"هناك دوماً أمل" عبارة يتكرر سماعها طوال الوقت، وبالرغم من عدم تصديقنا لها في أغلب الأحيان، لكن هناك دوماً بداخلنا ينبئنا أن الحياة يمكن أن تعطينا فرصة ثانية لرأب الصدع الذي حدث بها من جراء أحداث قد يكون لنا دخلاً فيها، أو قد تكون جزء مما هو مقدر لنا. ومن أكثر الحوادث إيلاماً هي فقدان الرؤية، أو فقدان الحركة عن طريق الشلل مثلاً، أو حدوث قصور دماغي من جراء التعرض لحادث ما؛ وتلك الإصابات قد لا يكون هناك أمل في شفاءها أبداً. لكن العلم الحديث له رأي آخر. فالدراسات المستفيضة على الجهاز العصبي التي بدأت منذ خمسينات القرن الماضي فيما يبدوا أنها أثمرت، وقطوفها قد دانت للبشرية.
فأمل أباطرة الطب النفسي والأعصاب هو تعقب والتحكم فيما يحدث في الدماغ، لسبر أغواره واكتشاف المزيد عما يدور به، وكيفية حدوثه. ومن ثم كانت الأبحاث المكثفة على الخلايا العصبية الدماغية، ومحاولة تخليق عقول بديلة من خلال استحداث خلايا عصبية ألكترونية تضاهي وظائفها الخلايا العصبية البيولوجية. وبعد أبحاث مكثفة من متخصصين في هذا المجال لخدمة أغراض مختلفة، لم يصدق الدكتور ميجيل نيكوليليس Miguel Nicholelis نفسه عندما رأي الجهاز الذي اخترعه واسماه "واجهة الدماغ" يعمل بكفاءة، ويحقق له نموذج مصغر للعقل البشري كما كان يتمنى. أما الجديد في هذا العقل، أنه عقل خارق؛ ينجز الأمور بمجرد التفكير فيها. ومن الجدير بالذكر أن دكتور نيكوليليس هو أستاذ علم الأعصاب بجامعة ديوك Duke University بالولايات المتحدة الأمريكية، ومتخصص في علم الأعصاب، والهندسة الطبية الحيوية، وعلم النفس، وعلم الأعصاب، ومؤسس مركز ديوك للهندسة العصبية. وسجلت التجربة نجاحها عندما استطاع فأر التجارب من كبس رافعة صنبور المياه باستخدام التفكير فقط، وكان ذلك عام 1999. ونجاح التجربة كان إشارة البدء لاستخدامها منذ ذلك الحين - على نحو تجريبي - في عيادات تأهيل المرضى الذين تعرضوا لحوادث أقعدتهم، دون اللجوء لبتر عضو أو زراعة أجهزة تعويضية. ومن ثم، يتمكن المريض من إنجاز أي مهمة بمجرد التفكير فيها فقط؛ بعد إرتداء قبعة تطلق موجات دماغية عصبية. وعلى هذا، يستطيع المريض المشي مرة أخرى من خلال التفكير في العملية بنسبة 10% ، وترك الجهاز ليتم الحركة عند تولي نسبة 90% من عملية الإقدام على المشي؛ ليتم إنجاز المهمة بشكل أسرع. وأهمية هذا الاختراع تكمن في إمكانية القضاء على وجود معاقين في الزمن المقبل؛ لأن لكل شخص الحق في أن ينال فرصة ثانية ويصير معافى، حتى لدرجة تفوق ما كان عليه في الماضي؛ فاستخدام هذه التقنية على البشر العادي كفيل بتحويله إلى أحد الخوارق الذين يظهرون على شاشات السينما.
وكما تعطينا الحياة أكثر ما نتمناه، فإنها أيضاً تأخذ أفضل ما لدينا، لقد تعلم البشر هذا الدرس المرير على مر العصور. فبالرغم من أن هذا المشروع الرائع يسعى إلى تحقيق الخير للبشرية، وكذلك بالرغم من أن مخترعه يحاول جاهداً ألا يمس بحزمة القوانين الأخلاقية المتعارف عليها - لأن أي خرق لها يفرغ هذا المشروع من محتواه النبيل - إلا أن القلق والشكوك الجسام كانت من نصيب دكتور ميجيل نيكوليليس. فهناك العديد من جهات التمويل المشبوهة، وعلى رأسها "داربا" DARPA تسعى لتمويل هذا المشروع لتزود من نطاق الأبحاث التي تسارع من تطبيقه على نطاق أوسع، علماً بأن جهة التمويل تلك قد مولت العديد من المشروعات التي تم استخدامها في أغراض حربية شائنة، وبالتأكيد بعد التمويل لن يكون المشروع بمنأى عن ذلك. فمن خلال استخدام واجهة الدماغ، يمكن للفرد القعيد، أو المشلول شللاً رباعياً أن يركل كرة قدم في مسابقة ساحة كأس العالم بمجرد تفكيره في تحديد مسار الكرة.
وهذا القلق في محله، فمنذ منتصف القرن الماضي هناك تجارب مكثفة على الجهاز العصبي البشري تسعى إلى تحويله لسلاح بيولوجي قاهر، ولقد عبرت السينما والدراما الأمريكية عن هذا بشكل أو بآخر عند تصوير بشر عادي قد تحول لخوارق من خلال التلاعب بالخلايا العصبية؛ ومن أبرز الأمثلة كانت الحلقات التليفزيونية "الرجل الأخضر"، التي تحولت لسلسلة أفلام سينمائية تحمل نفس الاسم. ومن الملاحظ أن تطوير الأسلحة العصبية صار أمراً مفروغ منه، حيث يتم جنباً إلى جنب مع التطبيقات السريرية لأبحاث تقنيات الدماغ. الأمر الخطير هو عدم معرفة ماهية هذا النوع من الأسلحة، ومتى وفي أي شكل سوف يظهر، ومن المتحكم فيه. فالاكتشافات الهائلة يتم تحويلها تباعاً إلى كوابيس تهدد البشرية، وتضعها على حافة الخطر؛ من أجل تحقيق رغبات تسعى إلى السيطرة على البشرية من خلال تحويل كل أمل جديد إلى سلاح دمار.
المثير للعجب أنه بالرغم من التحذيرات المتتابعة من خطر تحويل التكنولوجيات البيولوجية لأسلحة، إلا أن السياسيين والقادة لا يحركون ساكناً لتنظيم القواعد الأخلاقية للاكتشافات الجديدة. ولقد عهد العالم كل خمس سنوات انعقاد مؤتمراً دولياً رفيع المستوى لمناقشة أهم الاكتشافات التكنولوجية التي يمكن تحويلها وبكل سهولة إلى أسلحة. فالموقف العام غير مفهوم، فهل هناك اعتقاد سائد أن القفزات التكنولوجية يجب أن تكون بعيدة عن سيطرة القانون والسياسة والأخلاق؟ أم أن السياسيون لا يدركون مدى خطورة مثل تلك الأسلحة التي لسوف تتحول في القريب العاجل إلى أسلحة بشرية؟ فما يلمسه البشر حالياً هو عدم المساس بحرية تفكير العلماء، أو بالأحرى بحرية الجهات الممولة لمشروعات قد تهدد البشرية. وأما الساسة والجهات الواضعة للقوانين - الساعون دوماً لدس أنوفهم في جميع شئون البشر- عند التعرض للتجارب المشبوهة يدهشون العالم بتبنيهم موقف المتفاعل مع نتائج الأحداث، وليس موقف من يتخذ الإجراءات الاستباقية. ولقد سمى علماء الأخلاق ذلك الموقف الغير مبرر ب"معضلة كولينجريدج" Collingridge Dilemma نسبة إلى الكاتب ديفيد كولينجريدج David Collingridge الذي ناقش في كتابه " التحكم الاجتماعي للتكنولوجيا" The Social Control of Technology، الصادر عام 1980، مسألة صعوبة التنبؤ بالتأثير المحتمل لتكنولوجيا جديدة، وبالتالي استحالة وضع قوانين استباقية لدرء آثارها المناوئة.
لقد تحولت حياة البشر في خضم التقدم الهائل إلى فيلم خيال علمي يصور كابوس يهدد الخير الذي ينتظر البشرية من جراء القفزات التكنولوجية السعية لنقل الإنسان لحياة أفضل. ومن أكثر الأشياء إيلاماً هو الوصول لطريقة لتدمير آخر حصن حصين للبشرية، ألا وهو: الدماغ.
* نشر في جريدة القدس العربي
فأمل أباطرة الطب النفسي والأعصاب هو تعقب والتحكم فيما يحدث في الدماغ، لسبر أغواره واكتشاف المزيد عما يدور به، وكيفية حدوثه. ومن ثم كانت الأبحاث المكثفة على الخلايا العصبية الدماغية، ومحاولة تخليق عقول بديلة من خلال استحداث خلايا عصبية ألكترونية تضاهي وظائفها الخلايا العصبية البيولوجية. وبعد أبحاث مكثفة من متخصصين في هذا المجال لخدمة أغراض مختلفة، لم يصدق الدكتور ميجيل نيكوليليس Miguel Nicholelis نفسه عندما رأي الجهاز الذي اخترعه واسماه "واجهة الدماغ" يعمل بكفاءة، ويحقق له نموذج مصغر للعقل البشري كما كان يتمنى. أما الجديد في هذا العقل، أنه عقل خارق؛ ينجز الأمور بمجرد التفكير فيها. ومن الجدير بالذكر أن دكتور نيكوليليس هو أستاذ علم الأعصاب بجامعة ديوك Duke University بالولايات المتحدة الأمريكية، ومتخصص في علم الأعصاب، والهندسة الطبية الحيوية، وعلم النفس، وعلم الأعصاب، ومؤسس مركز ديوك للهندسة العصبية. وسجلت التجربة نجاحها عندما استطاع فأر التجارب من كبس رافعة صنبور المياه باستخدام التفكير فقط، وكان ذلك عام 1999. ونجاح التجربة كان إشارة البدء لاستخدامها منذ ذلك الحين - على نحو تجريبي - في عيادات تأهيل المرضى الذين تعرضوا لحوادث أقعدتهم، دون اللجوء لبتر عضو أو زراعة أجهزة تعويضية. ومن ثم، يتمكن المريض من إنجاز أي مهمة بمجرد التفكير فيها فقط؛ بعد إرتداء قبعة تطلق موجات دماغية عصبية. وعلى هذا، يستطيع المريض المشي مرة أخرى من خلال التفكير في العملية بنسبة 10% ، وترك الجهاز ليتم الحركة عند تولي نسبة 90% من عملية الإقدام على المشي؛ ليتم إنجاز المهمة بشكل أسرع. وأهمية هذا الاختراع تكمن في إمكانية القضاء على وجود معاقين في الزمن المقبل؛ لأن لكل شخص الحق في أن ينال فرصة ثانية ويصير معافى، حتى لدرجة تفوق ما كان عليه في الماضي؛ فاستخدام هذه التقنية على البشر العادي كفيل بتحويله إلى أحد الخوارق الذين يظهرون على شاشات السينما.
وكما تعطينا الحياة أكثر ما نتمناه، فإنها أيضاً تأخذ أفضل ما لدينا، لقد تعلم البشر هذا الدرس المرير على مر العصور. فبالرغم من أن هذا المشروع الرائع يسعى إلى تحقيق الخير للبشرية، وكذلك بالرغم من أن مخترعه يحاول جاهداً ألا يمس بحزمة القوانين الأخلاقية المتعارف عليها - لأن أي خرق لها يفرغ هذا المشروع من محتواه النبيل - إلا أن القلق والشكوك الجسام كانت من نصيب دكتور ميجيل نيكوليليس. فهناك العديد من جهات التمويل المشبوهة، وعلى رأسها "داربا" DARPA تسعى لتمويل هذا المشروع لتزود من نطاق الأبحاث التي تسارع من تطبيقه على نطاق أوسع، علماً بأن جهة التمويل تلك قد مولت العديد من المشروعات التي تم استخدامها في أغراض حربية شائنة، وبالتأكيد بعد التمويل لن يكون المشروع بمنأى عن ذلك. فمن خلال استخدام واجهة الدماغ، يمكن للفرد القعيد، أو المشلول شللاً رباعياً أن يركل كرة قدم في مسابقة ساحة كأس العالم بمجرد تفكيره في تحديد مسار الكرة.
وهذا القلق في محله، فمنذ منتصف القرن الماضي هناك تجارب مكثفة على الجهاز العصبي البشري تسعى إلى تحويله لسلاح بيولوجي قاهر، ولقد عبرت السينما والدراما الأمريكية عن هذا بشكل أو بآخر عند تصوير بشر عادي قد تحول لخوارق من خلال التلاعب بالخلايا العصبية؛ ومن أبرز الأمثلة كانت الحلقات التليفزيونية "الرجل الأخضر"، التي تحولت لسلسلة أفلام سينمائية تحمل نفس الاسم. ومن الملاحظ أن تطوير الأسلحة العصبية صار أمراً مفروغ منه، حيث يتم جنباً إلى جنب مع التطبيقات السريرية لأبحاث تقنيات الدماغ. الأمر الخطير هو عدم معرفة ماهية هذا النوع من الأسلحة، ومتى وفي أي شكل سوف يظهر، ومن المتحكم فيه. فالاكتشافات الهائلة يتم تحويلها تباعاً إلى كوابيس تهدد البشرية، وتضعها على حافة الخطر؛ من أجل تحقيق رغبات تسعى إلى السيطرة على البشرية من خلال تحويل كل أمل جديد إلى سلاح دمار.
المثير للعجب أنه بالرغم من التحذيرات المتتابعة من خطر تحويل التكنولوجيات البيولوجية لأسلحة، إلا أن السياسيين والقادة لا يحركون ساكناً لتنظيم القواعد الأخلاقية للاكتشافات الجديدة. ولقد عهد العالم كل خمس سنوات انعقاد مؤتمراً دولياً رفيع المستوى لمناقشة أهم الاكتشافات التكنولوجية التي يمكن تحويلها وبكل سهولة إلى أسلحة. فالموقف العام غير مفهوم، فهل هناك اعتقاد سائد أن القفزات التكنولوجية يجب أن تكون بعيدة عن سيطرة القانون والسياسة والأخلاق؟ أم أن السياسيون لا يدركون مدى خطورة مثل تلك الأسلحة التي لسوف تتحول في القريب العاجل إلى أسلحة بشرية؟ فما يلمسه البشر حالياً هو عدم المساس بحرية تفكير العلماء، أو بالأحرى بحرية الجهات الممولة لمشروعات قد تهدد البشرية. وأما الساسة والجهات الواضعة للقوانين - الساعون دوماً لدس أنوفهم في جميع شئون البشر- عند التعرض للتجارب المشبوهة يدهشون العالم بتبنيهم موقف المتفاعل مع نتائج الأحداث، وليس موقف من يتخذ الإجراءات الاستباقية. ولقد سمى علماء الأخلاق ذلك الموقف الغير مبرر ب"معضلة كولينجريدج" Collingridge Dilemma نسبة إلى الكاتب ديفيد كولينجريدج David Collingridge الذي ناقش في كتابه " التحكم الاجتماعي للتكنولوجيا" The Social Control of Technology، الصادر عام 1980، مسألة صعوبة التنبؤ بالتأثير المحتمل لتكنولوجيا جديدة، وبالتالي استحالة وضع قوانين استباقية لدرء آثارها المناوئة.
لقد تحولت حياة البشر في خضم التقدم الهائل إلى فيلم خيال علمي يصور كابوس يهدد الخير الذي ينتظر البشرية من جراء القفزات التكنولوجية السعية لنقل الإنسان لحياة أفضل. ومن أكثر الأشياء إيلاماً هو الوصول لطريقة لتدمير آخر حصن حصين للبشرية، ألا وهو: الدماغ.
* نشر في جريدة القدس العربي