حسن إغلان - حمار كافكا

أذعنت للحجر الصحي، ولأول مرة أسكن بيتي ليل نهار، لا أخرج إلا لماما. كشفت بعض العادات السيئة التي تمضغنا بمهل وبكياسة لا حد لها، كما لو كنت في إقامة إجبارية. استغللت الوضع وانخرطت في اللعب مع حاسوبي النقال، أدور عليه كما يدور الحاج على الكعبة مرتقبا ما يتلوه الله في عالمه، ولأني كنت منشغلا بالكتابة، والفلسفة والسياسة …
قررت إعادة قراءة الأعمال الكاملة لفرانز كافكا من «المحاكمة» ، «التحول»، وقصص أخرى، إضافة إلى رسائله في تتابع الملفات المطلة من نوافذ مغلقة، ومفتوحة انتبهت إلى حريق يتلف الحواس من إحدى النوافذ المغلقة. فتحتها وهي تتشظى بنار نسيها برميثيوس في الأرض. كتابات محرقة يصعب جمع حروفها، وإطفاء النار العالقة بها.
خلت في الأول أن كافكا يسخر مني، ابتلعت سخريته ونشفت لسعتها بكأس ماء باردة.. قرأت قبل ثلاثين سنة أن كافكا أوصى صديقه بإحراق كتبه، صديقه لم ينفذ وصيته وتركها قرب قبعة النسيان. حاولت عبثا إطفاء الحريق من صفحات اسودت بظل النار، وكأنها لمستها دون أن تأكلها. النار تأكل الأخضر واليابس، حتى المغاربة يخافونها مثلما يخافون المخزن والماء والمرأة، شدني الفضول من عيني الذابلتين بفعل الضوء المنعكس من شاشة الحاسوب النقال: اشتممت رائحة غريبة تتسكع في غرفتي، تابعتها كشرطي يخاف من عطس المارة، ولم أكن أعرف ما الرائحة، تابعتها بعناد كافكا اللعين. ركزت النظر إلى الحروف المسودة، والتي يستحيل توضيحها. غيرت النافذة إلى أخرى تمكنني من تفريغ البياض في السواد، قرأت قصة بعنوان «الحمار»، وهي أقرب من قصة «تحريات كلب»، سجلت القصة في الركن الأيسر من الشاشة، كلما قرأت جملة انمحت في الجملة القادمة حد صعب علي متابعة القصة من ألفها إلى آخرها.
وقفت قرب النافذة، أشعلت سجارتي، وسيران النيكوتين يدب في عروقي بمهل، وعلى عجل بحثت عن بعض الكتابات حول الحمار، ولم أجد غير سيرة جحا وحماره، و»حمار الحكيم» و «الحمار الذهبي» للوكيوس أبوليوس وقصة «آه منا نحن معشر الحمير» لعزيز نيسين، وأعمال أخرى تحتفي بالحيوان المرغوب به في حاضرنا.. مازالت ذاكرتي متقدة، ومازلت أتذكر تفاصيل الحمار وهو يجوب الأرض بمكوناتها الطبيعية، وداخل المدن القديمة والجديدة.. لكن قصة حمار كافكا غريبة شيئا ما، فهي رماد بفعل الحرق، وهي محو بفعل التذكر، وهي ذاكرة بمفعول النسيان، كافكا كتب حماره، وترك النار تلتهمه، جمعت ما تشتت على شاشة الحاسوب، ووضعته في كيس بلاستيكي حتى أتمكن من سل لسان الحمار، وأسنانه المربعة وأذنيه النافرتين، وصوته الجميل الذي يشبه أصوات المغنين الجدد. وضعت الكيس في درج مكتبي، فتحت النافذة. الشارع فارغ ، ونباح الكلاب يزوبع صمته. ضوء خافت يضيئ قطعة من الشارع بكسل، إنارة الشارع تشبه سياسة المدينة، ولا أحد يمر قبالتي، كأن المدينة دفنت سكانها في الظلام. الكلاب تنبح هنا وهناك كما لو كانت تغازل تشردها، بينما نهيق الحمير خافت. لم أستطع الخروج من البيت للبحث عن حمار كافكا في الحجر الصحي. هيأت كأس شاي ببعض الأعشاب المهدئة، والمهيجة للنوم كي تسود جسدي المتعة. قلت في داخلي، وأنا أغفو: غدا سأخرج كي أفتش عن هذا الحمار الذي قض مضجعي، ونمت نومة عميقة. في الصباح الموالي أيقظت كافكا من حاسوبي، وحملته معي إلى الشارع الكبير وبعض المارة يركضون خلف شيء ما، آذانهم تكبر، وبطونهم تنتفخ حتى يخال للرائي أنهم يمشون على بطونهم، مسحت نظارتي حتى أتيقن من نظرتي. كل الناس يحملون نظارات ولا أحد يرى بعينيه المجردتين. الشارع يمتلئ بهؤلاء الناس الذين تحولوا إلى حمير. عادة ما يحس الفرد منا بالغبن حين ينعته أحدهم بالحمار، أما الآن فالحمار أصبح مطمحا جماعيا، نظرت إلى كافكا وهو يسير بجنبي، نظرت إلى عينيه المرآويتين لأتأكد من خلوي من أية شائبة من شوائب الراكضين في الشارع خلف شيء ما، جلست في مقهى العاصمة، كأن البعض من زبنائها يحملون هذه العلامات حسب مراتب مهنهم. لم أسأل النادل عنهم، ولا عن الوباء الجديد الذي حل بالبلد وشاع في كل الأنحاء و الأرجاء، في السابق كنت أرى مثل هاته العلامات على شاشة التلفزيون بالأبيض و الأسود، كانوا قلة تحدسهم من بطونهم المنتفخة كالحبلى في شهرها التاسع. لم أكن أهتم بهذا الامر ربما لأني لم أصادف فرانر كافكا في الحلم ولم ألتق به في المكتبة،ولا في حلقة اليساريين الضائعين، وربما كذلك لبساطة الحياة، ولعلعة الأحلام الكبيرة… تناولت الجرائد وتصفحت عناوينها ، صور بعض الشخصيات المعروفة انتفخت بطونها إلى حد يستحيل لأصحابها رؤية ما تحت السرة. التفت إلى كافكا، كان شاردا حركت ظله إلى اليسار، وانتبهت إلى قصة كافكا الرهيبة التي لم يسرد فيها تفاصيل الحمار في براغ. ولم أسأله. فقط علقت حكاية الحمار بيني وبينه. في الجهة الأخرى من المقهى شخص أعرفه معرفة جيدة. كان زميل الدراسة وكان من ضحايا القمع والتعذيب. بدت أذناه كبيرتين وبطنه يعوق جلسته، حاولت تحيته من بعيد، لكنه أدار عينيه إلى الجهة الأخرى كأنه لا يرغب في رؤيتي. يتزايد الركض في الشارع في وسطه مظاهرة لخريجي الجامعات، يرفعون الشعارات، ويحرسون حواسهم حتى لا تتحول وتفضح بعضهم. في الجهة الأخرى من الشارع مقر البرلمان. أديت ثمن القهوة، وانسحبت على عجل دون الالتفات إلى زميل الدراسة. أنا الآن قبالة مجلس الشعب. أناس يدخلون ويخرجون بلباسهم الرسمي، وبطونهم تتسع حسب ما اتفق عليه حياني برلماني من مدينتي، ودعاني لتناول الغداء، وشرب نبيذ جميل. ترددت وقبلت الدعوة بالمطعم القريب من مجلس الشعب، وهو فندق يرتاده أهل الحل والعقد في بلدنا. الجميع متشابه. أنا والنادل اللذان يشكلان علامتا التعجب في هذا الفضاء. سألت صديقي وأنا أتذوق كأس نبيذ عن سر التشابه الموجود بين هؤلاء، قال: هي خبرة يا صاحبي، لقد أعيتنا شعارات المرحلة، والعالم اليوم يتفنن في موسقة لغة الحمير، وتابع «لو لم أكن حمارا لما كنت هنا». ابتلعت كلامه، وكافكا اللعين يلكزني بأصبعه كي أخرج من هنا. وباء الحمرنة أفظع من الطاعون والكوليرا أو كورونا. هذا ما قرأته على عتبات الصالحين والحالمين.
شكرت زميل الدراسة، واتجهت نحو بيتي، كل شيء تحول فيها، الملابس والأجساد، والمقاهيي، والعجائز، والكلام… أحسست بقشعريرة تسري في جسدي بسهومها المتعددة، ولا أحد يحرر أحلامه، والأحلام تقتات في أعشاشها بصبر. دخلت بيتي وعرق بارد يغطي وجهي، جلست على الكنبة، أشعلت جهاز التلفزيون وبدا زميل الدراسة يتحدث في كل شيء. أغلقت الجهاز،ونظرت إلى المرآة، وتلمست أعضائي عضوا عضوا لأتيقن من سلامته. أرعبني وباء الحمرنة المستشري في الشارع و التلفزيون والمؤسسات و… أعدت كافكا إلى نافذته، أخرجت الكيس المخبوء في الدرج، وشتته خلف النافذة، أرغب التخلص من كافكا اللعين، وقصة الحمار التي شتتها خلف النافذة.
ورطني حمار كافكا لامتطائه، والبحث عن حمار لوكيوس أبوليوس للحفر في ظاهرة الحمرنة عندنا. فتحت كتاب «الحمار الذهبي»، وحين قرأته في ليلتين خفت التماهي مع بطل الرواية. هذا البطل الذي دفعه الفضول إلى وضع جثة الحمار عليه، أو باالأحرى ثم مسخه بمفعول فضوله، ولكي يعود إلى طبيعته وجب عليه أكل الورد. تساءلت: ما العلاقة بين الحمار وأكل الورد؟ الورد حقيقة والحمار الذي تلبس البطل مسخ، تتالت سردية الرواية، والحمار الذهبي يعيش صنوف التنكيل والتعذيب إلى حد هروبه، ووقوفه قبالة المعبد الإلهي أمام الكاهن الأعظم لفسخ المسخ عبر أكل الورد. هي رواية قديمة قدم التاريخ. تدفعني قبالة المرآة لأتلمس أعضائي واحدا واحدا حتى لا يتسلل إليها مسخ المرحلة.
ثمة مراتب في الحمرنة وهي أشبه بمراتب الأرض الأفلاطونية، حمار نحاسي، حمار فضي، حمار ذهبي، ولا يمكن الانتقال من دائرة اجتماعية إلى أخرى إلا بالإذعان التام والمطلق للتفاهة، وهذا لا يتم إلا بإجادة وإتقان العمل و الخطابة. أخذت السؤال إلى منطلقه، وتابعت الحمير المتعددين في المجتمع كما لو كنت أقوم بتحقيق صحفي. الآن سأكتب قصة كافكا التي احترقت بعد موته، وأصبحت رمادا يعطي للعالم المعنى. علي تهيب جميع الحواس للكتابة عن هذا الموضوع. قررت المكوث في بيتي ثلاثة أيام. اقتنيت ما يخصني. أغلقت النوافذ والتليفون. أخدت دوشا دافئا، وجلست قبالة المكتب عاريا، وبدأت الكتابة من اليمين إلى اليسار. خلت نفسي في هذه الحكاية أني أصبحت حمارا. والسبب في ذلك فضولي اللافت لمعرفة دقائق الأمور من قبيل معرفة انتقال زميل الدراسة من ما قبل الحمرنة إلى حمار نحاسي إلى حمار فضي. أعرفه مثلما أعرف أصابعي ، كان في الأول مشاكسا في الثانوية التي درسنا بها، ومنفعلا حتى الإغماء في الجامعة، وبعد أن افترقت بيننا الأمكنة والأزمنة ظهر لي بأذنين تتسعان وتكبران كموظفي الجامعة العربية، هو الآن يسكن في ضيعة كبيرة قرب العاصمة، مثلما يعيش لحظات زهوه بإحدى الشقق الفاخرة بأحد الأحياء الجديدة في العاصمة. له إبنان واحد يدرس بمدينة لوزان السويسرية والآخر يتابع دراسته العليا في شعبة إدارة الأعمال بجامعة أكسفورد… لم أقل: من أين لك هذا؟. دفنت سؤالي في بلازما الذاكرة وتابعت الحديث عن ظاهرة تلبستنا في كل الأمكنة.. أحسست بدوخة تسري في عظامي. فتحت الثلاجة، وأخذت جعة باردة، أفرغتها في الكأس الكبير إلى حد أن غطت زبدتها الكأس بكامله. شربت جرعة كبيرة كي أشتت رذاذها المجتمع فوق الكأس. تناولت بعض المكسرات لإفراغ جسدي من دوخته. ما زلت كما كنت أترنح في الكأس كحشرة برنينها المزعج أنط بين حمار وآخر، وكل حمار من هؤلاء يحمل حكايته بين عينيه ولا يرى المرآة إلا حين يكون احتفال وطني بمناسبة أو بدونها، والحمار الذي ورطني في الكتابة لا يشبه زميل الدراسة. زميل الدراسة يعشق تربية الأكباش في مزرعة الحيوانات. الفضول يشدني من عنقي، ويدخلني إلى فساد الأمكنة. خلت نفسي كبشا يتهجى كلمة «مــاعع، مـــاعع، مــاعع» وحين أعيتني هذه الكلمة أخرجوني بقرونهم الكبيرة إلى العراء حيث الذئاب والكلاب المفترسة تحيط بي من كل جانب، أفزعني المنظر وعدت إلى الجعة الثانية، تناولت سيجارة ودخنت نصفها وأصابعي ترتعد فزعا. عدت إلى المكتب، وقررت أن أكون ذبابة، أو حشرة تفسد نوم النائم ولا يستطيع الحمار قتلها إلا بتسميمها. أثارتني هاته الفكرة، وقبضت عليها حتى لا تضيع مع العصافير المهاجرة. الحمار النحاسي. يرى صورة الحمار الفضي في المرآة. بينما الحمار الذهبي محوط بأكثر من مرآة سحرية لا يقدر عليها أي حمار آخر. حتى لو تزوج أخت أو بنت الحمار الذهبي. الحدود صارمة كما نظام أفلاطون تماما. أنا الحشرة التي ستموت غدا أو بعد غد بفعل مرض مفاجئ قاتل أو خطأ طبي، أو حادثة سير مميتة أنط بين حمار وآخر دون حساب المخاطر. أراقب هذا أو ذاك وأتغوط عليه حين سهوه، غالبية هؤلاء يمشون على أربع قوائم، وكأن بطونهم عاقت حركتهم، وكأن خضوعهم الدائم جعلهم كذلك.
مضت ثلاثة أيام كتبت فيها أكثر من ثلاثين صفحة، وهي أشبه بتحقيق صحفي مرشوش بسرد أدبي. سأنشره بإحدى المجلات أو أضعه على جدار الفايسبوك كي يقرأه الجميع كمنشور سري. توقفت عن الكتابة حتى لا أدخل منطقة الحمار الذهبي…
حدثني أبي قال: للمرأة الحق في امتطاء زوجها إذا كان حمارا. حكمة جالت بين القبائل والدواوير منذ غابر الأزمان، وهي إضافة إلى ذلك تقر بالفضول الذي يستأسر خيال المرأة، والرجل يتحول إلى حمار إذا ما تم خضوعه المطلق لحماقات زوجته. ما يهمني من حديث أبي هو الفضول الهادر للمرأة، وكأن التلصص على الأسرار هو ما يجعل العبور إلى الامتلاك أمر بالغ الأهمية. أترك هذه الحكمة البليدة وأجلس مع الحمار الحكيم في مقهى «باليما». هو يحتسي حليبا وأنا أشرب القهوة، لن يتفاجأ النادل في هذا الوضع. حمار الحكيم يحيي زملاءه المارين بكروشهم المنتفخة، وآذانهم الطويلة والقصيرة والمتوسطة، وبعضهم يخرج من مجلس الشعب. قلت لحمار الحكيم في أذنه اليسرى. أدعوك لتناول الغذاء في المطعم القريب من محطة قطار المدينة. اعتذر بلباقة، وتسلل دون دفع ثمن القهوة والحليب. قلت: علي الآن شراء دحش صغير لتربيته حتى يسد فضولي.
طويت الحكاية والنهيق يتصاعد في بلاطو التلفزيون إلى حد خروج الحمير من شاشة التلفزيون. احتلوا مسكني، وحرقوا الكتب والصور، وأنا أتلصص عليهم من فتحة باب المرحاض، وحين خفت النهيق، وانطفأ الحريق، فتحت الباب ومشيت على أطراف أصابعي لأجد خراب مسكني، وحريق كتبي وأوراقي كلها. إلا أني وجدت حمار كافكا على المكتب سليما. فتحت النوافذ لأتنفس الهواء الرطب وقلت في داخلي: لماذا تركتني وحيدا يا فرانر كافكا؟

الكاتب : حسن إغلان


بتاريخ : 10/10/2020



أعلى