سعيد بكّور - بلاغةُ الإيجازِ في القصّة القصيرةِجدّا.. قراءة في مجموعة "وجوه مشروخة" لعبد الرحيم التدلاوي

أوّلا- في ماهيةِ القصّة القصيرة جدّا:
تُجاهدُ القصّة القصيرة جدّا من أجل أن تضع لنفسها موطئَ قدم راسخاً بجوارٍ فنونٍ أدبيّة لها إرثٌ وشرعيةٌ وامتداد في التاريخ والوجدان وسلطةٌ على الذّوقِ. وإذا كانت القصّة القصيرة جدا –بمفهومها المعاصر- حديثةً طارئةً، فإننا لا نعدمُ لها أصولاً، ونماذجَ، وأشباها، في التراث السّرديّ العربيّ المتنوّع المشارب. بل إنّنا نصادفها في كثيرٍ من إبداعات قصّاصين عرب في منتصف القرن العشرين وقبله، لكنها لم تصل إلى مستوى الظاهرة المطّردة التي تستدعي نقاشاً وتأصيلاً.
لقد أسهم التطوّر الحضاريّ في ظهور الحاجة إلى فنون جديدةٍ تراعي وقتَ المتلقّي وتساير تعقّد الحياةِ، وكان لهذا التحوّل تأثير على ثقافة الإنسان المعاصر وذائقته التي أصبحت ميّالةً إلى ما هو موجز سريع، وعليه كان لتعقّد الحضارة وتغيّر الذائقة دور في نشوء فنّ القصّة القصيرةجدّا وغيره من الفنون التي تجنح للسّرعة مراعية بذلك وقت المتلقّي.
تقتنصُ القصة القصيرة جدا اللقطات الهاربة، وتصطادُ الأحداث الهامشية، وتقبضُ ببراعة على الشعاع الخاطف، ناقلةً إياه إلى واقعٍ لغويّ وعالم قصصي تخييليّ مستغلّة ما تنماز به اللغة العربية من إمكانيات تساعدها على التكثيف، والإيجاز، والتّلميح، والكناية، والإيحاء.
وتُعنىالقصّة القصيرة جدّا، إلى جانب ذلك، بالمشاهد الهاربة من الحياة والزّمن، والتفاصيل الجزئية التي لا توليها القصة القصيرة والرواية اهتماما وعنايةً.وتشبه القصة القصيرةُ جدّا في إصابتها لمقاتل الأغراض تلك الرصاصة التي تصيب الهدف في سرعةٍ ودقّة. وهنا تكمنُ خصوصيةُ كاتبها، من حيثُ قدرته على التقاط ما لا يراه كاتبا الرّواية والقصّة، مستفيدا في ذلك من مجهريةِ نظرته للأشياء، وقوّة ملاحظته لتحوّلات الواقعِ، وكذا النفاذ إلى عمقها.
إنّ القصة القصيرة جدّا مزاج من القصّة والشعر، فهيتأخذ من كلا الفنين بطرفٍ ونصيب، مشكّلةً لنفسها خصوصية أجناسيةفي الشّكل والمضمون والوظيفة، فإذا كانت تحتفظ بكثير من قواعد الكتابة السردية المعروفة وتبيّئُها مع طبيعتها ومساحتها، فإنها استطاعت أن تصهر في بوتقتها بعضاً من الظواهر البلاغية التي ينماز بها الشعر كالإيجاز والتكثيف والانزياح...
والقصة القصيرة جدا، بعد هذا وذاك، فنّ موجز بليغ، يعتمد على التكثيف الدّلالي المصبوبِ في لفظٍ مختزل، ومتواليات سردية متتابعة متسارعة،ويمتلك القدرة على رصّ المعاني الكثيرة في تعبير لغويّ بالغِ الإيجاز والتركيز.
ثانيا-تجليات بلاغةِ الإيجاز :
تقومُ القصّة القصيرةُ جدّا على "إجاعة اللفظ وإشباع المعنى" ، فأمام مأزق المساحة المكانية المحدودة، يستنفر الكاتبُ طاقاته البلاغية وألاعيبَه الأسلوبية وخبرتَه الإبداعية ليصبّ حكايته في قالبٍ لغويّ مقتصد سيماهُ التكثيف والعمق الدلاليّ، وعنوانه الإشارة واللمحة الدّالة والتّفجير.وعليه، فالإيجاز ليسَ بمعدودٍ عجزا بقدر ما هو تمكّن من اللغة وأساليبها. فمن علائم بلاغةِ الكلامِ حسنُ العبارةِ وإصابة المعنى . والبلاغةُ أيضا "بلوغ المعنى ولمّا يطل سفَر الكلام" ، وتلك أرقى درجاتِ التمكّن.
إنّ الإيجازَ رأسُ البلاغةِ ومنتهاها، وقد كانت العربُ تمدحُ الخطيبَ الذي يجمع المعاني الغزار في اللفظ القليل، ومدحوا الشاعر الذي يجمع المعنى الواحد في البيت الواحد، وأفضل منه درجة في سلّم الشعر ذاك الذي يجمع المعنى في قسيمٍ واحد. ولأنّ الإيجاز دليلُ تمكّن لغويّ وبيانيّ وتركيبيّ، كان من يتقنه يربو على غيره ممن لا يحسن إلاّ التطويل غير النافع.
وفيما يلي محاولةٌ مختصرة لرصدِ (بلاغةِ الإيجاز)وتجلّياتِها في المجموعة القصصية (وجوه مشروخة) للكاتب المغربيّ عبد الرحيم التدلاوي، ونجمع هذه التجليات في ثلاثةِ عناصر هي: الحذف المشهديّ، والرمزية، وتكثيف الأحداث، وينبغي التأكيد على أنّ هذه العناصر تتداخلُ في بينها وتترابطُ عضويا، فلا يعمل عنصرٍ إلا في تضامّه وتماسّه بالآخر.
1- الحذف المشهديّ:
هو وجه من أوجه التّكثيف، وملمح من ملامح الإيجاز، إذ تُحذف المشاهد وتُطوى الأحداث، ويُكتفى بالحدثِ البؤرة الذي يتفرّع، بعد التأويل، إلى أحداثٍ فرعية تخرج من رحمِ الحدثِ الأمّ، ففي قصّة ( ممنوع) تتوارى خلفَ المتنِ المحكيّ تفاصيلُ كثيرة لا يأتي عليها الذّكر، ومشاهدُ مرعبة تحيلُ عليها نقط الحذفِ وتومئ إليه رمزاً المتتالية السّردية (وضعوا المسدّس صوب صدغه)، فالمقام مقام ترهيبٍ وتعذيب، وما قولهم –وهم المتخفّون خلف ضمير الغائب-( اكتب بكلّ حرية.. !) إلّا كشفٌ عن مشهد التعذيبِ النّفسيّ الذي يعانيه المثقف الذي يحمل همّ التغيير بالكلمة، وتؤكّد نقط الحذف وعلامة التعجّب المختوم بها مشهدُ التهديد غرابةَ الأمر الذي خرج عن معناه الحقيقي إلى إفادة دلالات استلزامية مؤدّاها الوعيد والتّهديد. ونقف في هذه القصة التي تلخّص واقع المثقّف الذي يحمل همّ الأمّة على حذف المشهد الأخير، حيثُ جاءت القفلةُ مفتوحةً مخيّبةً لأفق التوقّع، حاثّة المتلقي على صنعِ النهاية التي تتناسبُ مع قناعاته، ويفتحُ حذف المفعول به في قول السارد التي يتموقعفي الخلف( وما امتنع) الأفق أمام توقّعات كثيرة ضبابية. وفي حذف المفعول به أيضا في قوله ( اكتب بكل حرّية.. !) ما يفيدُ دلالات تتآخى مع الدلالة الاستلزامية للأمر المتصدّر للجملة، فما دام المقام مقام تهديدٍ فلا عجب أن يكون المفعول المحذوف مفيداً لدلالةِ صرفِ الاتجاه إلى مواضيعَ هامشية لا تدخل في حيّز اهتمام المثقّف الحقيقيّ.
2-الرّمزيةُ:
إنّ ركوبَ مطيّة المجاز هو في عمقه وجهٌ من أوجه الإيجاز، ذلك أنّ الدلالةَ في التعبير المجازي تنحو إلى الرمزية والتكثيف والكنائية، فيختصر اللفظ الواحدُ الدلالات العِظام، وفي لحظة التأويل تتفجّر الصّور مفرزة كمّا من الدلالات المتناسلة التي لا تكادُ تتوقّف، وظلالا من الجمال التي تلقي بوارِفِ سحرِها على التعبير مانحةً إياه تأثيراً وفاعليةً جمالية.
في قصّة ( السّاعة) يتّخذُ الكاتبُ السّاعةَ في بعدها الزّمنيّ الدّال على حركية الحياةِ رمزاً للحضارةِ العربيّة، في إشارةٍ إلى تعطّل سيرها نحو الأمام، ويفتح هذا الرّمز النّص على أبعادٍ رمزية لا حصر لها، ولعل الكاتب يشير إلى أنّ حضارة العرب توقّفت عن التقدّم في العصور الوسطى، ومنذ تلك اللحظة لم تراوح مكانها، وأنّها اتّخذت موقع المتفرّج على الحضارات الأخرى التي تسير حاثّة خطاها نحو المستقبل، ويشير تعطّل ( الساعة) أيضا إلى تعطّل العقل والفعل. والقصّة في عمقها انتقادٌ ساخر لواقع عربّي لا يبارح مكانه في حركية التاريخ التي لا تهدأ. وفي قصّة ( وعد نهر) ، يصير النهر رمزا للانعتاق والثورة على القيود والتوق إلى الحرية.
ونقفُ في قصّة ( ابتلاع) على صورةٍ قد تبدو نمطية في ظاهرها، لكن كاتبنا أحسنَ توظيفها بما يخدم قصدية السياق وينمّي دلالة القصّة وبعدها الرمزيّ، إذ يقول ( أنشبَ أظافره فيها بالتذاذ، وصار ينهشها نهشا)، فالفريسة هنا ما هي إلا سمكة السّلمون التي يحبّها كحبّه لصاحبته، وهي فاقدةٌ لحسّ المقاومة، لذا كانَ توظيف ( نشب الأظفار) و( النّهش) قصداً إلى المبالغة في تصوير الجانب النّفسي لشخصية البطل الذي لا يرى فرقا بينَ سمكة السلمون وزوجته، فكلاهما يشبعان رغبةً وحشية، أو لنقل كلاهما يشبعان جوعاً.
3-تكثيفُ الأحداثِ:
هو أحد الخاصّات المميّزة للقصة القصيرة جدّا، فأمام انحسار الفضاءِ المكانيّ يضطر كاتب القصة القصيرة جدّا، من منطلق وعيه الكتابيّ، إلى إفراغ الدلالات في قالبٍ سرديّ مكثّف الأحداثِ، وتلك أكبر العوائق التي يمكن أن تواجه كاتب هذا الجنس الأدبيّ. ففي قصّة (الساعة) تكمنُ في الخلفية أحداثٌ كثيرة تحيلُ عليها نقط الحذفِ ويدلّ عليها السّياقُ الذي ينفتح على التاريخِ والواقعِ في إشارةٍ إلى حضارة كسيحةٍ معطّلةٍ.
وقد يتّخذُ تكثيف الأحداث شكل إسقاطِ أحداث من السّياق، حيثيمعنُ كاتب القصة القصية جدّا في توظيف الأفعال التي تختزل وقائع كثيرة في حيّز زمني\ لغوي قصير، فتصيرُ القصّة عبارة عن متواليات سردية قصيرةٍ سريعةِ النّفَس، تتسارع في وتيرة متناسلةٍ، وأمام هذاالاندلاثِ السريع والتدفّق الآليّ للأفعال تسقطُ أحداث وتُطوى مشاهدُ، ويمكن أن نقف على تدفّق الأفعالِ وما يهبُه للسّرد من دينامية في قصة ( وعد نهر) من خلال الجردِ التاليّ: "انطلق، يعانق، يمنحها، أصيب، يسير، استفاق، غضب، ينفجر"، وهذه الدينامية المتدفّقة تعكسُ انطلاقَ النهر وتدفّقه الذي يتماشى مع دلالة الحرية والثورة على القيود التي يرمز إليها.
وممّا سلفَ، يمكن القولُ أنّ الإيجاز في القصّة القصيرة جدّا وسيلةٌ وغاية، وسيلة من حيث كونُه قالباً لغويا ودلاليا وتركيبيا يصبّ فيه الكاتب مضمونه دون أن يعييه ضيقُ المساحة، وغايةٌ باعتباره مطلباً أسلوبيا صعبَ المنالَ لا يتأتّى إلا لمن تمرّس على البلاغةِ والكتابة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى