د. رحمة أوريسي - القصة القصيرة.. مراحل تطورها وأهم روادها

تعتبر القصة القصيرة حديثة الولادة مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى كالرواية والقصة والمسرح....الخ، فهي لم تأت على حساب انحسار أو تراجع أحد الأجناس بقدر ما جاءت نتيجة لمتغيرات اجتماعية واقتصادية وما ارتبط بها من متغيرات عالمية.

ونحن في صدد الحديث عن القصة القصيرة لا بد من تحديد مفهومها وفنياتها ومراحل تطورها، مع الإقرار بصعوبة تعريف القصة القصيرة وبصعوبة تحيد الخواص المميزة لها ، ويعترف "شلوفسكي" ـ الناقد الروسي ـ بصعوبة تعريف القصة القصيرة "وبصعوبة تحيد الخواص المميزة لها التي يجب أن تتمازج معا لكي نحصل على مبنى حكائي مناسب؛ ذلك أن وجود صورة ما أو وصف حادث معين - لا يكفي كما يقول - لكي يترسب لدينا انطباع بأننا أمام قصة قصيرة"(1).
1 ـ مفهوم القصة القصيرة:
ونتيجة لهذا سنحاول إعطاء تعريف للقصة القصيرة من خلال اسئلة او تساؤلات قد توصلنا إلى الوقوف على ما يمكن اعتباره مفهوماً للقصة القصيرة. ومن هذه التساؤلات:
- ما هو هذا المفهوم/التعريف؟
- ما هي الفنيات والعناصر التي تتميز بها؟
- كيف كانت نشأتها؟
- ما هي المراحل التي مرت بها وإلى أن وصلت إلينا؟؟
- من هم روادها الأوائل؟؟
وللإجابة على هذه التساؤلات، لا بد أن نستعرض المكونات الأساسية مثل اللغة والصطلح أو الاصطلاح، وبعد ذلك سنعود للبحث في النشأة والمراحل التي مرت بها وأبرز روادها، مستخلصين العناصر والفنيات التي تقوم عليها.
أ ـ لغــــة:
يقصد بالقص في اللغة العربية وكما ورد في مختلف المعاجم، قصّ الأثر أي تتبع مساره ورصد حركة أصحابه والتقط بعض أخبارهم. ومن هذا المعنى قوله تعالى:"قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا»*، ويقول أيضا:"وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون»*، ويقال اقتص أثره وتقصص أثره والمعنى الثاني هو الإخبار والرواية وأغلب الظن أنه وطيد الصلة بالمعنى الأول(2).
ب ـ اصطلاحــا:
مفردة " القصيرة" أضيفت إلى الـ "قصة" للتفريق بينها وبين القصة الطويلة لأنها تأخذ منها العناصر الأساسية لتركيبها وتمتنع عن الشمولية في السرد والتوسيع، ولأنها غالبا ما تتحقق فيها الوحدات الثلاث الزمان والمكان والموضوع، وقد تتألف من عدة صفحات وتتناول حادثة واحدة أو شخصية واحدة أو موقفا واحدا، ويكون التركيز فيها ضروريا على الموضوع المعالج وطريقة السرد ووتركيب المفردة بحيث لا يسمح المجال للحشو والإطالة(3).
وهناك تعريف آخر يوافق هذا التعريف وهو لنورتروب فراي وتريدان بيكر وجورج بيركنز الذي يشير إلى أن القصة القصيرة هي نوع من النثر الفني القصصي أو الحكائي الذي يقرأ بشكل مناسب في جلسة واحدة، ومن حيث الطول فإن هذا النوع يقع فيما بين القصة القصيرة جدا التي يقل عدد كلماتها عن 2000 كلمة وبين القصة القصيرة الطويلة التي يصل عدد كلماتها إلى 15ألف كلمة (4).
وفي هذا السياق يعرفها امبرت أندرسون:"حكاية قصيرة ما أمكن، حتى ليمكن أن تقرأ في جلسة واحدة"(5).
مع العلم أنها تصور جانبا من الحياة يحلل فيها الكاتب جانبا من جوانب الفن القصصي كالحدث أو الشخصية (6) "وقد لا يعني فيها بالتفاصيل ولا يلتزم ببداية ونهاية، وقد تدور حول مشهد أو حالة نفسية أو لمحة محددة ويمكن لقصرها أن تقرأ في جلسة واحدة خلال فترة قصيرة"(7).
ويمكن أن نخلص إلى أن هذه التعاريف أو المفاهيم تشترك في أن القصة القصيرة أو الأقصوصة ذات حجم صغير مضغوط في كلمات ـ مكثفة ـ تقرأ في جلسة واحدة تتسم بمبدأ الوحدة (شخصية واحدة، حدث واحد، عاطفة واحدة....الخ).
2 ـ مراحل تطورها وأهم روادها:
إن أي جنس من الأجناس لا يظهر هكذا ولا يكون وليد صدفة، بل هناك عدة مؤثرات خارجية تجعله يظهر، وبما أننا في عصر السرعة والتطور ظهر هذا الجنس الأدبي ـ القصة القصيرة ـ في القرن التاسع عشر عندما ظهرت قصة "المعطف" للروسي جوجول* وغيرها من قصصه الإنسانية(8) ، ولقد أسهم جوجول في خلق القصة القصيرة، وكانت إضافته ترتكز في الموضوع أكثر منها في الشكل الفني، ولكنها إضافة لم يكن من الممكن أن تتطور القصة القصيرة وتكمل بدونها، لقد تجاوز الاتجاه الرومانسي الذي كان سائدا في عصره، في اللغة والموضوع، واتجه إلى الأرض والفلاح والإنسان العادي، وحدد الموضوع شكل القصة القصيرة واللغة التي تكتب فيها، واتسعت الفجوة بين القصة القصيرة والحكاية، فهذه تحكي في لغة منمقة وترسم البطولات الخرافية وتلك تحكي في لغة بسيطة لحظة واقعية دافئة من حياة إنسان عادي يكدح طول النهار(9).
ولقد دفع جوجول بالقصة القصيرة خطوة واسعة حين ابتعد بها عن الرومانسية، وعن اللغة المنمقة المزوقة، وعن الغريب، ونزل بها إلى الحياة اليومية بلحظاتها العابرة وشخصياتها المتفردة، وصراعها الدائب، حين ربطها برباط لا ينفصم مع واقع الحياة، وكان له من الحس الفني ومن الإدراك ما جعله يخرج بالطفل الوليد إلى الوجود متخففا من كل الأثقال التي تحول دون نموه وتعيق تقدمه، وكأنما أدرك أن القصة القصيرة بناء رهيف ينوء بالفصاحة وبالدروس الفلسفية والأخلاقية، فالتزم الموضوعية البحتة في كل ما كتب من قصص قصيرة وصور الحياة كما هي عليه، بلا تزويق ولا وعظ ولا إرشاد(10).
وكان ذا أسلوب بارع وموسيقي متميز، وكان على قدرة بالغة على التصوير وهذا ما جعله متمكنا من مادته(11).
ولقد أقر العديد من النقاد أن القصة القصيرة ولدت في رحم جوجول وفي هذا السياق يقول ترجنيف لقد أتينا جميعا من تحت معطف جوجول.
وفي الوقت الذي كان يبرع فيه الروسي جوجول، كان الكاتب الأمريكي إدجار ألن بو* يسعى لتشكيل عالم قصصي جديد وذلك من خلال الاستفادة من الرموز والخيالات، وبرع في مجال القصة القصيرة إذ أجاد فيها وجاءت قصصه كلها قصيرة، بعضها تحليلي والآخر خيالي، ويختلف أسلوبه عن جوجول حيث استخدم تقنية رياضية تنطلق من وصف المناخ الهادئ وتنطلق بالقارىء من عقلانية مدركة إلى عالم مجنون وانفعالات متوترة، وحتى عناوين قصصه جاءت قاتمة، وكانت وجهة نظره التي دافع عنها دائما:"إن التهذيب ودروس الأخلاق لا مكان لها على الإطلاق في الإبداع الفني"(12).
ولقد أورد إدجار ألن بو تعريف لها وأورده عرضا وهو يتحدث عن مواطنه القصاص الأمريكي هوثورن فيقول: "تقدم القصة الحقة، في رأينا مجالا أكثر ملائمة، دون شك، لتدريب القرائح الأرقى سموا، مما يمكن أن تقدمه مجالات النثر العادية الأخرى... يبني الكاتب القدير قصة لن يشكل فكره ليوائم أحداثه إذا كان فطنا، إلا بعد أن يدرك جيدا أثرا ما"(13)...
ويمكن القول أن القصة القصيرة لم تشهد إنجازا حاسما في مسيرة تطورها التقني بعد ذلك إلا على يد الفرنسي جي دي موباسان* والروسي أنطوان تشيكوف* وذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فموباسان يرى أن القصة القصيرة تجيء منفصلة وتعبيرا عن لحظة محددة. وكان هذا اكتشافا خطيرا ، ومن أهم الاكتشافات الأدبية في العصر الحديث، لأن القصة التي ارتضاها موباسان ولائمت مزاجه، وافقت روح العصر، وكانت وسيلة طبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة، وغايتها اكتشاف الحقائق من الأمور الصغيرة العادية المألوفة ولعل هذا هو السبب في انتشار القصة القصيرة منذ موباسان حتى يومنا هذا(14).
وكأي عمل جديد ورائع وأصيل، رفض الناس قصص موباسان في بادىء الأمر، لأنها جاءت على خلاف ما سبقها من قصص، ولكنهم ما لبثوا أن أدركوا روعة هذا الفن فيها، فأقبلوا عليه وارتبطت باسمه في وطنه فرنسا وفي خارجها.
أما بالنسبة لأنطوان تشيكوف كان صاحب أثر كبير في تطور القصة القصيرة، كما كان ذا تأثير بالغ على أغلب من جاء بعده لأنه كان يحرص على الاغتراف من الحياة بوصفها المصدر الأول في نظره للتجربة الإنسانية الخصبة (15).
كانت قصصه متنوعة الموضوعات واتسمت بالسلبية تجاه الحياة الاجتماعية والسياسية التي تحكم أقدار روسيا في أواخر القرن التاسع عشر ، وما كان يهمه من الأحداث العادية تصوير الانحطاط الروحي في أعماق النفس الإنسانية (16).
وفي أحيان كثيرة تقوم القصة القصيرة عنده بمحاكاة نسيج الحياة العادية القريبة من جو الأسرة وتتسم قصصه بالدفء الحنون، وكتب قصصه بأسلوب تأثيري يعتمد على التفاصيل الرمزية المنتقاة بعناية (17).
كما يعتمد في قصصه على التكثيف والإيجاز والهروب من الاستهلالات المطولة، كما تفتقد قصصه إلى الحبكة المثيرة وهذا ما جعله أستاذا من أساتذة القصة القصيرة الحديثة في العالم (18).
وبعد هؤلاء الرواد أو حتى معضمهم، بهرت القصة القصيرة كجنس أدبي جديد القارىء الأوروبي، وأعان على ازدهارها ذيوع الصحافة وانحسار الأمية، وارتقاء الثقافة بعامة، فشهدت روسيا غير من ذكرنا تبرجنيف، وتولستوي، وديستوفسكي، ولمع في فرنسا فوبير، وإميل زولا، وأناتول وآخرون، واحتل أرفنج واشنطن، وهورثون، وبريت هارت، مكانا ملحوظا، وعبروا من خلال قصصهم، في صيغ مكثفة، عن الأزمات التي مرت بها أمتهم، في حين كانت القصة القصيرة تختنق في إنجلترا تحت وطأة الأسلوب المزوق والمنمق أولا، وتحت وطأة الوعظ الأخلاقي ثانيا، وتحت وطأة الاعتماد على الغريب والابتعاد عن واقع الحياة ثالثا، وفي العشر سنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر حين ظهر في انجلترا أخيرا، كاتب قصة قصيرة، شابت قصصه نفس الشوائب التي خنقت مجرى القصة في انجلترا طوال القرن، فقد جاءت قصص رايدر كبلنج مشوبة بشوائب البطولات الجوفاء البعيدة عن واقع الحياة، وبالدروس والحكم، لا الدروس الأخلاقية في هذه المرة، بل الدروس الاستعمارية، بالدعابة جنبا إلى جنب مع نغمة التمييز العنصري ولم يتأت للقصة الانجليزية القصيرة أن تستكمل مقوماتها، إلا بعد أن انحدر الاتجاه الرومانسي في القرن الحالي في اللغة والموضوع، وانحدرت معه كل محاولة للوعظ والإرشاد والدعاية، وتحميل القصة القصيرة مالا تحتمل، وانضمت القصة الانجليزية إلى تيار القصة العالمية بظهور كتاب "كاترين مانسفيلد" و"كوبارد" ككتاب يلتزمون الموضوعية التامة، ويصورون الحياة على ماهي عليه، دون محاولة لتزييف هذه الحياة، ودون محاولة إثقال الشكل الفني الرهيف بالوعظ والإرشاد (19).
أما في القرن العشرين فقد أصبحت القصة القصيرة أكثر الأشكال الأدبية انتشارا وقوة شبه سيطرة على مجالات الإبداع الموازية.
وهذه الحركة بدأت تجد أرضا خصبة لها يتردد صداها بشكل خافت حتى الآن في بعض الأعمال الإبداعية التي ظهرت أخيرا على الساحة العربية. فعلى الرغم من توالي ظهور القص في صوره المختلفة من خلال المقامات لبديع الزمان الهمذاني، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورسالة التوابع والزوابع لابن الشهيد الأندلسي، ورسالة حي بن يقضان لابن طفيل، ورسالة طير للغزالي وصولا إلى ألف ليلة وليلة(20) ، إلا أن القصة القصيرة ترعرعت بتأثير من الأدب الأوروبي مباشرة وذلك منذ أن أخذ العرب يتصلون بالعالم الغربي سواء بواسطة المبشرين والمحتلين، أو رجال المال والتجارة، الذين وفدوا إلى بلاد العرب، أو من خلال البعثات العلمية التي أوفدتها البلاد العربية إلى البلاد الغربية. وكان هذا التأثير إما عن طريق الترجمة، وإما عن طريق القراءة في اللغات الأصلية للآداب الغربية. وربما كانت هذه الوسيلة الأخيرة هي الأكثر تأثيرا في الأدب العربي الحديث، (21). وبخاصة رعايا دول المغرب العربي لتماسها المباشر مع الغرب وبالتالي نقلوها إلى دول المشرق العربي فقدموا بهذا خدمة جليلة لكثير من النشاط الإبداعي.
وقد ازدهرت القصة القصيرة في مطلع هذا القرن دون أن يعني ذلك أنها كانت دقيقة، وقد تمت ترجمة أعداد هائلة منها إلى اللغة العربية، وتمصير جانب كبير منها ولم تتوقف الترجمة عن أدب أمة بعينها، وإن تمت في معظم الحالات عن اللغتين الفرنسية والانجليزية، وكانت هذه القصص لكبار الكتاب الغربيين من الروس، والإنجليز، والفرنسيين، والأمريكيين، والإيطاليين وغيرهم، وكان من بين المترجمين من يتصرف في القصة وينحرف إلى ما يهوى القارئ، يخلق مواقف جديدة أو يسقط مواقف كانت قائمة، أو يستولي عليها وينسبها إلى نفسه، وهناك من لا يعرف اللغة الأجنبية، وأوتي حظا كبيرا في اللغة العربية فترجم له القصة، ويتولى هو صياغتها، يضعها في قالب عربي ويكتبها في أسلوب عربي فصيح، وكان مصطفى لطفي المنفلوطي أبرز هؤلاء جميعا، وكتابع"العبرات" مجموعة من القصص الفرنسية، المغرفة الرومانتيكية، ترجمت له، وصاعها في أسلوبه الرشيق، فجاءت مغرقة في الحزن، تفجر الدموع في العين والقلب بين قراء يعانون من هموم قاسية في حياتهم الخاصة والعامة على السواء، ولكنها بعدت عن أصولها، في أسلوب تقريري لا يهتم بالسياق أو ترابط الأحداث، وفقدت في صورتها الجديدة خصائص القصة القصيرة، ولكنها أسهمت في تهيئة المناخ، و لقت الأذهان، وترغيب القراء في مثل هذا اللون من الأدب(22).
ومن هنا ظهرت القصة القصيرة كفن أدبي في بداية القرن 20، وكان لها ذيوع كبير وتذهب بعض الآراء إلى أن أول قصة قصيرة عربية بالشكل المتعارف عليه كانت قصة "في القطار" لـمحمد تيمور* وجاءت ثمرة ناضجة لاتصاله القوي والمباشر والمبكر بالثقافة الغربية(23).
وعلى يده تقدمت القصة القصيرة خطوات إلى الأمام، فقد تميز أسلوبه بلغة بسيطة وصافية هادئة، ودقيقة، فأتاح لها ذلك مجالات أوسع للترجمة إلى اللغات الأجنبية(24).
وجاء بعده شحاته وعيسى عبيد اللذان تقدما بالقصة القصيرة خطوة لا بأس بها.
وبعدهما يأتي طاهر لاشين* إذ كان في بادئ أمره يكثر الشخوص في قصصه كثر مسرفة، ونلتقي في القصة الواحدة بعدد غير قليل من الشخصيات، فتفتقد القصة قوة التأثير من ناحية، والتركيز من ناحية أخرى، فهو لا يركز على شخصية واحدة، أو جانب من جوانبها، أو يسلط الضوء قويا وكاشفا على فكرة واحدة يعزلها عما عداها، ولهذا تفقد قصصه الأولى التناسب بين عناصرها ولكنه فيما زاد وعيه بتقنية القصة وعناصرها، فعني بالإنسان من حيث هو إنسان، دون نظر إلى بيئته أو جنسه أو طبقته الاجتماعية، وعرف كيف يختار شخصية واحدة، يبرزها في صورة واضحة، مركزة ومؤثرة(25).
وبعد لاشين برزت مجموعة من الرواد أبعدوا في هذا المجال كحسين فوزي، ويحي حقي، ونجيب محفوظ، ومحمود البدوي، وصالح موسى، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وغسان كنفاني.... وغيرهم(26).
وعلى يدهم واصلت القصة القصيرة العربية طريقها في حماسة شديدة نحو الحداثة والتجدد لاكتسابها صيغ أكثر قدرة على التعبير عن روح الأجناس الأدبية تيارات التأثير والتأثر بكل آفاقها سلبا وإيجابا وصولا إلى أفق الإبداع الكبير(27).
3 ـ عناصر القصة القصيرة وفنياتها:
لا خلاف حول الأسس الرئيسة في القصة القصيرة من مقدمة وذروة وخاتمة، ولكن الاختلاف، كل الاختلاف يحدث عند التنفيذ، وذلك تبعا للتطور الكبير الذي طرأ على البناء الفني للقصة، وجعلها تتحرر من ثوب الحكاية التي لازمها في كثير من الأحيان في بدايتها.
فالقصة القصيرة بشكلها الفني المعاصر تتكون من عناصر وفنيات وهذه العناصر جميعها تشترك في تشكيل الفنيات المتميزة للقصة القصيرة وهي كالآتي:
أ ـ الرؤية:
وهي جوهر العمل الفني، ونواته الفكرية التي قد تصدر عن الفنان دون وعي ومنه لفرط خبرته، فهي تعبر عن مفهومه ونظرته للحياة، فالمبدع الحقيقي هو الذي تكون له نظرة ما حول ما يقدمه من أعمال فنية، فبالرؤية يختلف الكاتب الكبير عن الكاتب الصغير(28).
ب ـ الموضوع:
هو الحدث أو الحدوثة التي تتجسد من خلالها الرؤية، التي يعتبرها المبدع أساس عمله، وهي حدث يتم في مكان وزمان محددين، تنشأ عنه علاقات إنسانية مختلفة متمثلة في أنماط سلوكية بشرية تسعى لتحقيق هدف ما، ومعبرة عن آمالها ومشاعرها الوجدانية(29).
ج ـ اللغــة:
في صدارة كل العناصر التي تشكل القصة القصيرة وتصوغها، تأتي اللغة ولولا أن الرؤية والموضوع –من الناحية الزمنية- يسبقان الجميع لكانت من فرط أهميتها تتقدم كل العناصر، لأنها تكاد تمثل الشخصية الرئيسة في البناء القصصي بلا منازع، بل إنها تتجاوز الرؤية والموضوع من حيث القيمة والدور والأثر.
فاللغة عنصر مهم لبث الروح في القصة وجعلها كائن نابض في الحياة حتى تبتعد عن الرتابة، فكانت القصة الجيدة يرتكز ويؤكد على أهمية اللغة وهذا موسى كردي يؤكد على اللغة فيقول:"ومشكلة قصاصينا أيضا، إنهم لم يفهموا بعد عبقرية اللغة وطواعيتها، لم يدركوا إدراكا واعيا قدرتها على الأداء والتعبير"(30).
فالكاتب حينما يقوم بالتمرد والتجاوز على اللغة التقريرية واليومية فإنه يضعنا"قسرا في حالة من الوعي والانتباه"(31) فالقصة القصيرة المشحونة بلغة عالية قادرة على "التصوير بدء من أبسط أنواع المجاز"(32).
فالنص القصصي سواء أكان قصة أو قصة قصيرة أو قصيرة جدا لا بد أن يمتلك لغة شعرية عالية، ويمكن ذكر ما أطلقه الناقد شجاع مسلم العاني على الشعرية –شعرية اللغة- في القصة القصيرة حيث قال:"إن هذا التيار يقترب من الاتجاهات الجديدة في القصص العالمي المعاصر"(33).
ومن سمات اللغة الفنية:
- السلامة النحوية
- الدقة
- الاقتصاد والتكثيف.
- الشاعرية
1 ـ السلامة النحوية:
تمثل الحد الأدنى لأي نص مكتوب، حتى لو كان رسالة تجارية، أو خطابا سياسيا، أو بيانيا، حكوميا، أو مقالة صحفية وبالقطع فهي- السلامة النحوية- مطلب ضروري للأديب خصوصا القاص والشاعر والروائي لأن اللغة هي كل شيء في عالم الأدب(34).
2 ـ الدقــة:
هي سر من أسرار جمال القصة القصيرة، كما أنها مطلب صعب وعزيز يقتضي قدرا من المشقة وكثيرا من الجهد والحذف والتغيير والاستبدال، مع العلم أنها تدفع النص ودلالاته إلى عقل ووجدان القارئ مباشرة دون لف ودوران وتخفف على النص عبء التطويل وتسهم في تحقيق قدر من الشاعرية، والموسيقى، والانسجام(35).
3 ـ الاقتصاد والتكثيف:
وهما سمتين مهمتين في اللغة حيث يقوم الكاتب بإجراء عملية فنية واعية تماما تستهدف تخليص القصة من كل ما لا يصب مباشرة في موضوعها وحذف الجمل المكررة والتفسيرات والواوات والتمات والكانات(36).
4 ـ الشاعرية:
الشاعرية أو الشعرية في اللغة والأسلوب هي الأساس رغبة تنطلق من وعي الكاتب وتصدر عن قصدية وتعمد حتى تصبح ملكة ذات حساسية مرهفة تختار من الألفاظ ما يحقق هذه الشعرية ولعل مما يسهم في تعميق هذه الشعرية وتوسيع رقعتها، اكتفاء الكاتب في التصوير والتعبير بالايماء والتلميح لا بالمباشر والصريح(37).
وهذا يعني أن يلمس كل شيء برشاقة وخفة لأن الأضواء في القصة القصيرة ليست صارخة، ولكنها هادئة وخافته والألوان ليست زاحفة ما هي حفية وباهته.
د ـ الشخصية:
وهذه الأخيرة هي جوهر القصة القصيرة فهي التي تقوم بالحدث الذي تنبئ عليه القصة وقد يكون شخص أو قوى غيبية أو بمعنى أدق كل شيء مؤثر في اتجاه الحدث صعودا وهبوطا، انبساطا أو تأزما، والشخصية في القصة القصيرة تختلف من ناحية العدد عن القصة حيث أن الشخصيات في القصة القصيرة يكون عددها قليل ويقول في هذا السياق الناقد الأرجنتيني المعاصر إمبرت اندرسون "... يضغط القصاص مادته لكي يعطينا وحدة نغم قوية: أمامنا عدد قليل من الشخصيات، وشخصية واحدة تكفي، ملتزمين بموقف نترقب حل عقدته بفارغ الصبر... ويضع القصاص النهاية فجأة في لحظة حاسمة"(38).
هـ ـ البناء:
وهي مراحل أو شكل العمل الأدبي، وهي إعادة لا تقل عن ثلاثة مراحل هي: البداية، قم الوسط، الذي قد يطول أو يقصر وفيه يكون ذروة الصراع ثم النهاية وفيها يكون الكشف عن كل محتوى العمل وهدفه الأساسي(39).
و ـ الأسلوب الفني:
وهو التقنية الفنية التي يتم بها تصوير الحدث أو الحالة، والكاتب في حاجة لتشكيل هذه الصياغة الفنية لوسائل عديدة ينفذ بها لشخصياته ومواقفه بحيث تتعاون في النهاية في رسم صورة جيدة للعمل الأدبي، فهي المنظور الذي منه يتم رؤية العمل الفني، فيتم الإعجاب به من قارئه، فحرفية القاص تنبع من الأسلوب الأخاذ الذي عبر به عن قصته، بحيث تبدو كما لو كانت عملا واقعيا، وإن كان دور الكاتب فيها هو عمله على نقلها على الورق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى