هذه خلاصات مكثفة ( من قاموس التراث) مادة " خمر" للمعلم الراحل هادي العلوي ومصادر أخرى، أوردها هنا على سبيل الاطلاع والمعرفة وإثارة النقاش :
-الخمرُ لغةً من جذر "خَمَرَ" أي حجب وغطى وستر، واصطلاحا هو ( كل ما يخمر العقل أي يستره لبرهة بحسب الأمزجة والأزمنة والأمكنة / تذكرة الأنطاكي). ومن مشتقاتها الخمار أي البرقع.
- والخمر والنبيذ مشروبان مختلفان: فالخمر هو كل ما يعصر من العنب ويوضع مصفىً في جرار مزفتة لمدة في الشمس ثم في ظل لا يناله الهواء. أما النبيذ فهو عصير أو نقيع من الفاكهة والثمر ترك مدة حتى فار وظهر زبده أي رغوته. وقد قطر الكيمياوين في العصور الإسلامية من الخمر والنبيذ مادة سمّوها الغول - أي، ما يغال العقل ويذهب به - ومنه جاءت على الأرجح كلمة "الكوهول" في الانكليزية ومعها اداة التعريف العربية (alcohol) ثم عادت إلينا فعربناها بالحاء " الكحول" ونسينا أصلها العربي. ويمكن ان نفهم مما تقدم، أن الخمر يطول حبسه مغلقا بعد تصفيته وأن النبيذ يترك لمدة قصيرة قد لا تتجاوز بضعة أيام.
-استعمل النبيذ في الجاهلية للإسكار وتحلية مياه الآبار. وكان الخمر الشراب المفضل للجاهليين وظهرت خمريات جاهلية برز فيها الأعشى والمُنَخَّل اليشكري وطرفة بن العبد و قد أصبح ضريح الأعشى بعد وفاته مزارا لفتيان العرب يشربون عنده ويصبون كؤوسا من شرابهم عليه.
-تحريم الخمر أو حتى كراهته لم يكونا موجودين في العهد الإسلامي المكي ومدته ثلاثة عشرة سنة، و لا لعدة سنوات من العهد المدني المتراوح بين ثلاثة وثمانية أعوام. فقد كان المسلمون يشربون الخمر والنبيذ كعرب ما قبل الإسلام، ولكن حدثت مشادات وشجارات بين المسلمين فجاءت أولا الآية 219 من سورة البقرة لتنفر المسلمين من الخمر تنفيرا خفيفا، ونصها ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). ثم حدث أن قام بعض المسلمين إلى الصلاة وهم سكارى بحضور النبي العربي الكريم، فجاءت الآية 43 من سورة النساء لتردعهم عن فعل ذلك ونصها ( يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ). ولكن الحوادث والشجارات الخمرية استمرت في الحدوث و كان الحمزة عم النبي طرفاً في إحداها و في حادثة أخرى كادت تقع مشاكل سياسية بسبب شجار بين سكارى من الأنصار من الأوس والخزرج استذكروا خلافاتهم في الجاهلية وحروبهم فتشاجروا و تضاربوا، و أصيب بعضهم بجراح، فجاءت الآيتان 90 و 91 من سورة المادة تدعوان الى اجتناب ( الابتعاد عن ) شرب الخمر، ونصهما ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة. فهل أنتم منتهون).
-منطوق الآيتين يكشف عن ارتهان التحريم بالأحداث التي وقعت بدليل النص على وقوع العداوة والبغضاء بسبب الخمر والميسر. ولكن مفهوم التحريم لا يبدو مكتملا بحسب نص الآيتين إذ يمكن فهم عبارة " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " على انها تحبيذ للامتناع عن شرب الخمر روعيت فيه الاعتبارات الشخصية للفرد. فالمحرمات في القرآن تكون جازمة وصريحة بلفظ التحريم الصريح كما في تحريم الدم والميتة والخنزير و زواج المحارم أو أن يتضمن الفعل المحرم عقوبة على مرتكبه كما في عقوبة القاتل والسارق . وآية الخمر لم تذكر لفظ التحريم ولا عقوبة لشاربه. ولم تورد مصادر الحديث والسيرة وقائع موثقة يستفاد منها تشريع عقوبة لشارب الخمر في زمان النبي. ويقول ابن حديد في شرح نهج البلاعة 3/ 116/ إن النبي لم يعاقب شارب الخمر في حياته وقد شربها كثيرون. وقد اختلف الفقهاء بعد عهد النبي وظهور المذاهب في موضوع تحريم الخمر والنبيذ وهذا ما سنعرض له في الفائدة القادمة .
انتهينا في الجزء الأول من هذه الوقفة إلى القول، إن الفقهاء المسلمين اختلفوا - بعد عهد النبي العربي الكريم وخلفائه الأربعة و بدء عهد التأليف و ظهور المذاهب- في موضوع الخمر حول مدى التحريم و صنف المُحرَّم وحول عقوبة المخالف. و سنختصر الموضوع في الخلاصات المكثفة التالية وأغلبها من المصدر السابق "من قاموس التراث – هادي العلوي".
-ميز الفقهاء بين الخمر والنبيذ، مع أن الفرق بينهما قد يبدو غير واضح لنا في عصرنا. وثمة إجماع بينهم على تحريم الخمر بلفظها المذكور في القرآن ولكنهم اختلفوا في تعريف ما يصدق عليه وصف الخمر.
-أغلبية الفقهاء تشترط وجود مقومين لاعتبار الشراب خمرا، هما الغليان "الفوران" والاشتداد أي قوة إسكاره. ويضيف أبو حنيفة شرطا ثالثا هو القذف بالزبد ( خلاصة الرغوة التي يصبح المشروب بعدها كامل النقاء والرقة) لاستكمال المشروب وصف الخمر المحرم. و حدد الخمر أيضا بما يُعمل من التمر والعنب، وهناك حديث صحيح للنبي قال فيه ( الخمر من هاتين الشجرتين... وأشار إلى نخلة وكرمة ).
- واتفق الفقهاء على إباحة النبيذ غير المسكر وهو العصير والنقيع قبل أن يفور. والفوران يحدث عادة بعد ثلاثة أيام فإذا جاوزها حرم النبيذ لأنه أصبح خمرا أو قريبا منه، وفق بعضهم.
-واختلف الفقهاء أيضا على عقوبة شارب الخمر بين أربعين جلدة و ثمانين جلدة ( و الأخيرة، هي أيضا حد المفتري كذبا)، مثلما اختلفوا على موجب العقوبة وهل هو السُّكر أم مجرد شرب الخمر دون سكر.
- ونسجل أن أغلب فقهاء القرن الأول و شطر من الثاني، كانوا مع إباحة شرب النبيذ ومن هؤلاء زيد بن علي، وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والحسن البصري، وابن أبي ليلى.
- في كتاب المغني لابن قدامة، وهو حنبلي ، نقرأ أن أحمد بن حنبل سُئل عن شرب الطلاء ( وهو عصيرُ فاكهةٍ طبخ حتى تبخر ثلثاه ) قال: لا بأس به، أي يحل تناوله، فقالوا له ولكنه مُسكر فقال : لا يُسْكِر ولو كان يسكر ما أحله عمر بن الخطاب. ولعل ابن حنبل يشير إلى ما رواه الدار قطني في سننه روى فيه عن عمر ( إني لأشرب هذا النبيذ الشديد يقطع ما في بطوننا من لحوم الإبل.)، أي يهضمها.
-( يرجع التشدد في تحريم الخمر والنبيذ إلى الفقهاء في عصور متأخرة نسبيا. ويرتبط هذا التشدد باكتمال العقلية الدينية على حساب الوعي الحضاري للإسلام في منحاه الدنيوي. ومن خصال العقلية الدينية تركيزها على التابو " المحرم والممنوع" كعنصر جوهي في أي دين القائم بطبيعته على النواهي والتحريمات وقد نشأت في الإسلام بتأثير هذه العقلية شبكة معقدة من التحريمات تظافر على حبكها الفقهاء الذين تصرفوا كرجال دين إلى جانب وظيفتهم كرجال قانون. / نصاً عن كتاب المعلم هادي العلوي ص 110 وما بعدها و "الفقه" كما يعرفه العلوي في هذا الطور هو مشمولات وقواعد القضاء والقانون في الدولة الإسلامية المتطورة في طورها الإمبراطوري وليس هو الفقه الديني البحت).
-أما رأي أبي حنيفة في الخمر فهو حرام ولكن شاربها لا يعاقب إلا إذا سكر. السكر درجة لاحقة للنشوة التي تجلب السرور والانبساط ولا تذهب بالعقل، وهذه الدرجة من السكر الخفيف سماها العرب " ليلى" قبل ان يسموا بناتهم بها. أي أن المسؤولية تقع على عاتق الشارب الذي يجب عليه أن يحسب حساب إيمانه وآخرته فهي إذن أمر بينه وبين ربه.
- وعند السُّكر تخرج العلاقة عن وضعها السابق، لتكون بين الشارب السكران الذي قد يتجاوز أو يعتدي على الآخر والمجتمع " الآخر الجمعي"، وهنا تتدخل الدولة - أية دولة كانت، دينية أو غير دينية - لتنظم العلاقة بين الفرد والجماعة للحد من الاعتداءات والتجاوزات المحتملة و لمحاربة الإدمان.
- الخلاصة التي يخرج بها العلوي هي ( من هنا كانت إباحة أبي حنيفة للنبيذ مع تقريره العقوبة على الإفراط فيه إلى درجة ذهاب العقل . والنتيجة واحدة في الخمر والنبيذ وإنما تختلف في اعتبار الخمار آثما من الناحية الدينية، أما النباذ فيشربه حلالا طيبا. ومن الاعتبارات التي روعيت هنا ان الخمر يتسبب في الإدمان بينما لا يسببه النبيذ وهو من اسباب التشدد في الخمر والتساهل في النبيذ).
- في الفقه الجعفري عند الشيعة الاثنا عشرية فالنبيذ والخمر والجعة حرام سواء سكر شاربه أو لم يسكر، و فتاوي الفقهاء هي التي يعول عليها هنا في توجيه المؤمنين المقتدين بهم "المقلدين " لهم والخلافات بينها ليست كبيرة ولا تصل إلى درجة التناقض والتعاكس. ونقرأ في فتوى لمرجعهم الأعلى الحالي علي السيستاني قوله ( يحرم شرب الخمر والفقاع "البيرة " وكل مسكر أو موجب " مسبب" للنشوة ويعرف النشوة بأنها "السكر الخفيف" جامداً كان أو مائعا).
وهناك في كتب التراث الفقهي القديم نسبيا عند الشيعة الاثناعشرية ما يقترب أو يتبعد عن رأي السيستاني، أو حتى من موقف أبي حنيفة و غيره، ولكننا ثبتنا الموقف الرسمي لمرجعهم الأعلى وتركنا التفاصيل التي قد تحتوي على اتهامات غير موثقة يقولها خصومهم الطائفيون عنهم وعن مراجعهم و كتبهم القديمة، ولن نخوض في التفاصيل في هذه العجالة ما دامت ‘مكانية توثيق وتدقيق ما يقتبس ويقال في هذا الصدد ، و في الوقت الحاضر، غير متاحة لنا تماما. أما عند الشيعة الزيدية فأرجح ان موقف فقهائهم من الخمر قريب من موقف أبي حنيفة في إباحة النبيذ وتحريم الخمر فهم يبيحون شرب النبيذ مع الطعام للتبلغ به، وعند العطش الشديد حين ينعدم أي شراب آخر، ولكنهم يحرمون التداوي به على عكس المذاهب الإسلامية الأخرى. ولا أستطيع الجزم بصحة هذه التفاصيل لندرة المنشور عن الموضوع و ندرة المصادر الخاصة بهذا الصدد أصلا.
-الخمرُ لغةً من جذر "خَمَرَ" أي حجب وغطى وستر، واصطلاحا هو ( كل ما يخمر العقل أي يستره لبرهة بحسب الأمزجة والأزمنة والأمكنة / تذكرة الأنطاكي). ومن مشتقاتها الخمار أي البرقع.
- والخمر والنبيذ مشروبان مختلفان: فالخمر هو كل ما يعصر من العنب ويوضع مصفىً في جرار مزفتة لمدة في الشمس ثم في ظل لا يناله الهواء. أما النبيذ فهو عصير أو نقيع من الفاكهة والثمر ترك مدة حتى فار وظهر زبده أي رغوته. وقد قطر الكيمياوين في العصور الإسلامية من الخمر والنبيذ مادة سمّوها الغول - أي، ما يغال العقل ويذهب به - ومنه جاءت على الأرجح كلمة "الكوهول" في الانكليزية ومعها اداة التعريف العربية (alcohol) ثم عادت إلينا فعربناها بالحاء " الكحول" ونسينا أصلها العربي. ويمكن ان نفهم مما تقدم، أن الخمر يطول حبسه مغلقا بعد تصفيته وأن النبيذ يترك لمدة قصيرة قد لا تتجاوز بضعة أيام.
-استعمل النبيذ في الجاهلية للإسكار وتحلية مياه الآبار. وكان الخمر الشراب المفضل للجاهليين وظهرت خمريات جاهلية برز فيها الأعشى والمُنَخَّل اليشكري وطرفة بن العبد و قد أصبح ضريح الأعشى بعد وفاته مزارا لفتيان العرب يشربون عنده ويصبون كؤوسا من شرابهم عليه.
-تحريم الخمر أو حتى كراهته لم يكونا موجودين في العهد الإسلامي المكي ومدته ثلاثة عشرة سنة، و لا لعدة سنوات من العهد المدني المتراوح بين ثلاثة وثمانية أعوام. فقد كان المسلمون يشربون الخمر والنبيذ كعرب ما قبل الإسلام، ولكن حدثت مشادات وشجارات بين المسلمين فجاءت أولا الآية 219 من سورة البقرة لتنفر المسلمين من الخمر تنفيرا خفيفا، ونصها ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). ثم حدث أن قام بعض المسلمين إلى الصلاة وهم سكارى بحضور النبي العربي الكريم، فجاءت الآية 43 من سورة النساء لتردعهم عن فعل ذلك ونصها ( يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ). ولكن الحوادث والشجارات الخمرية استمرت في الحدوث و كان الحمزة عم النبي طرفاً في إحداها و في حادثة أخرى كادت تقع مشاكل سياسية بسبب شجار بين سكارى من الأنصار من الأوس والخزرج استذكروا خلافاتهم في الجاهلية وحروبهم فتشاجروا و تضاربوا، و أصيب بعضهم بجراح، فجاءت الآيتان 90 و 91 من سورة المادة تدعوان الى اجتناب ( الابتعاد عن ) شرب الخمر، ونصهما ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة. فهل أنتم منتهون).
-منطوق الآيتين يكشف عن ارتهان التحريم بالأحداث التي وقعت بدليل النص على وقوع العداوة والبغضاء بسبب الخمر والميسر. ولكن مفهوم التحريم لا يبدو مكتملا بحسب نص الآيتين إذ يمكن فهم عبارة " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " على انها تحبيذ للامتناع عن شرب الخمر روعيت فيه الاعتبارات الشخصية للفرد. فالمحرمات في القرآن تكون جازمة وصريحة بلفظ التحريم الصريح كما في تحريم الدم والميتة والخنزير و زواج المحارم أو أن يتضمن الفعل المحرم عقوبة على مرتكبه كما في عقوبة القاتل والسارق . وآية الخمر لم تذكر لفظ التحريم ولا عقوبة لشاربه. ولم تورد مصادر الحديث والسيرة وقائع موثقة يستفاد منها تشريع عقوبة لشارب الخمر في زمان النبي. ويقول ابن حديد في شرح نهج البلاعة 3/ 116/ إن النبي لم يعاقب شارب الخمر في حياته وقد شربها كثيرون. وقد اختلف الفقهاء بعد عهد النبي وظهور المذاهب في موضوع تحريم الخمر والنبيذ وهذا ما سنعرض له في الفائدة القادمة .
انتهينا في الجزء الأول من هذه الوقفة إلى القول، إن الفقهاء المسلمين اختلفوا - بعد عهد النبي العربي الكريم وخلفائه الأربعة و بدء عهد التأليف و ظهور المذاهب- في موضوع الخمر حول مدى التحريم و صنف المُحرَّم وحول عقوبة المخالف. و سنختصر الموضوع في الخلاصات المكثفة التالية وأغلبها من المصدر السابق "من قاموس التراث – هادي العلوي".
-ميز الفقهاء بين الخمر والنبيذ، مع أن الفرق بينهما قد يبدو غير واضح لنا في عصرنا. وثمة إجماع بينهم على تحريم الخمر بلفظها المذكور في القرآن ولكنهم اختلفوا في تعريف ما يصدق عليه وصف الخمر.
-أغلبية الفقهاء تشترط وجود مقومين لاعتبار الشراب خمرا، هما الغليان "الفوران" والاشتداد أي قوة إسكاره. ويضيف أبو حنيفة شرطا ثالثا هو القذف بالزبد ( خلاصة الرغوة التي يصبح المشروب بعدها كامل النقاء والرقة) لاستكمال المشروب وصف الخمر المحرم. و حدد الخمر أيضا بما يُعمل من التمر والعنب، وهناك حديث صحيح للنبي قال فيه ( الخمر من هاتين الشجرتين... وأشار إلى نخلة وكرمة ).
- واتفق الفقهاء على إباحة النبيذ غير المسكر وهو العصير والنقيع قبل أن يفور. والفوران يحدث عادة بعد ثلاثة أيام فإذا جاوزها حرم النبيذ لأنه أصبح خمرا أو قريبا منه، وفق بعضهم.
-واختلف الفقهاء أيضا على عقوبة شارب الخمر بين أربعين جلدة و ثمانين جلدة ( و الأخيرة، هي أيضا حد المفتري كذبا)، مثلما اختلفوا على موجب العقوبة وهل هو السُّكر أم مجرد شرب الخمر دون سكر.
- ونسجل أن أغلب فقهاء القرن الأول و شطر من الثاني، كانوا مع إباحة شرب النبيذ ومن هؤلاء زيد بن علي، وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والحسن البصري، وابن أبي ليلى.
- في كتاب المغني لابن قدامة، وهو حنبلي ، نقرأ أن أحمد بن حنبل سُئل عن شرب الطلاء ( وهو عصيرُ فاكهةٍ طبخ حتى تبخر ثلثاه ) قال: لا بأس به، أي يحل تناوله، فقالوا له ولكنه مُسكر فقال : لا يُسْكِر ولو كان يسكر ما أحله عمر بن الخطاب. ولعل ابن حنبل يشير إلى ما رواه الدار قطني في سننه روى فيه عن عمر ( إني لأشرب هذا النبيذ الشديد يقطع ما في بطوننا من لحوم الإبل.)، أي يهضمها.
-( يرجع التشدد في تحريم الخمر والنبيذ إلى الفقهاء في عصور متأخرة نسبيا. ويرتبط هذا التشدد باكتمال العقلية الدينية على حساب الوعي الحضاري للإسلام في منحاه الدنيوي. ومن خصال العقلية الدينية تركيزها على التابو " المحرم والممنوع" كعنصر جوهي في أي دين القائم بطبيعته على النواهي والتحريمات وقد نشأت في الإسلام بتأثير هذه العقلية شبكة معقدة من التحريمات تظافر على حبكها الفقهاء الذين تصرفوا كرجال دين إلى جانب وظيفتهم كرجال قانون. / نصاً عن كتاب المعلم هادي العلوي ص 110 وما بعدها و "الفقه" كما يعرفه العلوي في هذا الطور هو مشمولات وقواعد القضاء والقانون في الدولة الإسلامية المتطورة في طورها الإمبراطوري وليس هو الفقه الديني البحت).
-أما رأي أبي حنيفة في الخمر فهو حرام ولكن شاربها لا يعاقب إلا إذا سكر. السكر درجة لاحقة للنشوة التي تجلب السرور والانبساط ولا تذهب بالعقل، وهذه الدرجة من السكر الخفيف سماها العرب " ليلى" قبل ان يسموا بناتهم بها. أي أن المسؤولية تقع على عاتق الشارب الذي يجب عليه أن يحسب حساب إيمانه وآخرته فهي إذن أمر بينه وبين ربه.
- وعند السُّكر تخرج العلاقة عن وضعها السابق، لتكون بين الشارب السكران الذي قد يتجاوز أو يعتدي على الآخر والمجتمع " الآخر الجمعي"، وهنا تتدخل الدولة - أية دولة كانت، دينية أو غير دينية - لتنظم العلاقة بين الفرد والجماعة للحد من الاعتداءات والتجاوزات المحتملة و لمحاربة الإدمان.
- الخلاصة التي يخرج بها العلوي هي ( من هنا كانت إباحة أبي حنيفة للنبيذ مع تقريره العقوبة على الإفراط فيه إلى درجة ذهاب العقل . والنتيجة واحدة في الخمر والنبيذ وإنما تختلف في اعتبار الخمار آثما من الناحية الدينية، أما النباذ فيشربه حلالا طيبا. ومن الاعتبارات التي روعيت هنا ان الخمر يتسبب في الإدمان بينما لا يسببه النبيذ وهو من اسباب التشدد في الخمر والتساهل في النبيذ).
- في الفقه الجعفري عند الشيعة الاثنا عشرية فالنبيذ والخمر والجعة حرام سواء سكر شاربه أو لم يسكر، و فتاوي الفقهاء هي التي يعول عليها هنا في توجيه المؤمنين المقتدين بهم "المقلدين " لهم والخلافات بينها ليست كبيرة ولا تصل إلى درجة التناقض والتعاكس. ونقرأ في فتوى لمرجعهم الأعلى الحالي علي السيستاني قوله ( يحرم شرب الخمر والفقاع "البيرة " وكل مسكر أو موجب " مسبب" للنشوة ويعرف النشوة بأنها "السكر الخفيف" جامداً كان أو مائعا).
وهناك في كتب التراث الفقهي القديم نسبيا عند الشيعة الاثناعشرية ما يقترب أو يتبعد عن رأي السيستاني، أو حتى من موقف أبي حنيفة و غيره، ولكننا ثبتنا الموقف الرسمي لمرجعهم الأعلى وتركنا التفاصيل التي قد تحتوي على اتهامات غير موثقة يقولها خصومهم الطائفيون عنهم وعن مراجعهم و كتبهم القديمة، ولن نخوض في التفاصيل في هذه العجالة ما دامت ‘مكانية توثيق وتدقيق ما يقتبس ويقال في هذا الصدد ، و في الوقت الحاضر، غير متاحة لنا تماما. أما عند الشيعة الزيدية فأرجح ان موقف فقهائهم من الخمر قريب من موقف أبي حنيفة في إباحة النبيذ وتحريم الخمر فهم يبيحون شرب النبيذ مع الطعام للتبلغ به، وعند العطش الشديد حين ينعدم أي شراب آخر، ولكنهم يحرمون التداوي به على عكس المذاهب الإسلامية الأخرى. ولا أستطيع الجزم بصحة هذه التفاصيل لندرة المنشور عن الموضوع و ندرة المصادر الخاصة بهذا الصدد أصلا.