مقدمة :
تعد اللغة المنطلق الأول لعمليات التفاعل الإنساني، وتشكل في الوقت نفسه أحد أهم صيغ الوجود الإنساني وواحدا من أبرز تجلياته. ويأخذ مفهوم الاتصال اليوم أهمية مركزية في علم النفس الاجتماعي وفي علم الاجتماع. فالاتصال على حد تعبير كولي Cooley " هو العملية التي تأخذ فيها العلاقات الانسانية مجراها وحركة تطورها "(1). وذلك يشير إلى العملية التي يتم فيها تحويل وتبادل الإشارات بين الافراد. إن إدراك عملية الاتصال أمر يتميز بالصعوبة إلى حد كبير. لقد بين جورج هيربارت ميد G.H Mead أن الاتصال يسعى إلى إيجاد إحساس مشترك بين الناس أي : بين الذي يتصل والذي يستقبل. ومما لا شك فيه أن حياة مجتمع ما غير ممكنة إذا لم يكن هناك اتصال، إذ لا يستطيع الناس تنظيم أفعالهم وفقا للسببية الفيزيائية: وهذا يعني ان كل تفاعل انساني يفترض بالضرورة تدخل أفكار اتصالية تحقق التواصل بين الافراد في واقع الامر. و يميز الباحثون في مجال علم النفس الاجتماعي بين نموذجين اتصالين هما: الاتصال الجماهيري اي تحويل الافكار إلى عدد كبير من الناس دفعة واحدة. ثم الاتصال الشخصي وهو الاتصال الذي يقوم بين شخص آخر وهي العلاقات التي يطلق عليها العلاقات الأوليّة الأساسية.
الاتصال من غير لغة :
تشكل اللغة من غير شك الوسيلة الراقية لتحقيق التواصل الانساني. ولكن يوجد هناك اتصال بين الناس لاتكون فيه اللغة هي الوسيلة الوحيدة. وهذا ما يمكن ان نلاحظه عند العميان: الذين يعانون من غياب امكانية قراءة التعابير التي تظهر على وجوه الاخرين. ومما لاشك فيه ان العميان يتواصلون بدرجة اقل من المبصرين وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات التي تقوم بين المحبين (2 ).
ونستطيع ان نحدد اركان الاتصال في ثلاثة جوانب اساسية هي: الحضور الفيزيائي، والاشارة ،وتعابير الوجه. وتلعب هذه العناصر دورا هاما في عملية الاتصال وينطلق من هذه الجوانب إلى تحقيق فعاليتين أساسيتين هما: تحويل الافكار والمشاعر إلى الآخر من جهة ومن ثم التمييز بين هذه الافكار والمشاعر وفهمها من جهة اخرى .
لا يملك العنصر الاول - الحضور الفيزيائي بالنسبة للشخص المعني - تأثيرا مباشرا على نفسه اي على جسده أو على سمات وجهه. ومع ذلك فان طريقة اللبس والزينة تعطي الشخص نفسه، إراديا أو عفويا، بعض الانطباعات وهي انطباعات حقيقية أو متوهمة فالمظهر الفيزيائي عنصر اساسي من عناصر وعي الشخص للأخر بشكل متبادل. ومع ذلك يجب ان نلاحظ ان غياب المظهر الخارجي لا يمنع ولا يقلل من اهميته الاجتماعية. فكل فرد، في اي مجتمع، يحول في اطار محيطه رسالة حقيقية أو وهمية عن نفسه وعما يملك وما يؤديه من عمل. والمظهر الفيزيائي يشكل مثيرا اجتماعيا يلعب دورا هاما في عملية الاتصال بين الاشخاص. وتستطيع الاشارة ونعني بها الموقف الجسدي ونسق الايماءات ونمط التعبير الحركي ان تؤدي دورا إتصاليا هاما لا يقل شأنه عن اهمية الحضور الفيزيائي. ومما لاشك فيه انه يمكن للفرد ان يكون سيد ايماءاته وحركاته وذلك بدرجة اكبر من قدرته على السيطرة على هيئته الجسدية الفيزيائية. ومع ذلك لابد من الاشارة إلى ان نظام الاشارات والايماءات عند فرد ما يرتبط إلى حد كبير بطبيعته النفسية الفيزيائية أو طبيعته الاجتماعية والثقافية وذلك بالقياس إلى الحرية التي يتميز بها سلوكه. فالحركات العادية التي يؤديها الشخص ويقوم بها مثل مظاهر الاحترام الدبلوماسي، حرارة المصافحة لرجل السياسة، عصا المعلم المرفوعة، هي حركات تعبر عما يريد ايصاله إلى الاخر.
الطابع الرمزي للغة :
فالإشارات الرمزية التي نعبر عنها عبر ايماءات الجسد مثل موافقتنا، اللامبالاة، الحماس، الرغبة في رؤية صديق ليست في نهاية الامر سوى عناصر لغة محددة ثقافيا. ولكن العنصر الاكثر اهمية ومحورية في عملية التفاعل والاتصال الاجتماعي هي تعابير الوجه. فالإيماءات تقوم بعملية تحريض واثارة الافراد الذين يتفاعلون.
والايماءات هي سلوك اجتماعي متبادل أو سلوك متبادل اجتماعيا مثل المناقشة والتي تمثل سلسلة من ردود الافعال القوية. فالمشاعر التي تقوم بين المتخاطبين تكون محدودة ، ولكن تعابير الوجه الخاصة بالمحدث تؤدي إلى عملية استثاره. اذ يلاحظ أن تعابير الوجه هذه توجه عملية التفاعل، وبالتالي فان تعابير الوجه هذه هي أفضل من الكلمات في تمكين الفرد من فهم غاية الذي يخاطبه ويمكن لهذه الايماءات الوجهية ان تقول للأخر اشياء كثيره مثل: أرجوك، أو لو سمحت، أو لطفك الخ. أو للدلالة على معنى مثل لهجة الامر والتأكيد والجدية والهزل والاثارة والاعتراف.
وفي هذا السياق يمكن القول ان اتجاه النظر يمكن له ان يحدد موضوع التفكير عند الشخص، على سبيل المثال : إن قدره فرد ما على تركيز نظراته باتجاه الآخر تحمل معنى أو دلالة النزعة العدوانية. ويمكن ان يستدل من هذه النظرات على ميل الانسان إلى الخضوع في احيان اخرى: إذ يلاحظ ان البائعين يركزون انظارهم على انف الزبائن. وتبين الدراسات المخبرية ان الافراد الذين ينجحون في تحقيق عمليات هندسية ناجحة من دون خفض انظارهم أمام الملاحظ هم اكثر عدوانية من غيرهم .
لقد تكونت ادبيات متكاملة تقليدية عند علماء النفس الاجتماعيين وهي تتضمن امكانية الادراك المباشر لتعابير الاخرين ومشاعرهم. وغني عن البيان ان تعابير الوجه " كالإشارة "، تشكل جانبا كبيرا من اللغة التي يتحدثها إنسان ما. وإذا كان من السهل ادراك هذه اللغة بسهولة وذلك لأن وظيفتها ان تكون مفهومة بصورة حدسية ، وبالتالي فان الانسان يستخدمها لأنها مفهومه، ومن أجل أن تكون مفهومة. ولكن وكما هو الحال في أي لغة من اللغات فإن دلالة إشارة ما ليست أكثر من دلالة كلمة ما، وهذا يعني ان دلالة إشارة ما يمكن ان تتحدد في سياق نظام من الدلالات الاجتماعية .
إن عملية الاتصال الاكثر اهمية تكمن في لغة الكلمات أو في اللغة الشفوية. ويمكن لنا في هذا الخصوص ان نميز بين اللغة العادية وهي اللغة الشفوية واللغة الادائية التي تتمثل في منظومة القواعد النحوية التي تنظم حركة اللغة . ولهذا يولي علم النفس الاجتماعي يولي اهميته كبيرة لدراسة جوانب اللغة المختلفة ويتمركز اهتمام علم النفس الاجتماعي في ما يسمى علم النفس اللغوي الذي يدرس اللغة كما هي وكما تستخدم في واقع الامر(3).
السياق اللغوي
إذا كانت اللغة اداة لتحويل المعلومات فما هي هذه المعلومات؟ حيث تسعى المعلومات هنا لتبديد الشكوك اي بمعنى خفض عدد الاحتمالات وامكانيات الخيار امام الشخص. ويجري تحديد وحدة المعلومات التي يمكنها ان تقلص امكانيات الخيار إلى اقل من النصف. يقول افلاطون في هذا الصدد ان الكلمة تعبير عن جوهر الشيء وهذا يعني ان الدلالة تتحدد في اطار العلاقة القائمة بين الشيء والكلمة. ولكن ماذا تعني كلمة مثل افلاطون Platon ؟ ان مثل هذه الكلمة لا يمكن لها ان تعطي دلالتها الا بالعلاقة مع كلمات اخرى متعددة. وهذا يعني ان دلالة كلمة ما لا يمكن ان تكون مستقلة بذاتها ومن هذا المنطلق يمكن القول ان دلالات الكلمات تشكل كلا متكاملا ويأخذ صورة نظام دلالي، وهذا يعني ان دلالة كلمة ما لا تكمن في العلاقة بين الكلمة والشيء المشار اليه بل في النظام الدلالي على وجه العموم . ومن الضرورة بمكان الاشارة إلى اهمية دلالة الكلمة التي تشير إلى العلاقة الرمزية القائمة بين الكلمة والشيء الذي يرمز اليه، وهذه العلاقة ليست بسيطة كما يبدو للوهلة الاولى.
وتأخذ النظرية السلوكيه في اللغة انطلاقا من ذلك خصوصية عملية كنظرية سكنر Skinner. وهي التي تبدو اكثر اتصالا بالواقع، ولكنها مع ذلك تبدو غير كافية أو مرضية إلى حد كبير. فمعاني الكلمات كما يقول سكنر تتحدد بعملية التعزيز Renforcement وذلك لأن الاستجابات الصحيحة لمثير ما تؤدي إلى عملية تعزيز ايجابي.
البعد السيكوسوسيولوجي :
ويمكن ايجاد التفسير الخاص بمسألة التباين اللغوي الذي يظهر في قطاعات اجتماعية مختلفة. وهذا يعني ان هذا التباين يعود إلى دور الثقافة والمجموعات الاجتماعية على وجه العموم. بعض الثقافات تغني مفردات اللغة في جانب من جوانب الحياة الهامة، وتهمل بعض جوانب الحياة الأخرى حيث يؤدي ذلك إلى الاقتصار على مفردات اولية فجة وخاصة في مجالات الحياة التي ليس لها اهمية كبيرة على مستوى الحياة الاجتماعية(4).
وعلى الرغم من الجهود التي يوليها علم نفس اللغة، ونظرية الدلالة اللغويه للجوانب الاجتماعية في اللغة، فان هذه الجهود ما تزال قاصرة عن دراسة كافة المسائل الخاصة باللغة والتي يطرحها علم النفس الاجتماعي. حيث يلاحظ ان الدراسات الراهنة تكرس نفسها لدراسة " اللغة " وليس لدراسة من يتحدثون هذه اللغة.
وتتضح هذه المسألة في مجال الاقتصاد، عندما يقال على سبيل المثال: إن نفقات المستهلك هي وظيفة لدخوله الاقتصادية. وهذا يعني اننا ابعدنا المستهلك نفسه عن اطراف القضية أو المسألة. فالتبادل الشفوي يشكل نسقا من السلوك القابل للدراسة وخاصة بالنسبة لهؤلاء الذين يتبادلون اللغة، أو بالنسبة لمضمون الكلمات التي يتم تبادلها بين الافراد أو من خلال السياق الاجتماعي الذي تجري في اطاره هذه العلاقة اللغوية. ويمكن القول هنا إن هذه الفكرة الخاصة بعلم النفس الاجتماعي هي فكرة في غاية الاهمية وهي فكرة لم تأخذ ما تستحقه من الاهمية حتى اللحظة الحاضرة (5(.
فاللغة كما تبدو للإنسان العادي هي استخدام وسائل لغوية من اجل تحويل الافكار وتبادلها بين الناس. والحق يقال ان استخدام اللغة في عملية التفاعل الاجتماعي يستجيب إلى ثلاثة انواع من الغايات. وهي غايات محددة ومحسوسة: استجرار استجابات شفوية وتبادل التحيات والمجاملات، نداءات، اجابات، ثم استجراء الفعل والنشاط مثل اعطاء الاوامر، واخيرا استثارة الانتباه الذي يتصف بالديمومة عبر تأكيدات افتراضية .
وتنطوي اللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية على اشكال واضحة ومتعارف عليها مثل: الصلاة والخطابة والتصريحات والمحادثات. وكل شكل من هذه الاشكال ينطوي تفرعات محددة فعلى سبيل المثال تتفرع احاديث الصالونات إلى انواع مختلفة مثل: الحديث السري، حديث الثقة، الحديث العابر، وحديث العشاق أو الغزل. ويضاف إلى ذلك مختلف الاساليب الجمالية والادبية والنكتة والاغنية والحكاية الشعبية، ويتضمن ذلك على التوالي على قواعد ومبادئ النشاط اللغوي المتعارف عليه .
وتنطوي اللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية على اسقاطات رمزية تحدد شكل اللغة ومسارها. فالحديث على سبيل المثال لا يأتي من أجل التعبير عن شيء ما فحسب أو لأن أحدا يرغب بالحديث، إذ يتوجب على المرء أن يتحدث احيانا فيما لا يرغب فيه. في بعض الاحيان يوجد المرء في مواقف سلبية فالموظف لا يتحدث في حضرة رئيسه في العمل مالم يطلب منه ان يتحدث، وهو لا يتحدث لأن ذلك من مقتضيات احترام الذات. وعلى خلاف ذلك قد يقتضي الموقف من المرء ان يكون ايجابيا فهو قد يتحدث بغاية تحقيق التوافق مع الاخرين أو مساعدة الاخرين على تحقيق التوافق اي من اجل الحدٍ من المسافة الاجتماعية الفاصلة، اي من اجل وضع حد لتأثير الخجل. ويجب على المرء احيانا ان يتحدث لأنه المعني بإلقاء كلمة أو خطاب، إذ يوجد في اطار اللغة، كمؤسسة اجتماعية، تحديد اجتماعي تتباين فيه ادوار الافراد. ومثال ذلك الناطق الرسمي، والمحاضر في المحاضرة، ومدير الندوة الفكرية والمهرج .. الخ .
ويتمثل احد جوانب المؤسسة اللغوية في الموضوعات التي يتم طرحها في هذه المناسبة أو تلك أو في اطار هذا الدور أو ذاك. فاختيار الموضوعات عملية تتم تحت تأثير نسق من الواجبات والرموز والاعراف، وبالتالي فان مخالفة القواعد العامة أو احترامها من شأنه أو يؤدي إلى العقاب عن طريق الاستحسان أو الابتسامة أو الاهانة أو بالعداء الذي تظهره الجماعة فيما بعد للشخص.
ويمكن لنا أن نتحدث عن وجود بعض أشكال التنوع بنغمة الصوت " Les tons " ففي بعض الاحيان تأخذ هذه النغمة نمطا إداريا يعبر عن النسق الاجتماعية للعلاقة بين الموظفين وفق سلم التراتب الوظيفي. ويجب ان نعترف ايضا بوجود خصوصيات لغوية جغرافية واجتماعية في عملية اداء اللغة وفي استخداماتها. والتي شكلت مجال دراسة لعدد كبير من الباحثين والدارسين في هذا المجال.
يتنوع هذا النسق المتكامل من القواعد والاتفاقات والاستخدامات بتنوع الثقافات وفي داخل الثقافات الفرعية نفسها. فالمناقشات العامة تخضع في البلدان الغربية إلى قواعد محددة مكتوبة أو عرفية وهي قواعد لا نجدها في مجتمعات اخرى. فالخطابة عند هنود الاريزون ARIZON التي تتصف بأنها مطولة ومملة، والتي يستند فيها إلى خطباء سابقين يستشهد بهم، حيث تكرس نفسها لمعالجة مسائل سبق لها ان طرحت، وتبحث عن تفاصيل دقيقة مطولة تجعل من الشخص الذي يستمع لأول مرة إلى هذه الخُطَب يشعر ان هذه التفاصيل لا علاقة لها بالموضوع المطروح. إن انتخاب المرشحين أو اتخاذ القرارات يعد اختراعا جديدا أوجده البيض وهي عملية تقض مضاجع النافاجوز Navagos المعمرين وذلك لانهم اعتادوا اطالة مدة المناقشة من اجل الوصول إلى إجماع في اتخاذ قراراتهم أو من إجل ايصال الخصوم إلى قناعة بعدم اهمية أفكارهم والتوقف عن المطالبة أو التعبير .
ويجب في النهاية أن ينظر إلى اللغة من خلال الوظائف التي تؤديها بالنسبة إلى الفرد أو إلى الجماعة. فاللغة وفقا لذلك المنظور تعد أداة أساسية لابد منها كي يحقق الفرد تكيّفه مع الجماعة التي يعيش فيها: فاللغة هي التي تتيح للفرد أن يتمثل المفاهيم والافكار والتصورات الاجتماعية. وهي بالإضافة إلى ذلك تؤدي وظائف متعددة أكثر خصوصية. إذ هي بمثابة فعل اجتماعي يسعى إلى تحقيق غاية محددة تحقق للفرد هويته الاجتماعية. وفي هذا الخصوص يرى علماء النفس الذين يعتمدون التحليل العاملي في أبحاثهم وجود عامل شفوي - V -إلى جانب عامل الذكاء - G - ويضاف إلى ذلك عامل اخر يطلقون عليه اليسِر اللفظي Aisance verbale. وهم في هذا السياق يعترفون بوجود استعدادات متباينة بين الأفراد.
لقد أكد برت Burt على أهمية وضرورة البحث عن عوامل اخرى، فأسباب الصمت الذي يوجد عند طفل قد تعود إلى انخفاض مستوى الاثارة العاطفية لديه أو لأنه يعاني من كبت شديد، وقلما يعود ذلك إلى وجود استعداد Aptitude شفوي منخفض. والطفل الثرثار من جانب آخر هو طفل تعرض للتشجيع وقلما تعرض لعملية الكبت . فاللغة لا تعبر عن الشخص فحسب بل تمكنه من اكتساب قيمته الاجتماعية. وفي هذا الخصوص تبين الدراسات الجارية أن الأسئلة التي يطرحها الأطفال في عمر الخامسة من العمر لا تهدف إلى إشباع فضول الأطفال فحسب بل تسعى إلى إثارة اهتمام الراشدين.
خاتمة :
لاحظ ديرو Dirot ان الناس يحبون الحديث وهنا يكمن جانب من جماليات الإنسان. فاللغة تتيح لنا أن نفرض وجودنا على الآخرين كأشخاص ونجعلهم ينصتون الينا ، وتمكننا من أن نستحوذ على اهتمامهم ، ونجعلهم يستجيبون لنا. وندفعهم عن طريق اللغة ايضا إلى المشاركة في المسائل التي تشغلنا، والاستماع إلى ما نريد قوله. ومن هنا يمكن لنا أن ندرك الدقة النسبية للتنظيم الذي يوجه التبادل الشفوي بين الأفراد . ويمكن لنا هنا أن نجد بعض الملاحظات تتعلق بالنموذج النفسي للمتحاورين: فالثرثار على سبيل المثال، مهما يكن أمره، يحاول أن يفرض نفسه على الأخرين لأنه يشعر بالحاجة إلى تأكيد ذاته الواهنة .
وتتضمن اللغة أخيرا وظيفة علاجية على المستوى النفسي، فعندما يكون العنف الجسدي ممنوعا، فإن السباب والشتائم تصبح بديلا عنه، فالثرثرة المنزلية والنميمة بين الناس وروح التمرد تشكل ضرورة اجتماعية غير معروفة، إذ تعيد إلى الشخص اعتباراته القيمية أمام أعين الآخرين، وتعزز تقدير الذات ، وهي تعوض أحيانا عن حاجات نفسية متنوعة. واللغات الخاصة مثل اللغات العامية تؤدي هذه الوظائف، فالعامية تؤدي وظائف علاجية نفسية واجتماعية، وهي في النهاية تستطيع أن تخفف من طاقة النزعة العدوانية عند الأفراد وتخفض مستويات السلوك المباشرة ، وتعزز وجود الجماعات المغلقة، وتسمح للشخص ان يعبر عن انتمائه وميوله ورغباته.
المصدر : صحيفة المثقف
هوامش ومراجع
Charles Horton Cooly , " Social organization ; A study of the. 1909 , lagrge mind , New yourk , Scribners
Pierre Henri , " Les aveugles et la societe", P.U.F., ,.1958 Paris
Geroge A.Miller, "Langage et communication",trad. fr., Paris. 1956 , .P.U.F
A.Meillet , "Linguestique historique et linguestique .1921 , generale , Paris , Champion
Marcel Cohen," Pour une sociologei du Langage,Paris,Allin. 1956 , Michel
تعد اللغة المنطلق الأول لعمليات التفاعل الإنساني، وتشكل في الوقت نفسه أحد أهم صيغ الوجود الإنساني وواحدا من أبرز تجلياته. ويأخذ مفهوم الاتصال اليوم أهمية مركزية في علم النفس الاجتماعي وفي علم الاجتماع. فالاتصال على حد تعبير كولي Cooley " هو العملية التي تأخذ فيها العلاقات الانسانية مجراها وحركة تطورها "(1). وذلك يشير إلى العملية التي يتم فيها تحويل وتبادل الإشارات بين الافراد. إن إدراك عملية الاتصال أمر يتميز بالصعوبة إلى حد كبير. لقد بين جورج هيربارت ميد G.H Mead أن الاتصال يسعى إلى إيجاد إحساس مشترك بين الناس أي : بين الذي يتصل والذي يستقبل. ومما لا شك فيه أن حياة مجتمع ما غير ممكنة إذا لم يكن هناك اتصال، إذ لا يستطيع الناس تنظيم أفعالهم وفقا للسببية الفيزيائية: وهذا يعني ان كل تفاعل انساني يفترض بالضرورة تدخل أفكار اتصالية تحقق التواصل بين الافراد في واقع الامر. و يميز الباحثون في مجال علم النفس الاجتماعي بين نموذجين اتصالين هما: الاتصال الجماهيري اي تحويل الافكار إلى عدد كبير من الناس دفعة واحدة. ثم الاتصال الشخصي وهو الاتصال الذي يقوم بين شخص آخر وهي العلاقات التي يطلق عليها العلاقات الأوليّة الأساسية.
الاتصال من غير لغة :
تشكل اللغة من غير شك الوسيلة الراقية لتحقيق التواصل الانساني. ولكن يوجد هناك اتصال بين الناس لاتكون فيه اللغة هي الوسيلة الوحيدة. وهذا ما يمكن ان نلاحظه عند العميان: الذين يعانون من غياب امكانية قراءة التعابير التي تظهر على وجوه الاخرين. ومما لاشك فيه ان العميان يتواصلون بدرجة اقل من المبصرين وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات التي تقوم بين المحبين (2 ).
ونستطيع ان نحدد اركان الاتصال في ثلاثة جوانب اساسية هي: الحضور الفيزيائي، والاشارة ،وتعابير الوجه. وتلعب هذه العناصر دورا هاما في عملية الاتصال وينطلق من هذه الجوانب إلى تحقيق فعاليتين أساسيتين هما: تحويل الافكار والمشاعر إلى الآخر من جهة ومن ثم التمييز بين هذه الافكار والمشاعر وفهمها من جهة اخرى .
لا يملك العنصر الاول - الحضور الفيزيائي بالنسبة للشخص المعني - تأثيرا مباشرا على نفسه اي على جسده أو على سمات وجهه. ومع ذلك فان طريقة اللبس والزينة تعطي الشخص نفسه، إراديا أو عفويا، بعض الانطباعات وهي انطباعات حقيقية أو متوهمة فالمظهر الفيزيائي عنصر اساسي من عناصر وعي الشخص للأخر بشكل متبادل. ومع ذلك يجب ان نلاحظ ان غياب المظهر الخارجي لا يمنع ولا يقلل من اهميته الاجتماعية. فكل فرد، في اي مجتمع، يحول في اطار محيطه رسالة حقيقية أو وهمية عن نفسه وعما يملك وما يؤديه من عمل. والمظهر الفيزيائي يشكل مثيرا اجتماعيا يلعب دورا هاما في عملية الاتصال بين الاشخاص. وتستطيع الاشارة ونعني بها الموقف الجسدي ونسق الايماءات ونمط التعبير الحركي ان تؤدي دورا إتصاليا هاما لا يقل شأنه عن اهمية الحضور الفيزيائي. ومما لاشك فيه انه يمكن للفرد ان يكون سيد ايماءاته وحركاته وذلك بدرجة اكبر من قدرته على السيطرة على هيئته الجسدية الفيزيائية. ومع ذلك لابد من الاشارة إلى ان نظام الاشارات والايماءات عند فرد ما يرتبط إلى حد كبير بطبيعته النفسية الفيزيائية أو طبيعته الاجتماعية والثقافية وذلك بالقياس إلى الحرية التي يتميز بها سلوكه. فالحركات العادية التي يؤديها الشخص ويقوم بها مثل مظاهر الاحترام الدبلوماسي، حرارة المصافحة لرجل السياسة، عصا المعلم المرفوعة، هي حركات تعبر عما يريد ايصاله إلى الاخر.
الطابع الرمزي للغة :
فالإشارات الرمزية التي نعبر عنها عبر ايماءات الجسد مثل موافقتنا، اللامبالاة، الحماس، الرغبة في رؤية صديق ليست في نهاية الامر سوى عناصر لغة محددة ثقافيا. ولكن العنصر الاكثر اهمية ومحورية في عملية التفاعل والاتصال الاجتماعي هي تعابير الوجه. فالإيماءات تقوم بعملية تحريض واثارة الافراد الذين يتفاعلون.
والايماءات هي سلوك اجتماعي متبادل أو سلوك متبادل اجتماعيا مثل المناقشة والتي تمثل سلسلة من ردود الافعال القوية. فالمشاعر التي تقوم بين المتخاطبين تكون محدودة ، ولكن تعابير الوجه الخاصة بالمحدث تؤدي إلى عملية استثاره. اذ يلاحظ أن تعابير الوجه هذه توجه عملية التفاعل، وبالتالي فان تعابير الوجه هذه هي أفضل من الكلمات في تمكين الفرد من فهم غاية الذي يخاطبه ويمكن لهذه الايماءات الوجهية ان تقول للأخر اشياء كثيره مثل: أرجوك، أو لو سمحت، أو لطفك الخ. أو للدلالة على معنى مثل لهجة الامر والتأكيد والجدية والهزل والاثارة والاعتراف.
وفي هذا السياق يمكن القول ان اتجاه النظر يمكن له ان يحدد موضوع التفكير عند الشخص، على سبيل المثال : إن قدره فرد ما على تركيز نظراته باتجاه الآخر تحمل معنى أو دلالة النزعة العدوانية. ويمكن ان يستدل من هذه النظرات على ميل الانسان إلى الخضوع في احيان اخرى: إذ يلاحظ ان البائعين يركزون انظارهم على انف الزبائن. وتبين الدراسات المخبرية ان الافراد الذين ينجحون في تحقيق عمليات هندسية ناجحة من دون خفض انظارهم أمام الملاحظ هم اكثر عدوانية من غيرهم .
لقد تكونت ادبيات متكاملة تقليدية عند علماء النفس الاجتماعيين وهي تتضمن امكانية الادراك المباشر لتعابير الاخرين ومشاعرهم. وغني عن البيان ان تعابير الوجه " كالإشارة "، تشكل جانبا كبيرا من اللغة التي يتحدثها إنسان ما. وإذا كان من السهل ادراك هذه اللغة بسهولة وذلك لأن وظيفتها ان تكون مفهومة بصورة حدسية ، وبالتالي فان الانسان يستخدمها لأنها مفهومه، ومن أجل أن تكون مفهومة. ولكن وكما هو الحال في أي لغة من اللغات فإن دلالة إشارة ما ليست أكثر من دلالة كلمة ما، وهذا يعني ان دلالة إشارة ما يمكن ان تتحدد في سياق نظام من الدلالات الاجتماعية .
إن عملية الاتصال الاكثر اهمية تكمن في لغة الكلمات أو في اللغة الشفوية. ويمكن لنا في هذا الخصوص ان نميز بين اللغة العادية وهي اللغة الشفوية واللغة الادائية التي تتمثل في منظومة القواعد النحوية التي تنظم حركة اللغة . ولهذا يولي علم النفس الاجتماعي يولي اهميته كبيرة لدراسة جوانب اللغة المختلفة ويتمركز اهتمام علم النفس الاجتماعي في ما يسمى علم النفس اللغوي الذي يدرس اللغة كما هي وكما تستخدم في واقع الامر(3).
السياق اللغوي
إذا كانت اللغة اداة لتحويل المعلومات فما هي هذه المعلومات؟ حيث تسعى المعلومات هنا لتبديد الشكوك اي بمعنى خفض عدد الاحتمالات وامكانيات الخيار امام الشخص. ويجري تحديد وحدة المعلومات التي يمكنها ان تقلص امكانيات الخيار إلى اقل من النصف. يقول افلاطون في هذا الصدد ان الكلمة تعبير عن جوهر الشيء وهذا يعني ان الدلالة تتحدد في اطار العلاقة القائمة بين الشيء والكلمة. ولكن ماذا تعني كلمة مثل افلاطون Platon ؟ ان مثل هذه الكلمة لا يمكن لها ان تعطي دلالتها الا بالعلاقة مع كلمات اخرى متعددة. وهذا يعني ان دلالة كلمة ما لا يمكن ان تكون مستقلة بذاتها ومن هذا المنطلق يمكن القول ان دلالات الكلمات تشكل كلا متكاملا ويأخذ صورة نظام دلالي، وهذا يعني ان دلالة كلمة ما لا تكمن في العلاقة بين الكلمة والشيء المشار اليه بل في النظام الدلالي على وجه العموم . ومن الضرورة بمكان الاشارة إلى اهمية دلالة الكلمة التي تشير إلى العلاقة الرمزية القائمة بين الكلمة والشيء الذي يرمز اليه، وهذه العلاقة ليست بسيطة كما يبدو للوهلة الاولى.
وتأخذ النظرية السلوكيه في اللغة انطلاقا من ذلك خصوصية عملية كنظرية سكنر Skinner. وهي التي تبدو اكثر اتصالا بالواقع، ولكنها مع ذلك تبدو غير كافية أو مرضية إلى حد كبير. فمعاني الكلمات كما يقول سكنر تتحدد بعملية التعزيز Renforcement وذلك لأن الاستجابات الصحيحة لمثير ما تؤدي إلى عملية تعزيز ايجابي.
البعد السيكوسوسيولوجي :
ويمكن ايجاد التفسير الخاص بمسألة التباين اللغوي الذي يظهر في قطاعات اجتماعية مختلفة. وهذا يعني ان هذا التباين يعود إلى دور الثقافة والمجموعات الاجتماعية على وجه العموم. بعض الثقافات تغني مفردات اللغة في جانب من جوانب الحياة الهامة، وتهمل بعض جوانب الحياة الأخرى حيث يؤدي ذلك إلى الاقتصار على مفردات اولية فجة وخاصة في مجالات الحياة التي ليس لها اهمية كبيرة على مستوى الحياة الاجتماعية(4).
وعلى الرغم من الجهود التي يوليها علم نفس اللغة، ونظرية الدلالة اللغويه للجوانب الاجتماعية في اللغة، فان هذه الجهود ما تزال قاصرة عن دراسة كافة المسائل الخاصة باللغة والتي يطرحها علم النفس الاجتماعي. حيث يلاحظ ان الدراسات الراهنة تكرس نفسها لدراسة " اللغة " وليس لدراسة من يتحدثون هذه اللغة.
وتتضح هذه المسألة في مجال الاقتصاد، عندما يقال على سبيل المثال: إن نفقات المستهلك هي وظيفة لدخوله الاقتصادية. وهذا يعني اننا ابعدنا المستهلك نفسه عن اطراف القضية أو المسألة. فالتبادل الشفوي يشكل نسقا من السلوك القابل للدراسة وخاصة بالنسبة لهؤلاء الذين يتبادلون اللغة، أو بالنسبة لمضمون الكلمات التي يتم تبادلها بين الافراد أو من خلال السياق الاجتماعي الذي تجري في اطاره هذه العلاقة اللغوية. ويمكن القول هنا إن هذه الفكرة الخاصة بعلم النفس الاجتماعي هي فكرة في غاية الاهمية وهي فكرة لم تأخذ ما تستحقه من الاهمية حتى اللحظة الحاضرة (5(.
فاللغة كما تبدو للإنسان العادي هي استخدام وسائل لغوية من اجل تحويل الافكار وتبادلها بين الناس. والحق يقال ان استخدام اللغة في عملية التفاعل الاجتماعي يستجيب إلى ثلاثة انواع من الغايات. وهي غايات محددة ومحسوسة: استجرار استجابات شفوية وتبادل التحيات والمجاملات، نداءات، اجابات، ثم استجراء الفعل والنشاط مثل اعطاء الاوامر، واخيرا استثارة الانتباه الذي يتصف بالديمومة عبر تأكيدات افتراضية .
وتنطوي اللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية على اشكال واضحة ومتعارف عليها مثل: الصلاة والخطابة والتصريحات والمحادثات. وكل شكل من هذه الاشكال ينطوي تفرعات محددة فعلى سبيل المثال تتفرع احاديث الصالونات إلى انواع مختلفة مثل: الحديث السري، حديث الثقة، الحديث العابر، وحديث العشاق أو الغزل. ويضاف إلى ذلك مختلف الاساليب الجمالية والادبية والنكتة والاغنية والحكاية الشعبية، ويتضمن ذلك على التوالي على قواعد ومبادئ النشاط اللغوي المتعارف عليه .
وتنطوي اللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية على اسقاطات رمزية تحدد شكل اللغة ومسارها. فالحديث على سبيل المثال لا يأتي من أجل التعبير عن شيء ما فحسب أو لأن أحدا يرغب بالحديث، إذ يتوجب على المرء أن يتحدث احيانا فيما لا يرغب فيه. في بعض الاحيان يوجد المرء في مواقف سلبية فالموظف لا يتحدث في حضرة رئيسه في العمل مالم يطلب منه ان يتحدث، وهو لا يتحدث لأن ذلك من مقتضيات احترام الذات. وعلى خلاف ذلك قد يقتضي الموقف من المرء ان يكون ايجابيا فهو قد يتحدث بغاية تحقيق التوافق مع الاخرين أو مساعدة الاخرين على تحقيق التوافق اي من اجل الحدٍ من المسافة الاجتماعية الفاصلة، اي من اجل وضع حد لتأثير الخجل. ويجب على المرء احيانا ان يتحدث لأنه المعني بإلقاء كلمة أو خطاب، إذ يوجد في اطار اللغة، كمؤسسة اجتماعية، تحديد اجتماعي تتباين فيه ادوار الافراد. ومثال ذلك الناطق الرسمي، والمحاضر في المحاضرة، ومدير الندوة الفكرية والمهرج .. الخ .
ويتمثل احد جوانب المؤسسة اللغوية في الموضوعات التي يتم طرحها في هذه المناسبة أو تلك أو في اطار هذا الدور أو ذاك. فاختيار الموضوعات عملية تتم تحت تأثير نسق من الواجبات والرموز والاعراف، وبالتالي فان مخالفة القواعد العامة أو احترامها من شأنه أو يؤدي إلى العقاب عن طريق الاستحسان أو الابتسامة أو الاهانة أو بالعداء الذي تظهره الجماعة فيما بعد للشخص.
ويمكن لنا أن نتحدث عن وجود بعض أشكال التنوع بنغمة الصوت " Les tons " ففي بعض الاحيان تأخذ هذه النغمة نمطا إداريا يعبر عن النسق الاجتماعية للعلاقة بين الموظفين وفق سلم التراتب الوظيفي. ويجب ان نعترف ايضا بوجود خصوصيات لغوية جغرافية واجتماعية في عملية اداء اللغة وفي استخداماتها. والتي شكلت مجال دراسة لعدد كبير من الباحثين والدارسين في هذا المجال.
يتنوع هذا النسق المتكامل من القواعد والاتفاقات والاستخدامات بتنوع الثقافات وفي داخل الثقافات الفرعية نفسها. فالمناقشات العامة تخضع في البلدان الغربية إلى قواعد محددة مكتوبة أو عرفية وهي قواعد لا نجدها في مجتمعات اخرى. فالخطابة عند هنود الاريزون ARIZON التي تتصف بأنها مطولة ومملة، والتي يستند فيها إلى خطباء سابقين يستشهد بهم، حيث تكرس نفسها لمعالجة مسائل سبق لها ان طرحت، وتبحث عن تفاصيل دقيقة مطولة تجعل من الشخص الذي يستمع لأول مرة إلى هذه الخُطَب يشعر ان هذه التفاصيل لا علاقة لها بالموضوع المطروح. إن انتخاب المرشحين أو اتخاذ القرارات يعد اختراعا جديدا أوجده البيض وهي عملية تقض مضاجع النافاجوز Navagos المعمرين وذلك لانهم اعتادوا اطالة مدة المناقشة من اجل الوصول إلى إجماع في اتخاذ قراراتهم أو من إجل ايصال الخصوم إلى قناعة بعدم اهمية أفكارهم والتوقف عن المطالبة أو التعبير .
ويجب في النهاية أن ينظر إلى اللغة من خلال الوظائف التي تؤديها بالنسبة إلى الفرد أو إلى الجماعة. فاللغة وفقا لذلك المنظور تعد أداة أساسية لابد منها كي يحقق الفرد تكيّفه مع الجماعة التي يعيش فيها: فاللغة هي التي تتيح للفرد أن يتمثل المفاهيم والافكار والتصورات الاجتماعية. وهي بالإضافة إلى ذلك تؤدي وظائف متعددة أكثر خصوصية. إذ هي بمثابة فعل اجتماعي يسعى إلى تحقيق غاية محددة تحقق للفرد هويته الاجتماعية. وفي هذا الخصوص يرى علماء النفس الذين يعتمدون التحليل العاملي في أبحاثهم وجود عامل شفوي - V -إلى جانب عامل الذكاء - G - ويضاف إلى ذلك عامل اخر يطلقون عليه اليسِر اللفظي Aisance verbale. وهم في هذا السياق يعترفون بوجود استعدادات متباينة بين الأفراد.
لقد أكد برت Burt على أهمية وضرورة البحث عن عوامل اخرى، فأسباب الصمت الذي يوجد عند طفل قد تعود إلى انخفاض مستوى الاثارة العاطفية لديه أو لأنه يعاني من كبت شديد، وقلما يعود ذلك إلى وجود استعداد Aptitude شفوي منخفض. والطفل الثرثار من جانب آخر هو طفل تعرض للتشجيع وقلما تعرض لعملية الكبت . فاللغة لا تعبر عن الشخص فحسب بل تمكنه من اكتساب قيمته الاجتماعية. وفي هذا الخصوص تبين الدراسات الجارية أن الأسئلة التي يطرحها الأطفال في عمر الخامسة من العمر لا تهدف إلى إشباع فضول الأطفال فحسب بل تسعى إلى إثارة اهتمام الراشدين.
خاتمة :
لاحظ ديرو Dirot ان الناس يحبون الحديث وهنا يكمن جانب من جماليات الإنسان. فاللغة تتيح لنا أن نفرض وجودنا على الآخرين كأشخاص ونجعلهم ينصتون الينا ، وتمكننا من أن نستحوذ على اهتمامهم ، ونجعلهم يستجيبون لنا. وندفعهم عن طريق اللغة ايضا إلى المشاركة في المسائل التي تشغلنا، والاستماع إلى ما نريد قوله. ومن هنا يمكن لنا أن ندرك الدقة النسبية للتنظيم الذي يوجه التبادل الشفوي بين الأفراد . ويمكن لنا هنا أن نجد بعض الملاحظات تتعلق بالنموذج النفسي للمتحاورين: فالثرثار على سبيل المثال، مهما يكن أمره، يحاول أن يفرض نفسه على الأخرين لأنه يشعر بالحاجة إلى تأكيد ذاته الواهنة .
وتتضمن اللغة أخيرا وظيفة علاجية على المستوى النفسي، فعندما يكون العنف الجسدي ممنوعا، فإن السباب والشتائم تصبح بديلا عنه، فالثرثرة المنزلية والنميمة بين الناس وروح التمرد تشكل ضرورة اجتماعية غير معروفة، إذ تعيد إلى الشخص اعتباراته القيمية أمام أعين الآخرين، وتعزز تقدير الذات ، وهي تعوض أحيانا عن حاجات نفسية متنوعة. واللغات الخاصة مثل اللغات العامية تؤدي هذه الوظائف، فالعامية تؤدي وظائف علاجية نفسية واجتماعية، وهي في النهاية تستطيع أن تخفف من طاقة النزعة العدوانية عند الأفراد وتخفض مستويات السلوك المباشرة ، وتعزز وجود الجماعات المغلقة، وتسمح للشخص ان يعبر عن انتمائه وميوله ورغباته.
المصدر : صحيفة المثقف
هوامش ومراجع
Charles Horton Cooly , " Social organization ; A study of the. 1909 , lagrge mind , New yourk , Scribners
Pierre Henri , " Les aveugles et la societe", P.U.F., ,.1958 Paris
Geroge A.Miller, "Langage et communication",trad. fr., Paris. 1956 , .P.U.F
A.Meillet , "Linguestique historique et linguestique .1921 , generale , Paris , Champion
Marcel Cohen," Pour une sociologei du Langage,Paris,Allin. 1956 , Michel