شاكر نوري - باريس: كان جميلاً أن تري بريتون محاطا بالسرياليين

سارتر وسيمون دو بوفوار كانا يجلسان في مقهى ديماغو ويكتبان خلال ساعتين بلا توقف

مضي الزمن الذي كان فيه اندريه بريتون يصدر بياناته ويلتف من حوله مريدوه في المقاهي الباريسية.

كما مضي الزمن أيضا الذي كان فيه جان بول سارتر يؤلف كتبه عن الوجودية علي طاولة صغيرة في مقهى فلور أو ديماغو .

فتنتني المقاهي الباريسية منذ وصولي إلى باريس في عام 1977.

وكانت البدايات تتركز علي المقاهي المجاورة لجامعة السوربون حيث يتجمع الطلبة، منخرطين في النقاشات السياسية الساخنة و العراكات ولكن سرعان ما صار هذا المشهد المتكرر يبعث الرتابة بل أن معظم المثقفين العرب الذين يرتادون المقاهي لم يكن يعرف التعامل مع هذا المعطي الحضري ربما لانحدار معظمهم من الأرياف حيث لا توجد مثل هذه التقاليد. ولعل المؤسف في ذلك أن بعض المثقفين العرب كان يفهم المقهى علي أنها مكان لقضاء الوقت. ولكننا سرعان ما انسجمنا في حياة المقاهي لأنها كانت تزودنا بما لم نكن نتوافر عليه: من الدفء والطمأنينة ومكان القراءة والكتابة لأن غرف السطوح لم تكن تزودنا بذلك. ومن بعدها جاءت مرحلة إجراء الحوارات التي أنجزنا معظمها في المقاهي مع كبار الكتاب والأدباء أمثال: ألبير قصيري، فيليب سولرز، بيرنار نويل، إسماعيل كاداري، وغيرهم مما لا مجال لذكرهم هنا.

ذات مرة كنت أجلس مع الكاتب المصري البير قصيري، قال لي بحزن :
أتري كيف تحولت مقهى فلور إلى مكان ضاج بالسياح السذج الذين يأتون لزيارة معارض الألبسة الجاهزة في بورت دي فيرساي ؟

كان متألما لوضعية المقاهي الأدبية المتدهورة، تلك التي كانت تعج ذات مرة بالنقاشات والمناظرات وصعود التيارات الفكرية مثل الوجودية والسريالية والدادائية وغيرها.

كما قال لي الكاتب الاسباني فيرناندو آرابال:
لم نعد نرتاد المقاهي الأدبية ونتداول ما كتبناه مع زملائنا لأن الحياة المعاصرة لم تعد تسمح لنا بذلك، فإننا نرسل مخطوطات كتبنا إلى الناشر وهو يبعث إلينا بحقوقنا عن طريق التحويل المصرفي أو البريدي وانتهي الأمر.
ولم التق بكاتب إلا وكرر علي مسامعي ذات الفكرة، فكرة انقضاء زمن وولادة زمن آخر.

هكذا طوت فرنسا صفحة من حياة المقاهي الأدبية مرة واحدة وإلى الأبد. فالمقاهي الباريسية كانت تعبر عن فن الحياة و نمط المعيشة وكان من تجليات هذا الفن في الحياة والعيش... المقاهي. هنري جيمس يعلق علي المقاهي الباريسية قائلا:
هنا يتمكن المرء من أن يجلس بسلام لساعات دون أن يزعجه النادل. وهنا يتمكن المرء أن يقرأ ويكتب في الصباح، ويقوم بأعماله في الظهيرة ويضحك ويناقش الأصدقاء في الليل.

ولعل ما يفسر تواجد المقاهي في باريس وعلي الخصوص المقاهي الأدبية، هو الجادات العريضة التي بنيت علي أساسها باريس وهي فريدة في أوروبا.
هنري جيمس، المولع بالمقاهي الباريسية يضيف:
إن الجادات هي عبارة عن سلسلة طويلة من المقاهي، التي تمد كل منها نتوءا من الموائد والكراسي علي بحر من الإسفلت. ومن دون ريب، ليست هذه النتوءات هي بالضبط جزرا للناس السعداء وحتى وإن كان بعض من هذه الجزر آهلا بالحوريات المدمنات علي البيرة إلا أن بوسعها أن تساعدك علي قضاء أمسية قائظة .

وربما لهذا السبب تواجدت أشهر المقاهي الأدبية في الجادات العريضة مثل سان جيرمان دي بري، والمونبرناس، والحي اللاتيني.

والمقاهي ليست أماكن فقط بل عبارة عن مزيج من روائح متنوعة. توماس وولف كان يفكر بمزيج الروائح التي تنبعث من المقاهي الباريسية وهي مركزة ومضغوطة رائحة البيرة والبراندي ورائحة التبغ الفرنسي القديم، والرائحة المنبعثة من شرائح اللحم المقدد والقهوة السوداء الباريسية ورائحة المرأة والخمر .

أجل... لا يمكن أن نتصور المقاهي الباريسية بدون هذه الروائح وكذلك بدون سماع المصطلحات التي يتداولها الرواد مع النادلين :
كافيه نوار، كافيه اكسبريس، كافيه سيريه، كافيه الونجيه، كافيه كريم، شكولاه، فان روج، فان بلان، كير، كير رويال، تيه أو سترون، بيرييه، وغيرها....

ولا تقدم المقاهي الأخيلة فقط بل تقدم أيضا ضرورات الحياة من قهوة وسجائر وتواليت وصحف وتلفونات بطبيعة الحال قبل ولادة التلفونات المحمولة وهكذا فالمقاهي الأدبية لا تحمل سوي الأسماء يأتي إليها الزوار ليحلموا بالزمن البائد ولكن ليس بوسع أحد أن يدخل مقهى لافلور ودي ماغو وكلوسري ديليلا وكافي دي دوم وغيرها دون أن يشعر بالحنين إلى الزمن الماضي لأن المقاهي لا تبدل جلدها باستمرار لكي تتلاءم مع العصر الذي تعيش فيه وبالأحرى أن روحها هي التي تتغير لأن روادها يمنحون المكان تلك الروح التي تبقي لصيقة بالمكان.

باريس مكتظة بالمقاهي ولكن المقاهي الأدبية معدودة، ولعل هذه الخريطة تغيرت بانتقال مراكز باريس. والأماكن التي ارتادها الأدباء والفنانون تتوزع بين المقاهي والمطاعم والحانات والكاباريهات. وآمل ان يفهم القارئ من سياق حديثنا هذا الخلط الذي قد يراه غريبا ذلك لأن الكاباريهات عادة ما ترتبط بالملاهي والرقص. ولكن الكاباريهات الشهيرة ظهرت في القرن الرابع عشر في باريس، وأشهر الكاباريهات كانت تتواجد في منطقة الرسامين في هضبة مونمارتر الشهيرة، ففي مقهى أثينا كان يتواجد كل من الرسامين ديغا ورينوار وبيكاسو الذين كانوا يناقشون الفن في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر.

واهم المناطق التي تتركز فيها المقاهي الأدبية هي:
مقاهي السان جيرمان دي بري وأهمها : مقهى ديماغو، ودي فلور، وحانة ليب، ومونتانا، وباليت، وبيتي سان بينوا، وحانة بون رويال، ومطعم بوزار.
مقاهي مونبرناس وأهمها : غلوسري دي ليلا، لاكابول، دينغو بار أوبيرج دي فينيسيا ، كافي دي دوم، وفالستاف، وكافي فرانسوا كوبيه، و لي جوكيه، لاروتوند، لي سيليكت.

مقاهي الحي اللاتيني وأهمها : غلوسري بالزار، كافي دي لاميري، كريميري روستران بوليدور، لي بروكوب، لابيروس.

مقاهي الضفة اليمني وأهمها : لابوف سور لي توا، لي فوكيتس، مابورغون، كافيه دي لابي، برونيير، بار همنغواي في فندق ريتز، هاري نيويورك بار.
بعض هذه المقاهي الأدبية ما زال موجودا وبعضها الآخر اختفي نهائيا، فللمقاهي حياتها أيضا، تولد وتزدهر ثم تموت. الأحوال تغيرت ولم يعد للمقاهي رواد مخلصون كما كان في العهد الماضي. علي سبيل المثال، كان بول فيرلين، من ضيوف المقهى الأكثر إخلاصا. فقد ولي الأدباء ولم يعد هذا الإخلاص باعثا للقاء بينهم. ومعهم ذهبت روح المقاهي التي ارتادوها وتركوا بصماتهم عليها، ولم يبق من هذه المقاهي سوي الديكورات القديمة الحزينة: مراياها الباذخة ومذهباتها وأعمدتها وأقواسها تذكر بالزمن الغابر.

غيوم ابولينير ورفاقه اختاروا مقهى فلور لأنها كانت اقل إزعاجا من غيرها من الأماكن، كما حولها كل من غيوم أبولونيير وروفيير وبيلي وسالمون إلى صالة للتحرير. ومنذ ذلك الحين، أصبح لأبولينير مكتب في مقهى فلور . وكان يستقبل فيه ضيوفه في ساعات محددة. يقول فرانسيس كارلو في هذه المقهى الأدبية للغاية كان أبولينير السيد بلا منازع . كان الشاعر قد جعل من المقهى مملكته. الشاعر فيليب سوبو يقول: أنه يجلس مثل الحبر الأعظم... وانه بفضله استطاع التعرف علي أندريه بريتون في عام 1917.

ويقول جيرار جورج لومير:
عندما وصل تريستان تزارا إلى باريس اصطحبه أصدقاؤه الدادائيون في الحال إلى هذه المقهى التي عاش ابولينير فيها ومات . واندريه مالرو كان يأتي إليها ليأخذ شراب البرنو المثلج. واستعادت هذه المقهى حيويتها في عام 1930 عندما جاء إليها باسكال. سيمون دي بوفوار الفت في هذه المقهى كتابها الشهير الجنس الآخر . وجان بول سارتر الذي كان يقيم في فندق لي لويزيان الذي يقيم فيه حاليا الكاتب المصري الأصل البير قصيري، قد جعل من هذه المقهى مكتبا له بعد أن هجر مقاهي المونبرناس التي بدأ النازيون يتجمعون فيها. وكان هذا مقهى الشاعر جاك بريفير وزمرته حيث حولوها إلى بيت واحتلوا ثلاثة أرباع الصالة. يقول مؤلف المقاهي الأدبية من القاهرة إلى باريس وبقي الأنكلوسكسونيون مخلصين لهذا المقهى إذ وهب ارتور كوسلر جميع كتبه إلى صبي باسكال واختاره كل من أرنست همنغواي وترومان كابوت ولورنس داريل منزلا لهم . وكان بيكاسو وجورج بتاي وجياكوميتي وارثور أداموف ودالي.

ومقهى دوماغو لم تنطلق فيه الروح إلا بعد أن وصلت إليه المجموعة التي تقوم بإصدار مجلة نثر وشعر بعد أن غادرت مقاهي مونبرناس. ولم يبدأ الزمن العظيم لهذا المقهى إلا بعد الحرب فكان السرياليون أول من تبناه. ولعل دور تأسيس دور النشر في هذا الحي أطلق الحيوية في هذا المقهى مثل ميركور دي فرانس وغراسيه وغيرهما من دور النشر العديدة التي ما تزال قائمة حتى الوقت الحاضر. وبعد أن اصدر أندريه بريتون مجلته الشهيرة ليتراتور ، أخذ السرياليون يجرون تجاربهم في هذا المقهى.

كتب جان فلانر يقول :
كانت للسرياليين مائدتهم... مقابل الباب، ومن هذه المائدة كان باستطاعتهم أن يشتموا كما يشاءون كل قادم جديد يختلف معهم بالرأي أو أن يعلنوا بصوت عال عن نيتهم جلد كل صحافي كتب في إحدى الصحف المضادة للسريالية، لأنه قام بذكر أسمائهم أو، وهذا هو الأدهى، لأنه لم يذكرها .

وكان جيمس جويس من الوجوه المألوفة في المقهى، وكان يلتقي بالشعراء الألمان الذين كانوا في المنفي من أمثال بيرتولد بريخت وماكس برود، صديق فرانس كافكا الحميم، وآنا سيغرز وستيفان زفايج.

ويقول هنري ميللر إن هذا المقهى كان هو مقره العام.

لقد كنا لا نشك بنجاحاتنا بعد بضع كؤوس من الخمر... وبالتأكيد فقد كنا نخسر أمام ما يبدو من هذا الحشد المتهافت والأحمق من قصور....
وكان مقهى ديماغو خلال الثلاثينات، يمثل إلى حد ما المركز العصبي للحياة الفكرية في باريس.

ويروي فيليبون :
في الساعة العاشرة صباحا كان يأتي جان بول سارتر مع سيمون دو بوفوار إلى مقهى ديماغو فيجلسان علي مائدتين صغيرتين متجاورتين ويكتبان خلال ساعتين بلا توقف وهما يحرقان السجائر الواحدة تلو الأخرى، وكان بإمكانهما العمل هنا بسلام لأن المتطفلين في تلك الأثناء يبحثون عنهما في مقهى فلور .
وكتب كلود مورياك :
انه مشهد جميل حقا أن تري المعلم القديم أندريه بريتون محاطا بخمسة عشر من الأتباع المسنين وهو يدخن بوقار غليونه علي رصيف ديماغو ثم يمر آرتو الذي أبعد قديما من المجموعة السريالية، فيلقي التحية بصوت خافت فينحني له بريتون بعمق أكبر . ويمكن سرد مئات القصص والحكايات عن هذه المقاهي الأدبية كما أن كثيرا من اللقاءات تمت هنا، علي سبيل المثال، التقي بيكاسو بدورا مار، التي كانت مصورة وتحولت إلى عشيقته ثم زوجته.
ومن ثم يأتي مقهى ليب الذي تم فيه التوقيع علي بيان الخمسة المناهض لرواية الأرض لإميل زولا في عام 1877.

ويشتهر هذا المقهى بأنه يمنح جائزة أدبية منذ عام 1933 سنويا.
علي أية حال، يمكن القول أن هذين المقهيين ما زالا قائمين حتى الوقت الحاضر.

جان ديو يقول :
كان المثلث الذهبي المؤلف من ليب وديماغو وفلور محفورا في كل الرؤوس المفكرة .


ظاهرة قديمة

المقاهي الأدبية في باريس عريقة للغاية، ظهرت للمرة الأولي بعد ظهور مشروبات الشاي والشكولاتا والقهوة وقدمت في الكاباريهات في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وأول مقهى تأسس في باريس في عام 1675 الذي بدأ بتقديم فناجين القهوة ثم تكاثرت، وأشهر المقاهي التي ظهرت في القرن العشرين هي : مقهى ريجينس ولابيه والمقهى الانكليزية وكانت هناك العديد من مقاهي الفنانين في مونمارتر تحولت إلى المونبرناس، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى جادة سان جيرمان دي بريه.

من رابلييه إلى فيرلين، ومن سارتر إلى دو بوفوار، عاش الكتاب أجمل لحظات حياتهم في المقاهي الأدبية.

وفي حقيقة الأمر أن حياة المقاهي الباريسية ما هي إلا امتداد للبيت أو الشقة.
يقول جان بول سارتر :
عندما كنت أعمل مدرسا لم تكن لدي النقود الكافية لذلك كنت أعيش في فندق وشأني شأن جميع الفرنسيين كنت أقضي جل أوقات النهار في المقاهي.
وهكذا تحولت المقاهي إلى نوع من المكاتب أو الدوائر بالنسبة للكتاب والأدباء الذين كانوا يكتبون ويتناولون طعامهم ويستقبلون ضيوفهم فيها في آن واحد. وبمقابل ثمن فنجان قهوة واحد كان المقهى يوفر لهم يوما دافئا في جو باريس الصقيعي.

سيمون دو بوفوار كانت تقول أثناء الحرب العالمية الثانية :
كنت اشعر بأنني أصبحت جزءا من العائلة وهذا ما كان يحمي المرء من الانهيار العصبي .

ولا يوجد كاتب فرنسي أو أجنبي عاش في باريس ما لم يكتب عملا أدبيا من أعماله في المقاهي.

سيمون دو بوفوار كانت تكتب في مقهى سيليكت في المونبرناس. وارنست همنغواي كتب قصصه القصيرة في مقهى غلوسري دي ليلا . ويكفي أن كتاب همنغواي عيد متنقل يفتتح صفحاته الأولي في مقاهي ساحة سان ميشيل.
كان يدخل إلى المقهى وينزع معطفه المطري ويضع قبعته الدافئة جانبا، ويخرج دفترا وقلما ويكتب قصة عن أعالي مشيغان كما يذكر نويل ريلي فيتش، مؤلف كتاب المقاهي الأدبية في باريس .

وهكذا كان كل كاتب يؤسس عقدا من الإخلاص للمقهى الذي يرتاده ويخلق نوعا من التماهي معه بل ويمنحه هويته إن صح التعبير. وعلي سبيل المثال، كان بعض الكتاب مثل جان بول سارتر في مقهى سيليكت و بول فور في غلوسري دي ليلا، واندريه بريتون في ديماغو كانوا نوعا من الملوك كما يؤكد صاحب الكتاب الآنف الذكر. بعض الكتاب والأدباء كانوا ينوعون ارتياد المقاهي، علي سبيل المثال، الشاعر ابولينير الذي عاش 38 عاما فقط، كان يتناول طعام الغداء في مقهى لا باليت ويتناول قهوته في مقهى فلور ولا يضيع فرصة حضور لقاء بول فور في لقاءات الأربعاء في مقهى غلوسري دي ليلا . بينما كان بول فيرلين، الشاعر الغنائي المتسكع يقضي جل حياته في المقاهي، يتناول الخمور السامة، ويدمر صحته بيده إلى أن مات وحيدا.
مهد الحركات الفنية

الصحافي الإنكليزي سيسلي هودلستون، الذي أقام في باريس في سنوات العشرينات والثلاثينات قال بهذا الصدد :
إن المقاهي في فرنسا كانت الأرضية القوية للفن والأدب .

كانت الانطباعية أول حركة فنية نظمت بكاملها في المقاهي.

الحركة الدادائية التي قادها تريستان تزارا انطلقت من مقهى في زيورخ. وحتى سارتر الذي كان يؤمن بدور الكاتب في المجتمع استخدم المقاهي مكانا لتبادل الأفكار السياسية.

وعلي عكس غالبية الدول الأخرى فان المحور الثقافي كان مرتكزا في مدينة واحدة، هي العاصمة باريس.

ولكن تجب الإشارة إلى أن هذه المقاهي التي تحدثنا عنها لم تبق علي ما كانت علي مر الحقب السالفة لأن المالكين يغيرون من ديكورات هذه المقاهي باستمرار، وهي طريقة لعدم دفع الضرائب. ومع الديكورات يتغير الزبائن والرواد والعلاقات داخل المقهى. كما أن بعض هذه المقاهي اختفي كليا من الوجود. وعلي الخصوص المقاهي التي كان يرتادها كل من مارسيل بروست وآداموف وجون دوس باسوس.

وهناك المقاهي التي تعاقب عليها الأدباء في مختلف العصور مثل مقهى فولتير الواقع في ساحة الأوديون في الحي اللاتيني، التي كان يرتادها الفلاسفة الأنسكلوبيديون أمثال: روسو وفولتير وديدرو في القرن الثامن عشر، ورودان وفيرلين ومالارميه والرسام غوغان في القرن التاسع عشر، وفاليري وجيد وسارتر في القرن العشرين.

ومما لا شك فيه، أن المقاهي الباريسية كانت علي الدوام ميدانا مفتوحا علي المناظرات والمجادلات الأدبية بين الكتاب والأدباء والشعراء.

الفريد ديلفو كان يردد :
منذ زمن بعيد والمقاهي والكباريهات تمثل صالونات للديمقراطية. كما وأنها تعكس في مراياها المعلقة علي الجدران التطور الحضري لباريس.

وفي المقاهي الأدبية التي استعرضناها هناك طاولات تحمل أسماء بعض المشاهير، منحوتة في خشب الساج الجوزي، الأمر الذي يعمل علي تنشيط الذاكرة.

إن الحديث عن المقاهي الأدبية يكتنفه الكثير من المصاعب لأنه يتطلب نوعا من ترميم ذلك العصر الباروكي الذي ازدهرت فيه تلك الأماكن، ولم يبق من بعضها سوي ديكورات ذابلة وقبيحة. والكتابة عنها تعني الكتابة عن سيرة كثير من الأدباء والشعراء العظام الذين تركوا علي طاولاتها وجدرانها ومراياها وديكوراتها بعضا من أرواحهم.

لم تكن المقاهي الأدبية مجرد نواد للالتقاء بل حلقات وصل وتبادل الأفكار حاضنة لأسرار باريس كلها.



المقهى.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى