"إن الإبداع الشعري هو الذات الإنسانية في مختلف تجلياتها". (الشاعر عدنان الصائغ)
القراءة:
يقول "أمبرتو إيكو": أنّ كلّ عمل فنّي هو موضوع مفتوح على تذوّق لانهائي.
من هنا نستطيع الولوج إلى نص الشاعر "مهند صلاح" بكامل الصفاء والسكينة لنتذوّق أطياب نصّه من ناحية المضمون والشكل .
يبدأ الشّاعر نصّه بعبارة (سأرسم عيداً طفلاً) مصرّحاً بنيته تجاوز الحزن الذي انتابه من وطن تمزّق وتألّم وأصبح عارياً، عبر رسمه لعيد طفل لا يأبه لوطن أصبح فيه الشّهداء وقوداً لمدافئ الفقراء. وقد تزامن النّص مع عيد حزين مرّ دون أن يرسم ابتسامة على وجوه الأطفال والكبار. فيقرّر أنّه سيزرع الحبّ بدلاً من الوجع ، وسينجب من الصّراخ أطناناً من الضحكات، لتعود البسمة إلى شفاه الأمّهات والحبّ إلى شفاه القدّيسات.
وهذا الحلم يمتدّ إلى أبعد من إنجاب الضحكات، فيسعى إلى تبديل الواقع المزيّف ودحر الظلم وقتل الفقر ومسببيه. فنراه يأمل بجعل المتأسلمين ومدعيّ التديّن مسالمين ، هامساً في قلوبهم (أنا طفل الشّمس)، كما فعل إمام المسلمين "علي بن أبي طالب" حين همس للأطفال (بأن الله ليس وحشاً) . هذا التناص الصريح أتى ليخدم واقعاً مريراً مؤكداً على استمرارية بعض المآسي البشرية منذ القدم حتى الآن. فالشاعر بمنتهى تذمره من الظلم والألم الذي لحق بأبناء وطنه يدعو إلى السّلام من خلال تشكيله صورة شعرية مميّزة حين يقول :(سأحتطب سنوات السّبي لأوقد ساقية السّلام) في نفوس ورؤوس القتلة والطّغاة.
ويكمل الشّاعر نصّه واقفاً بكل الهدايا، فيفتحها مرّة لتخرج أمّه بكل حنانها ودفئها وكأنها أم جميع المحرومين، ويخرج أباه بمنتهى عونه وسنده لينقله إلى برّ الأمان بعيداً عن كل ذاك الخراب والعريّ الذي أصاب وطنه. فهو القادم من نافذة الصبر يحمل مجهولاً ينزف شعوباً، يأتي ليحتفل بصوت حزين وينشد أغاني الألم كما القدّيسين ليعيد الحياة لعشب قريته (وطنه) كفتاة عشرينية.
ويستمر الإبداع البياني في مسيرته داخل النّص ، ليتجلّى في صورة مجازيّة أخرى أضفت على النصّ رونقاً لغوياً ودلالياً (فعيون العيد حافية ... جدران الفقر تعميها). فيُظهر من خلالها تمرّده على واقع الفقر والعوز والألم الذي جعل من العيد حزيناً ، متحدياً هذا الأسى والألم بجهره في ختام نصّه أن هذا العيد الطفل الذي سيرسمه سيحتفل رغماً عن كل هذه المآسي.
كل هذه الأحداث والأمنيات جاءت لتجسّد أمنية هي بمثابة بؤرة النصّ ورؤية الكاتب .فيورد الشّاعر عبارة (سأجمع جثث الرّاحلين وأنفخ فيها من نور "لالش" ليحتفلوا معي بهذا العيد المعاق). هذا العيد المعاق الذي أتى خافت الضّوء ، لا يسمع له صدى، ستضج به الحياة ويعم فيه الفرح عندما تحضره جثث الشّهداء الذين نزفوا دماءهم قرباناً لهذا الوطن الجريح. وبهذه الإشارة الأسطورية إلى نور" لالش " يذهب الشّاعر بالقارئ إلى فضاء الأسطورة لتحفيز الرؤية عنده.
وتعيدنا هذه الإشارة إلى "جان برتليمي" عندما يقول : يمثل الحدث الأسطوري قيمة جماليّة عليا في العملية الشّعريّة، مثلما يمثلّ الجمال هدف الفنّان الذي يسعى إلى إنتاج عمله الفنيّ في إطاره.
فقد وظّف الشّاعر الأسطورة لتعميق فضاء قصيدته المتخيّلة ولإبراز الحدث الشّعري. وبما أنّ الأسطورة توأم الشعر فإنّ عودته إليها إنما هي:"حنين الشّعر لتراب طفولته ، والأسطورة إذ تحتضنها القصيدة، فلكي تتحول في بنيتها طاقة خلّاقة للأداء الشّعري ، حيث يتمثّل فيها العقل الجمعي بصورة عضوية توطئ موقف وقيم الإنسان تجاه الكون وتجاه تساؤلاته المتعددة حسب "رجاء عيد". فهي هنا عامل استثارة وجذب للمتلقي لتلّقي النصّ تلقّياً جماليّاً.
وإنّ ما يثير الحدث الأسطوري في الشّعر هو تفاعل الحدث مع جوهر الرؤيا لاستقطاب المردود الفنيّ للمغزى الشّعري بهدف نشدان العجائب.وجماليّة الحدث الشّعري الذي يبنى عليه المتخيل الأسطوري من حيث العمق والإمتداد والكثافة والإيحاء يمتاز بالإعتماد على ما تبثّه الأساطير من رؤى ودلالات في تعميق المغزى وإنتاج الدلالات.فنشهد في نصّ الشاعر تغلغل الأسطورة في المنظور الرؤيوي للنصّ والتي منحته أفقها التأملي المفتوح ، إذ تعد الأسطورة من أبرز مثيرات انفتاح النصوص الشّعرية الحداثية على التراث الميثولوجي القديم لمضاعفة تأثيرها الجمالي والرؤيوي في آن.
فقد بدأ النصّ بالحزن والأسى. فاستدعى الوطن ومشاهد الطفولة، واستحضر المؤثر الأسطوري بأسلوب تقني فني معاصر. فحزن الشّاعر على العراق حزن أسطوري. ففي إسقاطه رمز معبد "لالش" أخذ الشّاعر هذا الرمز الأسطوري والتاريخي بكل ثقله الدلالي وألقى به في أتون ما يعانيه وطنه وأهله، ليخفف أعباء وطنه وأهله في الزمن الحالي كما كان يحصل دائماً ببركة هذا المعبد منذ الزمن الذي وجد فيه ليستعيده راهناً. فنداءات الذات الشّاعرة في تماهيها العميق مع الحدث الأسطوري هي أشبه بالنوح الذاتي إثر انكسار الوطن، والأمل بإنقاذه بنور "لالش".
"لالش" والتي تعني باللغة الكردية مكان السكينة والهدوء، هي تسمية لمعبد في العراق يخص الإيزيديين ويعتبرونه المستقرّ الأول للملائكة وهو بمثابة ضمير الكون ونقطة البداية التي تكون منها العالم .ويذكر ذلك في تراثهم (جعل من لالش الأساس). وهو امتداد للديانة الميثرائية حسب الميثولوجيا الأيزيدية، ويزوره المؤمنون للصلاة ولتعميد الأطفال. وهذا ما يبرّر رسم الشّاعر لطفل عيد بديلاً عن العيد المعاق الذي مرّ به الوطن. فالشّاعر يخرج الأسطورة من نصّها الأصلي ليدخله في نصّه هو، فيباعد ما بين وحداتها النصّية ، زاحفاً إلى الممنوع والإيحائي والمباغت في الأسلوب النصّي . فهو يقتضي الحدث الأسطوري المثير الذي يباغت القارئ بالحيثيات الأسطورية من خلال توظيف الأسطورة وقت ما يرتئيه الواقع الآني.
فما أصعب أن يندب الإنسان حريته المفقودة ، أو وطنه الذّبيح الذي يُقدّم قرباناً لأيدي الدمار والخراب والقتل وإراقة الدماء (القتلة والسراق ولاعقي موائد الطغاة). وهنا اعتمد الشّاعر الحدث الأسطوري بخطى جمالية أسطورية يبرق من خلالها إحساسه المتوتر. وهذا يتوافق مع ما يقوله " علي جعفر العلاق" : هكذا نحن لا نجد أنفسنا أمام نصّ الأسطورة بل أمام أسطورة النصّ. أوليست الأسطورة ارتداد زمني في الحدث لإتمام كينونة الرؤية؟
ويكمل فكرته لتأتي الأنساق السّطرية الأخيرة في النصّ لتمركز رؤيته على ما تبثّه الرموز الأسطورية من أحاسيس وارتدادات نفسيّة شعوريّة نادبة حال العراق ( ولكني بلا وطن سأشدو روح ماضيها وأخبرها بأن الطفل يحتفل رغم مآسيها). فيعمد الشّاعر بفنيّة آسرة إلى عملية مجاذبة نصيّة في توظيف الحدث الأسطوري ليرصد من خلال الواقع الوجودي المأساوي الذي تعيشه العراق من خلال ربط الحدث الآني بالماضوي بالمستقبلي.
ولأن جمال النصّ مرتهن بالمضمون والشكل، لم ينس الشّاعر أن يستخدم أساليب لغوية تخدم رؤيته وتجذب القارئ للتفاعل مع قضيته والشعور معه. وهذا ما يؤكده "رحمن غركان" بقوله : أنّ القارئ يكمل قراءة المعنى الكامن خلف الأشكال كلها. فقد لجأ الشّاعر إلى أسلوبية التكرار لما فيها من وقع فكري وعاطفي على المتلقي.
ونعلم أنّ للتّكرار جانب نفسي وإيقاعي، وهو من أبرز انشغالات النصّ الحداثي العراقي ابتداء من السّياب ونازك الملائكة وصولاً إلى سعدي يوسف وعلي جعفر العلاق وغالبية من كتبوا النصّ الحداثي.فهو يمثّل فعالية مزدوجة في الأداء والدلالة وفي تعضيد جمالية النسق إيقاعياً. وهناك عدة أنواع من التّكرار الفنيّ الموحي وهي : تكرار الأسم والفعل والحرف والجملة وغيرها، وكلّها عناصر شعرية على المستويات كافّة. ولتكرار الفعل دوراً مؤثراً في النصّ ، لأنّ الفعل يملك القوّة المضاعفة باستدعائه للحدث والزمن في آن.
فالشّاعر يكرر الفعل (أفتحها ) ثلاث مرات مؤكداً على فكرته .ويأتي تكرار الفعل مضاعفا ًمن وقعه (الصوتي_الدلالي) المؤثر. فهو يبتعث إيحاءات النصّ الخصبة. هذه البساطة والسهولة والرشاقة في التكرار منحت النصّ سلاسة وخصوبة وجمالاً. فيكون الشّاعر بذلك أدى وظيفة التكرار الداخلية ألا وهي إبراز إيقاع درامي سيكولوجي كما أوردت " رجاء عيد" في تحديدها لوظائف التكرار. وهذا الإيقاع نلمسه أيضاً في استخدامه الذكي لبعض المفردات (الضحكات- القديسات- الأمنيات – الإبادات- العذابات).
ولم يكتف الشّاعر بتكرار الفعل بل كرّر من خلال الحرف. فاستهل أفعال النصّ بمجملها بالحرف (سين) المشير إلى (سوف) التي تدل على نية الفعل في المستقبل، وذلك لإبراز ما تنطوي عليه النفس من أزمات في الماضي وتطلعات وآمال وتأملات في المستقبل (سأرسم-سأبتر-سأزرع-سأجمع-سأفكر- سأصفع- سأمزق –سأحتطب). فالحرف (س) هنا نراه يستثير الحساسية والشّعرية بإيقاعه الضاغط، ويعمّق الإنفتاح السّردي للنسق.
كل هذا لهو دلالة على إحساس الشّاعر بالسّخط والانكسار والقلق .فقد أحدث الشّاعر بتكراره نغمة تهيء المتلقي للولوج إلى عمق النصّ وملامسة الرؤية المضمرة فيه.
نصّ موجع كجرح داخلي نازف أراد من المتلقي أن يشحذ كل حواسه وعواطفه وأفكاره ليكتشف ما يمور وراء هذا النسيج الشّعري من دلالات.
النّص:
سأرسم عيدا طفلا ؛
لن يأبه بالأوطان العارية
و لن يحتاج للشهداء
كي يكونوا وقودا لمدافئ الفقراء ؛
سأبتر ساق الكلمات
و أجعلها تحبو نحو القصائد
لتكون الأمهات مبتسمات ؛
سأزرع على شفاه القديسات
الكثير من بذور الحب
و أنجب من الصراخ
أطنانا من الضحكات ؛
سأجمع جثث الراحلين
و انفخ فيها من نور ( لالش )
ليحتفلوا معي
بهذا العيد المعاق .
أنا القادم من نافذة الصبر
أحمل مجهولا
يرافقني كما ظلي ؛
مذ همزة التاريخ
و هو ينزفني شعوبا ،
و يضمد مقاصل الجلادين
بالكثير من رماد الأجداد .
سأفكر مشنوقا بدمعي
و أحلم بغد
يكون فيه ( المتأسلمين ) مسالمين
يشبهون يد ( علي إبن أبي طالب )
و هو يضعها على رؤوس الأطفال
ليخبرهم
بأن الله ليس وحشا .
سأصفع كل المتدينين ( زورا )
ثم أهمس في قلوبهم :
( أنا طفل الشمس ) .
سأمزق ما تبقى مني
لأطعم حماقات القادمين ،
و أحتطب كل سنوات السبي
لأوقد ساقية السلام ؛
أجعلها تجري سريعا
نحو
القتلة
و السراق
و لاعقي موائد الطغاة ،
و أمرر يدي برفق جدا
على رؤوسهم الحبلى بموتي ؛
و أشعل
ضجيج الإبادات
و
صراخ القديسات
و
بكاء الأمنيات
و أقف
بكل الهدايا
التي لم يحن موعد حرقها بعد ؛
أفتحها
فتخرج أمي
من فم العذابات
مليئة
بالأيادي الدافئة ؛
أفتحها
فيمتد ظل أبي
ليوصلني
نحو الضفة الأخرى من الخراب ؛
أفتحها
فتتكاثر الملائكة
عند باب خيمتنا
و لا تزال أجنحتها بيضاء ؛
أفتحها
دون أن أدري
بأن الخيمة الأخرى
يحاك بقلبها عمري .
أنا المعجون في صبري
أشذب رحلة الأعياد
و أمسح ذاكرة الجدوى
و أنهض
من صحوة الماضين
و أحتفل
بصوت يشبه الأحزان ،
و أنشد
مثل قديس
أغنية
يصافح صوتها ألمي ؛
فيعود
عشب قريتنا
فتاة تشبه العشرين
و لا عشرين يشبهها ؛
أعانقها
فيصفع العيد في قلبي
كل التيه و البلوى
و أصحو بلا قبر
يرافقني كما الحلوى .
عيون العيد حافية
و جدران الفقر تعميها
و لكني
بلا وطن
سأشدو روح ماضيها
و أخبرها
بأن الطفل يحتفل
رغما عن مآسيها ...
القراءة:
يقول "أمبرتو إيكو": أنّ كلّ عمل فنّي هو موضوع مفتوح على تذوّق لانهائي.
من هنا نستطيع الولوج إلى نص الشاعر "مهند صلاح" بكامل الصفاء والسكينة لنتذوّق أطياب نصّه من ناحية المضمون والشكل .
يبدأ الشّاعر نصّه بعبارة (سأرسم عيداً طفلاً) مصرّحاً بنيته تجاوز الحزن الذي انتابه من وطن تمزّق وتألّم وأصبح عارياً، عبر رسمه لعيد طفل لا يأبه لوطن أصبح فيه الشّهداء وقوداً لمدافئ الفقراء. وقد تزامن النّص مع عيد حزين مرّ دون أن يرسم ابتسامة على وجوه الأطفال والكبار. فيقرّر أنّه سيزرع الحبّ بدلاً من الوجع ، وسينجب من الصّراخ أطناناً من الضحكات، لتعود البسمة إلى شفاه الأمّهات والحبّ إلى شفاه القدّيسات.
وهذا الحلم يمتدّ إلى أبعد من إنجاب الضحكات، فيسعى إلى تبديل الواقع المزيّف ودحر الظلم وقتل الفقر ومسببيه. فنراه يأمل بجعل المتأسلمين ومدعيّ التديّن مسالمين ، هامساً في قلوبهم (أنا طفل الشّمس)، كما فعل إمام المسلمين "علي بن أبي طالب" حين همس للأطفال (بأن الله ليس وحشاً) . هذا التناص الصريح أتى ليخدم واقعاً مريراً مؤكداً على استمرارية بعض المآسي البشرية منذ القدم حتى الآن. فالشاعر بمنتهى تذمره من الظلم والألم الذي لحق بأبناء وطنه يدعو إلى السّلام من خلال تشكيله صورة شعرية مميّزة حين يقول :(سأحتطب سنوات السّبي لأوقد ساقية السّلام) في نفوس ورؤوس القتلة والطّغاة.
ويكمل الشّاعر نصّه واقفاً بكل الهدايا، فيفتحها مرّة لتخرج أمّه بكل حنانها ودفئها وكأنها أم جميع المحرومين، ويخرج أباه بمنتهى عونه وسنده لينقله إلى برّ الأمان بعيداً عن كل ذاك الخراب والعريّ الذي أصاب وطنه. فهو القادم من نافذة الصبر يحمل مجهولاً ينزف شعوباً، يأتي ليحتفل بصوت حزين وينشد أغاني الألم كما القدّيسين ليعيد الحياة لعشب قريته (وطنه) كفتاة عشرينية.
ويستمر الإبداع البياني في مسيرته داخل النّص ، ليتجلّى في صورة مجازيّة أخرى أضفت على النصّ رونقاً لغوياً ودلالياً (فعيون العيد حافية ... جدران الفقر تعميها). فيُظهر من خلالها تمرّده على واقع الفقر والعوز والألم الذي جعل من العيد حزيناً ، متحدياً هذا الأسى والألم بجهره في ختام نصّه أن هذا العيد الطفل الذي سيرسمه سيحتفل رغماً عن كل هذه المآسي.
كل هذه الأحداث والأمنيات جاءت لتجسّد أمنية هي بمثابة بؤرة النصّ ورؤية الكاتب .فيورد الشّاعر عبارة (سأجمع جثث الرّاحلين وأنفخ فيها من نور "لالش" ليحتفلوا معي بهذا العيد المعاق). هذا العيد المعاق الذي أتى خافت الضّوء ، لا يسمع له صدى، ستضج به الحياة ويعم فيه الفرح عندما تحضره جثث الشّهداء الذين نزفوا دماءهم قرباناً لهذا الوطن الجريح. وبهذه الإشارة الأسطورية إلى نور" لالش " يذهب الشّاعر بالقارئ إلى فضاء الأسطورة لتحفيز الرؤية عنده.
وتعيدنا هذه الإشارة إلى "جان برتليمي" عندما يقول : يمثل الحدث الأسطوري قيمة جماليّة عليا في العملية الشّعريّة، مثلما يمثلّ الجمال هدف الفنّان الذي يسعى إلى إنتاج عمله الفنيّ في إطاره.
فقد وظّف الشّاعر الأسطورة لتعميق فضاء قصيدته المتخيّلة ولإبراز الحدث الشّعري. وبما أنّ الأسطورة توأم الشعر فإنّ عودته إليها إنما هي:"حنين الشّعر لتراب طفولته ، والأسطورة إذ تحتضنها القصيدة، فلكي تتحول في بنيتها طاقة خلّاقة للأداء الشّعري ، حيث يتمثّل فيها العقل الجمعي بصورة عضوية توطئ موقف وقيم الإنسان تجاه الكون وتجاه تساؤلاته المتعددة حسب "رجاء عيد". فهي هنا عامل استثارة وجذب للمتلقي لتلّقي النصّ تلقّياً جماليّاً.
وإنّ ما يثير الحدث الأسطوري في الشّعر هو تفاعل الحدث مع جوهر الرؤيا لاستقطاب المردود الفنيّ للمغزى الشّعري بهدف نشدان العجائب.وجماليّة الحدث الشّعري الذي يبنى عليه المتخيل الأسطوري من حيث العمق والإمتداد والكثافة والإيحاء يمتاز بالإعتماد على ما تبثّه الأساطير من رؤى ودلالات في تعميق المغزى وإنتاج الدلالات.فنشهد في نصّ الشاعر تغلغل الأسطورة في المنظور الرؤيوي للنصّ والتي منحته أفقها التأملي المفتوح ، إذ تعد الأسطورة من أبرز مثيرات انفتاح النصوص الشّعرية الحداثية على التراث الميثولوجي القديم لمضاعفة تأثيرها الجمالي والرؤيوي في آن.
فقد بدأ النصّ بالحزن والأسى. فاستدعى الوطن ومشاهد الطفولة، واستحضر المؤثر الأسطوري بأسلوب تقني فني معاصر. فحزن الشّاعر على العراق حزن أسطوري. ففي إسقاطه رمز معبد "لالش" أخذ الشّاعر هذا الرمز الأسطوري والتاريخي بكل ثقله الدلالي وألقى به في أتون ما يعانيه وطنه وأهله، ليخفف أعباء وطنه وأهله في الزمن الحالي كما كان يحصل دائماً ببركة هذا المعبد منذ الزمن الذي وجد فيه ليستعيده راهناً. فنداءات الذات الشّاعرة في تماهيها العميق مع الحدث الأسطوري هي أشبه بالنوح الذاتي إثر انكسار الوطن، والأمل بإنقاذه بنور "لالش".
"لالش" والتي تعني باللغة الكردية مكان السكينة والهدوء، هي تسمية لمعبد في العراق يخص الإيزيديين ويعتبرونه المستقرّ الأول للملائكة وهو بمثابة ضمير الكون ونقطة البداية التي تكون منها العالم .ويذكر ذلك في تراثهم (جعل من لالش الأساس). وهو امتداد للديانة الميثرائية حسب الميثولوجيا الأيزيدية، ويزوره المؤمنون للصلاة ولتعميد الأطفال. وهذا ما يبرّر رسم الشّاعر لطفل عيد بديلاً عن العيد المعاق الذي مرّ به الوطن. فالشّاعر يخرج الأسطورة من نصّها الأصلي ليدخله في نصّه هو، فيباعد ما بين وحداتها النصّية ، زاحفاً إلى الممنوع والإيحائي والمباغت في الأسلوب النصّي . فهو يقتضي الحدث الأسطوري المثير الذي يباغت القارئ بالحيثيات الأسطورية من خلال توظيف الأسطورة وقت ما يرتئيه الواقع الآني.
فما أصعب أن يندب الإنسان حريته المفقودة ، أو وطنه الذّبيح الذي يُقدّم قرباناً لأيدي الدمار والخراب والقتل وإراقة الدماء (القتلة والسراق ولاعقي موائد الطغاة). وهنا اعتمد الشّاعر الحدث الأسطوري بخطى جمالية أسطورية يبرق من خلالها إحساسه المتوتر. وهذا يتوافق مع ما يقوله " علي جعفر العلاق" : هكذا نحن لا نجد أنفسنا أمام نصّ الأسطورة بل أمام أسطورة النصّ. أوليست الأسطورة ارتداد زمني في الحدث لإتمام كينونة الرؤية؟
ويكمل فكرته لتأتي الأنساق السّطرية الأخيرة في النصّ لتمركز رؤيته على ما تبثّه الرموز الأسطورية من أحاسيس وارتدادات نفسيّة شعوريّة نادبة حال العراق ( ولكني بلا وطن سأشدو روح ماضيها وأخبرها بأن الطفل يحتفل رغم مآسيها). فيعمد الشّاعر بفنيّة آسرة إلى عملية مجاذبة نصيّة في توظيف الحدث الأسطوري ليرصد من خلال الواقع الوجودي المأساوي الذي تعيشه العراق من خلال ربط الحدث الآني بالماضوي بالمستقبلي.
ولأن جمال النصّ مرتهن بالمضمون والشكل، لم ينس الشّاعر أن يستخدم أساليب لغوية تخدم رؤيته وتجذب القارئ للتفاعل مع قضيته والشعور معه. وهذا ما يؤكده "رحمن غركان" بقوله : أنّ القارئ يكمل قراءة المعنى الكامن خلف الأشكال كلها. فقد لجأ الشّاعر إلى أسلوبية التكرار لما فيها من وقع فكري وعاطفي على المتلقي.
ونعلم أنّ للتّكرار جانب نفسي وإيقاعي، وهو من أبرز انشغالات النصّ الحداثي العراقي ابتداء من السّياب ونازك الملائكة وصولاً إلى سعدي يوسف وعلي جعفر العلاق وغالبية من كتبوا النصّ الحداثي.فهو يمثّل فعالية مزدوجة في الأداء والدلالة وفي تعضيد جمالية النسق إيقاعياً. وهناك عدة أنواع من التّكرار الفنيّ الموحي وهي : تكرار الأسم والفعل والحرف والجملة وغيرها، وكلّها عناصر شعرية على المستويات كافّة. ولتكرار الفعل دوراً مؤثراً في النصّ ، لأنّ الفعل يملك القوّة المضاعفة باستدعائه للحدث والزمن في آن.
فالشّاعر يكرر الفعل (أفتحها ) ثلاث مرات مؤكداً على فكرته .ويأتي تكرار الفعل مضاعفا ًمن وقعه (الصوتي_الدلالي) المؤثر. فهو يبتعث إيحاءات النصّ الخصبة. هذه البساطة والسهولة والرشاقة في التكرار منحت النصّ سلاسة وخصوبة وجمالاً. فيكون الشّاعر بذلك أدى وظيفة التكرار الداخلية ألا وهي إبراز إيقاع درامي سيكولوجي كما أوردت " رجاء عيد" في تحديدها لوظائف التكرار. وهذا الإيقاع نلمسه أيضاً في استخدامه الذكي لبعض المفردات (الضحكات- القديسات- الأمنيات – الإبادات- العذابات).
ولم يكتف الشّاعر بتكرار الفعل بل كرّر من خلال الحرف. فاستهل أفعال النصّ بمجملها بالحرف (سين) المشير إلى (سوف) التي تدل على نية الفعل في المستقبل، وذلك لإبراز ما تنطوي عليه النفس من أزمات في الماضي وتطلعات وآمال وتأملات في المستقبل (سأرسم-سأبتر-سأزرع-سأجمع-سأفكر- سأصفع- سأمزق –سأحتطب). فالحرف (س) هنا نراه يستثير الحساسية والشّعرية بإيقاعه الضاغط، ويعمّق الإنفتاح السّردي للنسق.
كل هذا لهو دلالة على إحساس الشّاعر بالسّخط والانكسار والقلق .فقد أحدث الشّاعر بتكراره نغمة تهيء المتلقي للولوج إلى عمق النصّ وملامسة الرؤية المضمرة فيه.
نصّ موجع كجرح داخلي نازف أراد من المتلقي أن يشحذ كل حواسه وعواطفه وأفكاره ليكتشف ما يمور وراء هذا النسيج الشّعري من دلالات.
النّص:
سأرسم عيدا طفلا ؛
لن يأبه بالأوطان العارية
و لن يحتاج للشهداء
كي يكونوا وقودا لمدافئ الفقراء ؛
سأبتر ساق الكلمات
و أجعلها تحبو نحو القصائد
لتكون الأمهات مبتسمات ؛
سأزرع على شفاه القديسات
الكثير من بذور الحب
و أنجب من الصراخ
أطنانا من الضحكات ؛
سأجمع جثث الراحلين
و انفخ فيها من نور ( لالش )
ليحتفلوا معي
بهذا العيد المعاق .
أنا القادم من نافذة الصبر
أحمل مجهولا
يرافقني كما ظلي ؛
مذ همزة التاريخ
و هو ينزفني شعوبا ،
و يضمد مقاصل الجلادين
بالكثير من رماد الأجداد .
سأفكر مشنوقا بدمعي
و أحلم بغد
يكون فيه ( المتأسلمين ) مسالمين
يشبهون يد ( علي إبن أبي طالب )
و هو يضعها على رؤوس الأطفال
ليخبرهم
بأن الله ليس وحشا .
سأصفع كل المتدينين ( زورا )
ثم أهمس في قلوبهم :
( أنا طفل الشمس ) .
سأمزق ما تبقى مني
لأطعم حماقات القادمين ،
و أحتطب كل سنوات السبي
لأوقد ساقية السلام ؛
أجعلها تجري سريعا
نحو
القتلة
و السراق
و لاعقي موائد الطغاة ،
و أمرر يدي برفق جدا
على رؤوسهم الحبلى بموتي ؛
و أشعل
ضجيج الإبادات
و
صراخ القديسات
و
بكاء الأمنيات
و أقف
بكل الهدايا
التي لم يحن موعد حرقها بعد ؛
أفتحها
فتخرج أمي
من فم العذابات
مليئة
بالأيادي الدافئة ؛
أفتحها
فيمتد ظل أبي
ليوصلني
نحو الضفة الأخرى من الخراب ؛
أفتحها
فتتكاثر الملائكة
عند باب خيمتنا
و لا تزال أجنحتها بيضاء ؛
أفتحها
دون أن أدري
بأن الخيمة الأخرى
يحاك بقلبها عمري .
أنا المعجون في صبري
أشذب رحلة الأعياد
و أمسح ذاكرة الجدوى
و أنهض
من صحوة الماضين
و أحتفل
بصوت يشبه الأحزان ،
و أنشد
مثل قديس
أغنية
يصافح صوتها ألمي ؛
فيعود
عشب قريتنا
فتاة تشبه العشرين
و لا عشرين يشبهها ؛
أعانقها
فيصفع العيد في قلبي
كل التيه و البلوى
و أصحو بلا قبر
يرافقني كما الحلوى .
عيون العيد حافية
و جدران الفقر تعميها
و لكني
بلا وطن
سأشدو روح ماضيها
و أخبرها
بأن الطفل يحتفل
رغما عن مآسيها ...