سفيان صلاح هلال - محمود حسن عبد التواب.. الرقص في مساحات ضيقة

أكره تجييل الشعراء.. وعصرنة الشعر.. فالنص الجميل ذاد للإنسانية علي مَرِّ العصور .. لكنني أستطيع أن أقول: ربما لو قرأت نصا لأحد شعراء السبعينات لعرفته دون أن أدري من كاتبه؟ فالملامح الفنية والأسلوبية لشعراء هذه الحقبة تكاد تكون متقاربة.. والحق أنا أراهم أعمق أجيال الشعر المصري.. رغم أنهم ودون قصد منهم تسببوا في مشكلات كبيرة - وإن كانت مؤقتة- للشعر... ولمن جاء بعدهم من الشعراء.. فميلهم إلى التجريب.. والتعميق .. وعمل حالة شعرية من النص .. وخروجهم على المعتاد للذائقة العربية الراسخة التكوين على مر العصور.. جعل التفاعل مع ما يقدمونه صعباعلى الجمهور.. بل على النقد في هذه الفترة ..مما جعل الضغط عليهم كبيرا لدرجة نشر أعمالهم الأولى بالماستر.. لكن في منتصف الثمانينات بدأت انفراجتهم.. وما أن وصلوا التسعينات حتى انفجروا بقدر ما كان عليهم من ضغط.. فأزاحوا من كان أمامهم.. وركلوا من كان خلفهم.. وصنع هذا معارك كبيرة في الساحة الأدبية..فخرج البعض من الساحة منزويا .. ولهذا ستجد الكثيرين من التسعينيين يقولون لك: ”أنا ظللت عشر سنوات أو أكثر مشتريا راحتي.”... حين تسأل أحدهم /لماذا تأخر في طبع ديوانه حتى 2010 ؟ مثلا- وربما أعلى..
كما أثر هذا الصراع بشكل ما على تنوع الأشكال الفنية والأسلوبية في هذا الجيل.. فمنهم من يرى أن السبعينيين وصلوا لمكاسب عظيمة يجب البناء عليها.. ومنهم من رأى أن السبعينيين نفوا القصيدة عن جمهورها ويجب استعادة الجمهور..لهذا؛ ستجد أصنافا شتي على مائدة الشعر التسعيني منهم من عاد إلى عمود الشعر.. ومنهم من اسقط ما بعد الستينيين من حسابه وعاد يبني على منجز الستينيين دون عيرهم... ومنهممن اتجه لقصيدة النثر التي تتكئ على المفارقة البسيطة .. أو شعرية التفاصيل الدقيقة .. أو الحدث السردي ذي اللفتات الانسانية .. لدرجة أنك لو متابع للتسعينيين ربما تجد شاعرا واحدا مثل عزمي عبد الوهاب في (بسلة ملأناها بأكاذيب كثيرة وطفولة أقل بياضا) غير عزمي في (الملاك الذي يحرسني) وهو عكس السبعينيين تماما
فالمقارنة الفنية والأسلوبية بين محمد سليمان في سليمان الملك ومحمد سليمان في احاديث جانبية أو هواء قديم ستفضي فقط ألي شاعر واحد متطور ولو قرأت محمود نسيم –مثلا- تكاد تصل لنتائج متشابهة... أما جيل التسعبنات فكأنه في صراع حتى مع نفسه ومن جيل التسعينيين كان محمود حسن عبد التواب شاعر المنياالذي أصدر ديوانه الأول في طبعته الأولى (التسبيح بالجسد) عن دار كليم 2011..
والديوان يحتوي أربعة وعشرين قصيدة.. كلها كتبت في التسعينات وكنت شاهدا على ميلادها..و الديوان من الناحية الشكلية ينتمي للشعر الخليلي ولأنني لم أمسك الشاعر متلبسا بالخروج عن العمود الشعري والتفاعيل أكاد أقول هويراه لا زما..والحق أن الشاعر أحيانا لا يكتفي بالوزن فقط لفعل الموسيقى فقد يذهب للتطريب داخل النص مستخدما التصريع والجناس .. كقوله:
فلْتُمْطرِى غضبـاً /وسجّيِلا وأغُنِيــةَ وكأسَا/لاَ يَمْنَعنَّ شِتـائكِ العشْقُ /الذى أمْسى فأنْسى/أو قوله: كنّـَا خلايا فانْقَسمْنا /بعضُ إحسَـــاسٍ .. ككُــلِّ/
لكنْ رَجِعناَ فى جُسَيْمٍ /من خلـــــيطٍ مضْمَحـــلِّ/ وحتى في نصوص التفعيلة هو حريص على هذا (لا أدري كيف أتيت؟/أو من أي رحيق الزهر خلقت)
ولأن الصراع بين الحداثة والتقليدية مشتعل على أشده دائما.. فالشاعر يختبر طرقا جديدة للتعامل مع اللغة أو اشكالا شتى لبناء القصائد.. لكن دون خروج عن السياقات المستقرة للشعر في التاريخ والوجدان الجمعي كان للعمودي المقفى- على مستوى النص الكامل- نصيب كبير منها
.. وبعض النصوص عمودية والتقفية فيها تتغير كل بضعة أبيات
.. وربما قسم القصيدة نصفين.. كل نصف على روي.. والقليل من النصوص تتخذ التفعيلة وحدة وزنية لا البيت.. مما يدل على أن الشاعريرى الوزن شيئا مهما للنص .. ولم يكن هناك مانع ان يستعمل الشاعر شكل السونيتة
الإنجليزي .. مادام يمكن ترويضه عربيا.. ويكتب نصا يسميه سونيتة عربية بطريقة لطيفة على بحر الكامل .. وفي نصوص التفعيلة اختبرالتحرر من عدد التفاعيل مع استخدام قافية نهاية كل فقرة كقوله: (هَذِى القَصِيدَةُ إِنْ أَرَدْتَ مُعَمِّدَا /وَارْجِعْ فَلَا مُوسَى رَأَيْتَ /... وَلَا عِيسَى لَمَسْتَ.../
وَلَا وَجَدْتَ مُحَمَّدَا /لكِنْ تعُودُ وَمِلْئُ كَفَّيْكَ الرِّسَالَة /الحرْفُ فِى شَفَتَيْكَ إرْهَاصٌ وَهَالَة (واختبر الحكي كما في هذا المقطع
(أخرجُ للبوابةِ ... /حيثُ تجِىءُ بناتُ التَّرْحيلة/لكنَّ اليومَ غريبْ/
أسمعُ صوتاً لفتاةٍ تصرخُ أو فتيَات/يا فتَّاح يا رزَّاق/أتقدَّمُ /
كىْ أبْصِرَ من تبْكى أو تصْرخ/يا اللهٌ ... /فتَاتَانِ تكوَّمَتَا فِى إغْمَاءَة/
منْ ضرْبِ مقاولِ أنْفَارِ التَّرحيلة/وَيَسُبُّ الدِّينَ ويَلْعَنْ/وأنَا مشْنُوقٌ /
بحبالِ الزَّمَنِ الطَّبَقِىِّ الجَائِرْ/صبْحِيَّةُ /قُومِى منْ إغْمائِكِ يا أخْتُ/
فأَنَا أتمزَّقُ /بَقْتُلُنِى هذَا الصَّوْتُ/ ) وتمتاز نصوص الديوان أيضابرسم كم كبير من الحركة (أسْلمتِ فيرُوَز المَضيقِ /لكلِّ عجْفــــاءٍ وحُبْلى/
وجلسْتِ تنْتظِرينَ /فى عسَلِ الشَّفـاهِ فمَا تدلَّى/حتَّى تحجَّرَ فمُّكِ المَضمُـــــــومُ /مرفوعــــاً لأعْلى/صنَمٌ منَ الضوْءِ المُراهِقِ /
كـالبَنَفْسَـجِ قـــدْ تجلَّى/وأَكَلْتِ لحماً للْفَتَى يتكلَّـــــــــمُ/) ( ذاتِى تُشاطِرُنى حُزْنى وتَشْطُرُنِى/تبَّتْ يدا أَلَمٍ ... قدْ ملَّهُ الجَسَدُ
يَسْطُو الوَباءُ بِلَا خوْفٍ... على رِئَتِى/وجسْمىَ الهشُّ ..
.. صَوْبَ الدَّاءِ يجْتَهِدُ) إنك تشعر أن الشاعر يخرج مشاهد التجربة
أو يرسمها لوحات يكمل بعضها بعضا .. لا يسجلها من ذاكرة أو كالبعض يضعها أحداثا في دفتر مذكرات.. ان كم الأفعال المضارعة التي تصور المقطوعات تبدوأحيانا في مسيرة متنامية .. وتبدو أخرى كأنهاترسم صراعا بالفعل ونقيضه مما يعطى النصوص ورغم قيود البيت الخلبلي كما من الحيوية والطاقة خاصة في النصوص الناضجة من الديوان.. ريما كانت هذه أهم الملامح الفنية للديوان.. أما ما يشغل الشاعر فتلك حكاية أخرى.. فالحق أن الشاعر كما هو مشغول بالوطن وقضايا الفقراء والحب مشغول بالموت والشعر انشغالا يسيطر على الديوان فهو لا ينسى كليهما في قصيدةوسنفصل هذا ملمحين

1) محاربة الموت باليعث والخلود في الافعال والكلمات الخالدة
2) الفرح والاحتفال بالقصيدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى