[32]
(عَنْ الفضيلة الواهبة/ الجزء الأول)
استكشف الكتاب الأول من كتاب هكذا تكلّم زرادشت مايبدو أنّه أساس لنمط جديد من الأخلاق. وقد قام هذا الأساس من خلال عملية نقد وتقييم لمجموعة من القيم والأخلاق التقليدية القديمة التي ثَبُتَ أنّها لَم تَعُد مناسبة لأنّها تستند إلى نموذج عن إنسان حَلَّت مَحَلَّه رؤى وبصائر (علمية ونفسية) جديدة في تكوينه. كانت الأخلاق القديمة مبنيّة على رفض الجسد البشري ونظرية وَضَعَته تحت سيطرة قدرات نفسية وميتافيزيقية مُصطَنَعَة (الحواس، والروح)، وكلها جرى التصديق عليها وتأكيدها من قبل بعض المبادئ والمذاهب المتعالية. إنّ رفض الجسد هو المثال الرئيسي لرفض أعَم وأشمَل لطبيعة الحياة كإرادة قوّة.
الفترة اللاحقة للقيم الأخلاقية، ولاسيما في تنوّعها المسيحي القائم على ثنائية الخير والشر، تعكس وتديم سوء فهم هذا العقل/الجسد. وبالرغم من أنّ نظام القيَم هذا يجب اعتباره ضرورياً من الناحية التاريخية، إلا أنّه يمثّل ويحافظ على نَمَط معيّن من الحياة لايتوافق تماماً مع الحياة نفسها. هذا النظام جَرَت مساواته مع نظام القيم الأخلاقية الشاملة _أي يبدو أنّ نيتشه غالباً ما يعرّف "الأخلاق" على أنّها نظام قيم يُفهَم على أساس أنّه نظام عالمي وأساسي وليس مفاهيمي فحسب. وهكذا كما أشرنا من قبل يجب النظر إلى فلسفة زرادشت الجديدة على أنّها فلسفة ما بعد الأخلاق.
تبدأ رؤى زرادشت الجديدة بتحديد وتعريف جميع الدوافع النفسية وتنسيقها وتنظيمها ومعايرتها داخل الجسم الحي. فإذا كان هناك "خيراً" أو "فضيلة"، فيجب أن يكون هناك نمط جديد من الصحّة العقلية والجسدية _طبعاً_ قائمة على أساس قبول سيادة الجسد، مايفوق الجسد الواحد، أي سيادة الحياة وإرادة القوّة.
النداء الثوري الريادي لزرادشت/نيتشه يتلخّص في أنّ تنظيم العناصر، المكوّنة للذات تحت رعاية الجسم الحي (وبالتالي بالتوافق مع إرادة القوة) يمكن أن يرقى إلى اكتمال تطوّري _أو "كَمال" للبشرية_ لكن بالرغم من أنّه ليس في شكل جديد وثابت للأنواع من شأنه التمسّك بقوّة بالحياة، بل بالأحرى في شكل من أشكال الحياة ليس له صيغة أساسية سوى سَعيه المتواصل والصحّي لبناء أو خَلق شكل جديد.
وأيضاً، في هذا "الكَمال"، وصل الإنسان إلى فهمٍ كامل لموقفه الفريد الذي أُسيءَ فهمه سابقاً باعتباره "حيواناً روحانياً"، وبقدر ما تكون هذه الروح محَقّقة لإرادة القوّة _وليست إنكاراً ذاتياً لها_ يمثّل الإنسان الأعلى ذروة الحياة. هذا هو الموقف الذي أكّدته فكرة "موت الإله" ونظرية داروين التطورية. إنّها عملية ترميم، لكن على أسس مختلفة تماماً. الطبيعة والإنسان متّحدان في الإنسان الأعلى، هي/هو الطبيعة، مُرَوحَنَة، وفي شكل بشري فردي.
يتكوّن هذا الفصل من ثلاثة أقسام فرعية قصيرة أو خُطَب مضغوطة للغاية ويمكن تسميتها بأناشيد زرادشت في تمجيد الإنسان الأعلى. إضافةً إلى ذلك، لدينا توقعات وإشارات لمفهوم العَود الأبدي، والمزيد من العمل على اللغة الفلسفية الجديدة لزرادشت/نيتشه، وهو الاهتمام الأخير والمهمّة القصوى عند نيتشه.
تُختَتَم الخطب الثلاثة في هذا الفصل المرحلة الأولى "لأفول" زرادشت، وهبوطه بين البشر، وهدية وداعه لتلاميذه. يشرح الخطاب الأول فكرة إنشاء قيم جديدة على أسس جديدة، ويشرح الخطاب الثاني الحاجة إلى وجود قيم إنسان أعلى ترغب في أن يتمّ ترسيخها في العالم المادي للطبيعة وتثبيتها وتأكيدها تاريخياً. أمّا الخطاب الثالث فيتحدّث عن العلاقة بين زرادشت ونلاميذه، بين عملية التعليم والتعلّم.
# الخطاب الأول
===========
يتضمّن هذا الخطاب فكرتين أساسيتين. أولاً, يشرح زرادشت طبيعة العَطاء أو الهبَة، وكانت الموضوع الأساسي للكتاب الأول إذ أوردَ ذكرها في القسم الأوّل من الديباجة. العَطاء فضيلة _وهذا يعني أنّها نشاط محدّد للعقل، يعبّر عن إرادة القوّة المهيمنة. على وجه التحديد، بقدر مايتمّ تطوير العقل ليتماشى مع طبيعة الحياة ويتلائَم مع متغيّراتها، فإنّها ستتعرّف على نوع جديد من "الأنانية" التي تتراكم (شعور بالقوّة المفرطة) فقط من أجل العَطاء. أنانيتها تتطابق مع موقعها كنوع من القنوات التي يتمّ من خلالها توجيه موارد البشرية، والحكم والتاريخ نحو الإنسان الأعلى. أي أنّها ستسعى إلى تعزيز المصالح الصحية للحياة بما يتجاوز فردانيتها العَرَضية. وعلى هذا النحو، إنّها "أسمى فضيلة".
يجب أن يمنح الوجود الذي أدرك الطبيعة العَلائقية وانتماؤه إلى التطوّر التاريخي والثقافي للحياة البشرية. ومع ذلك، فإنّ ما يُمنَحُ قد يكون قِيَمَاً جديدة تحلّ مَحَلَّ القيم القديمة (جنباً إلى جَنب مع فهم ضرورة كونها موقّتة)، أو، على غرار زرادشت، حكمة: على أنّها "معنى الأرض".
وبالتالي فإنّ الفضيلة الواهبة تختلف اختلافاً جذرياً عن فضائل الماضي، وليست أداةً للبقاء البيولوجي وتتولّد من الخوف من الوجود، وضرورة تنظيم الحياة الاجتماعية، أو بَلادَة العُرْف (راجع قسم حكيم الأخلاق في الكتاب الأول، هناك نقاش لطيف حول هذا النوع من العَطاء في كتاب "ماوراء الخير والشر"، شذرة 260، وله ميّزة كونه يقع ضمن سياق أكثر عموميةً). هدية الفُراق التي قدّمها التلاميذ لزرادشت (صولجان ذهبي/عصا ذهبية) هي التي تهيّء المشهد: إنّها قصّة رمزية عن العَود الأبدي، الثعبان يلتَفّ حول الشمس، ويذكّرنا هذا بالرؤيا الديونيزية لإعادة خلق العالم في القسم 26 "عن محبّة القريب"، لكنّ صفاته الرمزية لاتنتهي عند هذا الحدّ. يشرح زرادشت كيفية عمل هذا العَطاء من خلال مقارنته بعنصر الذهب، وتحديداً المعيار الذهبي في خلق القيمة النقدية (يتحدّث كارل ماركس عن فكرة مماثلة في كتابه "رأس المال"). ومن خلال ميوله الرمزية، يربط الذهب بين القيمة المادية والقيم والأخلاقية والاقتصاد، على الرغم من أنّ هذه الفكرة لم يتمّ تطويرها هنا بأي تفصيل. (ويُعتَبَر تحليل العلاقة بين القيمة النقدية والتبادل من جهة، وتطوير المواقف الأخلاقية من جهةٍ أخرى، جزءاً مهمّاً من أصل الأخلاق وفصلها (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثانية، شذرات 4 و5 و6). الحقيقة المهمة التي ندركها هنا هي أنّ الذهب، على الرغم من أنّه يحدّد القيمة، فهو في حَدّ ذاته "معدن عديم القيمة والفائدة" فهو يسقط خارج نطاق كل قيمة أداتية أو مفيدة (كل قيمة للحياة) بل ((غير نافع ومشعّ ولطيف البريق [الذهب]))، وبذلك فهو مادة للهدية والإغداق والعَطاء.
تُعطي الفضيلة الواهبة قيمة لفضائل أخرى محدّدة بقدر ماهي تحسين لصحّة الحياة وسلامتها على هذا النحو. ولابدّ من التنويه إلى وجود علاقة معقّدة مع أفلاطون هنا في كتابه "الجمهورية" حيث تَرِدُ صورة للشمس تمنح أو تَهِب كَكَنز فائض، وهذه الصورة لاتعبّر عن أي صورة رمزية بحدّ ذاتها، بل تمثّل مثال الخير، شرطَ كل وأي فكرة. ومع ذلك فالذهب وبريقه ((يَعقُد عهد السلام بين الشمس والقمر)). تشير هذه الفكرة الشعرية الجميلة إلى صورة القمر باعتباره انعكاساً شاحباً وبارداً ومجرّداً ولامبالياً (لا يتّضح هذا المعنى الرمزي إلا في الكتاب الثاني، القسم 15 "عن المعرفة الطاهرة"). يجب أن نجمع بين هذه الصورة وصورة الماء المُضاء باللون الذهبي في الديباجة، القسم الأول. يمثّل الذهب إمكانية انعكاس ثانوي (الشمس، وإلقاء نظرة معمّقة على طبيعة الأشياء) لايشبه القمر في شيء، لكنّه في حدّ ذاته كنظرة الذي يَهدي.
الذهب إذن هو كناية رمزية، أو بشكل أعَم، حكاية الفلسفة كقصة رمزية. وظائف رمزية فلسفية، أي كونها نشاطاً للعطاء، من خلال كونها شكلاً من أشكال استخدام اللغة التي _مثلها مثل الفضيلة الواهبة_ تتماشى مع إرادة القوّة بحيث يتكوّن معناها وهدفها وصلاحيتها بالكامل من تشجيعها وحثّها على رفعة المُستَمع ونهوضه. يُعتَبَر الرمز "صحيحاً" فقط إذا كان ناجحاً. (انظر مناقشتنا للقسم السابع عشر "عن الكتابة والقراءة" من الكتاب الأول). يسعى التلاميذ، على غرار زرادشت، خلف هذه الفضيلة التي يراكمون فيها ((كل الثروات داخل أنفسهم))، فقط لكي تتدفّق كل هذه الثروات مرّةً أخرى كهدايا حُبّ وعَطاء (للإنسان الأعلى).
يوضّح زرادشت من أين ينشأ النوع الجديد من الفضيلة الواهبة. هناك حاجة لاصطفاف وانتظام للعَوامل النفسية في الذات تحت هيمنة الحي وسيادته، على عكس أنماط الأنانية التي هي مجرّد "انحطاط". في مَنح الإنسان الحَواس (الاتصال المباشر مع العالَم أو مَع أنفسنا، والذي نسعى لتحقيقه من خلال اللغة) فإنّه يخلّق من خلالها إلى الأعالي، ساعياً إلى لقاء معقول مع حالات أعلى وفوق كل شيء الشعور بتعزيز القوّة من خلال التغلّب على الذات نحو أنماط جياة جديدة وأكثرَ صحّةً وقوّةً. ويجب أن يشمل هذا أيضاً التغلّب على مشاعر احتقار الجسد التي ترى أنّ الحواس ماهي إلا أدنى شكل من أشكال العقل. "فضائل" يسمّي زرادشت القصص الرمزية والكنايات الدالّة على هذا الارتقاء الجسدي. أي أنّ الفضيلة هي "الرَّوْحَنَة" ("البشير" المجازي) على حركة السموّ الجسدي. لايمكن أن تكون لغة الفضيلة تسمية مباشرة، لأنّها حينئذٍ محصورة في لغة البشر، والتي تتمثّل وظيفتها في إيقاف هذه الحركة بدقّة (انظر الكتاب الأول، القسم 15 "عن صبوات الأفراح والآلام"). حتى فضائل الشعوب لم تتمّ تسمتها بشكل مباشر. بل تمّ تحديد رموز لارتقاء أو نموّ جسدي حَدَثَ ذات مرّة. يجب على تلاميذ زرادشت التخلّي عن معرفة الفضيلة من خلال تصنيف اسمائها: بل يجب عليه/أو عليها أن يتعلّما تفسير الرموز واستخدامها. الأمر الذي ينطوي على حَفر واختراق لطبقات التاريخ النفسي والثقافي الذي يُرَوحِنُ من خلالها شكل من أشكال الحياة نفسه باعتباره فضيلة.
لن تكون الفضائل الجديدة مختلفة، إلا أنّها ستُفهَم على هذا النحو، وستمثّل توافقاً مع إرادة القوة بدلاً من الهروب منها. وعندما يتمّ الوصول إلى التوافق النفسي-الفيزيولوجي في الذات، يتحوّل البشر إلى ((مدفوعين بإرادة واحدة لاشريك لها)). وهذا يشير مرّةً أخرى إلى أنّ زرادشت لايبحث عن أفراد بأي شكل من الأشكال، إذا كان للفرد قيمة، فهي تنحصر حصراً في إمكانية اختزاله ليصبح مريداً "بإرادة واحدة". من خلال الجسد، هم متّحدون مع أنفسهم، مع ماسيطلق عليه زرادشت قريباً اسم "الشعب المختار"، ومع الطبيعة والتوق لكل ما هو طبيعي، حيث أنّ الطبيعة والتّوق إليها هي إرادة القوة. (ستتّضح صورة "الاتحاد" في الخطاب الثالث). يطلق زرادشت على هذه الفضيلة الجديدة اسم "القوّة" (أي إرادة القوة). كل الفضائل هي إرادة قوّة طبعاً. إنّها "فكر سائد ومهيمن" لكنها ليست شمساً ذهبية بالضرورة _أي ليست عَطاءً وهبةً بالضرورة. بل فضيلة ترمز إلى تعزيز حياة الإنسان هي التي يجب أن تكون فضيلة عَطاء وهِبَة _ ستتألّف أنانيتها من الرغبة في أن تكون أداةً لتقدّم الحياة. علاوةً على ذلك، لن يَلتَفّ "عقلٌ ذكي" إلا حول هذه الفضيلة (ثعبان المعرفة). فالتفاف الثعبان هو صورة للقرب والموائمة مع إرادة القوة، وفي هذا القرب والموائمة تكمن حكمته أيضاً، وهو انعكاس ثانوي ورمزي ليس بالبعيد ولا بالبارد.
يُتّبّع....
إبراهيم قيس جركس 2020
(عَنْ الفضيلة الواهبة/ الجزء الأول)
استكشف الكتاب الأول من كتاب هكذا تكلّم زرادشت مايبدو أنّه أساس لنمط جديد من الأخلاق. وقد قام هذا الأساس من خلال عملية نقد وتقييم لمجموعة من القيم والأخلاق التقليدية القديمة التي ثَبُتَ أنّها لَم تَعُد مناسبة لأنّها تستند إلى نموذج عن إنسان حَلَّت مَحَلَّه رؤى وبصائر (علمية ونفسية) جديدة في تكوينه. كانت الأخلاق القديمة مبنيّة على رفض الجسد البشري ونظرية وَضَعَته تحت سيطرة قدرات نفسية وميتافيزيقية مُصطَنَعَة (الحواس، والروح)، وكلها جرى التصديق عليها وتأكيدها من قبل بعض المبادئ والمذاهب المتعالية. إنّ رفض الجسد هو المثال الرئيسي لرفض أعَم وأشمَل لطبيعة الحياة كإرادة قوّة.
الفترة اللاحقة للقيم الأخلاقية، ولاسيما في تنوّعها المسيحي القائم على ثنائية الخير والشر، تعكس وتديم سوء فهم هذا العقل/الجسد. وبالرغم من أنّ نظام القيَم هذا يجب اعتباره ضرورياً من الناحية التاريخية، إلا أنّه يمثّل ويحافظ على نَمَط معيّن من الحياة لايتوافق تماماً مع الحياة نفسها. هذا النظام جَرَت مساواته مع نظام القيم الأخلاقية الشاملة _أي يبدو أنّ نيتشه غالباً ما يعرّف "الأخلاق" على أنّها نظام قيم يُفهَم على أساس أنّه نظام عالمي وأساسي وليس مفاهيمي فحسب. وهكذا كما أشرنا من قبل يجب النظر إلى فلسفة زرادشت الجديدة على أنّها فلسفة ما بعد الأخلاق.
تبدأ رؤى زرادشت الجديدة بتحديد وتعريف جميع الدوافع النفسية وتنسيقها وتنظيمها ومعايرتها داخل الجسم الحي. فإذا كان هناك "خيراً" أو "فضيلة"، فيجب أن يكون هناك نمط جديد من الصحّة العقلية والجسدية _طبعاً_ قائمة على أساس قبول سيادة الجسد، مايفوق الجسد الواحد، أي سيادة الحياة وإرادة القوّة.
النداء الثوري الريادي لزرادشت/نيتشه يتلخّص في أنّ تنظيم العناصر، المكوّنة للذات تحت رعاية الجسم الحي (وبالتالي بالتوافق مع إرادة القوة) يمكن أن يرقى إلى اكتمال تطوّري _أو "كَمال" للبشرية_ لكن بالرغم من أنّه ليس في شكل جديد وثابت للأنواع من شأنه التمسّك بقوّة بالحياة، بل بالأحرى في شكل من أشكال الحياة ليس له صيغة أساسية سوى سَعيه المتواصل والصحّي لبناء أو خَلق شكل جديد.
وأيضاً، في هذا "الكَمال"، وصل الإنسان إلى فهمٍ كامل لموقفه الفريد الذي أُسيءَ فهمه سابقاً باعتباره "حيواناً روحانياً"، وبقدر ما تكون هذه الروح محَقّقة لإرادة القوّة _وليست إنكاراً ذاتياً لها_ يمثّل الإنسان الأعلى ذروة الحياة. هذا هو الموقف الذي أكّدته فكرة "موت الإله" ونظرية داروين التطورية. إنّها عملية ترميم، لكن على أسس مختلفة تماماً. الطبيعة والإنسان متّحدان في الإنسان الأعلى، هي/هو الطبيعة، مُرَوحَنَة، وفي شكل بشري فردي.
يتكوّن هذا الفصل من ثلاثة أقسام فرعية قصيرة أو خُطَب مضغوطة للغاية ويمكن تسميتها بأناشيد زرادشت في تمجيد الإنسان الأعلى. إضافةً إلى ذلك، لدينا توقعات وإشارات لمفهوم العَود الأبدي، والمزيد من العمل على اللغة الفلسفية الجديدة لزرادشت/نيتشه، وهو الاهتمام الأخير والمهمّة القصوى عند نيتشه.
تُختَتَم الخطب الثلاثة في هذا الفصل المرحلة الأولى "لأفول" زرادشت، وهبوطه بين البشر، وهدية وداعه لتلاميذه. يشرح الخطاب الأول فكرة إنشاء قيم جديدة على أسس جديدة، ويشرح الخطاب الثاني الحاجة إلى وجود قيم إنسان أعلى ترغب في أن يتمّ ترسيخها في العالم المادي للطبيعة وتثبيتها وتأكيدها تاريخياً. أمّا الخطاب الثالث فيتحدّث عن العلاقة بين زرادشت ونلاميذه، بين عملية التعليم والتعلّم.
# الخطاب الأول
===========
يتضمّن هذا الخطاب فكرتين أساسيتين. أولاً, يشرح زرادشت طبيعة العَطاء أو الهبَة، وكانت الموضوع الأساسي للكتاب الأول إذ أوردَ ذكرها في القسم الأوّل من الديباجة. العَطاء فضيلة _وهذا يعني أنّها نشاط محدّد للعقل، يعبّر عن إرادة القوّة المهيمنة. على وجه التحديد، بقدر مايتمّ تطوير العقل ليتماشى مع طبيعة الحياة ويتلائَم مع متغيّراتها، فإنّها ستتعرّف على نوع جديد من "الأنانية" التي تتراكم (شعور بالقوّة المفرطة) فقط من أجل العَطاء. أنانيتها تتطابق مع موقعها كنوع من القنوات التي يتمّ من خلالها توجيه موارد البشرية، والحكم والتاريخ نحو الإنسان الأعلى. أي أنّها ستسعى إلى تعزيز المصالح الصحية للحياة بما يتجاوز فردانيتها العَرَضية. وعلى هذا النحو، إنّها "أسمى فضيلة".
يجب أن يمنح الوجود الذي أدرك الطبيعة العَلائقية وانتماؤه إلى التطوّر التاريخي والثقافي للحياة البشرية. ومع ذلك، فإنّ ما يُمنَحُ قد يكون قِيَمَاً جديدة تحلّ مَحَلَّ القيم القديمة (جنباً إلى جَنب مع فهم ضرورة كونها موقّتة)، أو، على غرار زرادشت، حكمة: على أنّها "معنى الأرض".
وبالتالي فإنّ الفضيلة الواهبة تختلف اختلافاً جذرياً عن فضائل الماضي، وليست أداةً للبقاء البيولوجي وتتولّد من الخوف من الوجود، وضرورة تنظيم الحياة الاجتماعية، أو بَلادَة العُرْف (راجع قسم حكيم الأخلاق في الكتاب الأول، هناك نقاش لطيف حول هذا النوع من العَطاء في كتاب "ماوراء الخير والشر"، شذرة 260، وله ميّزة كونه يقع ضمن سياق أكثر عموميةً). هدية الفُراق التي قدّمها التلاميذ لزرادشت (صولجان ذهبي/عصا ذهبية) هي التي تهيّء المشهد: إنّها قصّة رمزية عن العَود الأبدي، الثعبان يلتَفّ حول الشمس، ويذكّرنا هذا بالرؤيا الديونيزية لإعادة خلق العالم في القسم 26 "عن محبّة القريب"، لكنّ صفاته الرمزية لاتنتهي عند هذا الحدّ. يشرح زرادشت كيفية عمل هذا العَطاء من خلال مقارنته بعنصر الذهب، وتحديداً المعيار الذهبي في خلق القيمة النقدية (يتحدّث كارل ماركس عن فكرة مماثلة في كتابه "رأس المال"). ومن خلال ميوله الرمزية، يربط الذهب بين القيمة المادية والقيم والأخلاقية والاقتصاد، على الرغم من أنّ هذه الفكرة لم يتمّ تطويرها هنا بأي تفصيل. (ويُعتَبَر تحليل العلاقة بين القيمة النقدية والتبادل من جهة، وتطوير المواقف الأخلاقية من جهةٍ أخرى، جزءاً مهمّاً من أصل الأخلاق وفصلها (جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الثانية، شذرات 4 و5 و6). الحقيقة المهمة التي ندركها هنا هي أنّ الذهب، على الرغم من أنّه يحدّد القيمة، فهو في حَدّ ذاته "معدن عديم القيمة والفائدة" فهو يسقط خارج نطاق كل قيمة أداتية أو مفيدة (كل قيمة للحياة) بل ((غير نافع ومشعّ ولطيف البريق [الذهب]))، وبذلك فهو مادة للهدية والإغداق والعَطاء.
تُعطي الفضيلة الواهبة قيمة لفضائل أخرى محدّدة بقدر ماهي تحسين لصحّة الحياة وسلامتها على هذا النحو. ولابدّ من التنويه إلى وجود علاقة معقّدة مع أفلاطون هنا في كتابه "الجمهورية" حيث تَرِدُ صورة للشمس تمنح أو تَهِب كَكَنز فائض، وهذه الصورة لاتعبّر عن أي صورة رمزية بحدّ ذاتها، بل تمثّل مثال الخير، شرطَ كل وأي فكرة. ومع ذلك فالذهب وبريقه ((يَعقُد عهد السلام بين الشمس والقمر)). تشير هذه الفكرة الشعرية الجميلة إلى صورة القمر باعتباره انعكاساً شاحباً وبارداً ومجرّداً ولامبالياً (لا يتّضح هذا المعنى الرمزي إلا في الكتاب الثاني، القسم 15 "عن المعرفة الطاهرة"). يجب أن نجمع بين هذه الصورة وصورة الماء المُضاء باللون الذهبي في الديباجة، القسم الأول. يمثّل الذهب إمكانية انعكاس ثانوي (الشمس، وإلقاء نظرة معمّقة على طبيعة الأشياء) لايشبه القمر في شيء، لكنّه في حدّ ذاته كنظرة الذي يَهدي.
الذهب إذن هو كناية رمزية، أو بشكل أعَم، حكاية الفلسفة كقصة رمزية. وظائف رمزية فلسفية، أي كونها نشاطاً للعطاء، من خلال كونها شكلاً من أشكال استخدام اللغة التي _مثلها مثل الفضيلة الواهبة_ تتماشى مع إرادة القوّة بحيث يتكوّن معناها وهدفها وصلاحيتها بالكامل من تشجيعها وحثّها على رفعة المُستَمع ونهوضه. يُعتَبَر الرمز "صحيحاً" فقط إذا كان ناجحاً. (انظر مناقشتنا للقسم السابع عشر "عن الكتابة والقراءة" من الكتاب الأول). يسعى التلاميذ، على غرار زرادشت، خلف هذه الفضيلة التي يراكمون فيها ((كل الثروات داخل أنفسهم))، فقط لكي تتدفّق كل هذه الثروات مرّةً أخرى كهدايا حُبّ وعَطاء (للإنسان الأعلى).
يوضّح زرادشت من أين ينشأ النوع الجديد من الفضيلة الواهبة. هناك حاجة لاصطفاف وانتظام للعَوامل النفسية في الذات تحت هيمنة الحي وسيادته، على عكس أنماط الأنانية التي هي مجرّد "انحطاط". في مَنح الإنسان الحَواس (الاتصال المباشر مع العالَم أو مَع أنفسنا، والذي نسعى لتحقيقه من خلال اللغة) فإنّه يخلّق من خلالها إلى الأعالي، ساعياً إلى لقاء معقول مع حالات أعلى وفوق كل شيء الشعور بتعزيز القوّة من خلال التغلّب على الذات نحو أنماط جياة جديدة وأكثرَ صحّةً وقوّةً. ويجب أن يشمل هذا أيضاً التغلّب على مشاعر احتقار الجسد التي ترى أنّ الحواس ماهي إلا أدنى شكل من أشكال العقل. "فضائل" يسمّي زرادشت القصص الرمزية والكنايات الدالّة على هذا الارتقاء الجسدي. أي أنّ الفضيلة هي "الرَّوْحَنَة" ("البشير" المجازي) على حركة السموّ الجسدي. لايمكن أن تكون لغة الفضيلة تسمية مباشرة، لأنّها حينئذٍ محصورة في لغة البشر، والتي تتمثّل وظيفتها في إيقاف هذه الحركة بدقّة (انظر الكتاب الأول، القسم 15 "عن صبوات الأفراح والآلام"). حتى فضائل الشعوب لم تتمّ تسمتها بشكل مباشر. بل تمّ تحديد رموز لارتقاء أو نموّ جسدي حَدَثَ ذات مرّة. يجب على تلاميذ زرادشت التخلّي عن معرفة الفضيلة من خلال تصنيف اسمائها: بل يجب عليه/أو عليها أن يتعلّما تفسير الرموز واستخدامها. الأمر الذي ينطوي على حَفر واختراق لطبقات التاريخ النفسي والثقافي الذي يُرَوحِنُ من خلالها شكل من أشكال الحياة نفسه باعتباره فضيلة.
لن تكون الفضائل الجديدة مختلفة، إلا أنّها ستُفهَم على هذا النحو، وستمثّل توافقاً مع إرادة القوة بدلاً من الهروب منها. وعندما يتمّ الوصول إلى التوافق النفسي-الفيزيولوجي في الذات، يتحوّل البشر إلى ((مدفوعين بإرادة واحدة لاشريك لها)). وهذا يشير مرّةً أخرى إلى أنّ زرادشت لايبحث عن أفراد بأي شكل من الأشكال، إذا كان للفرد قيمة، فهي تنحصر حصراً في إمكانية اختزاله ليصبح مريداً "بإرادة واحدة". من خلال الجسد، هم متّحدون مع أنفسهم، مع ماسيطلق عليه زرادشت قريباً اسم "الشعب المختار"، ومع الطبيعة والتوق لكل ما هو طبيعي، حيث أنّ الطبيعة والتّوق إليها هي إرادة القوة. (ستتّضح صورة "الاتحاد" في الخطاب الثالث). يطلق زرادشت على هذه الفضيلة الجديدة اسم "القوّة" (أي إرادة القوة). كل الفضائل هي إرادة قوّة طبعاً. إنّها "فكر سائد ومهيمن" لكنها ليست شمساً ذهبية بالضرورة _أي ليست عَطاءً وهبةً بالضرورة. بل فضيلة ترمز إلى تعزيز حياة الإنسان هي التي يجب أن تكون فضيلة عَطاء وهِبَة _ ستتألّف أنانيتها من الرغبة في أن تكون أداةً لتقدّم الحياة. علاوةً على ذلك، لن يَلتَفّ "عقلٌ ذكي" إلا حول هذه الفضيلة (ثعبان المعرفة). فالتفاف الثعبان هو صورة للقرب والموائمة مع إرادة القوة، وفي هذا القرب والموائمة تكمن حكمته أيضاً، وهو انعكاس ثانوي ورمزي ليس بالبعيد ولا بالبارد.
يُتّبّع....
إبراهيم قيس جركس 2020