقلته لنا الحواس. فالعالم الخارجي بدون ألوان بالنسبة للمصاب بعمى الألوان، لكنه أكثر تلونا عند النحلة (مثلا) مما هو عند الإنسان... مع العلم أن الألوان والأصوات ليست إلا أطوال مختلفة لأمواج الضوء والصوت، والحواس هي التي تحولها إلى ما نرى أوما نسمع. والمشاعر (من خوف وفرح... وحتى الحب) هي غرائز وضعتها فينا الطبيعة، ككائنات حية، لمواجهة المواقف المختلفة التي نواجهها. وهذه المشاعر لها مفعول فيزيولوجي هو الذي نشعر به (كالقشعريرة، وعسر التنفس...). فالخوف هو حالة طوارئ لكائن حي يدرك خطرا ما بواسطة حواسه. وهذا يعني أن الخوف نتيجة واسطتين: رؤية الخطر ثم التغيرات الفيزيولوجية التي تجعلنا في حالة استنفار. مع العلم أن مشاعرالإنسان، التي قد تكون بدأت كآليات دفاع ضد المخاطر الخارجية، قد تم تكييفها مع الحياة الاجتماعية، فلم أعد أخاف من الحيوان المفترس بل من شخص مثلي، أو من خطر محتمل (كالخوف من المرض)...

ومن الوسائط ما هو من إبداع الإنسان، كاللغة (التي هي إبداع تراكم عبر التاريخ) والتي لا يُعطى العالم للإنسان إلا من خلالها. وهذا يطرح مسألة نسبية نظرة الإنسان للكون، ولولا هذه النسبية لما طرحت كثير من المسائل الفلسفية. حتى أن إحدى أهم المدارس الفلسفية المعاصرة هي فلسفة اللغة. ومن الوسائط القيم الاجتماعية التي هي كإشارات مرور تنظم السير في المجتمع. ولا نرى المجتمع إلا من خلالها، وهي تختلف حسب الزمان والمكان، وهذه القيم ليست أشياء بل هي معاني لها دلالة ذاتية. فكيف يمكن أن نتحدث عن عالم خارجي مستقل عن الذات في حين أنه من خلق الانسان، إما كمفاهيم لغوية أوقيم. وحتى ما هو "طبيعي" في الإنسان فقد "طبيعيته"، فالغرائز نفسها صارت ظواهر اجتماعية تخضع للقوانين الاجتماعية وليس لقانون طبيعي ما.

كل هذا يعني ان هناك تداخلا بين الموضوعي والذاتي، حتى أنه صار من العسير رسم حدود بينهما. وهذا ما يحيلنا إلى سؤالنا الثاني الذي يتعلق بقراءة الحبابي للفلاسفة الذين انتقدهم. فباستثناء ديكارت الذي فصل بين الفكر والامتداد، فإن الباقين أقروا باستحالة هذا الفصل. ولهذ ابتلع العقل كل شيء عند هيجل. وعند كانط توقف العقل عند حدود الظواهر وأخضع معرفتها لمقولات عقلية قبلية، هي شرط معرفتها ووجودها العقلاني الذي ليس معه إمكانية وجود أخرى. أما عند برغسون، فكما أن الإنسان يفكر، فالطبيعة أيضا تفكر، لكن تفكيرها أعمق من تفكير الإنسان الذي يجزء الظواهر ويختزلها ليعرفها. أما ظاهرية هوسرل فهي تقوم على مبدأ أن كل شعور هو شعور بشيء ما، لكن هذا "الشيء ما" ليس حاضرا في الوعي إلا كدلالة signification. ولهذا فكل شعور بالكون يفرض إعطاء دلالة للكون. فالظاهراتية واقعية لأنها تعتمد على البداهة، ومثالية لأن محتوى هذه البداهة دلالة ذاتية مشتركة.

إن مقاربة الحبابي للكوجيتو تقوم على مسلمة أن العلاقة بين الذات والموضوع علاقة بسيطة، ويعطي الانطباع وكأن كل ما قاله الفلاسفة الذين ذكرهم لا جدوى من ورائه. إن هذه المقاربة للكوجيتو مطابقة لأسلوب الحبابي، فهو يبدأ بالإعلان عن نيته في إيجاد موقف وسط بين المثالية والمادية، لكنه لا يخصص نقده إلا لممثلي الاتجاه الأول. والمشكلة لا تكمن في كون موقفه يتماهى مع المواقف المادية والوضعية - التي ترفض أسئلة "الفلسفة التاملية النظرية" كما يسميها هانز ريشنباخ أحد ممثلي الوضعية المنطقية - بل لأن المنطق يقتضي أن كل تصور لكوجيتو شخصاني لا بد له من الانضواء تحت فلسفة للفاعل philosophie du sujet. إلا أن الحبابي لا يرى في هذا الاتجاه الفلسفي إلا نزعته المثالية دون الانتباه إلى كون الإشكالية الأساس للمثالية تكمن في تأسيس استقلالية العقل، وهي الشرط الأول لاستقلالية الشخص نفسه.

المنهجية ومفهوم الواقعية



قبل التطرق لمنهجية الحبابي ومفهومه للواقعية من المفيد إبراز بعض الأسس المنهجية التي قادت المقاربة الشخصانية، والتي عرض مونييه خطوطها العريضة.

- فهي منهجية واقعية، لكن هذه الواقعية تنطبق على الفاعل le sujet: " فالإنسان الذي يعرف ليس شعورا محضا ولاشخصي impersonnel، مفصول عن الإنسان الذي يعمل ويعيش".

- لا يجب أن يستند الفكر على "رموز معزولة" بل على التجربة القابلة للتعميم (للتأميم). "فالمعرفة الأكثر أصالة ليست الأكثر "موضوعية"، أي تلك التي أتدخل فيها بقدر أقل (...) بل على العكس تلك التي ألتزم فيها بشكل أعمق".

- الواقعية ليست ذرائعية pragmatisme، "لأن عملية المعرفة تتعالى على التجربة التي هي بصددها".

- الفكر يجب أن يمهد للإلتزام[153].

والشخصانية عند مونييه "واقعية شاملة"، فهو يرفض الثنائية الديكارتية والأحادية monisme المادية، لأن الشخص يلتحم فيه التعالي الروحي مع الوجود المتجسم[154]

في هذا المنهج يرتبط الخيالي بالعملي: " إنهما يتشاركان في إدراك الكون"[155]. وينتج عنه في ميدان علم النفس – مثلا – أن " الطبع نتاج للمعطى وللمراد (ما نريده)"[156]. وفي هذا الموضوع يرد مونييه على فرويد قائلا " إذا كنت مجرد ألعوبة في يد ماض لا أستطيع الخلاص منه ومهدد، فما يهمني أن يكون هذا المستبد قابضا علي بواسطة آليات رفيعة لا مثيل لها؟ وما جدوى استخلاص ما هو فردي في التفسير النفساني، إذا كان التحليل النفسي لا يكشف إلا عن حتميات قديمة وقوى قاهرة وراء تاريخ كل فرد؟". وكدليل على تحليله يستشهد مونييه بأدلر الذي يقول: " الحتمية لم تكتشف تلك القوى من خلال التجربة، بل اكتشفتها لأنه سبق لها أن وضعتها في المكان الذي وجدتها فيه"[157].

هل ينسجم منهج الحبابي مع مبادئه؟ من الممكن أن نجد عناصر للجواب على هذا السؤال في تعريفه للتشخصن.

يعرف الحبابي التشخصن بأنه "مجموع التجارب الجمالية والأخلاقية والعلمية والدينية... التي تحدد المجالات المنتقات التي على كل فلسفة تقصد الصعود نحو الإنسان وتحرير الأنا أن تستكشفها. فالتشخصن هو هذا كله لكنه لا ينحصر فيه، إذ أنه يشمل أيضا، وبشكل متزامن، مجموع التجارب العضوية، لأن للجسد مكانة أولية في التشخصن. فبواسطته يتحقق التشخصن من خلال الاحتكاك بالأشياء والأشخاص."[158].

فهده المنهجية تريد أن تكون واقعية وتركيبية وتطورية وجدلية، لكنها في الواقع ليست إلا تراكمية. وهي تقصد لأن تكون شاملة ومتوازنة، لكن العوامل الموضوعية هي الغالبة فيها في آخر المطاف. والطريق الوسط الذي أراد الحبابي سلوكه بين المثالية والوضعية يميل دائما نحو هذه الأخيرة. وإذا زدنا على هذا تصوره للأخلاق وللحرية، من الممكن القول أن الحبابي ليس واقعيا، بالمعنى الشخصاني للواقعية، بل وضعي.

أما إذا أردنا ضم الحبابي إلى اسرة فلسفية معينة، فأقربها إليه هي وضعية أوغست كونت الذي يرى "أن على الشرق والغرب البحث عن توافقهما الفكري والأخلاقي خارج الثيولوجيا والميتافيزيقا. وهذا الانصهار الذي طال انتظاره، والذي يجب أن يشمل تدريجيا كل الإنسانية، لا يمكن أن يصدر إلا عن الوضعية، أي من نظرية تتميز بكونها تجمع بين الواقع والمنفعة"[159].

وكما قلنا سابقا: لقد أراد الحبابي توضيح المفاهيم عبر إكثار المستويات الشكلية (كائن، شخصيات (لكونه يعتبر أن للشخص الواحد شخصيات)، شخص، إنسان) مرتبا إياها حسب تراتبية تنطلق من "المعطى الخام" لتصل إلى الإنسان المثالي. والوضوح الذي رامه تم على حساب الواقع الوجودي. إنها عقلانية وضعانية متأثرة بأوغست كونت الذي أراد إعطاء تعريف جديد للمقولة السقراطية: "اعرف نفسك بنفسك". وهذا التعريف الجديد يفك الارتباط بين الوعي بالذات ومعرفة الذات conscience- de- soi-connaissance-de-soi، ويحث على "البحث عن الروح esprit في تاريخ العلوم فقط لأنه من المستحيل إدراكها مباشرة. ولكي تكون الفلسفة وضعية عليها رفض كل مقاربة نفسية: أي إلغاء الوعي بالذات بإنقاذ المعرفة بالذات. فالوعي conscience غير مؤهل للمعرفة ".[160]

إلا أنه من الضروري توضيح طبيعة هذه الوضعية. فهي وضعية ترفض كل ما هو ميتافيزيقي وتحذر منه، لكنها لا تبحث في الواقع لتجذير المفاهيم في واقع تاريخي واجتماعي ونفسي...، بل تلجأ إلى تشييد صروح شكلية على أساس برهنة منطقية، لكن البناء المنطقي ابتعد عن الواقع، فلا هو وصف موضوعي للظواهر ولا هو صرح تأملي يستمد صدقه من توافق المسلمات مع النتائج.

وهي وضعية ثنائية، تستعمل منهجا موضوعيا لتحليل الظواهر التي يمكن البحث فيها كأشياء، كما يقول دورخايم. لكنها فيما يتعلق بالقضايا الدينية تترك المجال مفتوحا للخطاب الديني، أو تتناولها كما يتناولها كل مؤمن، أي تقر بصدقها، وتخوض فيها كما يخوض الفقهاء. والحبابي ينتمي للفئة الثانية، لكونه يقدم نسختين للشخصانية، إحداهما عَلمانية والأخرى إسلامية. كما أنه يرى في كتابه عن ابن خلدون أنه أمر "طبيعي" كونه يستند إلى منهجين: منهج لمجال الإيمان وآخر للممارسة الاجتماعية[161].

ومن جهة أخرى فإن الحبابي بزيادته لنعت "واقعية" على الشخصانية لكي يتميز عن شخصانية مونييه وجان لاكروا فإنه يخطئ الهدف لكون هذين الفيلسوفين واقعيين. فمنهجية كتاب مونييه بحث في الطبع Traité du caractère منهجية واقعية. ففي هذا الكتاب ينطلق مونييه من نتائج الأبحاث في افيزيولوجيا وعلم النفس، إلا أنه لا يتوقف عند التفسير الميكانيكي mécaniste بل يبين حدود المقاربة الميكانيكية ويقترح فرضيات تفتح الطريق للإرادة البشرية. ونجد مثل هذا المنحى عند فئة من المفكرين مثل برغسون[162] في المادة والذاكرة Matière et mémoire وتايلار دي شاردان في الظاهرة الإنسانية Le phénomène humain. فهؤلاء المفكرين يمثلون عينة لجيل من المفكرين حاولوا محاربة الوضعية بسلاحها، الذي هو العلم. وعندما يقول لاكروا أن "الله موجود لأنه يستحق الوجود..." فهو يذكرنا بقولة دوستويفسكي الشهيرة: "إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح"، وهذا موقف يتسم بذرائعية، لكونه يحكم على حقيقة فكرة ما على أساس نتائجها العملية.

الشخصانية الإسلامية (الشهادة والكوجيتو، الحبابي والسلفية الإصلاحية)



لقد خصص الحبابي كتابا للشخصانية الإسلامية. لكن هذا الانتقال من شخصانية وضعية إلى شخصانية دينية، أو بدقيق العبارة إلى قراءة شخصانية للإسلام، يناقض المنحى "الواقعي" الذي أراد تأسيس الشخصانية عليه، والذي من بين أهدافه تجاوز تعارض العقائد الدينية.

وتتمثل الشخصانية الإسلامية عند الحبابي في تلك الطفرة التي حدثت على مستوى الفرد والمجتمع عند الانتقال من العصر الجاهلي إلى الإسلام. حيث أن مفهوم الشخص اغتنى امتدادا وعمقا. "فالإسلام بتعويضه القبيلة بالأمة أعطى للكائن البشري بعدا قابلا لامتداد لا نهائي"[163].

هذه النظرة السلبية للعصر الجاهلي مطابقة للأيديولوجية الإسلامية، وكان منتظرا من فيلسوف أن يقف موقفا نقديا منها، خاصة وأن الأمة لم تخلف القبيلة. وتاريخ الإسلام شاهد على تعايشهما، بل يمكن القول أن الأمة منحت مجالا أوسع للذهنية القبلية على مستويي المكان والزمان. وقد استمد ابن خلدون، الذي خصه الحبابي ببحث، نظرية ما زالت إجرائيتها صالحة إلى اليوم.

أما القول بأن الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام هو "انتقال من الشتات diffus إلى المتعين individualisé، ومن الغامض إلى الواضح والواعي"، فهو حكم قيمة تفنده المقارنة بين الحضارات التوحيدية والحضارات الوثنية، فهاته الحضارات ليست أقل وعيا بذاتها وفي كثير من الأحيان كانت أكثر انفتاحا وتسامحا. وهو جهل بما كانت عليه "الجاهلية": فكل ما اتى به الإسلام لا يشكل قطيعة مع ما كان من قبل، لأن جل مكونات العقيدة الإسلامية كانت متداولة في المجتمع العربي السابق عن الإسلام. والمعارضون للإسلام لم يعارضوه لأنهم كانوا كلهم رافضين لمحتوى العقيدة الإسلامية، بل لكون احتكار عشيرة من العشائر للنبوة من شأنه ان يخل بتوازن سياسي بين العشائر لم يكن محتملا من قبل العشائر الخاسرة. وهذا ما يفسر الحرب الأهلية العنيفة التي أعقبت انتصار الإسلام (الفتنة الكبرى). كما أنه من التحامل القول بأن "الجاهلية" كانت جاهلية، أي أنها تفتقد للقيم السامية. وإلا كيف نفسر دعم "كفار" للرسول، كالمطعم بن عدي وغيرهم. وهذا الدعم لم يكن على أساس عشائري فحسب، بل كدفاع عن حرية التعبير والمعتقد، حسب التعبير الحديث. فهذا المجتمع "الجاهلي" كان يتميز بتعددية دينية، قضي عليها فيما بعد. والاعتراضات التي ووجه بها الدين الجديد لم تكن "جهلا" يرفض الاعتراف ب"الحقيقة"، بل تساؤل مشروع موجه لشخص يدعي أنه رسول الله. وأول ما طلب منه أن يأتي بمعجزات، لم يكن في مقدوره أن يأتي بها، في حين أن كل قصص الأنبياء ملئى بها.

وعلى المستوى العقدي، يرى الحبابي، أن الشهادة هي أساس الشخصانية الإسلامية، فهي التي تمنح للشخص استقلاليته وكماله plénitude. "فالشخص في الإسلام كائن شامل totalité، شرعيا وعمليا. وهو شمولية واعية بذاتها بصفتها أنا ملزم بالشهادة وملتزم بها. والشهادة ممارسة لا تكتفي بالتأمل، وتستند على العقل والإرادة: فهي وعي واعتراف conscience-reconnaissance يجري على مستوى ضمير. والشهادة تنقلنا من الكائن إلى الشخص، أي من وجودنا الخام إلى مستوى الوعي ب... conscience de، أي على مستوى الوعي المنعكس والمنفتح. فالإسلام يركز بقوة على كون "الشهادة" إزاء الخالق يجب أن تتم انطلاقا من المخلوقات، لأنه يتجلى فيها"[164].

هذا الاستشهاد يلخص كل فلسفة الشخصانية الإسلامية كما يراها الحبابي. فالشهادة تأسس استقلال الشخص، لأن إقراره بوحدانية الله يعني إقراره بقدرته على الحكم. والمسلم عندما يصلي أمام الله فإنهما عالمان لا متناهيان متواجهان. لكن الإنسان لا يعارض الله بل يتموضع بالنسبة له"[165]. والشهادة ذات قطبين، لأن الاعتراف بوجود الله يعني الاعتراف بوجود الشاهد، "إنه ذهاب وإياب متواصل بين المتعالي والمحايث، المطلق والمنتهي، الروحي والمؤسساتي، الماورائي والنفسي"[166].

والشهادة رابطة بين الأشخاص لأن الشخص والآخرين يساهمون فيها. ويستشهد الحبابي على ذلك بالآية التالية: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة/143).[167]

الشهادة والكوجيتو



بعد التعريف بالبعد الشخصاني للشهادة، انتقل الحبابي إلى التأسيس الفلسفي لها عن طريق المقابلة مع الكوجيتو. وهو يرى أن الشهادة تقوم بدور الكوجيتو، لكنها على عكس الكوجيتو الديكارتي الصاعد والذي "ينتقل من "الشك إلى العالم مرورا بفكرة اللامتناهي"، فإن الشهادة "تنتقل من الله إلى الأنا الشاهد". مع العلم أن الكوجيتو الديكارتي ليس انعكاسيا "لأن الأنا ليس منفتحا إلا على نفسه، فهو أنا لا تاريخي خارج العالم، إنه أنا لحظة معينة وهي اللحظة التي أشك فيها. وهذا الكوجيتو من حيث المبدأ فريد لأنه كوجيتو في ملكي لا يشارك فيه ولا يعترف به أحد غيري". أما الشهادة، فهي زيادة على كونها "أنا متأمل" «ego méditant»، فإنها تواصلية لأن الإنسان على اتصال مع الله ومع الآخرين"[168].

فالشهادة عند الحبابي أكثر أهلية لتأسيس العلاقات الشخصانية لكون "تأملي لا يعكس ذاتية خالصة، بل تداخل ذوات intersubjectivité: فأنا أعيش بحضرة الله ومع أمثالي. وأنا أنتمي إلى عالم الله فيه دائم الحضور... وأنا عضو من أمة؛ فأنا لست أنا خالصا، أي فردا، بل شخصا" [169]. فالشهادة عند الحبابي تتجاوز الثنائية والمثالية[170]. لكن الحبابي لا يوضح مفهوم العيش بحضرة الله. ألم يسقط الحبابي في ما انتقده عند موريس بلونديل وغابرييل مارسيل وغيرهما؟ أليس وجود الله هو الضامن الأساس للشخصانية الإسلامية؟

هذا النقد للكوجيتو الديكارتي يشبه النقد الظاهراتي له، فكلاهما يركز على تداخل الذوات لكون التجربة الإنسانية ليست تجربة فرد معزول بل تجربة كائن مع الكائنات الأخرى. وهو أيضا ما يعبر عنه مونييه قائلا: " كما أن الفيلسوف الذي يسجن نفسه أولا في الفكر لن يجد أبدا بابا مفتوحا على الكائن، كذلك الذي يسجن نفسه أولا في الأنا فهو لن يجد الطريق نحو الغير. وعندما يصاب التواصل (أي القدرة على التواصل مع الغير) بالفتور أو الفساد فأنا بنفسي أضيع: فكل أشكال الجنون هي فشل في العلاقة مع الغير – الغير يصير استلاب alter devient alienus – وأتحول أنا نفسي، وبدوري، إلى غريب عن ذاتي ومستلب. حتى يمكن القول بأنني لا أكون إلا بقدر ما أكون بالنسبة للغير، بل يمكن القول أن تكون هو أن تحب"[171].

« De même que le philosophe qui s'enferme d'abord dans la pensée ne trouvera jamais une porte vers l'être, de même celui qui s'enferme d'abord dans le moi ne trouve jamais le chemin vers autrui. Lorsque la communication se relâche ou se corrompt, je me perds profondément moi-même : toutes les folies sont un échec du rapport avec autrui, — alter devient alienus, je deviens, à mon tour, étranger à moi-même, aliéné. On pourrait presque dire que je n'existe que dans la mesure où j'existe pour autrui, et, à la limite : être, c'est aimer. »



إلا أن المشكلة في موقف الحبابي تكمن في كونه لا يستند إلى فلسفة فاعل، كما هو الشأن بالنسبة للظاهراتية والشخصانية. لهذا فإن تداخل الذوات لديه لا يتجاوز كون الشخص يتأثر بمحيطه ويتفاعل معه كما يقر بذلك علما الاجتماع والنفس. وموقفه من الكوجيتو الديكارتي – ورغم النقد الذي وجه له – يتميز بضرب من المزايدة، لكونه أراد البرهنة على أن الشهادة أسمى من الكوجيتو الديكارتي. في حين يمكن القول أن الشهادة تستمد مشروعيتها من الكوجيتو، نظرا لكون أي ذات تريد تأكيد حضورها أمام الله والآخرين يجب عليها أن تكون متيقنة من ذاتها ويكون لها سند ذاتي مستقل. واشكالية الكوجيتو الديكارتي تكمن في كونه يهدف إلى تأسيس استقلالية الفاعل المفكر وتمكينه من أساس داخلي لاستقلاليته. لهذا فإن الشهادة في حاجة إلى الاستناد إلى فلسفة فاعل، وهو ما لا توفره لها فلسفة الحبابي، لكونه لا يرى أهمية تعالي الأنا بالنسبة لمحدداته الواقعية. وهو عندما يزعم بأن الشخصانية الإسلامية مفهوم شامل يتجاوز ثناية الروح والجسد، وثنائية الأنا والنحن، فإنما يلغي تعالي الأنا لكون "كل أنا يتكون ب النحن وداخل النحن"[172]. وعندما يقرر الحبابي أن التمييز الكانطي بين الأنا le moi والأنا (ضمير الفاعل) le je (كانط يميز بين الأنا الموضوعيempirique le moi والأنا المتعالي le moi transcendantal) غريب عن الشخصانية الإسلامية[173]، لا يقول لنا ما هو المانع لهذا التمييز، خاصة وأن ضرورة هذا التمييز طرحت أيضا في الفلسفة الإسلامية وبالضبط عند ابن سينا الذي ميز بين العقل والنفس[174].

لقد حاول الحبابي المزايدة على ديكارت بقوله أن الكوجيتو تأملي، لكن هذا لا يجيب على السؤال الذي طرحه ديكارت، ألا وهو: على أي أساس يمكن أن يبنى اليقين؟ والجمع بين الأنا الموضوعي والأنا المتعالي عند كانط في أنا شامل، كما يفعل الحبابي، لا يحل المشكلة التي طرحت أيضا في الفلسفة الإسلامية، خاصة في مبحث النفس عند ابن سينا مع مفهوم الإنسان المعلق.

وعلى عكس الشخصانيين المسيحيين الذين ميزوا بين المسيحية كعقيدة وبين المجتمعات المسيحية la chrétienté، والذين أدانوا الكنيسة لكونها تواطأت مع الاستبداد؛ فإننا لا نجد مقابلا لهذا النقد عند الحبابي. فهو يصادر على المطلوب عندما يقرر أن الشهادة تؤسس الشخصانية الإسلامية، وكأن الشهادة تكفي لتجعل من البلدان الإسلامية نموذج للشخصانية، وقد كان عليه أن يسوق نمطين من الحجج:

- حجج تاريخية واجتماعية تعطي نماذج على التنزيل الشخصاني لتعاليم الاسلام في الواقع المعيش.

- حجج شكلية تبين التطابق الموجود بين تعاليم الإسلام والمبادئ الشخصانية، ولو مع التمييز بين الإسلام كعقيدة وبين المجتمعات الإسلامية. وكان عليه أن يسوق امثلة من الفكر الإسلامي تبين التأويل الشخصاني لتعاليم الإسلام.

مع العلم أن تنزيه الدين عن الانحرافات التي ارتكبت باسمه عملية غير يسيرة، لأن التداخل بين العقيدة والمجتمع الذي ولد من رحمها يجعل العملية صعبة للغاية، بل شبه مستحيلة لأن كثيرا من الجرائم ارتكبت باسم الدين.

فعلى عكس مونييه وجان لاكروا اللذان أعادا الدين إلى النقاش الفلسفي، لكنهما في المقابل وجها نقدا عنيفا لتواطؤ ممثليه وأخطائهم؛ لا نجد عند الحبابي إلا المدح. وهو بذلك يرتكب الخطأ الذي أدانه مونييه عند بعض المسيحيين الذين سقطوا في "سيكولوجية المالك الثري الذي يطالب بحق الملكية المسبقة على كل ما هو جديد، ولو أنه لم يساهم بشيء في اكتشافه"[175]. وهذا الخطأ مصدر مفارقات زمنية anachronisme ومماثلات منافية للتاريخ. ومقابلها عند كثير من المفكرين المسلمين يتمثل في ادعاء السبق لكثير من الاكتشافات، أو التأويل التعسفي لبعض الآيات القرآنية أو لبعض مفاهيم الفكر الإسلامي للمزايدة على العلم والفكر الحديثين. وأسوأ ما في هذه النزعة هو الفصل بين الإسلام كعقيدة والإسلام المتعين في الواقع عبر التاريخ، متناسين أن كل ما تمخض عنه هذا التاريخ يجد مسوغا له في تأويلاتها المتعددة. ومع ذلك يطرح الحبابي هذا التمييز كمسلمة منهجية في بداية كتابه عن الشخصانية الإسلامية، إذ يقول: " هذا العرض سيكتفي بتعريف ووضع الشخص كما نجدهما في المصدرين الأساسيين للإسلام، وهما القرآن والسنة (...). سنتناول الإسلام قبل احتكاكه بالثقافات الهلنستية والفارسية والهندية، وهكذا سنحصل على العناصر المؤسسة لشخصانية إسلامية خالصة"[176].

ولا يخفى الالتباس الذي تحمله هذه المسلمة: فهل الإسلام شخصاني في أسسه وأن الروافد الخارجية هي التي حرفته؟ وهل يفتقر الفكر العربي الإسلامي، خارج القرآن والسنة، إلى مساهمات تستحق أن تدخل ضمن المنظور الشخصاني؟

مع العلم أن هذه النزعة التي ترد الظواهر السلبية (أو المعتبرة بأنها سلبية) إلى مؤثرات خارجية شائعة لدى كثير من المفكرين المسلمين. وقد سقط الحبابي نفسه فيها عندما أرجع انحطاط المسلمين للتصوف[177]. متجاهلا أن كبار المتصوفة كانوا سابقين أو معاصرين لكبار المفكرين والفلاسفة المسلمين، ويكفي للبرهنة على ذلك مقارنة تواريخ ميلادهم ووفاتهم (الفارابي 872-950؛ ابن سينا 980-1037؛ ابن رشد 1126-1198؛ ابن خلدون 1332-1406؛ الحسن البصري م 782؛ الجنيد 910؛ الحلاج م 922؛ البسطامي 974؛ ابن عربي 1165-1240...). أما الانحطاط فقد طال كل مجالات الفكر بما فيها التصوف. أما دور الحركة الطرقية، بصفتها التعبير الاجتماعي والسياسي للصوفية، فهو من التعقيد إلى درجة لا يمكن معها تحميلها هي وحدها مسؤولية الانحطاط.

الخطأ الثاني الذي سقط فيه الحبابي فيتمثل في إلغاء التاريخ الذي يعطي الانطباع بأنه من الممكن تجاوز إشكاليات حديثة من قبل أنظمة فكرية قديمة. فعندما يزعم الحبابي بأن "ضربا من "الشمولية" والوحدة يميز بشكل قوي الإسلام. وبهذا يبدو أنه يتغلب على العلاقة المأساوية التي تربط الفردي والاجتماعي، الديني واللاديني، المقدس والدنيوي. وهكذا يصير الكائن البشري كلية موحدة، تنتمي إلى جماعة، وملتزمة في وسط اجتماعي وقانوني"[178]. ورغم أن الإسلام يعتبر نفسه دين التوازن الذي يأخذ بعين الاعتبار كل أبعاد الإنسان، إلا أنه من المشروع أن نطرح السؤال هل استطاعت المجتمعات الإسلامية تجاوز التناقضات المذكورة.

إن أي نظام فكري يجب أن يحاكم على ضوء الأنظمة السياسية والاجتماعية التي يعطيها الشرعية. إلا أن الحبابي يفضل الدفاع على نظام الخلافة وعلى الممارسة السياسية في الدولة الإسلامية[179]، دون أن يعطي المعايير التي يحاكم على ضوئها نظام سياسي معين. أو إذا أخذنا بعين الاعتبار المسافة التاريخية، أن يبين كيف كان نظام الخلافة الجواب الملائم للإشكالية السياسية لعصره. وجوابا على الذين يطعنون في شخصانية الإسلام بسبب وضعية المرأة، يرد الحبابي بأن دونيتها ليست إلا قضائية وليست أنطولوجية[180]. والسفسطة في هذه الحجة بادية للعيان، فقد سبق أن نبه ابن رشد للفرق بين وضع الرأة المسيحية في الأندلس ووضع المرأة المسلمة، واستنتاجه أن تهميش المرأة يؤثر على المجتمع بأسره.

إن هذه الصورة الساذجة للذات تلامس الانفصام، فهي نقدية إزاء الغير ومدحية مع الذات.

إن التأويل الشخصاني للإسلام، مثله مثل التأويل المسيحي، لا يمكنه أن يتجاهل النقد الذاتي والمواجهة مع الفكر الحديث. لكونهما عمليتين ضروريتين لا غنى عنهما، وهما شرط في كل إعادة إحياء فكرية وروحية. وبعدها يمكن ل "الإنسان الكامل" في الإسلام، وللمسلمين ك "أمة وسطا"، أن يعبرا عن كل مكنونهما الشخصاني.

إن في الإسلام مكنونا شخصانيا: فالشهادة تقلب المعادلة بين الخالق والمخلوق، إذ أنها تعطي للمخلوق صلاحية الاعتراف بالخالق. والصلاة مواجهة بين الله والإنسان يرتفع أثناءها المحدود إلى مستوى المطلق. والزكاة تجعل من التضامن مبدأ مقدسا، وحقا للمحتاج غير ممنون. والصوم يعني أن الإنسان إرادة قادرة على كبح البعد الحيواني فيه... وهذا البعد الشخصاني يدركه المؤمن مهما كان مستواه الثقافي، فهو ليس حكرا على نخبة. وهو الذي يعطي للمؤمن المسلم تلك الطمأنينة التي لاحظها كثير من الملاحظين الأجانب... وفي المقابل يمكن أن تعاش هذه التعاليم بطريقة "جاهلية"، أي اتباع ما كان عليه الآباء، فتصير تظاهرا أو عبءا مفروضا.

الحبابي والسلفية الاصلاحية



من النقائص التي وجدها الحبابي عند الحركة السلفية (ويعني حركة الإصلاح) كونها لم تكن واعية بحركية المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وأنها فكرت في القضايا الدينية بدون الأخذ بعين الاعتبار للمعطيات الجديدة التي نشأت عن المجتمع الصناعي. وبأنها اكتفت بمدح الإسلام دون الانفتاح على الفكر الحديث[181].

لكننا، إذا استثنينا اشتغال الحبابي بالفكر الغربي المعاصر، من المشروع أن نتساءل عما يميزه عن التيار السلفي الذي ينتقد. وإذا استثنينا كون الحبابي لا يستعمل المصطلحات السلفية، فإننا نلاحظ أن كلاهما يؤمن بصلاح العقيدة الإسلامية الأصلية، والتي يكفي تجريدها من الشوائب الدخيلة.

لكن هل هناك اختلاف بين الحبابي والسلفيين، باستثناء كونه يستعمل لغة الفلسفة الحديثة عوض المصطلحات السلفية؟ فما عرضناه سابقا يجعلنا نستخلص بعض أوجه الشبه بينهما في مسائل جوهرية، أولاها الاعتقاد بصلاحية العقيدة الاسلامية في صورتها الأصلية (أو بالأحرى في صورتها التي تعتبر أصلية)، مع ضرورة تنقيتها من الشوائب الدخيلة، والمتمثلة في الخرافات وصنف من التصوف. ثانيتها الاقتباس الانتقائي من الغرب مع تغليب الأداة والاستغناء عن الثقافة الساندة لها. وثالثتها البراغماتية في الأمور الأخلاقية والشرعانية في السياسة. فلا نستغرب كونه يجد عند علال الفاسي ما يشبه النزعة الشخصانية، ولو أنه يضع شخصانية بين معقوفين[182]. ففلسفة الحبابي تسند السلفية الإصلاحية أكثر مما تقطع معها، وليس بينه وعلال الفاسي قطيعة ابستيمولوجية.

لكن من الواجب إنصاف علال الفاسي. فهو وإن كان اشتغل في إطار العقل السلفي الإصلاحي، فإنه وسع كثيرا من هذا الإطار ليسع كثيرا من القيم الحديثة. وتكفي نظرة على عناوين المقالات المنشورة في كتاب النقد الذاتي (والتي نشرها بين 1948 و1952) ليتبين لنا أنه كان يفكر ضمن الإشكاليات الحديثة. فهو وإن أراد أسلمة الحداثة إلا أنه لم يخن روحها. وهوبذلك مهد الطريق لشخصانية إسلامية، دون معقوفين. فهو يقول في موضوع حرية الفكر: "إنه لمن السهل الاعتراض بأن الذين يتحررون أكثر من الواجب قد يأتون بأفكار من الصالح كبتها لأنها تحدث من الضرر بالمجتمع أكثر مما تحدثه سرقة سارق أو خطيئة زان، ولكن الحقيقة بعكس هذا، لأن الأفكار يمكن أن تقاومها الأفكار، والقول يدفعه القول، فليس من الضروري أن تستعمل القوة لكم أفواه الناس، إن كل الأفكار التي تبتكر تظهر غريبة لأول وهلة، ولكنها إذا استطاعت الصمود لمقاومة خصومها والانتشار في وسط واع تصبح مألوفة ومعترفا بها، وقد تؤدي لمصالح عطيمة وتطورات جليلة، والوسط الذي يمنع المفكرين من أن يطهروا بآرائهم يظل دائم الجمود غير قابل للتطور ولا للارتقاء"[183]

بل نجد عنده تشخيصا تنبأ بالخطرين اللذين يتهددان المجتمعات العربية، قائلا:

"لقد رأينا في الشرق الأوسط أثر فقدان هذا التوازن في النهوض، فبينما نجد إخواننا المصريين والسوريين مثلا قد حصلوا على أقصى ما حصلت عليه الدول الديموقراطية في نظام الحكم الدستوري وبينما نراهم بلغوا في تكوين الاطار الحكومي بجميع بجميع أجزائه الفنية: المرتبة التي يحق لهم أن يفتخروا بها أما كثير من دول أوروبا الشرقية وامريكا الجنوبية – إذا بنا نجد انبعاثهم الروحي ما يزال في درجات متأخرة عما كان يجب أن يحصل في بلاد محمد عبده وجمال الدين، فما يزال في الأزهر وفيما حواليه فصائل كثيرة لها نفوذ كبير في أوساط الامة، وقد تطورت في لغتها وفي أساليب خطبها ووعظها، ولكنها ما تزال تمثل الرجعية الجامدة في تفكيرها، بل نرى ما هو أخطر من ذلك، وهو أن علماء الدين وتلامذتهم كلهم من أبناء الفلاحين الذين لم تقع العناية بتطويرهم والذين يفدون من القرية وبينهم وبين أبناء المدن فرق كبير، الأمر الذي كون بصفة تلقائية ابتعاد الحضريين عن الدخول للمعاهد الدينية، وهكذا أخذ يتكون بين التفكير الرسمي للإسلام في الأزهر، وبين التفكير المدني له ما بين ابن المدينة الذي احيط بكامل العناية، وبين ابن القرية الذي ما يزال في وسطه العتيق، يغط في نومه العميق."

"وبينما نجد النظام الديموقراطي قائما بصفة رسمية في العراق إذا بنا نرى نظام العشائر المسلحة مستمرا، ونرى فقدان التوازن الدائم بين هذه العشائر التي حوفظ لها لأغراض خاصة في نظام الاقطاع والتي تمضي على ما ألفته من الطاعة العمياء لرؤسائها، وبين النخبة المثقفة والعصرية التي تريد أن تتحرر من تلك الأنظمة البالية وتطبف ما خوله لها الدستور من تنفيذ أوامر الشعب وإعلاء صوته. وليست المصيبة في كون هذه العشائر تتبع نظاما خاصا ولكن في كون الحركة الوطنية في العراق لم تهتم بتنوير الفكر العراقي في أغلبية الشعب للشعور بأضرار هذا النظام العتيق، وفي كون التربية الديموقراطية لم تصل إلى الدرجة التي تكون في الرؤساء والقادة وجدانا يمنعهم من المحافظة على هذه الاقطاعية البغيضة التي يستفيدون منها في تهديد البرلمان كلما وقف حجر عثرة في سبيل إرضاء شهواتهم"[184]. وإذا علمنا أن هذا المقتطف مأخوذ من مقال مكتوب بين 1949و 1952، لا يسعنا إلا أن نقول، كما قال السلطان عبد الحفيظ الذي وقع وثيقة الحماية سنة 1912، "داء العطب قديم".

لقد ضرب هذا المقال في الصميم: تخلف الفكر الديني وهيمنة المنطق القبلي في السياسة.

الحبابي وابن خلدون



تمكننا الدراسة التي خص بها الحبابي ابن خلدون من تحديد موقفه من الفلسفة العربية الاسلامية القديمة، وتوضيح بعض المسكوت عنه في فلسفته.

فالحبابي يرى في ابن خلدون مفكرا " عقلانيا متفتحا، لينا، وغير ميكانيكي" وهو بذلك " يرفض كل موقف متطرف". ويرد على الذين نعتوه بالرجعية قائلا أن "أن الطبيعة تتفطر النفس الانسانية بأشياء يعجز العقل عن إدراكها، والتي لا يجوز لمفكر عقلاني نكرانها. فلماذا اتخاذ العقل كمطلق؟ [185]. ويعلق على موقف ابن خلدون المتحفظ من الفلسفة قائلا: " بأن ليس هناك ما يسوغ ادعاء المعرفة المباشرة للحقيقة الإلهية بواسطة المعرفة البرهانية". مقارنا الأمر بموقف كانط الذي يقر باستحالة إدراك الكائن في ذاته.[186] متجاهلا أن استحالة معرفة الكائن في ذاته عند كانط لا تعني استحالة الفلسفة أو فقدانها لكل جدوى كما هو الشأن عند ابن خلدون.

كما انه يوافق موقف ابن خلدون من الصوفية، وهو الموقف السني المعروف الذي يدين ما يسميه بالغلو.[187] إلا أنه إذا كان من الممكن فهم وتفهم موقف ابن خلدون من الصوفية والتزامه بالموقف السني، فإن الأمر مختلف عندما يتعلق الأمر بفيلسوف معاصر، يلتزم الحذر في مسائل العقيدة فلا يجرؤ على الابتعاد عن شط أمان الطريق المرسوم.

مما سبق نلاحظ أن الحبابي يتعامل مع المسلمات الابستيمولوجية لابن خلدون وكأنها مسلمات معاصرة، وكأن شيئا لم يحدث في تاريخ الفكر. فالصورة التي يقدمها الحبابي عن ابن خلدون والتي تزايد على فيلسوف حديث كبير مثل كانط، مثال آخر عن نزعته لفصل الأفكار عن إشكالياتها، والتي تجعله يقيم مطابقات بين أفكار ظاهرها متشابه لكنها مختلفة جدا، بل قد تكون متنافرة إذا أرجعناها إلى سياقاتها الفلسفية العامة. لقد قدم الحبابي ابن خلدون كمفكر رائد سابق لعصره (وهذا أمر لا ينكر لكونه من مؤسسي علم الاجتماع)، لكنه في الواقع أفصح عن كونه لم يتجاوز ابن خلدون، ما دام أنه سجين مسلمات تفصل الظواهر إلى صنف قابل للتأمل العقلي وصنف آخر لا يفكر فيه إلا بواسطة التسليم للمعتقدات الدينية وجعل العقل في خدمتها ليجد مسوغات عقلانية لها. ومهما كانت القيمة المنطقية لهذه المسوغات فالاعتقاد أسبق وهو الحاكم في آخر المطاف.

وهو بذلك لم يتجاوز الدائرة التي اشتغلت فيها الفلسفة العربية الإسلامية القديمة والتي كان من إشكالياتها التوفيق بين العقل والنقل. والدليل المباشر على ذلك جوابه على السؤال المتعلق بالعلاقة بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية، إذ يقول: "إن القوانين التي تحكم العالم "موضوعية" قابلة للإدراك ولا ذاتية" ... "ولأنه توجد إمكانية للتنبؤ بالظواهر، فالمطلوب من الكائن البشري هو التلاؤم معها، والاندماج في الكون من خلال التلاؤم معه". فالقوانين الموجودة في الكون من خلق الله نفسه.[188] وهو تعبير بلغة حديثة عن المقولة القديمة الشهيرة: "الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعها". ففلسفته الدينية تدور في فلك فصل المقال لابن رشد الذي يبتدأ بسؤال "هل أوجب الشرع الفلسفة؟" ويجيب: "فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟ فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك. فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب اليه. فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله، تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: ((فاعتبروا يا أو لي الأبصار)) وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. ومثل قوله تعالى ((أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء))؟ وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات"[189].

مع العلم أن لابن خلدون عذر في موقفه السلبي من الفلسفة. فقد انتقد علم الالهيات الذي شكل المحور الأساس للفلسفة التي وصلته والتي تاهت في مسائل لا يقين فيها، وقد يعتبرها البعض دون جدوى. ونقده هذا موجه لعلم الكلام أيضا[190]. ومآخذه عليها لا تخلو من معقولية[191]. أما نقده للطبيعيات فهو نقد في الصميم، لكونه بين أن التفسير الميتافيزيقي للظواهر الطبيعية لا قيمة علمية له لأن "ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا مالا يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟"[192]

لكن إذا أردنا أن نحدد موقعا لابن خلدون بين الغزالي وابن رشد، فهو إلى ابن رشد أقرب. فهو لا يشكك في السببية كما يفعل الغزالي ليسود العبث ولو تحت تسمية إرادة الله (أما الذين يشبهون موقف الغزالي بموقف دافيد هيوم فهم لا يفقهون في هذا الفيلسوف شيئا). وعندما نقرأ تهافت الفلاسفة للغزالي و تهافت التهافت لابن رشد، لا يجب التوقف عند المسائل موضوع النزاع بل إلى خلفية النزاع. فالغزالي سرعان ما يسقط في التكفير والتبديع، أما رد ابن رشد فيبقى على مستوى الاصطلاحات المنطقية: "هذا قول في أعلى مراتب الجدل" أو "هذا قول سفسطائي"... الأول يشكك في العقل، أما الثاني فينتصر له.

ورغم الموقف السلبي الظاهر لابن خلدون من الفلسفة ورغم أنه لا يعد فيلسوفا بالمعنى الاختصاصي للكلمة، إلا أنه تناول كثيرا من القضايا التي تنتمي الى مجالات الأبستمولوجيا وفلسفات السياسة والتاريخ والحضارة. وكان بإمكان نقده للفلسفة واسهاماته الرائدة في المجالات السالفة الذكر أن يعطي دفعا جديدا للفكر العربي الإسلامي، بتوجيهه نحو مجالات فكرية أجدى وبوسائل منهجية أخصب. مع العلم أن موقف ابن خلدون من الدين يعكس الأفق الفكري لعصره والذي كان من المستعصي القطيعة معه.

وإذا كان موقف ابن خلدون مفهوما، فما لا يمكن فهمه، بالمقابل، هو موقف الحبابي الذي توقف (أو بالأحرى عاد إلى) عند مبدأ "الموجودات تدل على الصانع"، في حين أن العلم الحديث يتوقف عند كون الموجودات تدل على نفسها فحسب، والكون حصيلة للمصادفة والحتمية كما يقول جاك مونو (ومحاولات الرد على هذا الموقف لم تخرج عن السجل العلمي بل ردت على أساس حساب الاحتمالات لتبرهن على أن المصادفة لا يمكنها تفسير تكون ظواهر معقدة مثل أعضاء الكائنات الحية). ولم يكن للمقاربات الفلسفية الحديثة للدين، التي أرادت تجاوز التطابقية أو الرفض المتشنج لبعض نتائج العلوم الحديثة، لم يكن لديها تأثير عليه؛ بل رفضها عندما نزعت منزعا روحانيا، من خلال نقده للبرغسونية. وعندما اضطر إلى الخروج من موقفه الوضعي الذي يطبع كتابيه الأساسيين: من الكائن إلى الشخص و حرية أم تحرر، ليجد فلسفة يسند لها الشخصانية الإسلامية، وجد ضالته في الرشدية الضمنية، ولو أنه لم يستشهد بابن رشد. وأعني بالرشدية الضمنية كل موقف فلسفي يؤمن بوحدة الحقيقة وبثنائية الطريق الموصلة إليها، وهما: الوحي والعقلانية الأرسطية عند ابن رشد، والوحي والوضعية عند الحبابي. والملاحظ أن الرشدية مثلت إطارا فكريا ملائما وكافيا لتيار من المفكرين العرب والمسلمين أرادوا التأليف بين الإصلاح والعقلانية والوفاء للعقيدة الإسلامية.

لكن الرشدية غير كافية في مجتمع فاقد لتلقائية الإيمان. فاشكاليتها دون اشكالية الشخصانية والبرغسونية اللتان تمثلان فلسفتان ما بعد وضعية post positivistes، أي أنهما استفادا من مكاسب الوضعية بالمعنى الواسع، والمتمثلة في الثورة الصناعية والاكتشافات العلمية والتقدم الثقافي والاجتماعي. لكنهما في المقابل أدركا حدود كل هذه المكاسب. والأمر سواء على المستوى الديني، فقد استوعبا النقد الذي وجه للدين من قبل التيارات العقلانية والعلمية والمادية والنتشوية والفرويدية... ومن الناحية الاجتماعية كان عليهما مخاطبة جمهور مشبع بالنقد السالف الذكر، فكان عليهما مخاطبته بحجج علمية وبلغة الوضعية التي يريدان تجاوزها. يلاحظ هذا عند تايلار دي شاردان الذي استنتج الروحاني من البيولوجي، وعند برغسون الذي أراد البرهنة على وجود الروح من خلال بحثه حول الذاكرة. وفي مثل هذا الوسط الذي فقد تلقائية الإيمان الديني فإن الرشدية ليست كافية.

وفي المقابل قد لا يكون مفهوما استيراد فلسفات تُنسِب (تجعله نسبيا) التقدم التقني إلى مجتمعات لم تعرف الثورة الصناعية. أما محتواها الديني فكان من الممكن أن يواجه بسوء فهم. فالعودة إلى الدين بعد استيعاب مكاسب الثقافة اللبرالية تختلف، بل قد تتعارض، عن التدين المحافظ والنكوصي الذي لا يعتريه الشك لمجتمع تقليدي.

وهذا ما قد يفسر الالتباس في موقف الحبابي من الشخصانية والبرغسونية. فهو يدعي الانتماء للشخصانية ويصرح "أن خصوم البرغسونية يدينون لها بقدر ما يدين لها أنصارها"[193]، وهو بذلك يعترف بدينه لهما، ويعترف ضمنيا بأنهما يمنحان أجوبة لانشغالاته الفكرية؛ لكنهما في المقابل كانا موضوع نقده لأنه لم يكن مستعدا لمسايرتهما في مغامراتهما الميتافيزيقية، خاصة وأنه شخص مشكلة الثقافة العربية الإسلامية في نقص الواقعية.

الفلسفة السياسية والاجتماعية



ما يلفت الانتباه هو غياب الفلسفة السياسية في مؤلفات الحبابي، رغم أنه تطرق في بعض فصول حرية أم تحرر إلى ضرورة الالتزام دون ذكر النظام السياسي الذي يتوخاه. ويؤكد، مستعملا اللغة السياسية لوقته، بأنه " من المستعجل امتلاك فلسفة مناضلة عمالية". ويزيد، مستشهدا ببرودون Proudhon ، بأنه يجب " إنزال الميتافيزيقا إلى مستوى الشعب بواسطة الممارسة"[194]. والملاحظ أن الحبابي يستشهد ببرودون Proudhon أكثر مما يستشهد بماركس، لكون الماركسية في نظره تبدو وكأن "الجمود" قد اعتراها مما أدى بها إلى "انغلاق ذهني"، دون أن يوضح أسباب هذا الانغلاق أو يعطي بديلا[195].

وفي مجال الاقتصاد السياسي بزعم أن أسباب المشكلات لا تكمن في الملكية الخاصة بل في المنافسة[196]. والحل يكمن في حسن الامتلاك حتى لا يكسر الشيء المملوك الحركة المشخصنة ولا يحول الشخص إلى "إنسان اقتصادي"[197] . كما يرى أن وسائل الإنتاج يجب أن تكون بيد الجماعة لكي تستغل القيمة المضافة في مصلحة المجتمع[198]. وفيما يتعلق بتأثير السياسة على الاقتصاد، يستشهد بتحليل ابن خلدون لدور الاضطهاد في عزوف الناس عن النشاط الاقتصادي[199]. ويرى أيضا أن المنافسة قد تكون أيضا من طبيعة روحانية، فهي تكمن أيضا في العزوف عن المتاع الدنيوي، مستشهدا بالآية القرآنية: "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم" [200].

والملاحظ أن هذه الفلسفة السياسية والاقتصادية، ورغم انتقائيتها، لا تخرج عن إطار الإشكالية المهيمنة في فترة تكوين الحبابي وتأليفه (خمسينيات وستينيات القرن العشرين)، وهي الإشكالية الماركسية. وتأثير هذه الإشكالية لا يظهر في القضايا المطروحة، بقدر ما تشي به القضايا المسكوت عنها، ومن أهمها الديموقراطية والحريات الفردية. فمسألة الديموقراطية غائبة من مؤلفات الحبابي، كما هو الشأن بالنسبة للحرية التي لم تطرحها إلا من زاوية الاختيار العقلاني للأفعال وليس على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع والدولة.

فلسفة التاريخ و "الغدية"



ما يميز فلسفة التاريخ عند الحبابي هو موقفها الدفاعي إزاء الغرب. فجل المقالات التي تؤلف كتابه من المنغلق إلى المنفتح Du clos à l’ouvert ترد على النظريات العنصرية؛ ومن أبرزها نظرية إرنست رينان الذي لا يرى للعرق السامي ميزة إيجابية[201]، أو نظرية العقلية البدائية[202]. ومسلمة هذا الرد هي أن لكل مجتمع بدائيوه[203]، منسبا (من النسبية) تقدم الحضارة الغربية التي "تتخبط بدون هدف محدد"، مستشهدا بانتقادات الشخصانيين (ومن بينهم جان ماري دوميناك) لنواقص الحضارة الحديثة.[204]

وفيما يتعلق بأسباب الانحطاط والذي يفضل الحبابي تسميته "تفاوتا"، فإنه يبرز دور العوامل الداخلية المتمثلة أساسا في انغلاق الثقافة الاسلامية على نفسها. إلا أنه يركز أكثر على العوامل الخارجية.[205] ومع الوقت طغى البعد الثالثي (من العالم الثالث) على تفكيره، تحت اسم "الغدية".[206] ورغم الشهرة الإعلامية لهذا المصطلح فإن الكتابين الذين خصصهما له ليسا إلا مجرد سجال معاد للغرب يفتقر للعمق.

هل الحبابي شخصاني؟



رغم تعدد الأوجه (أو الانضواءات كما يقول الحبابي) الممثلة للشخصانية إلا أن هناك ثلاث خصائص تجمع بينها:

1) الانتماء إلى فلسفة فاعل لكونها الكفيلة بالجمع بين الواقعية والمثالية. فالوجه الفاعل للشخص هو الذي يفتح إمكانية مقاربته بصورة شخصانية، والذي يحول دون رده إلى خصائصه النفسية.

2) وجود ركائز أخلاقية للإلتزام، لكون الشخصانية وردت من المنبعين الرئيسيين للإلتزام في الفلسفة الحديثة وهما الماركسية فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية والوجودية فيما يتعلق بالحريات الفردية (وهي الوجودية السارترية التقدمية أساسا، لأن هناك أيضا وجودية رجعية من الناحية السياسية يمثلها غابرييل مارسيل الذي وقع على العريضة المضادة للعريضة التي ادانت الحرب في الجزائر) . وأخلاق هاتين الفلسفتين تتميز بالإرادية والثورية.

3) نقد انحراف الدين كتمهيد لإعادة اعتماده في عملية الإحياء الروحي.

ومن عرضنا السابق لفلسفة الحبابي يتبين لنا أنها لا تستجيب لأي من المعايير الثلاثة. فالشخص فيها مسجون في محدداته الموضوعية، وكل ما يتعالى عنه فهو من مجال الإنسان. كما أنه لم ير في فلسفة الفاعل إلا جانبها اللاواقعي. أما رؤيته للدين فلم تتجاوز السلفية الإصلاحية. ف "واقعية" الحبابي أفرغت الشخصانية من ذاتيتها المتوهجة وأخلاقها الملتزمة، أي من أيديولوجيتها. وهذا هو الذي يفسر عجزه عن استنبات الشخصانية في محيط عربي إسلامي، وليس لكونه شعر بضرب من الاستلاب في تبعيته لمونييه في حين أنه ينتمي إلى بلد مستعمر، حسب رأي كروز هرنانديز[207]. فالحبابي ليس الوحيد من المفكرين المسلمين الذين تأثروا بتيار فكري غربي أثناء مرحلة الاستعمار، فجل هذه التيارات وجدت من يروج لها في البلدان الإسلامية.

لكننا لا ننكر له "انضواءه" إلى الأسرة الشخصانية، لأنها تيار إنساني هدفه الدفاع على كرامة الإنسان، مهما اختلفت الطرق.

مأزق الرشدية المبتذلة



كل الثغرات التي اكتشفناها في فلسفة الحبابي يمكن إرجاعها إلى نقص أولي يتمثل في الطريقة التي أراد أن يحيي بواسطتها العقل الواقعي والتركيبي في الفكر العربي الإسلامي الحديث:

- فهو لم يعط للواقعية تعريفا دقيقا، فهذا المصطلح الذي يبدو بديهيا في اللغة المتداولة ليس كذلك في اللغة الفلسفية. فالواقعية تنعت مذاهب متناقضة، ويكفي الرجوع إلى أي معجم فلسفي للتأكد من ذلك. وزاد الأمر اشكالا كونه سمى فلسفته شخصانية واقعية، في حين ان الشخصانية فلسفة واقعية أصلا نظرا لكون الرافدين الأساسين لها واقعيان (بمعنى أنهما ليسا مثاليين)، فالماركسية تقول بالمادية التاريخية والجدلية وتجعل من الاقتصاد المحرك والمفسر الأساس للتطور التاريخي، والوجودية عند مؤسسها الأول كيركغارد كانت رد فعل ضد الهيجلية. وواقعية الحبابي لا تطلعنا على شيء من الواقع العربي الإسلامي، أكان الأمر على مستوى التاريخ أو المجتمع أو الاقتصاد أو النفسانية.

- أما التركيب فلا يجوز طرحه كهدف مسبق دون أن نتعرف على الأطراف التي يجب التركيب بينها. فالتركيب من أجل التركيب لا ينتج عنه إلا موسطات هزيلة، مع العلم أننا بينا كيف أن الحبابي كان يميل إلى طرف من الطرفين اللذين كان يريد التوفيق بينهما، وهو في غالب الأحيان الموقف الوضعي. مع العلم أن التركيب الذي عرفته الثقافة العربية الاسلامية كان في حقيقته عملية دمج لمعارف من مصادر شتى بشكل يجعلها لا تتناقض مع العقيدة الإسلامية، بما فيها الفلسفة.

يبقى السؤال: أي دلالة نعطيها لهذه الفلسفة؟

والجواب يمكن أن نجده في دلالة مصطلح "واقعية" كما وظفه الحبابي. فواقعية الحبابي كانت، قبل كل شيء، رفضا لكل الفلسفات التي بنت صرحا ميتافيزيقيا متكاملا يخضع كل المسائل لمنطقه الداخلي، بما فيها الدين (كالبرغسونية). فمثل هذه الفلسفات تعارض الرؤية الرشدية التي تربط بين الدين والفلسفة والعلم عند أفق التقائها، فهي طرق تؤدي إلى هدف مشترك. فكل من الدين (الوحي) والعلم (القوانين التي وضعها الله في الكون وهي الموجودات التي تدل على الصانع) والفلسفة (كخطاب منطقي) ميدان قائم بذاته كوجه للحقيقة، و"الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له"[208]. عند ابن رشد والفلسفة الاسلامية عموما. وقد بقي الحبابي وفيا لهذه المسلمة إذ أنه لم يستشعر الحاجة إلى إعادة بناء الفكر الديني على أسس جديدة، إلا أن إبعاد الدين عن الفحص النقدي يقطع الطريق أمام كل محاولة لإعادة بناء شاملة للثقافة العربية الإسلامية. ولم تخرج شخصانيته الإسلامية عن التطابقية والمزايدة المجانية على الفكر الحديث التي تميز الفكر الإسلامي المعاصر.

لقد اقتبس الحبابي مفاهيم من العديد من الفلسفات، لكنه في كل مرة توقف في الطريق. فقد اقتبس من هيدغر فكرة "الواقع الإنساني بصفته فهما وتعاليا compréhension et transcendance"[209] التي تفتح إمكانية تأسيس تعالي لا يخرق الطبيعة transcendance sans surnaturel، لكنه يرتد على هذه الفكرة لكونها مشوبة بالمثالية[210]، دون أن يدرك أن هذه الفكرة لا يمكن ان توظف إلا ضمن إشكالية تدمج بين الواقعية والمثالية لحل المعضلة الفلسفية التي عبرت كل تاريخ الفلسفة والمتمثلة في كيفية الربط بين العقل والوجود. والأمر سواء فيما يتعلق باقتباساته من الظاهراتية، إذ يبدأ بالتنويه بكونها "جهدا تبذله الإنسانية من أجل فهم ذاتها والمصالحة معها ومع الطبيعة"[211]، معطيا الانطباع بأنه وجد فيها طريقا لتجاوز المثالية والمادية معا، لكنه عندما انتبه إلى النتائج التي استخلصها منها هيجل[212] وهوسرل[213] فضل العودة إلى الوراء والالتجاء في الثنائية.

ويمكن تلخيص رده على هيدغر والظاهراتية في قوله: " من العسير الإقرار بشكل قطعي بأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تصدر عنه الدلالة في الكون"[214]. والسؤال هو: إن لم يكن الإنسان هو المصدر الوحيد للدلالة، فما هي المصادر الأخرى؟ يمكن أن نعتبر العلم مصدرا لها إلا أنه مصدر إنساني لأن اللغة والرموز والقوانين التي تحول الظواهر إلى معرفة هي من وضع الإنسان. كما يمكن اعتبار الدين مصدرا للدلالة، إلا أنه يطرح مشكلة أصل الدين هل هو بشري أم إلهي؟ ومهما كان الجواب فالدين ظاهرة ثقافية أي أن الانسان هو الذي يمنحه الوجود كلغة ومؤسسات وحركة تاريخية، وخاصة نسبيته التي تتمثل في تعدد الأديان وتطورها التاريخي. إلا إذا اعتبرنا كل ما يمس الدين فعلا إلهيا مباشرا في كل تمظهراته، وهو موقف لم يقل به إلا أكثر المذاهب الدينية حرفية، إن لم يكن تزمتا. وبهذا يرفض الحبابي للفلسفة أساس استقلالها لتصير مجرد معرفة تابعة للدين من ناحية (تخدمه كعقيدة قويمة غير قابلة للمراجعة)، وللعلم من ناحية أخرى (كفلسفة وضعية تتجنب الخوض فيما وراء الظواهر فتتركه على حاله). وهذا ما ارادت الظاهراتية تجاوزه من أجل توحيد المعرفة.

ورغم أن الحبابي لم يستشهد إلا قليلا بابن رشد، إلا أن لا شعوره الفلسفي كان مشبعا بالرشدية. وهذا يعني انه لم يكن لديه الاستعداد لتجاوز إشكالية الرشدية التي كان كل همها أن توفق بين الدين والفلسفة، ما دفع بمفكر في منزلة ابن خلدون إلى الحكم على الفلسفة بعدم الجدوى.[215] وكأنه يعكس القولة الشهيرة لابن الراوندي وفحواها: إذا كان الدين موافقا للعقل فنحن لسنا بحاجة إليه، وإذا كان معارضا له فنحن نرفضه. إلا أن ابن رشد، ككل مفكر، محدود بأفق عصره الذي يهيمن فيه الدين على كل المجال الثقافي، أما الحبابي فقد حد أفقه بنفسه.

هل هذا يعني أن هناك تنافر بين الرشدية والشخصانية؟ والجواب أنه ليس هناك مانع ابستيمولوجي للجمع بين الفلسفتين بشرط إعادة قطع الطريق الذي مرت به الفلسفة منذ عصر ابن رشد. وهو ما فعله الممثل الثاني للشخصانية في العالم العربي: روني حبشي.

الشخصانية في العالم العربي (بين الحبابي وروني حبشي)



رغم ان الحبابي وحبشي هما الممثلان للشخصانية في العالم العربي إلا أن لا أحد منهما يذكر الآخر. كما ان حكمهما على الثقافة العربية والأهداف المتوخات مختلف. وعلاقتهما بالثقافتين العربية الإسلامية والغربية مختلفان. فحبشي عربي مسيحي، وهو بذلك يشارك الثقافة الغربية أسسها المسيحية (الأمر الذي له أهميته في الشخصانية). لكنه بانتمائه للعالم العربي الإسلامي كان هدفه إيجاد نقط تلاقي بين الثقافتين. إلا أن حبشي، على خلاف الحبابي، شخصاني نموذجي. فهو أتى إلى الشخصانية من خلال نظرة إنسية للمسيحية ومن خلال الوجودية التي خص كثيرا من وجوهها بدراسات[216]، لأنه يعدها الوجه الأهم في الحضارة المعاصرة (خمسينات القرن العشرين)[217].

وفلسفة حبشي تستلهم فلسفة تايلار دي شاردان [218] و "الاندفاع الخلاق" لبرغسون[219]. وهده المراجع تملأ النقص الذي شخصه في الثقافة العربية المعاصرة التي تهيمن فيها التجريبية empirisme والوحي لكنها تعاني من فقر على المستويين العلمي والفلسفي. وفي هذا الصدد يقول: "هناك طرفين قصويين يسيطران على ذهنيتنا وهما التجريبية والوحي. وهي تجريبية كثيفة تغرق كافة الناس، منافية لروح العصر لأنها ليست مدفوعة نحو الأمام من قبل العلم منذ قرون؛ ومن جهة أخرى وحي بقي جامدا في حرفه وروحه لأنه مفتقر إلى فلسفة تقدمية تسنده. وهذا الحضور الطاغي للتجريبية والوحي يزيد من وقع غياب الدرجتين الوسطيين وهما العلم والفلسفة. وفي مواجهة هذا الغياب جاهد بقوة كل من جمال الدين الأفغاني في القرن التاسع عشر ومحمد عبده إلى بداية القرن العشرين"[220].

وهذا الغياب للمستويين الوسطيين (الفلسفة والعلم) ينتج عنه أن اي انفصال للروحي عن الدنيوي يؤدي إلى "فقدان الله"، على عكس الوضع في الغرب "حيث أن محاولة العودة إلى الله في إطار الوضع الراهن للعلم والفلسفة وإحياء فتوة الإيمان دون التخلي عن الدينامية العقلانية ليست محاولة يائسة"[221]. والحل عند حبشي يكمن في ثورة للدنيوي بواسطة الروحي une révolution du temporel par le spirituel تضع الإسلام والمسيحية في خدمة الحضارة[222]. بشرط أن يتخلصا من ماهويتهما العقدية التي تؤدي إلى التقليدية (أو الاتباعية) الاجتماعية [223] traditionalisme sociologique والتي تتلازم في الإسلام مع وثنية الكلمة idolâtrie du mot [224]. وهذا ما يفسر الدور الذي قام به مسيحيو لبنان في النهضة، "لأنه لم تكن عندهم دواعي لاحترام الصفاء الديني للغة وثبوتيتها"[225].

وبما أن حبشي مفكر يقف عند ملتقى عالمين: الغربي والشرقي، وديانتين: الإسلام والمسيحية، حاول إيجاد جذور مشتركة لها تتمثل في البحر المتوسط. نافيا أنه يريد الإفلات من العروبة، بل العكس، فالمتوسط هو الذي يمنح للعروبة عمقها، "والتي بدونها لا يفهم العربي ذاته". كما أنه ينفي الرغبة في الالتحاق بالغرب، نظرا " لأن المتوسط ليس هو الغرب بل الغرب هو المتوسط"[226].

وعلى المستوى الفلسفي يموقع حبشي تأملاته ضمن الحوار بين الماهوية essentialisme والوجودية existentialisme الذي استمر طوال تاريخ الفلسفة. الماهوية التي ظهرت مع أفلاطون "والتي خففت من حدتها جوهرية أرسطو". ومع المسيحية توجدت الماهوية (أي صارت وجودية)، وفي الإسلام كان ابن سينا من أبرز ممثلي الماهوية، لكن ابن رشد عاد إلى أرسطو. وأخيرا اجتمعت كل هذه النزعات في الطوماوية التي "مثلت لحظة كمال خفق فيها الوجود والماهية بكل طاقتهما. ولهذا أراد بعض الفلاسفة المعاصرين العب منها كمنبع حياة". وقد استمر هذا الحوار في الفلسفة الحديثة إلى أن قام كيركغارد "بالقضاء على الماهوية" مكملا بذلك ما بدأه ديكارت، ليبدأ عصر الوجودية[227]. وبهذا يعبر حبشي على وحدة الفكر خلال التاريخ، ولهذا يقترح على الفكر العربي المعاصر الانخراط في هذا التيار لكي يدخل في التاريخ والانتفاضة على الماهوية التقليدية[228].

هذه المقاربة تضع حبشي ضمن تيار الطوماوية الحديثة التي استلهمت من الوجودية والظاهراتية، والتي من ابرز ممثليها جاك ماريتان الذي يتواتر الاستشهاد به قبل حبشي. وأهم ما يمكن استخلاصه من فلسفة ماريتان هو كونها وفقت بين الكنيسة والديموقراطية، أو ما يسمى بالديموقراطية المسيحية.

وتبين المقارنة بين الحبابي وحبشي أن هناك قاسما مشتركا بين المفكرين يتمثل في الرشدية-الطوماوية، رشدية ضمنية عند الحبابي وطوماوية صريحة عند حبشي. وتشترك الرشدية مع الطوماوية في مرجعيتهما الأرسطية وفي كون الموجودات تدل على الصانع، إلا أن ابن رشد يساوي بين العقل والوحي، وإذا اقتضى الأمر يؤول الوحي ليساير العقل (وهو عقل أرسطي أساسا)، في حين أن طوماس الأكويني يقدم الوحي على العقل، وكان كل همه وضع العقل في خدمة الكنيسة (فهو "متكلم" وليس فيلسوفا).

وفيما يتعلق بالمصير التاريخ للفلسفتين نلاحظ أن الطوماوية تحولت إلى فلسفة رسمية للكنيسة الكاثوليكية، بما فيها الطوماوية الحديثة التي وظفت للرد على الفلسفات التي تتنافى مع العقيدة الكاثوليكية، أو تأويل بعضها من منظور مسيحي، ومد جسور مع الديموقراطية. أما ابن رشد فلم يلق إلا العداء ثم التجاهل في العالم الإسلامي، بينما ترعرعت فلسفته في الرشدية اللاتينية.

لقد كان على الحبابي ملء الفراغ الذي أعقب ابن رشد ليكون في مستوى ما تمنحه الطوماوية الحديثة لحبشي، الذي تفتح على تيارات فلسفية معاصرة عدة: تايلار دي شاردان، برغسون، الوجودية، الظاهراتية. بينما عاق الحذر مما ليس "واقعيا" الحبابي من استكشاف الأفق التي تفتحها الفلسفات التي انتقدها. ولهذا يمكن أن نقول – كما قال حبشي – أن فلسفته خدمت التجريبية واللاهوت.

لماذا فشلت الشخصانية في العالم العربي؟



لقد كان للشخصانية قبليا كل الصفات والميزات لاجتذاب الشباب العربي المسلم لأنها تمنحه إمكانية التوفيق بين العلم والدين، وبين الحاضر والماضي، وبين الأصالة والمعاصرة. لكن رغم كل هذه الميزات لم تجد الصدى المرتقب لدى الشباب العربي الذي مالت الفئة الأكثر انفتاحا والتزاما منه إلى فلسفات علمانية ومادية. حتى أن حبشي قال (سنة 1959): "أول ما يجب فعله هو إنقاذ الله (لدى الجيل الصاعد) من هذا الضياع الذي تسببت فيه صدمة العلمانية الغربية وجاذبية الشيوعية في مجتمع بقي على منأى عن العلوم الجديدة والفلسفات"[229].

فما هي العوامل التي حالت دون انتشار الشخصانية؟

الجواب الذي نقترح يتضمن عدة فرضيات:

1) وجود تباين بين مسلمات الشخصانية، وهي مسلمات فكر ما بعد وضعي post positiviste، والأسئلة التي يطرحها مجتمع فرضت عليه الحداثة من خارج، والله فيه لا يحتاج لأن "يستحق الوجود" كما قال جان لاكروا. فإذا كان الهدف هو مجرد استرجاع الله كفرضية فلسفية، فهذا شأن المجتمعات التي "مات فيها الله".

2) نقص النسخة العربية للشخصانية. وهنا يجب التمييز بين الحبابي وحبشي. فالحبابي كان على خلاف مع جل الفلسفات التي غذت الشخصانية ولم يقتبس إلا جزء من ايديولوجيتها بسكوته على بعدها السياسي. في حين ان حبشي تبنى كل أبعاد الشخصانية بما فيها أخرويتها المسيحية. ورغم أن كلمتي إسلام ومسيحية كانا يذكران مقترنان في كتاباته، إلا أن مقاربته بقيت هامشية في الثقافة العربية لأن جل قرائه العرب يجهلون دقائق الروحانية المسيحية، أو أنهم لا يستوعبون المسيحية كبعد من ابعاد العروبة. إن لم يكونوا لا يرون في المسيحية إلا ديانة المستعمر، خاصة في البلدان التي لا توجد فيها اقلية مسيحية، كبلدان المغرب.

3) وجود شخصانية ضمنية عند بعض المفكرين المسلمين الذين حاولوا مد الجسور بين الإسلام والحداثة، والذين لم يكونوا بحاجة إلى ارتداء ثوب الشخصانية الغربية ليكونوا شخصانيين.

4) موقف المفكرين المغاربة من الحبابي:

- فعبد الله العروي يرى في الحبابي ممثلا للفلسفة الجامعية العربية التي فتحت المجال للفلسفة الدينية تحت تأثير نزعة معادية للليبرالية ولأسبقية الزمن[230]. لكنه لم يناقش إطلاقا المحتوى الفعلي لفلسفته، بل اكتفى بتكرار موقف الماركسية من الفلسفات الروحانية، وهو ما لا ينطبق على الحبابي.

- عبد الكبير الخطيبي لا يرى جدوى الشخصانية قائلا: " أما فيما يخص مونييه وشاردان، لنكن جديين، ولنجنب العالم العربي فكرهم، ولنكمل طريقنا"[231]. وهو موقف على قدر كبير من الاحتقار.

Quant à Mounier et Chaedin, soyons sérieux. Faisons-en l’économie au monde arabe et passons.

- محمد عابد الجابري برر إبعاده للحبابي وحبشي بكونهما كتبا بالفرنسية، ولهذا فهما لا "ينتميان" (المعقوفان للجابري) إلى الخطاب العربي المعاصر[232]، رغم ان الحبابي ترجم أو أعاد كتابة كل كتبه بالعربية.

- سالم يفوت هو الوحيد الذي ناقش فكر الحبابي (كتبت هذا سنة 1989 وربما ان هناك من ناقش فكر الحبابي بعد هذه السنة[233]). لكنه اعتقد انه يدافع عن الحبابي ضد خصومه بقوله بانه لا يجب الربط الميكانيكي لفلسفة الحبابي بفلسفة مونييه لأنه استلهم بعض أفكاره، وبانه أعطى دلالة جديدة لهذه الأفكار منذ البداية[234]. بل يدعي أنه من الممكن تلمس بوادر "الغدية" منذ اللحظات الأولى للشخصانية الواقعية[235]. وهو بذلك يريد البرهنة على عدم وجود قطيعة في المسار الفلسفي للحبابي. لكن هذا الدفاع لا يخدم الحبابي لكونه يعطي وزنا غالبا للجانب الضعيف في تفكيره وأقلها قيمة فلسفية.



من هذا نستخلص ان الحبابي، والشخصانية من خلاله، لم يحظ بنقاش فلسفي في المستوى المطلوب. فكل المواقف المعروضة سابقا إما مواقف أيديولوجية مسبقة لم تتجشم عناء قراءة متعمقة لأعماله ولمراجعه، وإما مقالات مدحية. ففشل الحبابي هو أيضا فشل جماعي لوسط ثقافي هو عبارة عن جزر معزولة تتجنب النقد المتبادل.



(أنجزت هذا البحث في بداية التسعينات من القرن الماضي، وهو في الأصل مكتوب بالفرنسية لأني كنت أريد تقديمه لجامعة فرنسية. ولهذا لا أذكر فيه إلا المراجع التي قرأتها في تلك الفترة. كما اني اضطررت عند تعريبي لهذا البحث لنقل بعض الاستشهادات (من فصل المقال والمقدمة) من نسخ الكرتونية لأنه تعذر علي الرجوع إلى النسخ الورقية التي اطلعت عليها. وقد لاحظت أن هناك تكرارا يعود إلى كون الحبابي يعطي في الغالب أجوبة متقاربة، لهذا كان في الرد عليه بعض الاطناب)
-------------------------
راجع الجزء الأول من هذه الدراسة هنا:
محمد اليعقابي - 1 - الشخصانية الواقعية لمحمد عزيز الحبابي (1922-1993)

إحالات


[106] Liberté ou libération ? p. 17
[107] Ibid, p. 189
[108] Ibid, p.191
[109] Ibid, p. 54-55
[110] Ibid, p. 30
[111] Ibid, p. 50
[112] Ibid, p. 72
[113] Ibid, p. 73
[114] H. Bergson, L’évolution créatrice, Félix Alcan, Paris 1889, p. 137
[115] H. Bergson, Essai sur les données immédiates de la conscience, Félix Alcan, Paris 1907, p. 127
[116] Ibid, p. 128
[117] Liberté ou libération ? p. 73
[118] H. Bergson, Les deux sources de la morale et de la religion, PUE, Paris 1965, p. 55
[119] Ibid, p. 20
[120] Ibid, p. 103
[121] Ibid, p. 127
[122] Ibid, p. 133
[123] Ibid, pp. 123-129
[124] Ibid, p. 223
[125] Ibid, p. 143
[126] Ibid, p. 233
[127] Ibid, pp. 284-285
[128] Ibid, pp. 307-309
[129] Liberté ou libération ? p. 34
[130] Ibid, p. 32
[131] Ibid, p. 31
[132] Les deux sources…, p. 271
[133] Ibid, p. 272
[134] Essai sur les données immédiates…, pp. 96-97
[135] Ibid, p. 104
[136] Liberté ou libération ? p. 34
[137] Ibid, p. 231
[138] Ibid, p. 193
[139] Ibid, p. 206
[140] Ibid, p. 206
[141] يجب التنبيه إلى كون الحبابي ينعت الكوجيتو البيراني بأنه مادي (ولو أنه يكتب "مادي" بين معقوفين) في حين أن مين دي بيران ينتمي إلى النزعة الحسية الروحانية (cf. A. Drevet, Maine de Biran, PUF, Paris 1968)
[142] De l’être à la personne, p. 72.
[143] Ibid, p. 37
[144] من الكائن إلى الشخص، ص 47
[145] Ibid, p. 38
[146] Ibid, p. 38
[147] Ibid, p. 41
[148] من الكائن إلى الشخص، ص 52
[149] المرجع نفسه، ص 57
[150] من الكائن إلى الشخص، ص 53
[151] De l’être à la personne, p. 43. من الكائن إلى الشخص، ص 53
[152] من الكائن إلى الشخص، ص 56
[153] E. Mounier, Feu la chrétienté, Seuil, Paris 1950, p. 99-100
[154] Mounier, sa vie, son œuvre, pp. 48-49
[155] Traité du caractère, p. 405
[156] Ibid, p. 62

[158] De l’être à la personne, p. 338
[159] A. Comte, Catéchisme positiviste, Garnier-Flammarion, Paris 1966, p. 33.
[160] Ibid, p. 35
[161] M. A. Lahbabi, Ibn Khaldoun, Seghers, Paris 1968, p. 59
[162] لا يعد برغسون فيلسوفا شخصانيا، لكني أذكره لأن الحبابي لم ير في فلسفته إلا الجانب اللاواقعي
[163] M. A. Lahbabi, Le personnalisme musulman, PUF, Paris 1967, p. 3
[164] Ibid, p. 28
[165] Ibid, p. 22
[166] Ibid, pp. 23-24
[167] Ibid, p. 24
[168] Ibid, p. 41
[169] Ibid, p. 42
[170] Ibid, p. 31
[171] Le personnalisme, pp. 33-34
[172] Le personnalisme musulman, p. 31
[173] Le personnalisme musulman, p. 31
[174] ابن سينا، النجاة، طهران 1863، ص 339-394
[175] Feu la chrétienté, p. 24
[176] Le personnalisme musulman, p. 50
[177] Ibid, p. 94-95
[178] Le personnalisme musulman, p. 50
[179] Ibid, pp. 55-57
[180] Ibid, p. 80
[181] Ibid, p. 101-102
[182] Du clos à l’ouvert, p.74
[183] علال الفاسي، النقد الذاتي، مقال "التحرر الفكري"، مطبعة الرسالة، الرباط 1979، ص 62-63
[184] علال الفاسي، النقد الذاتي، مقال "إحاطة التفكير"، مطبعة الرسالة، الرباط 1979، ص27-28
[185] Ibn Khaldûn, p. 52-53
[186] Ibid, p. 46
[187] Ibid, p. 49
[188] Le personnalisme musulman, p. 71
[189] (الاستشهاد مأخوذ من نسخة الكترونية لأنه ليست لدي امكانية الرجوع إلى النسخة الورقية الأصلية التي ترجمت منها المعنى إلى الفرنسية)
ابن رشد، فصل المقال
[190] ابن خلدون، المقدمة، الفصل السابع والعشرون: في علم الالهيات (لا أعطي الصفحة لأني راجعت المقدمة في نسخة الكترونية)

[192] المقدمة، الفصل الحادي والثلاثون: في إبطال الفلسفة (أنظر الملاحظة السابقة)
[193] Liberté ou libération, p. 13
[194] Ibid, p. 199
[195] Ibid, p. 155
[196] Ibid, pp 150-153
[197] Ibid, p. 150
[198] Ibid, p. 160
[199] Ibid, p. 169
[200] Ibid, p. 169
[201] Du clos à l’ouvert, p. 118
[202] Ibid, pp 105-106 et 115
[203] Ibid, p. 96
[204] Ibid, pp 104-105
[205] Ibid, pp 71-73
[206] M. A. Lahbabi, Le monde de demain, Dar al-kitâb, Casablanca et éditions Naâmân Sherbrook Canada.
La crise des valeurs, , tr. de l’arabe par Ahmed Sbaî, Publisud Paris, Okad Rabat, 1987.
[207] M. C. Hernandez, Historia del pensamiento…, pp 378-379
[208] فصل المقال (نسخة إلكترونية)
[209] De l’être à la personne, p. 150
[210] Ibid, p. 168
[211] Ibid, p. 35
[212] Ibid, pp. 38-41
[213] Ibid, pp. 169 et 339
[214] Ibid, p. 269
[215] كتب الحبابي بعض المقالات المناسبتية على ابن رشد ومنها خطاب اختتام الندوة التي خصته بها جامعة محمد الخامس: أعمال ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ص 353-346
[216] René Habachi, Vers une pensée méditerranéenne, publié par l’institut d’étude orientale, Beyrouth (4 volumes)
[217] René Habachi, Philosophie chrétienne, philosophie musulmane et existentialisme, 1er cahier pour une pensée méditerranéenne, Institut de lettres orientales, Beyrouth 1956, p. 18
[218] René Habachi , Orient quel est ton occident ? Centurion/sciences humaines, Paris 1969, pp 48-49
[219] Philosophie chrétienne… op. cit. pp 27-29
[220] , Orient quel est ton occident ? p. 52
[221] Ibid, p. 108
[222] René Habachi, Révolution du temporel par le spirituel, Les conférences du cénacle XIXè année n° 12, 1965, p. 75
[223] Philosophie chrétienne, philosophie musulmane… pp 19-20
[224] Orient quel est ton occident ? pp 204-205
[225] René Habachi, Exposé critique sur « Les arabes d’hier à demain » de Jacques Berque, Les conférences du cénacle XVIè année n° 3, 1964, p. 98
يمكن تفسير دور المسيحيين العرب في النهضة بعوامل تاريخية واجتماعية، لكون الكنائس الغربية، بما فيها الروسية، لعبت دورا اساسيا في في ذلك. زيادة على كون الدول الغربية الاستعمارية فرضت نفسها كحامية للأقليات المسيحية. والدور نفسه قامت به الرابطة الاسرائيلية العالمية فيما يخص اليهود. ومن جهة اخرى يجب التنبيه إلى كون الثقافة العربية لم تنتظر القرن التاسع عشر لتنتج نصوصا غير دينية، متحررة من اللغة القرآنية.
[226] Orient quel est ton occident, pp 66-67
[227] Philosophie chrétienne, philosophie musulmane…, pp. 29-30
[228] Ibid, p. 31
[229] Révolution du temporel par le spirituel, p. 83
[230] Abdallah Laroui, La crise des intellectuels arabes, Maspero 1974, pp. 9-10
[231] Abdelkebir Khatibi, Jacques Berque ou la saveur orientale, in Les Temps Modernes, octobre 1977, p. 2166
هذا المقال يتضمن نقدا عنيفا لجاك بيرك أثر فيه كثيرا. وعندما التقيت ببيرك في إطار أطروحة الماجستير التي خصصتها له، تحت عنوان "فلسفة الحضارة عند جاك بيرك" قال لي بالعامية: "واش درتلو؟"، ذاكرا الخدمات التي أسداها للخطيبي عندما كان طالبا.
[232] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ط2دار الطليعة، بيروت 1985ة ص 174
[233] عندما كنت انجز هذا البحث علمت ان باحثة إيطالية خصت الحبابي ببحث لم أستطع الحصول عليه
[234]سالم يفوت، الهاجس الثالثي في فلسفة محمد عزيز الحبابي، منشور في "الفلسفة في الوطن العربي المعاصر"، بيروت 1985، ص 263
[235] المرجع نفسه، ص 267

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى