مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -22- (عَنْ ذُباب السوق)

[22]
(عَنْ ذُباب السوق)

يبدأ نيتشه فصله بنداء من زرادشت إلى تلاميذه للفرار إلى الوحدة ((فُرّ إلى وحدتك ياصديقي!)) وستتكرّر الدعوة إلى الوحدة ومديح العُزلة كثيراً خلال الفصول القادمة من هذا الكتاب، كما تمثّل ثيمة قارّة في العديد من كتابات نيتشه، كما في سلوكه وحياته. الوحدة إذاً إحدى الثوابت الأساسية في فضائل المفكّر الحقيقي لديه، يقابلها سلوك القطيع وتفكير القطيع. والتوحّد هو عزلة "المفكّر"، لا عُزلَة الناسك أو الراهب الذي يرفض الدنيا وينسحب منها، كما يتّضح ممّا يرد في الكثير من المواضع من كتاب زرادشت بدءاً من لقائه مع الناسك في طريق عودته من الجبل في مُستَهَل الكتاب إلى لقائه في الجزء الرابع من الكتاب بالمَلكين والعَلَقَة والظلّ والساحر والعاطل والمتسوّل الطوعي وأقبح إنسان... كما تخترق هذه الموضوعة مجمل كتاباته الأخرى، مثل كتابه "ماوراء الخير والشر" على سبيل المثال، العقلرة 284: ((...وليظلّ المرئ متمسّكاً بتملّكه بفضائله الأربع، فضيلة الشجاعة وفضيلة التبصّر، وفضيلة التعاطف، وفضيلة الوحدة. وذلك أنّ الوحدة فضيلةٌ عندنا، كنزوعٍ مقدّسٍ للنقاوة يجعلنا نحدس كيف أنّ احتكاك الإنسان بالإنسان _داخل المجتمع_ يؤدّي حتماً إلى التدنّس. فكلّ جماعة تجعل المرء بطرقةٍ ما وفي وضعٍ ما وفي وقتٍ ما "خَسيساً"))

((حيث تنتهي الوحدة تبدأ السوق العمومية))
إذن العزلة والوحدة أمران ضروريان، لكن ليس بالمعنى الحرفي للتوحّد فقط، بل أيضاً بمعنى الانفصال والاعتزال. وهذا الانفصال عن الآخرين _العاميين_ ضروري للفيلسوف أو المفكّر لأنّ كل رفقة تجعل الفيلسوف بطريقة ما "خسيساً" أو "عامياً"، أي يدفعه للابتعاد عن البحث عن كل ما هو نادر ونبيل. وبالنسبة لترجمة "عامّي" أو "دَنِس" أو "خسيس" جاء في ترجمة جيزيلا حجّار لكتاب "ماوراء الخير والشر"، من إصدارات دار الفارابي لنفس المقطع: ((إنّ الوصل بين إنسانٍ وإنسان، في المجتمع، ينطوي بلا مَنَاص على ما هو لا-نظيف. كل انتماء إلى جماعة ما _إلى العامّة_ يجعل المرء بطريقةٍ ما وفي محلٍ ما وآنٍ ما، "عامياً"))صـ272. ويورد الأستاذ علي مصباح ملاحظة هامشية حول ترجمة نيتشه واستخدامه لكلمات معيّنة ثمّ تلاعبه بها إذ يقول: ((إنّ عبارة gemein القربة سُلالياً/ لسانياً من عبارة gemeinschaft التي ترجمناها بـــ"جماعة" يمكن أن تفيد في الألمانية أيضاً: عمومياً، عاماً، ومَتاعاً مشتركاً. هكذا يجد القارئ نفسه امام تلاعب بالكلمات عزيز على نيتشه يمكنه من خلاله أن يُضَمّنَ العبارة الواحدة معاني مختلفة لكنّها متقاربة الدلالات في الآن نفسه)).

المهم هنا أنّ هذا القسم يشرح نفسه بنفسه إلى حدٍ كبير. فالخطاب موجّه إلى التلاميذ، الذين يعرفون الآن أنّ مهمّتهم ستكون اكتشاف نُبلهم الداخلي، وإعادة النظر في جميع القيم وتقييمها، والتغلّب على إغراءات العَدَمية وتوليد قيم جديدة. لكن ماهي علاقتهم بالمجتمع الجماهيري المعاصر؟

هنا، تتمّ الإشارة إلى مثل هذا المجتمع من خلال السوق، ومكان التجمّع المُصطَنَع، والتبادل الاقتصادي المؤقّت والمجهول، وتبادل الأخبار أو غيرها من السفاسف والمعلومات: عَرض صاخب وقذارة نتنة تجذب الذباب.

يقسّم زرادشت السوق إلى فئتين عريضتين: (الصّغار) الذين يتمّ تصويرهم هنا على أنّهم حشرات لاذعة _و(العظماء) الممثّلون أو المهرّجون، الذين يصدرون الكثير من الضوضاء والصخب. بمعنى، هؤلاء الذين يعتبرهم الصغار أو "الذباب" عُظَماء. كثيراً ما تستخدم الصورة المجازية للحشرات التي تصيب "الأنفس الحرّة" في الكتاب. وكلتا الفئتين تتميّزان بحاجتها للانتقام (حافز الدم) والحسد المثير للشفقة. الممثلون المسرحيون، والقادة الثقافيون والزعماء السياسيون والاجتماعيون في السوق، يجذبون الجماهير (الشعب) ويركضون خلف القيم الدنيوية الدنيئة (الشهرة)، إنّهم ذوي عقول لكنهم ليس لديهم "الوعي بالعقل". أي أنّ نَمَطَ حياتهم كموضوع لإرادة القوة مهيمن بما يكفي لدخول مرحلة الوعي كمبدأ أو واجب أو فضيلة، ومنحهم تأثيراً اجتماعياً وسياسياً _ولكنه مهزوزٌ ومُخَلخَل ولا يولّد أيّ اندفاع للبحث عن الثبات والاستقرار. تتكوّن قيَمَهُم وفضائلهُم من كل ما يساعد على لإقناع الآخرين: إنّهم ممثّلون بارعون، لكنّهم بشرٌ فاسدون. وبسبب محتواهُم المهزوز أو المُخَلخل /المتذبذب/ لاتزال قيمهم تفرض نفسها على أنها قيم "غير مشروطة" _أي أنّها تقدّم نفسها على أنّها قيم صالحة وفاعلة بغضّ النظر عن الظروف. وبالتالي، فإنّهم يطالبون بـالـــ"نعم" أو الـــ"لا". الإنسان الرفيع أو النبيل هو تذكيرٌ حيّ لجميع هؤلاء الصغار والفاسدين بزيفهم، وبالتالي: ((أنتَ الضمير القلق لأقربائك)).

فُرّوا إلى الوحدة والعُزلة: هكذا ينصحهم زرادشت. إنّ السوق _أي قيم الرأسمالية أو العمل أو الصناعة_ موجودة في كل مكان. تستلزم الفلسفة والتفكير والنّموّ الذات تفرّغاً والكثير من أوقات الفراغ، لتكون هذه الأمور والممارسات مُتاحة للتأمّل والإمعان فيها.

إنّ عقلية السوق هذه ليست مجرّد "نمط حياة" _شيء ما يمكن تغييره أو تبديله كمجموعة من الملابس_ بل بالأحرى تعبيرٌ وصيحَة ضمن مؤسّسات وقيم وعادات لنمط حياة الأوروبيين المعاصرين لنيتشه (والحاليين في زماننا هذا)، وهذا هو شأن العالم أجمَع.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى