قل لي ما اسمك،أقل لك من أنت!
لقد حدث تطور عظيـم في الأسمـاء التي يطلقها الأهـل على أبنائهـم وبناتهم, في الخمسين سنة الأخيرة على وجـه التحديد. وكأنما الأسماء نفسها تخضع لقانون الحياة في التغيير والتبديل.
وحقيقة كون التحديث الذي جرى في أسماء البنات أكثر تطرفا من أسماء الفتيان هو بنفسه أمر يدعو إلى التفكير, وذلك يعود إلى أن الأولاد الذكور عادة ما يمثلون بالنسبة للعائلة العربية الامتداد الطبيعي لآبائهم وأجدادهم, فهم حاملو تراث السلف. ولذلك فمن الطبيعي أن يتسموا بأسماء الآباء والجدود, في حين أن الفتيات لا يلعبن هذا الدور (الخطير) الذي يلعبه الفتيان. ولذلك تجد الناس يتفننون كل التفنن في تسمية بناتهم. فإذا جاء الدور على الأولاد اتبعوا الحيطة والحذر, وسلكوا مسلك الأولين في ذلك.
وقد جاء في القرآن الكريم والتوراة تحديد عجيب عن أهمية الأسماء منذ التكوين. إذ إن الله سبحانه عندما خلق آدم بدأ أولا بتعليمه الأسماء كلها: أسماء الحيوانات, وأسماء الشجر, وغير ذلك, علما بأن هذه الكائنات قد خلقها رب العالمين قبل خلقه آدم نفسه.
ما هي أهمية تعليم الله لآدم الأسماء كلها, في حين أنه كان يستطيع أن يتركه فيتعلمها بنفسه على أية حال? إن الإشارة إلى (الأسماء كلها) هنا تتصل باللغة. لقد علم الله آدم الأسماء. أما الحيوانات وحتى الملائكة فقد تركها دون تعليم. لماذا? لأنه أراد أن يهب اللغة والقدرة على الكلام للبشر دون سائر الكائنات الأخرى. وإذا كان هدف التسمية هو التمييز بين الأفراد. فإننا نصل إلى أخطر قضية يعالجها هذا المقال, وهي تدور حول الأسماء التقليدية. إن أسماء مثل حسين وحسن ومروان وحتى أحمد ومحمود هي أسماء جميلة, ما في ذلك شك. والاسم (محمد), وهو اسم الرسول الكريم, ينتمي إلى هذه الفئة من الأسماء الساحرة, التي تحمل أكثر من معنى, فهي بالإضافة إلى جمالها الذاتي تحمل شحنات دينية لا يمكن الاستهانة بها أو التغاضي عنها. ولكن هناك مشكلة واحدة, فعندما كان يذكر في مكة اسم (محمد), كان الجميع يعرف من هو المقصود بهذا الاسم, إذ لم يكن في قريش كلها (على حسب ما أعرف) شخص آخر يحمل اسم محمد. ولكن لو وقفت اليوم في ميدان التحرير في القاهرة, وصحت مناديا (محمدا) في جمع هائل من الناس, لما عرف الحاضرون أي محمد تقصد. فالمحمدون كثيرون, وإذا أردت محمدا بعينه, وجب عليك أن تعين هذا (المحمد) بإضافة اسم عائلته أو لقبه أو أي صفة تميزه عن غيره, كأن يكون ابن مدير المدرسة, أو ابن بائع الحلويات وغير ذلك.
إن إطلاق اسم (حسين) على شخص, يساعدنا في تحديد هذا الشخص, ومناداته عند الحاجة, والذين درسوا الرياضيات وخصوصا علم الجبر يدركون, ربما أكثر من غيرهم, أهمية الأسماء: فإذا كنا في مسألة حسابية نبحث عن (عدد الأقلام من النوع الرخيص التي ثمن الواحد منها عشرة قروش) مثلا, والتي نعتبرها مجهولة العدد, فإنه من المريح أن نطلق على هذا العدد اسم (س). وفي كل مرة نتحدث فيها عن (عدد الأقلام.. إلخ) يكفي أن نذكر الرمز (س) وسنعرف, وسيعرف السامع أو القارىء الذي يشاطرنا التفكير عماذا نتحدث. والأهم من ذلك أن رمزا هو (س) يحل هنا محل جملة كاملة (عدد الأقلام..إلخ)
هذا أيضا ما يحدث في الأسماء عندما نقول (حسين) فإننا نقصد شخصا بعينه, ولكن ماذا نفعل إذا كان نصف أولاد العم اسمهم حسين على اسم جدهم? سنقول إنه (حسين ابن المقاول الذي كُسرت رجله في الملعب قبل أسبوعين). لو كان حسين هذا يدعى (غزالا) لعرفنا من هو المقصود دون أن نتطرق لموضوع المقاولين والتكسير الذي يحدث في الملاعب لأن اسم (غزال) هو اسم نادر.
والاسم هو بمثابة مفتاح الشخصية, فأي المفاتيح يا ترى أفضل من غيره? إن المفتاح يكون جيدا إذا كان مفتاحا لباب واحد فقط. كذلك الاسم, فبالإضافة إلى معناه وجرسه الموسيقي والشخصية التراثية التي يحملها, يكون أجود ما يكون, عندما يكون مفتاحا لشخص واحد بعينه.
ويخالف البعض الرأي في عدم ضرورة مطابقة معنى الاسم لمسماه. وقد قرأت في كتاب يدعى (أسماء البنين ومعانيها) للكاتب المصري محمد إبراهيم سليم هذه الفقرة التي تطرق هذا المعنى:
(إن الله سبحانه وتعالى بحكمته يلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها, لتناسب حكمته تعالى بين اللفظ ومعناه, كما تناسب بين الأسباب ومسبباتها).
ويستعين الكاتب برأي باحث قديم وهو أبو الفتح ابن جني الذي يورد هذه الفكرة نفسها شعرا فيقول:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب
إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
ويضيف إبراهيم سليم قائلا: (وشواهد ذلك كثيرة جدا, فقل أن نرى اسما قبيحا إلا وهو على مسمى قبيح, وما سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد إلا لكثرة خصال الحمد فيه. ولهذا كان لواء الحمد بيده, وأمته الحمادون. وهو أعظم الخلق حمدا لربه ـ سبحانه ـ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحسين الأسماء. فإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه وقد يحمله اسمه على فعل ما يناسبه وترك ما يضاده, ولهذا ترى أكثر السفل أسماؤهم تناسبهم).
وإن كنت تخالف مثلي عزيزي القارىء هذا الرأي, (مع تسليمك بكثرة خصال الحمد في الرسول الكريم), فما ذلك إلا لأنك تعرف (جميلا) وهو أبعد ما يكون عن الجمال (الداخلي, والخارجي) وإن كان هناك أيضا (جميلون) يتمتعون فعلا بالجمال بكل معنى الكلمة.
ومما وصلنا من الأسماء في عهد العروبة الأول, يتبين لنا أن الشخص كان يكنى باسمه متبوعا باسم أبيه تفصل بين الاسمين كلمة (بن), مثل محمد بن عبدالله, وهو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم, ومعاوية بن أبي سفيان, وعلي بن أبي طالب, وغير ذلك من الأسماء. حتى القائد الأموي الذي لم يعرف من هو أبوه على وجه التحديد سمي (زياد بن أبيه).
ويبدو الأمر غريبا إلى حد ما. فلماذا ينبغي إضافة كلمة (بن) بين الاسمين الأول والثاني مع أنه كان يمكن حذفها, والاكتفاء بالفهم الضمني لمعناها (كما يحدث اليوم)? إذ ما الفرق في أن يقال عمر بن الخطاب, أو عمر الخطاب? هل يعود ذلك إلى اهتمام العرب بأنسابهم ودقتهم الشديدة في تحديد هذا النسب? أو هل يعود ذلك إلى اهتمامهم بموسيقى اللغة, مادام الوزن الموسيقي لـ (محمد بن عبدالله) أجمل كثيرا من (محمد عبدالله).
والعرب اليوم لا تستعمل هذه الطريقة الموسيقية في الأسماء فهم يقولون (أنور السادات) مثلا, وليس (أنور بن السادات), والحقيقة أن أنور ليس هو ابن السادات. ويبدو أن (السادات) هو اسم العائلة فقط. ونحن نستعمل طريقة التسمية التي ترتكز أساسا على الاسم الشخصي الأول متبوعا باسم العائلة.
والحق أن استغناء العرب عن كلمة (بن) في عصور متأخرة قد أوقعهم في بعض المشاكل, فعندما نقول (محمد كامل) لا نعرف إن كان (كامل) هو اسم الأب أو اسم العائلة, أو ربما صفة لحقت بالاسم كما نقول مثلا (خالد الأعور).
وثمة ظاهرة أخرى غير قائمة إلا في اللغة العربية, وهي إضافة ال التعريف إلى الاسم, والمعروف أن ال التعريف أو ما يقابلها في اللغات الأخرى إنما تجيء لتعريف النكرات, وليس لتعريف الأسماء التي هي معرفة بحد ذاتها.
ويبدو أن ما حدث هو أن العرب أدخلوا ال التعريف أولا على الصفات الملحقة بالأسماء كقولهم (يوسف الصديق), عندما يكون الصديق هو صفة. ولكن وبما أنه جرى خلط بين الصفات والأسماء, فإنهم صاروا يدخلون ال التعريف على الأسماء نفسها, فصار يقال (خالد المحمد) وما محمد هنا صفة, ولكن هو اسم الأب. وقد استطيب العرب هذا الاستعمال وتفننوا فيه, خصوصا عند تغليبهم اللقب على الاسم, حتى تصير الصفة هي الاسم كقولهم (المعتصم بحبل الله) وهو الخليفة العباسي المعروف اختصارا بـ (المعتصم), وقس على ذلك (المتوكل), وهو (المتوكل على الله), و(الحاكم) وهو (الحاكم بأمر الله), و(المقتدر) وهو (المقتدر بالله).
وقد استمر هذا الاتجاه في الخروج عن النمط الأساسي للتسمية والأسماء في العهد التركي. وعلى الرغم من أن الأتراك في الدول العربية حاولوا تتريك كل شيء, فإنهم أغرموا بالأسماء العربية. فجعلوا الاسم مؤلفا من شقين: الشق الأول اسم والشق الثاني صفة تحسبها اسم الأب وما هي كذلك: فقالوا (علي لبيب) مثلا, أو (محمود زكي), وهم يقصدون (عليا) الذي صفته لبيب. ومحمودا الذي صفته زكي, وقد يكون الاثنان علي لبيب ومحمود زكي أخوين, ولا تعرف ذلك من اسميهما. كذلك فإن الأسماء مثل (فهمي), و(رشدي), و(حلمي), و(مجدي) وأشباهها, كلها أسماء عربية عملت فيها المعاول والأزاميل التركية عملها, فهنا قد أضافوا للمصدر (مجد) ياء, حتى حصلوا على (مجدي), ومثل ذلك فعلوا بـ (رشدي) وبباقي الأسماء التي على هذه الشاكلة.
أما اليوم فإن العرب يعملون بالطريقة الغربية في التسمية, وهو ما يسمى الاسم الثلاثي: والذي يتألف من الاسم الشخصي, متبوعا باسم الأب ثم اسم العائلة. فمثلا: (سعيد جمال نصار) هو سعيد بن جمال من عائلة نصار. وحين الاختصار يقال سعيد نصار, فيكتفى باسم الشخص واسم عائلته.
وقد استغرب الفلسطينيون منذ الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم سنة 1948 أن هؤلاء يعكسون الأسماء, فيجعلون اسم العائلة سابقة على الاسم الشخصي, فيقولون (نصار سعيد), بدلا من (سعيد نصار). وكثيرا ما ينادون الشخص باسم عائلته فيقولون (نصار) حين يدور الحديث عن سعيد نصار. ولكأنما اسم العائلة أهم عندهم من الاسم الشخصي أو كأنما اسم العائلة هو الأصل, والاسم الشخصي هو الفرع, وليس الأمر كذلك في العربية حيث إن الاسم الشخصي هو الأصل والكنية واللقب كلاهما سابقان على اسم العائلة. وثمة بدعة أخرى جاء بها الإسرائيليون وهي تسجيل المرأة باسم عائلة زوجها وليس باسم عائلتها هي. وهو أمر لم يكن متبعا في فلسطين, وليس متبعا الآن (على ما أظن) في الدول العربية.
أما عن أحب الأسماء, ففي حديث شريف, روي عن أبي داود: (إن أحب أسمائكم إلى الله عبدالله وعبدالرحمن). كذلك يحض الرسول على انتقاء الأسماء الجميلة عند اختيار الأسماء للمواليد الجدد وهو يقول: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم, فاحسنوا أسماءكم). وفي حديث ثالث في هذا الموضوع ما ذكره البخاري في تاريخه قال: (حدثني عبدالله بن جراد قال: صحبني رجل من مزينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه فقال: يا رسول الله: ولد لي مولود, فما خير الأسماء? قال: (إن خير أسمائكم (الحارث), و(همام), ونعم الاسم (عبدالله), و(عبدالرحمن), وتسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة, قال وباسمك? قال: وباسمي ولا تكنوا بكنيتي).
وفي الأرياف العربية كان يجري قديما تغيير أسماء المولودين بعد شهور أو حتى سنين من ولادتهم. وكان يوصى بذلك المنجم الذي كان يقرر, أن الاسم الذي أعطي للولد لا يناسبه ولا يناسب طالعه, ولذلك وجب تغييره.
طرائف حول الأسماء
إن أكثر ما يميز الأسماء العربية كونها أسماء تحمل معاني, وكلنا يعرف ما الذي يعنيه اسم مثل (حسن) أو (عدنان) أو (كليب). وهذه ميزة تميز الأسماء العربية عن الأسماء الإنجليزية مثلا, التي يبدو أن معظمها أسماء جلمودية ليس لها معنى محدد. من هنا يكرر أساتذة اللغة الإنجليزية لتلاميذهم أن أسماء الأشخاص في الإنجليزية لا تفسر بعكس العربية, كما رأينا. فـ (علي) من العلاء والرفعة, و(حسين) هو تصغير (حسن) من الجمال والحسن. و(فؤاد) هو القلب, و(راغد) هو ذو العيش الرغيد. و(رأفت) من الرأفة والرحمة. وعندما كنت بصدد كتابة هذا المقال, بحثت في قاموس اللغة الإنجليزية عن معنى جائز لاسم (كلينتون) فلم أجد, ولم تسعفني معرفتي باللغة الإنجليزية في تحديد معان لأسماء مثل (روجر) أو (كريستوفر), أو غير ذلك من الأسماء. وقد قيل إن الشاعر العربي ابن الرومي كان شديد التشاؤم, وكان أصدقاؤه يعرفون هذه الصفة فيه. ويقال إنهم أرسلوا له مرة خادما اسمه (حسن) لكي يتفاءل به, فإذا ابن الرومي يطرد الخادم, لأنه رأى في اسمه كلمة (نحس). وعندما يتلاءم الاسم مع الشخص الذي يحمله يقول العرب (اسم على مسمى). فإذا وصفوا امرأة تدعى (بدرا) مثلا, وكانت هي جميلة جمالا ملحوظا, قالوا عنها إنها (اسم على مسمى). ومن الطريف أن الأديب والناقد اللبناني المسيحي الماروني (مارون عبود) قد سمى أحد أبنائه باسم محمد, وهو اسم لا يسمي به المسيحيون أبناءهم, فقامت قيامة الطائفة المارونية في لبنان. أما أديبنا مارون فقد علل التسمية بأن (محمدا) هو شخصية عربية, بل أهم شخصية عربية في التاريخ على الإطلاق, وأنه خليق بالعربي حتى لو كان مارونيا, ألا يتحرج من أن يتسمى (محمدا) أو يطلقه على أحد أبنائه.
من صاحب الحق بالتسمية؟
وواجب الأبوين وحقهما أن يسميا ابنهما الاسم الذي يريدان. وحق الطفل المولود أن يدعى باسم أيضا, وهذا جاء في وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الطفل. والأبوان يسميان ابنهما بالاتفاق والتراضي, ولكن إذا اختلف الأبوان في التسمية, فأراد الأب أن يسمى ابنه (عنترة) وأرادت الأم أن تسميه (زيدا) مثلا, فإن حق التسمية يكون للأب. وكلمته هي النافذة في مثل هذه الحال. والسبب في ذلك بسيط: فما دام الولد يدعى باسم أبيه, وليس باسم أمه, فيقال خالد هو ابن صفوان, وليس خالد ابن زينب مثلا, والابن يتبع أباه في النسب, فمن الأجدى أن تطلق يد الأب في تسمية ابنه, مادام الأمر يخصه أكثر مما يخص أمه.
مايو 1997
.
لقد حدث تطور عظيـم في الأسمـاء التي يطلقها الأهـل على أبنائهـم وبناتهم, في الخمسين سنة الأخيرة على وجـه التحديد. وكأنما الأسماء نفسها تخضع لقانون الحياة في التغيير والتبديل.
وحقيقة كون التحديث الذي جرى في أسماء البنات أكثر تطرفا من أسماء الفتيان هو بنفسه أمر يدعو إلى التفكير, وذلك يعود إلى أن الأولاد الذكور عادة ما يمثلون بالنسبة للعائلة العربية الامتداد الطبيعي لآبائهم وأجدادهم, فهم حاملو تراث السلف. ولذلك فمن الطبيعي أن يتسموا بأسماء الآباء والجدود, في حين أن الفتيات لا يلعبن هذا الدور (الخطير) الذي يلعبه الفتيان. ولذلك تجد الناس يتفننون كل التفنن في تسمية بناتهم. فإذا جاء الدور على الأولاد اتبعوا الحيطة والحذر, وسلكوا مسلك الأولين في ذلك.
وقد جاء في القرآن الكريم والتوراة تحديد عجيب عن أهمية الأسماء منذ التكوين. إذ إن الله سبحانه عندما خلق آدم بدأ أولا بتعليمه الأسماء كلها: أسماء الحيوانات, وأسماء الشجر, وغير ذلك, علما بأن هذه الكائنات قد خلقها رب العالمين قبل خلقه آدم نفسه.
ما هي أهمية تعليم الله لآدم الأسماء كلها, في حين أنه كان يستطيع أن يتركه فيتعلمها بنفسه على أية حال? إن الإشارة إلى (الأسماء كلها) هنا تتصل باللغة. لقد علم الله آدم الأسماء. أما الحيوانات وحتى الملائكة فقد تركها دون تعليم. لماذا? لأنه أراد أن يهب اللغة والقدرة على الكلام للبشر دون سائر الكائنات الأخرى. وإذا كان هدف التسمية هو التمييز بين الأفراد. فإننا نصل إلى أخطر قضية يعالجها هذا المقال, وهي تدور حول الأسماء التقليدية. إن أسماء مثل حسين وحسن ومروان وحتى أحمد ومحمود هي أسماء جميلة, ما في ذلك شك. والاسم (محمد), وهو اسم الرسول الكريم, ينتمي إلى هذه الفئة من الأسماء الساحرة, التي تحمل أكثر من معنى, فهي بالإضافة إلى جمالها الذاتي تحمل شحنات دينية لا يمكن الاستهانة بها أو التغاضي عنها. ولكن هناك مشكلة واحدة, فعندما كان يذكر في مكة اسم (محمد), كان الجميع يعرف من هو المقصود بهذا الاسم, إذ لم يكن في قريش كلها (على حسب ما أعرف) شخص آخر يحمل اسم محمد. ولكن لو وقفت اليوم في ميدان التحرير في القاهرة, وصحت مناديا (محمدا) في جمع هائل من الناس, لما عرف الحاضرون أي محمد تقصد. فالمحمدون كثيرون, وإذا أردت محمدا بعينه, وجب عليك أن تعين هذا (المحمد) بإضافة اسم عائلته أو لقبه أو أي صفة تميزه عن غيره, كأن يكون ابن مدير المدرسة, أو ابن بائع الحلويات وغير ذلك.
إن إطلاق اسم (حسين) على شخص, يساعدنا في تحديد هذا الشخص, ومناداته عند الحاجة, والذين درسوا الرياضيات وخصوصا علم الجبر يدركون, ربما أكثر من غيرهم, أهمية الأسماء: فإذا كنا في مسألة حسابية نبحث عن (عدد الأقلام من النوع الرخيص التي ثمن الواحد منها عشرة قروش) مثلا, والتي نعتبرها مجهولة العدد, فإنه من المريح أن نطلق على هذا العدد اسم (س). وفي كل مرة نتحدث فيها عن (عدد الأقلام.. إلخ) يكفي أن نذكر الرمز (س) وسنعرف, وسيعرف السامع أو القارىء الذي يشاطرنا التفكير عماذا نتحدث. والأهم من ذلك أن رمزا هو (س) يحل هنا محل جملة كاملة (عدد الأقلام..إلخ)
هذا أيضا ما يحدث في الأسماء عندما نقول (حسين) فإننا نقصد شخصا بعينه, ولكن ماذا نفعل إذا كان نصف أولاد العم اسمهم حسين على اسم جدهم? سنقول إنه (حسين ابن المقاول الذي كُسرت رجله في الملعب قبل أسبوعين). لو كان حسين هذا يدعى (غزالا) لعرفنا من هو المقصود دون أن نتطرق لموضوع المقاولين والتكسير الذي يحدث في الملاعب لأن اسم (غزال) هو اسم نادر.
والاسم هو بمثابة مفتاح الشخصية, فأي المفاتيح يا ترى أفضل من غيره? إن المفتاح يكون جيدا إذا كان مفتاحا لباب واحد فقط. كذلك الاسم, فبالإضافة إلى معناه وجرسه الموسيقي والشخصية التراثية التي يحملها, يكون أجود ما يكون, عندما يكون مفتاحا لشخص واحد بعينه.
ويخالف البعض الرأي في عدم ضرورة مطابقة معنى الاسم لمسماه. وقد قرأت في كتاب يدعى (أسماء البنين ومعانيها) للكاتب المصري محمد إبراهيم سليم هذه الفقرة التي تطرق هذا المعنى:
(إن الله سبحانه وتعالى بحكمته يلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها, لتناسب حكمته تعالى بين اللفظ ومعناه, كما تناسب بين الأسباب ومسبباتها).
ويستعين الكاتب برأي باحث قديم وهو أبو الفتح ابن جني الذي يورد هذه الفكرة نفسها شعرا فيقول:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب
إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
ويضيف إبراهيم سليم قائلا: (وشواهد ذلك كثيرة جدا, فقل أن نرى اسما قبيحا إلا وهو على مسمى قبيح, وما سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد إلا لكثرة خصال الحمد فيه. ولهذا كان لواء الحمد بيده, وأمته الحمادون. وهو أعظم الخلق حمدا لربه ـ سبحانه ـ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحسين الأسماء. فإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه وقد يحمله اسمه على فعل ما يناسبه وترك ما يضاده, ولهذا ترى أكثر السفل أسماؤهم تناسبهم).
وإن كنت تخالف مثلي عزيزي القارىء هذا الرأي, (مع تسليمك بكثرة خصال الحمد في الرسول الكريم), فما ذلك إلا لأنك تعرف (جميلا) وهو أبعد ما يكون عن الجمال (الداخلي, والخارجي) وإن كان هناك أيضا (جميلون) يتمتعون فعلا بالجمال بكل معنى الكلمة.
ومما وصلنا من الأسماء في عهد العروبة الأول, يتبين لنا أن الشخص كان يكنى باسمه متبوعا باسم أبيه تفصل بين الاسمين كلمة (بن), مثل محمد بن عبدالله, وهو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم, ومعاوية بن أبي سفيان, وعلي بن أبي طالب, وغير ذلك من الأسماء. حتى القائد الأموي الذي لم يعرف من هو أبوه على وجه التحديد سمي (زياد بن أبيه).
ويبدو الأمر غريبا إلى حد ما. فلماذا ينبغي إضافة كلمة (بن) بين الاسمين الأول والثاني مع أنه كان يمكن حذفها, والاكتفاء بالفهم الضمني لمعناها (كما يحدث اليوم)? إذ ما الفرق في أن يقال عمر بن الخطاب, أو عمر الخطاب? هل يعود ذلك إلى اهتمام العرب بأنسابهم ودقتهم الشديدة في تحديد هذا النسب? أو هل يعود ذلك إلى اهتمامهم بموسيقى اللغة, مادام الوزن الموسيقي لـ (محمد بن عبدالله) أجمل كثيرا من (محمد عبدالله).
والعرب اليوم لا تستعمل هذه الطريقة الموسيقية في الأسماء فهم يقولون (أنور السادات) مثلا, وليس (أنور بن السادات), والحقيقة أن أنور ليس هو ابن السادات. ويبدو أن (السادات) هو اسم العائلة فقط. ونحن نستعمل طريقة التسمية التي ترتكز أساسا على الاسم الشخصي الأول متبوعا باسم العائلة.
والحق أن استغناء العرب عن كلمة (بن) في عصور متأخرة قد أوقعهم في بعض المشاكل, فعندما نقول (محمد كامل) لا نعرف إن كان (كامل) هو اسم الأب أو اسم العائلة, أو ربما صفة لحقت بالاسم كما نقول مثلا (خالد الأعور).
وثمة ظاهرة أخرى غير قائمة إلا في اللغة العربية, وهي إضافة ال التعريف إلى الاسم, والمعروف أن ال التعريف أو ما يقابلها في اللغات الأخرى إنما تجيء لتعريف النكرات, وليس لتعريف الأسماء التي هي معرفة بحد ذاتها.
ويبدو أن ما حدث هو أن العرب أدخلوا ال التعريف أولا على الصفات الملحقة بالأسماء كقولهم (يوسف الصديق), عندما يكون الصديق هو صفة. ولكن وبما أنه جرى خلط بين الصفات والأسماء, فإنهم صاروا يدخلون ال التعريف على الأسماء نفسها, فصار يقال (خالد المحمد) وما محمد هنا صفة, ولكن هو اسم الأب. وقد استطيب العرب هذا الاستعمال وتفننوا فيه, خصوصا عند تغليبهم اللقب على الاسم, حتى تصير الصفة هي الاسم كقولهم (المعتصم بحبل الله) وهو الخليفة العباسي المعروف اختصارا بـ (المعتصم), وقس على ذلك (المتوكل), وهو (المتوكل على الله), و(الحاكم) وهو (الحاكم بأمر الله), و(المقتدر) وهو (المقتدر بالله).
وقد استمر هذا الاتجاه في الخروج عن النمط الأساسي للتسمية والأسماء في العهد التركي. وعلى الرغم من أن الأتراك في الدول العربية حاولوا تتريك كل شيء, فإنهم أغرموا بالأسماء العربية. فجعلوا الاسم مؤلفا من شقين: الشق الأول اسم والشق الثاني صفة تحسبها اسم الأب وما هي كذلك: فقالوا (علي لبيب) مثلا, أو (محمود زكي), وهم يقصدون (عليا) الذي صفته لبيب. ومحمودا الذي صفته زكي, وقد يكون الاثنان علي لبيب ومحمود زكي أخوين, ولا تعرف ذلك من اسميهما. كذلك فإن الأسماء مثل (فهمي), و(رشدي), و(حلمي), و(مجدي) وأشباهها, كلها أسماء عربية عملت فيها المعاول والأزاميل التركية عملها, فهنا قد أضافوا للمصدر (مجد) ياء, حتى حصلوا على (مجدي), ومثل ذلك فعلوا بـ (رشدي) وبباقي الأسماء التي على هذه الشاكلة.
أما اليوم فإن العرب يعملون بالطريقة الغربية في التسمية, وهو ما يسمى الاسم الثلاثي: والذي يتألف من الاسم الشخصي, متبوعا باسم الأب ثم اسم العائلة. فمثلا: (سعيد جمال نصار) هو سعيد بن جمال من عائلة نصار. وحين الاختصار يقال سعيد نصار, فيكتفى باسم الشخص واسم عائلته.
وقد استغرب الفلسطينيون منذ الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم سنة 1948 أن هؤلاء يعكسون الأسماء, فيجعلون اسم العائلة سابقة على الاسم الشخصي, فيقولون (نصار سعيد), بدلا من (سعيد نصار). وكثيرا ما ينادون الشخص باسم عائلته فيقولون (نصار) حين يدور الحديث عن سعيد نصار. ولكأنما اسم العائلة أهم عندهم من الاسم الشخصي أو كأنما اسم العائلة هو الأصل, والاسم الشخصي هو الفرع, وليس الأمر كذلك في العربية حيث إن الاسم الشخصي هو الأصل والكنية واللقب كلاهما سابقان على اسم العائلة. وثمة بدعة أخرى جاء بها الإسرائيليون وهي تسجيل المرأة باسم عائلة زوجها وليس باسم عائلتها هي. وهو أمر لم يكن متبعا في فلسطين, وليس متبعا الآن (على ما أظن) في الدول العربية.
أما عن أحب الأسماء, ففي حديث شريف, روي عن أبي داود: (إن أحب أسمائكم إلى الله عبدالله وعبدالرحمن). كذلك يحض الرسول على انتقاء الأسماء الجميلة عند اختيار الأسماء للمواليد الجدد وهو يقول: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم, فاحسنوا أسماءكم). وفي حديث ثالث في هذا الموضوع ما ذكره البخاري في تاريخه قال: (حدثني عبدالله بن جراد قال: صحبني رجل من مزينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه فقال: يا رسول الله: ولد لي مولود, فما خير الأسماء? قال: (إن خير أسمائكم (الحارث), و(همام), ونعم الاسم (عبدالله), و(عبدالرحمن), وتسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة, قال وباسمك? قال: وباسمي ولا تكنوا بكنيتي).
وفي الأرياف العربية كان يجري قديما تغيير أسماء المولودين بعد شهور أو حتى سنين من ولادتهم. وكان يوصى بذلك المنجم الذي كان يقرر, أن الاسم الذي أعطي للولد لا يناسبه ولا يناسب طالعه, ولذلك وجب تغييره.
طرائف حول الأسماء
إن أكثر ما يميز الأسماء العربية كونها أسماء تحمل معاني, وكلنا يعرف ما الذي يعنيه اسم مثل (حسن) أو (عدنان) أو (كليب). وهذه ميزة تميز الأسماء العربية عن الأسماء الإنجليزية مثلا, التي يبدو أن معظمها أسماء جلمودية ليس لها معنى محدد. من هنا يكرر أساتذة اللغة الإنجليزية لتلاميذهم أن أسماء الأشخاص في الإنجليزية لا تفسر بعكس العربية, كما رأينا. فـ (علي) من العلاء والرفعة, و(حسين) هو تصغير (حسن) من الجمال والحسن. و(فؤاد) هو القلب, و(راغد) هو ذو العيش الرغيد. و(رأفت) من الرأفة والرحمة. وعندما كنت بصدد كتابة هذا المقال, بحثت في قاموس اللغة الإنجليزية عن معنى جائز لاسم (كلينتون) فلم أجد, ولم تسعفني معرفتي باللغة الإنجليزية في تحديد معان لأسماء مثل (روجر) أو (كريستوفر), أو غير ذلك من الأسماء. وقد قيل إن الشاعر العربي ابن الرومي كان شديد التشاؤم, وكان أصدقاؤه يعرفون هذه الصفة فيه. ويقال إنهم أرسلوا له مرة خادما اسمه (حسن) لكي يتفاءل به, فإذا ابن الرومي يطرد الخادم, لأنه رأى في اسمه كلمة (نحس). وعندما يتلاءم الاسم مع الشخص الذي يحمله يقول العرب (اسم على مسمى). فإذا وصفوا امرأة تدعى (بدرا) مثلا, وكانت هي جميلة جمالا ملحوظا, قالوا عنها إنها (اسم على مسمى). ومن الطريف أن الأديب والناقد اللبناني المسيحي الماروني (مارون عبود) قد سمى أحد أبنائه باسم محمد, وهو اسم لا يسمي به المسيحيون أبناءهم, فقامت قيامة الطائفة المارونية في لبنان. أما أديبنا مارون فقد علل التسمية بأن (محمدا) هو شخصية عربية, بل أهم شخصية عربية في التاريخ على الإطلاق, وأنه خليق بالعربي حتى لو كان مارونيا, ألا يتحرج من أن يتسمى (محمدا) أو يطلقه على أحد أبنائه.
من صاحب الحق بالتسمية؟
وواجب الأبوين وحقهما أن يسميا ابنهما الاسم الذي يريدان. وحق الطفل المولود أن يدعى باسم أيضا, وهذا جاء في وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الطفل. والأبوان يسميان ابنهما بالاتفاق والتراضي, ولكن إذا اختلف الأبوان في التسمية, فأراد الأب أن يسمى ابنه (عنترة) وأرادت الأم أن تسميه (زيدا) مثلا, فإن حق التسمية يكون للأب. وكلمته هي النافذة في مثل هذه الحال. والسبب في ذلك بسيط: فما دام الولد يدعى باسم أبيه, وليس باسم أمه, فيقال خالد هو ابن صفوان, وليس خالد ابن زينب مثلا, والابن يتبع أباه في النسب, فمن الأجدى أن تطلق يد الأب في تسمية ابنه, مادام الأمر يخصه أكثر مما يخص أمه.
مايو 1997
.