عبدالرحيم التدلاوي - الاحتفاء بالهامشي، قراءة في مجموعة "احتفالية التشرد" لإدريس الجرماطي..

صدرت مجموعة "احتفالية التشرد" لإدريس الجرماطي عن دار سليي اخوين بطنجة في بعتها الأولى سنة 2019. وهي مجموعة تضم ثلاثين نصا منبسطا على مدار 81 صفحة من القطع المتوسط.
وتعلن المجموعة، انطلاقا من عنوانها، عن رهانها المتمثل في الدفاع عن الكتابة والمشردين، والاحتفاء بهما، وجعلهما مدار الكتابة، وشغلها الخاص.
كل قاص ينطلق من تصور خاص للكتابة للقصصية، وله أسلوبه الخاص في صوغها ومنطلق المبدع إدريس الجرماطي، هو التركيز على الواقع، وجعله بؤرة تأمل، ونقد.
يصنع إدريس الجرماطي، كما جاء في مقدمة مجموعته "سمفونية الاحتراق"، بنوع من المبالغة، من العدم موضوعا جديدا، وكأننا في سراب سوريالي مع لوحات سردية ممتعة، تشدك إليها في حلزونية ورؤى جديدة. يعتمد في كتاباته على المشهد في اللوحة؛ فهو يصور النصوص أكثر مما يكتبها، ومن هنا، حضور فن الرسم بكثافة، تراه خارجا عن السرب. كتاباته ذات نكهة خاصة لا يمكن فك شفرتها بسهولة، تبدو وكأنها غير واضحة المعالم أحيانا، ومشتتة الأحداث والوقائع، ومتداخلة الأمكنة والأزمنة، لكنها، بالتدقيق والتعمن، تكشف للقارئ أنها تحمل في طياتها رسالة إنسانية شكلا ومعنى، ترمي بك في أتون تيارات من دون ضفاف، وسعة الوجود والأفق، بين جحود وسبك متناهي الدقة، يختفي أكثر مما يظهر بعبارات تتجاوز الحدود، وترسلك عبر أزمنة لا زمنية وإلى أماكن لا مكان فيها.
يعمل المبدع على صوغ عوالمه من الهامش والمنسي والمقصي، يعيده إلى دائرة الضوء، بجعل شخصياته من قاع المجتمع، تقوم بتكسير المتعارف عليه، ونبذه بإبراز عيوبه. شخصيات العمل مهمشة، من المشردين والسكارى والكتاب المنبوذين وغير المعترف بهم، يقوضون دعائم العالم القاسي الذي فرض عليهم البقاء في الظل، يسخرون منه، ويكسرون جديته بشغبهم وسخرايتهم اللاذعة. يعيشون على أطراف المدن، ومنهم القادم من القرى، يحملون قيما تخالف وتضاد قيم المجتمع المتسمة بالنفاق والرياء، "احتفالية التشرد" ص60: ..ونحن المشردين لنا وصف خاص لكل ما يملكه الخواص، ونحن دوما نتمتع بالقوة والإصرار، وفي قلوبنا عزة الشمس ساطعة، يوما بعد يوم نرى الأزقة والشوارع والحافلات المكسرة ملك لنا...ص 60 و61.
كما أن السارد يتعمد إزاحة المركز الذي يهتم بأصحاب الشأن والنفوذ، ولا يعير أدنى اهتمام لباقي أفراد المجتمع، وبالأخص المنبوذين والمهمشين، بإعادة الإعتبار لهم، بجعلهم مركز الضوء، ومنحهم البطولة ولو إلى حين.
تعمل نصوص المجموعة في مجملها على طرح واقع بديل للواقع المر الذي تعيشه شخصياتها، بإزاحة كل عوامل الإقصاء والتهميش، عبر السخرية من نتوءات هذا الواقع الظالم واللاإنساني.
إنها نصوص حركية لا تعتمد على الشخصيات كتركيبة خلقية، بل هي شخصيات واهية التكوين، لولبية البناء؛ تعاني البؤس والفقر والحاجة، ومن أسمائها يمكن تلمس التهميش والنبذ.
في حين، تعمد بعض النصوص الأخرى إلى تحويل مجال الكتابة فسحة تأمل في الوجود، وقضية الإنسان في هذا الكون، وقيمته في العالم الفسيح، مع الإشارة إلى الكرامة والعدل والمساواة كقيم عليا ينبغي أن تتحقق لينتعش الإنسان، ويصير قادرا على التحكم في مصيره، بالتفكير في قضاياه الحيوية.
تميل تلك النصوص إلى الأسلوب الفلسفي، قد تبدو عبثية للوهلة الأولى، ولكن، سرعان ما تظهر ما تحبل به من معان عميقة في الوجود والإنسان.."حارس في الظل..." ص71، وخطأ في التواجد..." ص75. "اختلاط واختلاف" ص56.
الكتابة لدى المبدع إدريس فعل إيمان بقيمة الإنسان، والتزام بقضاياه وبخاصة الفئة المشردة والتي تعيش حياة بؤس مستمر بفعل الظلم والاستغلال؛ إنها كتابة ملتزمة بالقضايا المهمة في الحياة، من دونها سيظل ميزان العدل مختلا.
صحيح أن جانب المعنى أساسي، لكن جانب المبنى يظل هو الآخر هاجس المبدع الذي يظل يبحث عن البناء القادر على حمل همومه، وإبراز انشغالاته، لا البناء الذي يذوبها، ويصيرها باهتة، ويصيرها خادمة له، وتابعة ثانوية. المبدع الملتزم يرى أن المعنى مهم وأساسي، لكن المبنى يبقى خادما له، يمكنه خرق ما سبق وإعادة بنائه بشكل جديد مثير مبهر، لكنه لا يهمش المعنى بل يخدمه بتجليته وتوضيحه وجعله في المقدمة، يلمسه القارئ ويتفاعل معه.
ولا يفهم من قولنا أن البناء أمر ثانوي، بل إنه أساسي، يمنح النصوص فنيتها، ولا يحولها وعظا وخاطابة، من هنا، نجد المبدع قد أولى عنايته بهذا الجانب عبر اعتماد تقنيات عدة، ومنها، على سبيل المثال، العجائبية: "صورة غيري.." ص66، والميتاقص: "غرابيل.." ص78، وإشراك القارئ عبر مخاطبته قصد توريطه في الكتابة: "معطف..." ص51.
يرى المبدع إدريس أن الكتابة فن المجازفة، ويؤمن أن النصوص التقريرية في متناول الجميع، لذا، من واجب المبدع أن يتخذ له منهجا يتميز به وأسلوبا خاصا به، وموضوعات مهمة تكون هادفة وإنسانية في سريالية تأخذك إلى أفق الوجود في حلة يكتسيها البحث عن الكينونة الروحية قبل المادية أو الذاتية.
وتنبغي الإشارة، في هذا القمام، إلى ضرورة المراجعة والتقديق اللغوي، حتى لا تذهب الهنات بماء القص.



1604920464390.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى