محمد خضير - كتابة الهامش:

في اتصال هاتفي نادر، ظُهر هذا اليوم، مع الدكتور مالك المطلبي، ناقشنا مسائل كثيرة، منها مسألة الهامش الذي يتسع ليصبح متناً عريضاً بشروط خاصة. لماذا كانت نصوصنا مضغوطة في هامش "حر" من أجل دفع شكوك المتن المتاح على وسعه تحت ظلّ رقابة سلطوية شديدة ومحاسبة اجتماعية من جهة ثانية (قبل سقوط النظام الدكتاتوري)؟ لماذا تتقلّص حرية المتن الواسع كلما تخلّينا عن شرط "الحرية" الموجودة حصراً في هامشٍ يتيحه نظام متسلط، رغماً عنه؟
ذكرتُ، في مكالمتي مع المطلبي، تجربة كتابة "كراسة كانون" المكتوبة بشرط الهامش المضغوط (بين سلطتين، إحداهما أيديولوجية مباشرة، وأخرى مضادة تتمثل بشكوك المعارضين للسلطة الأولى) وكيف استقبلتها الرقابة على أنها نصّ هامشي مقبول لا يشكل خطراً أو مزاحمة للمتن الأيديولوجي الذي كُتبت فيه أغلب النصوص الروائية (في مشروع روايات القصر الرئاسي آنذاك ٢٠٠١). حين سلّمتُ مسوَّدة رواية "الكراسة" الى المسؤول عن مشروع روايات القصر، الشاعر حميد سعيد، في مكتبه بوزارة الثقافة، أخبرني أنّي الكاتب الأخير الذي استجاب لدعوة القصر، ورفض أن يقرأها أو يقيّمها حسب شروط القصر، بل دفعها مباشرة للطبع في الوقت القصير المتبقّي من مدة الدعوة. وكان اعتقادي راسخاً بأن نصّ "الكراسة" خرج من هامش السلطة الضيق، لا من متنها المشاع. وما دمتُ ضمن هذا النطاق المراقَب بشدة، فلا ضرر من خروج النصّ المقدّم عن شروط القصر. كان ذاك اتفاقاً ضمنياً، لا تستطيع أيديولوجيا السلطة أن تنقضه، بل تقبله على مضض- وأحياناً عن فهم شخصي مرِن من المشرفين على المشروع.
بعد طول زمن، أصبحت تجربة "القصر" موضع شكّ، بعدما دخلت نطاقاً جديداً، نطاقَ ما بعد سقوط القصر، وهو سقوط مجازيّ لا يختلف إلا في الموقع والمساحة والاختيار؛ إذ كلا النطاقين واحد، هو نطاق الهامش لا غير، بعد أن تحولت النصوص الى نطاق المتن، بشروط مختلفة. لقد ظنَّ كتّابُ ما بعد سقوط القصر أن مقدار حرية المتن الجديد هي أكبر من حرية نطاق الهامش السلطوي السابق. وهو رأي خاطئ لسبب بسيط، هو أن أيّ كتابة- في موضوع كموضوع كراسة كانون- يجب أن يخرج من هامش مضغوط برقابة مباشرة، رقابة السلطة الأيديولوجية أو رقابة الذات والمجتمع المتحولة من شرط إلى شرط آخر.
تضع دراسات ما بعد الاستعمار- ما بعد سقوط المتون الكبرى، هذه الحالة ضمن اهتمامها الأيديولوجي بكتابة الهامش. ومثال ذلك ما كتبه فابيو كاياني (جامعة سانت أندروز، المملكة المتحدة) عن تجربة كتابة "كراسة كانون" باعتبارها تمثيلاً لأدب ما بعد الاستعمار (أو ما بعد الاستقلال) الذي يستجيب نظرياً لنقض دعاوى المتن الوسيع للواقع المتسلط (في روايات تقليدية) والانحصار في هامش الجماعات المهضومة (في روايات تجريبية). وكان الرمز والخيال الفنتازي سبيلاً بديلاً عن وقائع التاريخ المعلنة، وإدانة ضمنية لسلطة القمع والاستبداد الدكتاتوري/ما بعد الاستقلال، في أغلب البلدان العربية.
بهذا، لا غنى لكتّاب هامش ما قبل السقوط، عن الحرية المشروطة لكتابة ما بعد السقوط، إذا ما أرادوا إرواء متونهم الأدبية/ السردية بدم الحقيقة (دم الطبيعة في رأي يشار كمال) لأنها الاختيار الوحيد الذي لا يتحدد بسلطة "القصر"، ويستعين بوسائل الرمز والفنتازيا على أيديولوجيا القمع والاستبداد في أيّ نطاق ومرحلة ونظام سياسي واجتماعي.
أعلى