أمل الكردفاني - الحياة تعلمجي ممل

▪في اختبارات العسكرية، يقف أمام مجموعتنا تعلمجي، تعلمجي مصاب بالهذيان..يتحدث عن أشياء لا رابط بينها بدون توقف، كامرأة نكدية، تمر ساعات قبل أن يتم صرفنا، ولا نخرج بجملة واحدة مفيدة من التعلمجي. ورغم ذلك لا نستطيع ان نضحك. فلو لاحظ مجرد رفيف ابتسامة على شفتيك، لعرضك لعقاب قاسٍ. عليك أن تقف متجهماً. وهو يرغي كالغسالات القديمة. تضربنا الشمس، وترتجف أرجلنا وهو نفسه يستحم بالعرق، ولكن لا شيء يوقفه عن الهذيان والثرثرة.
هكذا هي الحياة..تعلمجي عسكري سخيف.
إن هذيان التعلمجي، هو هذيان الحياة المستمر لتعتد على شيء واحد؛ وهو التخلي.
إن عبورنا الهابط للحياة، يسقط كل العوالق التي كانت بعقلك، الاوهام تتساقط، علاقاتك بالآخرين والأشياء تزدد هامشية، ولذلك يسهل التخلي والنسيان. ومن لم يتعلم من الحياة فكرة التخلي والنسيان عاش متبرماً بلا مبرر. تضيق دائرة العام وتتسع دائرة الخاص، وتسقط الذات داخل الكينونة، وتتعامل مع نفسك ووجودك بمودة أكثر. إذ أن النفس والوجود كلاهما حاضران غائبان. من ينجبون هم وحدهم الذين يغرقون في الآخر بلا مبرر. وهم وحدهم الذين تطول بهم الحياة، أذ تتكرر أمامهم الصور، كأغنية رتيبة، لكنهم منهممون في عمقها بجماع جوارحهم.
القدرة على التخلي والنسيان، هما خاصيتا الحضور داخل الآن الحي. إنه اعتراف بالمضي العابر، داخل نقاط لا جسمية للزمن. كمن يعبر مزارع القش، فيفض القش من أمام وجهه باستمرار ليمضي إلى الأمام دون أن يرى ذلك الأمام. والساقط لا يعود، وهي حكمة فقهية عربية، وهي حقيقية، ولا يؤمن بصحتها إلا قليلٌ من الناس. الساقط لا يعود، فتخلى عنه لأنه سيان أن تفعل أو لا تفعل. فهذه القاعدة وإن كانت تتعلق بعدم جواز المطالبة بما أسقطته من حقوقك، لكنها في الواقع لصيقة أكثر بعبورنا الحيوي. فهي روح المرونة للتعامل مع اللحظة كما هي بكل ثقلها وكثافتها، وتجاهل سواها. لكن الساقط إذا كان لا يعود، فإن ما لم يأتِ لا يسقط، فلا يجوز التنازل عن الحق قبل ثبوته في ذمة المرء. وهذا يعني أننا إن كنا نتمكن من التخلي عن الساقط من الأشياء والعلاقات بسهولة، فإنه لا يجب أن نسقط المستقبل الذي خلف القش. فخلف القش الكثيف، أشياء وأشياء، علاقات وبشر، موت وميلاد، باختصار؛ هناك حلم ما. وبناء على هاتين القاعدتين، ندرك أن علينا أن نتعلم النسيان والتخلي من ناحية، وان نستشرف المستقبل من ناحية. إذ لا يجب أن نهدره. ولكي لا نهدره يجب أن نربطه باللحظة الآنية. وهكذا نؤسس له، ولكي نمتلك ناصيته يجب ان نمتلك رؤية واقعية واسعة وصادقة. هناك كثيرون -وهم الغالبية- لا يملكون صدق الرؤيا. هناك من يعيشون حياتهم وهم ينتهجون نهجاً مخالفاً لتكوينهم العقلي والنفسي بل والجسدي، كثيرون يعتقدون أنهم شعراء، وبعضهم يعتقد انه رسام، وآخر يعتقد انه موسيقار، وثالث...وهم في الواقع يؤسسون لمستقبلهم بالوهم.
صديقي رسب في امتحان معادلة القانون، أكثر من ثلاث مرات فأصيب باكتآب، اخبرته بأن مجال القانون اساساً ليس مجاله، فحتى لو نجح في امتحان المعادلة، فلن يضيف له ذلك شيئاً، وأخبرته أن مجاله هو مجال التسلية والترفيه. وبالفعل، خرج من اكتآبه، وأنشأ شركة للأفراح. ونجح نجاحاً باهراً. لقد تعلم أول شيء مهم من التعلمجي الدنيوي وهو (التخلي). لا يتأتى النسيان والتخلي إلا من التقييمات الصادقة لمهاراتنا في الحياة. فأنا مثلاً، لدي اهتمام رئيسي، واهتمامات فرعية كالرسم والقصة، لا أضعها كمشروع حياة، بل كنوع من الإشباع الروحي. وأستطيع التخلي عنها في أي وقت. صديق آخر لديه وهم بان يصبح طبيباً، لقد تجاوز الأربعين، وهو لن يصبح طبيباً، لكنه لا يستطيع التخلي عن ذلك الوهم. ولذلك هو يهدر وقته في ما لا يجدي حائماً حول التخوم، (التقييم الخاطئ) يفضي إلى عدم القدرة على التخلي. شخص ثالث مهووس بزوجته التي هجرته، وبالرغم من وضوح إستحالة عودتها، لكنه لا يستطيع التخلي عنها (التقييم الخاطئ) يفضي للتشبث بالوهم وعدم القدرة على التخلي. رابع يعتقد أنه موسيقار، وهو في الواقع لا يمت للموسيقى بصلة، ولا يملك مخيالاً موسيقياً، لكنه سيظل يهدر وقته في التمسك بهاجس لا يجدي نفعاً.
إن لم تعلمك الحياة التخلي عن زوجة أو صديق أو فكرة أو وظيفة أو عمل، أو نسيان حب أو لحظة أليمة، فأنت محتاج لتعلمجي آخر، كذلك العسكري المصاب بالهذيان. انت تقف بصمت لساعات، وهو يهذي ويثرثر لساعات. فلا انت فهمت منه شيئاً ولا هو توقف عن الثرثرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى