هل ستتحول السرقة الأدبية إلى «نوع أدبي» مُستقل؟
لقد سلكت "لي إسرائيل"(1939ـ 2014) ذلك الطريق، جعلت من السرقة الأدبية حرفة لها، خلّدت اسمها بانتحال نصوص ورسائل الآخرين.
اشتهر اسم تلك الكاتبة الأمريكية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضية، اشتغلت بكتابة سير بعض المشاهير، في السينما والتلفزيون، لكن سرعان ما توارى اسمها، فشلت في إقناع ناشرين بمشاريعها، وقاربت الإفلاس، انزوت برفقة قطتها، عاجزة عن دفع تكاليف بيطري يفحصها أو تسديد كراء شقتها، ما قادها إلى ابتكار حياة ثانية لها، بأن تُزور رسائل كتاب، تخترع مُراسلات لهم، توقعها بأسمائهم وتبيعها للمكتبيين، وللمهتمين بجمع الأغراض القديمة والأنتيكات. وتقول مصادر أنها زورت ما لا يقل عن 400 رسالة بأسماء كاتبات وكتّاب، لكن الشرطة اكتشفت أمرها، والقضاء أدانها ومنعها من دخول المكتبات ومراكز الأرشيف، قبل أن تتفرغ لكتابة سيرتها كسارقة أدبية، بعنوان:
«هل يمكنك أن تُسامحني؟»، معبرة فيها عما ساورها من فخر بما فعلته، وتحولت تلك السيرة إلى فيلم من إخراج مارييل هيلر وبطولة ميليسا مكارثي.
نظرت "لي إسرائيل" إلى السرقة الأدبية عكس ما ننظر إليها، لم تستشعر حرجاً بما فعلت، بل دافعت عن سرقاتها، وأشعرتنا بأنها مبتهجة بصنيعها، عبّرت عن حقها في السرقة الأدبية، لم تكن سرقات سهلة، فقد كلفتها ساعات طويلة من البحث، من التنقيب، من «النط» من مكتبة إلى أخرى، ومن تقليب أرشيف يزن كيلوغرامات، قبل أن تصل إلى ما ترغب فيه، لقد بذلت جهداً في السرقة الأدبية يُناهز جهد كاتب منكبّ على عمله الأصلي، كما إن السرقة الأدبية أشعرتها بوجودها وجدوى عيشها، مثلما شعرت بجدوى عيشها قبل ذلك، عندما كانت تؤلف سير المشاهير. إن التعريف الذي صاغته "لي إسرائيل" للسرقة الأدبية يعد تعريفاً نبيلاً، لا مناقضا لأخلاقيات الأدب، لقد قامت بذلك النشاط، في مرحلة لم تكن فيها الإنترنت متاحة مثل اليوم، ما سهل عليها في البداية تسويق سرقاتها، وإسعاد مجهولين بأنهم يمتلكون نصوصاً ورسائل أصلية خطها كتابهم المفضلون، لقد جعلت من السرقة الأدبية تجربة أدبية خالصة، لا تُهمة كما تعودنا على نعتها.
انتهى أمر "لي إسرائيل" بأن انفضحت ودافعت عن نفسها، ماذا لو أنها عاشت في العالم العربي؟ هل كانت ستُنهي حياتها في الشغل ذاته بدون حرج؟ نسمع كثيراً عن قضايا ومُحاكمات تتعلق بحقوق موسيقية أو سينمائية، لكن لم نسمع عن قضية تشد الانتباه تتعلق بحقوق أدبية؟
إن المناوشات بخصوص الملكية الأدبية تدور ـ عربياً ـ في الجرائد لا في المحاكم، كما إن التأكيد على أن مؤلفاً سرق آخر ليس عملاً سهلا، بل يلزمه إثباتات، في بعض الأحيان من الصعب التوصل إليها، لذلك ففي كثير من الأحيان نجد أنفسنا بصدد تهم كيدية، لا حقيقية، لكن القارئ العربي مغرم بالفضائح، بمجرد أن يشم رائحة فضيحة سرقة الأدبية حتى ينصرف عن كل انشغالاته، ويستغرق في التعليق عليها والانحياز إلى طرف ضد الآخر.
هل يوجد مُحامون مختصون في الملكية الأدبية؟ يبدو هذا المصطلح مجرد ديكور في مدوناتنا القانونية، كما يسهل على أي كاتب عربي أن يبرئ نفسه من سرقة أدبية، تحت مسميات فضفاضة: تناص أو استلهام. لماذا يخجل كاتب عربي من مواجهته بالسرقة الأدبية؟ من حق الأدب أيضاً أن يتكور في حلقات حلزونية، أن يقتنص كاتب شيئاً مما خلفه السابقون، ومن حقه أيضاً أن يُدافع عن «سرقته» حين يُكتشف أمره احتذاءً بلي إسرائيل. هناك من يُراهن على أن «الإبداع» الأدبي ليس سوى قطيعة عما سبق، لكن الحقيقة أن الإبداع إنما هو مسار مشترك يتقاطع فيه الكتّاب، يتناوبون فيه في العدو، مثل سباقات مئة متر تتابع، حيث يتبادل العداؤون عصا، بينما يتبادل الكتّاب كلمات وأطروحات. «السرقة الأدبية ضرورة، بل إن تصحيح فكرة سابقة أو دحضها أيضاً سرقة أدبية»، على رأي الشاعر لوتريامون، الذي لم يخجل من اقتباساته من دانتي.
حين يشتغل نقاد بمقاربة نص ما، سرداً أو شعراً، فإنهم يبحثون في خلفيات الكاتب، في التأثيرات التي داهمت مُخيلته حين الكتابة، يبحثون عن العوامل الخارجية للنص، يسمونها في الغالب مرجعيات، بدل وصفها بالسرقة الأدبية، فهذا المصطلح ينظر إليه على أنه تهمة لا تقل شأناً عن الجنحة. لم تعد السرقة الأدبية أمراً مستهجناً، سوى في عقول بعض الصحافيين سريعي نفاد الصبر، الباحثون عن شهرة بأهون الطرق، ففي سجلات النقد الغربي باتت السرقة الأدبية أمراً مشروعاً، لكن بحسب شكل توظيفها في النص والزج بها، بدون أن يشعر بذلك القارئ.
سبق وصادفنا أكثر من قصة عن سرقة أدبية، في العالم العربي، أكثر من كاتب تورط في سرقات موصوفة، لكن في كل الحالات يسقط العتاب كله على كتف المؤلف، أين هو دور الناشر؟ إنه الشخص الأول الذي سوف يتخلى عن الكاتب، بل سوف يلتحق بجحفل الناقمين عليه. إن أي تهمة بسرقة أدبية لا بد أن يقتسمها المؤلف مع ناشره، لكن هذا الأخير أقصى شيء يفعله هو أن يسحب الكتاب من التسويق. في الغالب فإن الكاتب بصدد عمل أدبي، متخيل في مجمله، ليس كتاباً نقدياً ولا تاريخيا ولا أكاديميا، فلماذا نطلب منه إشهار مراجعه؟ هذه مهمة أشخاص يأتون من بعده، من نقاد ودارسين.
لقد سرت السرقات الأدبية خصوصاً في الجامعات، في مذكرات التخرج، لكن منذ سنوات تصر جامعات على نشر رسائل التخرج على مواقعها، قصد فضح أي سرقة مُحتملة، وهو أمر يتعسر في الأدب، لا تزال قضية لي إسرائيل واحدة من أشهر قضايا السرقات في الوقت الحاضر، لكن لم يكتشف أمرها سوى بعد مرور أكثر من سنة على بيعها وتسويقها المئات من الرسائل والنصوص المنتحلة، كما أن الشرطة وصلت إليها بعد وشاية، مع ذلك لم تنف الكاتبة فعلتها، دافعت عن حقها في سرقة أدبية، باعتبارها جزءاً من لعبة الأدب، هل أرادت بذلك أن تنبهنا أن النص الأدبي، مهما كان مؤلفه، حقاً مشاعاً لا ملكية فردية؟
سعيد الخطيبي
(*) عن القدس العربي| لندن
لقد سلكت "لي إسرائيل"(1939ـ 2014) ذلك الطريق، جعلت من السرقة الأدبية حرفة لها، خلّدت اسمها بانتحال نصوص ورسائل الآخرين.
اشتهر اسم تلك الكاتبة الأمريكية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضية، اشتغلت بكتابة سير بعض المشاهير، في السينما والتلفزيون، لكن سرعان ما توارى اسمها، فشلت في إقناع ناشرين بمشاريعها، وقاربت الإفلاس، انزوت برفقة قطتها، عاجزة عن دفع تكاليف بيطري يفحصها أو تسديد كراء شقتها، ما قادها إلى ابتكار حياة ثانية لها، بأن تُزور رسائل كتاب، تخترع مُراسلات لهم، توقعها بأسمائهم وتبيعها للمكتبيين، وللمهتمين بجمع الأغراض القديمة والأنتيكات. وتقول مصادر أنها زورت ما لا يقل عن 400 رسالة بأسماء كاتبات وكتّاب، لكن الشرطة اكتشفت أمرها، والقضاء أدانها ومنعها من دخول المكتبات ومراكز الأرشيف، قبل أن تتفرغ لكتابة سيرتها كسارقة أدبية، بعنوان:
«هل يمكنك أن تُسامحني؟»، معبرة فيها عما ساورها من فخر بما فعلته، وتحولت تلك السيرة إلى فيلم من إخراج مارييل هيلر وبطولة ميليسا مكارثي.
نظرت "لي إسرائيل" إلى السرقة الأدبية عكس ما ننظر إليها، لم تستشعر حرجاً بما فعلت، بل دافعت عن سرقاتها، وأشعرتنا بأنها مبتهجة بصنيعها، عبّرت عن حقها في السرقة الأدبية، لم تكن سرقات سهلة، فقد كلفتها ساعات طويلة من البحث، من التنقيب، من «النط» من مكتبة إلى أخرى، ومن تقليب أرشيف يزن كيلوغرامات، قبل أن تصل إلى ما ترغب فيه، لقد بذلت جهداً في السرقة الأدبية يُناهز جهد كاتب منكبّ على عمله الأصلي، كما إن السرقة الأدبية أشعرتها بوجودها وجدوى عيشها، مثلما شعرت بجدوى عيشها قبل ذلك، عندما كانت تؤلف سير المشاهير. إن التعريف الذي صاغته "لي إسرائيل" للسرقة الأدبية يعد تعريفاً نبيلاً، لا مناقضا لأخلاقيات الأدب، لقد قامت بذلك النشاط، في مرحلة لم تكن فيها الإنترنت متاحة مثل اليوم، ما سهل عليها في البداية تسويق سرقاتها، وإسعاد مجهولين بأنهم يمتلكون نصوصاً ورسائل أصلية خطها كتابهم المفضلون، لقد جعلت من السرقة الأدبية تجربة أدبية خالصة، لا تُهمة كما تعودنا على نعتها.
انتهى أمر "لي إسرائيل" بأن انفضحت ودافعت عن نفسها، ماذا لو أنها عاشت في العالم العربي؟ هل كانت ستُنهي حياتها في الشغل ذاته بدون حرج؟ نسمع كثيراً عن قضايا ومُحاكمات تتعلق بحقوق موسيقية أو سينمائية، لكن لم نسمع عن قضية تشد الانتباه تتعلق بحقوق أدبية؟
إن المناوشات بخصوص الملكية الأدبية تدور ـ عربياً ـ في الجرائد لا في المحاكم، كما إن التأكيد على أن مؤلفاً سرق آخر ليس عملاً سهلا، بل يلزمه إثباتات، في بعض الأحيان من الصعب التوصل إليها، لذلك ففي كثير من الأحيان نجد أنفسنا بصدد تهم كيدية، لا حقيقية، لكن القارئ العربي مغرم بالفضائح، بمجرد أن يشم رائحة فضيحة سرقة الأدبية حتى ينصرف عن كل انشغالاته، ويستغرق في التعليق عليها والانحياز إلى طرف ضد الآخر.
هل يوجد مُحامون مختصون في الملكية الأدبية؟ يبدو هذا المصطلح مجرد ديكور في مدوناتنا القانونية، كما يسهل على أي كاتب عربي أن يبرئ نفسه من سرقة أدبية، تحت مسميات فضفاضة: تناص أو استلهام. لماذا يخجل كاتب عربي من مواجهته بالسرقة الأدبية؟ من حق الأدب أيضاً أن يتكور في حلقات حلزونية، أن يقتنص كاتب شيئاً مما خلفه السابقون، ومن حقه أيضاً أن يُدافع عن «سرقته» حين يُكتشف أمره احتذاءً بلي إسرائيل. هناك من يُراهن على أن «الإبداع» الأدبي ليس سوى قطيعة عما سبق، لكن الحقيقة أن الإبداع إنما هو مسار مشترك يتقاطع فيه الكتّاب، يتناوبون فيه في العدو، مثل سباقات مئة متر تتابع، حيث يتبادل العداؤون عصا، بينما يتبادل الكتّاب كلمات وأطروحات. «السرقة الأدبية ضرورة، بل إن تصحيح فكرة سابقة أو دحضها أيضاً سرقة أدبية»، على رأي الشاعر لوتريامون، الذي لم يخجل من اقتباساته من دانتي.
حين يشتغل نقاد بمقاربة نص ما، سرداً أو شعراً، فإنهم يبحثون في خلفيات الكاتب، في التأثيرات التي داهمت مُخيلته حين الكتابة، يبحثون عن العوامل الخارجية للنص، يسمونها في الغالب مرجعيات، بدل وصفها بالسرقة الأدبية، فهذا المصطلح ينظر إليه على أنه تهمة لا تقل شأناً عن الجنحة. لم تعد السرقة الأدبية أمراً مستهجناً، سوى في عقول بعض الصحافيين سريعي نفاد الصبر، الباحثون عن شهرة بأهون الطرق، ففي سجلات النقد الغربي باتت السرقة الأدبية أمراً مشروعاً، لكن بحسب شكل توظيفها في النص والزج بها، بدون أن يشعر بذلك القارئ.
سبق وصادفنا أكثر من قصة عن سرقة أدبية، في العالم العربي، أكثر من كاتب تورط في سرقات موصوفة، لكن في كل الحالات يسقط العتاب كله على كتف المؤلف، أين هو دور الناشر؟ إنه الشخص الأول الذي سوف يتخلى عن الكاتب، بل سوف يلتحق بجحفل الناقمين عليه. إن أي تهمة بسرقة أدبية لا بد أن يقتسمها المؤلف مع ناشره، لكن هذا الأخير أقصى شيء يفعله هو أن يسحب الكتاب من التسويق. في الغالب فإن الكاتب بصدد عمل أدبي، متخيل في مجمله، ليس كتاباً نقدياً ولا تاريخيا ولا أكاديميا، فلماذا نطلب منه إشهار مراجعه؟ هذه مهمة أشخاص يأتون من بعده، من نقاد ودارسين.
لقد سرت السرقات الأدبية خصوصاً في الجامعات، في مذكرات التخرج، لكن منذ سنوات تصر جامعات على نشر رسائل التخرج على مواقعها، قصد فضح أي سرقة مُحتملة، وهو أمر يتعسر في الأدب، لا تزال قضية لي إسرائيل واحدة من أشهر قضايا السرقات في الوقت الحاضر، لكن لم يكتشف أمرها سوى بعد مرور أكثر من سنة على بيعها وتسويقها المئات من الرسائل والنصوص المنتحلة، كما أن الشرطة وصلت إليها بعد وشاية، مع ذلك لم تنف الكاتبة فعلتها، دافعت عن حقها في سرقة أدبية، باعتبارها جزءاً من لعبة الأدب، هل أرادت بذلك أن تنبهنا أن النص الأدبي، مهما كان مؤلفه، حقاً مشاعاً لا ملكية فردية؟
سعيد الخطيبي
(*) عن القدس العربي| لندن