عبدالرحيم التدلاوي - خيبة أمل المثقف في إحداث التغيير. قراءة في رواية "صحراء تائه" لمحمد صاولة.. خطاب عتبتي الغلاف الأمامي

1_ العنوان:
جاء جملة اسمية: صحراء جانوس.. مركب من مضاف ومضاف إليه. كلمة صحراء أتت نكرة معرفة بالإضافة وتنكيرها الجزئي كان بغرض التعميم واللاتحديد لفضاء طبيعي شاسع ورمز للجفاف، يهدد الحياة؛ ما يجعله مكانا مخيفا ومحاطا بالأسرار واللامتوقع.. وهو في الوقت نفسه فضاء للتأمل والتفكير ، ثم اسم جانوس: وهو اسم يعود لشخصية أسطورية خارقة عبارة عن إله مكلف بحراسة أبواب السماء.. وبالتالي فإن التوليف يحول الصحراء إلى مفهوم مجازي.. بمعنى صحراء ثقافية معرفية تعبيرا عن القيم والأبعاد المجتمعية..
2_ الغلاف:
يستحوذ على الغلاف اللونان الأصفر والأزرق، فالأصفر مرتبط بالأرض، وأساسا بالصحراء حيث تظهر قافلة رحل تسير خببا باتجاه اليسار، مما يفيد أن انطلاقتها كانت من اليمين، وهي، في هذه اللحظة، توجد في الما بين، بمعنى أن حركتها ما زالت ممتدة في الزمان والمكان، وفي أسفل الصورة يوجد تمثال برأسين واحد ينظر باتجاه الشرق، والآخر باتجاه الغرب، وقد كانت توجد في روما القديمة بوابة معبدها تمثال جانوس له وجهان، تظل أبوابه مفتوحة أيام الحرب، وتغلق أوقات السلم، والأمر نفسه بالنسبة لصحراء الشرق العربي، لها بابان؛ بوابتها الأولى في المغرب الأقصى، والأخرى في الشرق الأوسط، وبالأخص في العراق. أما اللون الأزرق فيستحوذ على الجزء الأعلى، ويشير إلى السماء كفضاء ملق الحضور والأمل.
الرواية ولعبة الضمائر:
تنطلق كل كتابة جادة وصادقة من مجموعة من الهموم والانشغالات المرتبطة بالسياق السوسيو- ثقافي، لاستنطاق الواقع بالوقوف على بعض جزئياته وأبعاده ودلالاته الرمزية.
على خلفية سقوط بغداد بخاصة والعراق بعامة وما شهده العالم العربي من ثورات مجهضة والسعي إلى تبيان مواقف المثقفين مما يجري في الساحة؛ بنى محمد صاولة روايته "صحراء جانوس" على راو بمنظور ثنائي؛ واحد من الخارج ذي رؤية موضوعية محايدة؛ والثاني داخلي ذي رؤية مصاحبة؛ يعد شاهدا ومشاركا. ونجده مرات يستعمل ضمير المخاطب حين يتوجه بالكلام إلى جانوس ابن منصور. وهو اختيار يروم تفسير التحول الذي حصل مباشرة بعد وفاة منصور؛ وما توظيف ضمير "نا" الدال على جمع المتكلم إلا للتعبير عن الانتقال من الفرد إلى الجماعة التي ينخرط فيها موماد السباعي الذي هو صوت مضمر للكاتب في الوقت نفسه بحيث رغم تواريه بعض الأحيان فإنه يحاول أن يستحضر انتماءه للجماعة، فضلا عن دوره في الإيهام بواقعية الأحداث التي ستظهر. إن موماد السباعي جزء من صوت الكاتب وقد تمت الإشارة إلى هذا في الصفحة51 عندما كتب: هذا الناطق أنا .. عفوا هو .. . إني أحتمله، إن الراوي ما هو إلا ظل موماد، ويشكلان معا روحين في جسد واحد كما ورد في ص 209 .ويبدو أن موماد ما هو إلا امتداد لمنصور في نسخته المغربية ويحمل همه وانشغالاته كما أنه يمارس الكتابة، وكتابة الرواية بخاصة ؛ وهو من ألف هذا العمل المتحدث عنه" صحراء جانوس"؛ فموماد لا يظهر إلا حين يلفظ منصور أنفاسه تحت عجلة شاحنة. والشخصيتان عاشتا ظروفا مشابهة فرضت عليهما الهجرة بعد أن ضيق عليهما القمع فرص العيش، وعرقلة مشروعهما في إحداث تغيير إيجابي، إما بالسجن، وإما بالنفي، وإما بالإغراء المادي أوالمعنوي.
رواية "صحراء جانوس" رواية مثقفين وموجهة للمثقفين للاعتبارات التالية؛ أولهما أن جزءا من معجمها يحتاج لقاموس، وعلى سبيل المثال، أسرد بعضا منه كدليل: الراتينج عظل الذماء المزاعة السجر مفعاة العنفص ملطوع نكعت احتبى صافن يستخذي ...؛ وثانيهما تخصيص حديثها عن المثقفين وقضاياهم الفكرية والسياسية. واهتمامهم بالكتابة المقعرة البعيدة عن متناول البسطاء. فالقارئ العادي والمتوسط لن يجد نفسه فيها لكونها لا تخاطبه بالرغم من أنها تتطرق لهموم بعضها يهم الجميع. وثالثا، ذكرها لعدد كبير من أسماء المبدعين والكتاب والشعراء والفنانين والمفكرين والسياسيين، صحبة أعمالهم، وهذا الفهرست لا يدخل ضمن تركيبة القراء العاديين، والمتوسطين، فنجد، على سبيل المثال: رواية "وراق الحب" لخليل صويلح، ورواية محمد زفزاف، وأعمال سارتر، والمؤرخ البريطاني كيت جيفري وذكر اسم جيمس بوند وربطه بالجنسية الهولندية لا البريطانية، كما أنه وبحسب جريدة "دوفولكسكرات شخصية واقعية وحقيقية...
شخصية منصور:
منصور الألوسي ابن بغداد الرشيد تبخرت أحلامه في إفادة بلده وشعبه بتكوينه وعلمه، فعاد إلى بلاد الغربة ليكون لاجئا سياسيا. كان منصور الألوسي، مثقفا موسوعيا يحاضر في الأدب والفكر، في المسرح والسينما والتاريخ … وله دراية عميقة بقضايا الشرق الأوسط وخفاياه، وأفضل من كتب عن فلسطين، ورغم تعدد اهتماماته وتنوع كتاباته، وما تحمله من هموم إلا أنها أفضت إلى لاشيء، فكانت نهايته مفجعة إن لم تكن عبثية، لا تليق بحجمه كمثقف حامل لهموم بلده، لقد مات على الرصيف، على الهامش مخمورا، وتهشمت جمجمته تحت عجلات الشاحنة؛ انفجار أراح منصور من ثقل الهموم وما حملته تلك الجمجمة: “واختلط دمه بإسفلت الشارع، كما سرقت الأفعى النبات السحري لجلجامش، وأخرجت الإنسانية من الخلد"؛ لكنها أشرعت الباب على هموم أخرى لابنه جانوس الذي عليه أن يواصل مسيرة أبيه بعد أن يعانق قبره، وأن يخرج من أرض شعر فيها أنه نبتة غير سليمة وبلا جذور إلى أرضه التي تنتظر خلاصها على يد أبنائها البررة.
مات منصور تاركا العراق يعيش خرابه، ويكرر مأساته. تتوالى عليه النكبات من أبناء جلدته الذي أتوا بالوحش ليعيث فيها فسادا كما عاث فيها من قبل هولاكو وجيوشه..
شخصية موماد:
أو قطيم الماتادوري، ابن مدينة سيدي سليمان المقصية من دائرة الاهتمام الرسمي، انتهى كمجموعة من الشباب المغربي من جيله، في الستينات والسبعينات إلى اليسار المناضل، ولأن المرحلة كانت دامية وحامية، كان من الطبيعي أن يناله نصيب منها، حيث اعتقل ثم سجن، وبعد الإفراج عنه، لم يجد إلا المنفى مأوى له.
قرر أن يعود إلى بلده، بعد أن أغرته شعارات العهد الجديد البراقة، حول طي صفحة الماضي، والإنصاف والمصالحة، و عدم تكرار ما جرى، وتهدف إلى بناء مغرب آخر مشرق ونموذجي، مما جعل موماد السباعي يعيد النظر في أشياء كثيرة كطريقة الممارسة السياسية، ورسم استراتيجية بديلة على ضوء المعطيات الجديدة، يقول موماد وهو مشتاق للعودة: “لقد مضى زمن المعارضة أيام زمان، وليس المعارضة من أجل المعارضة، الآن المناضل الحقيقي هو المشارك في أسئلة المرحلة من الداخل وليس من الخارج.
لكن ما وجده لدى عودته ولد في نفسه مرارة وأشعره بالخيبة، فما اعتقده تغييرا لم يكن سوى واجهة تخفي قبح الواقع، وما يعتمل فيه من قسوة.
لم يجد موماد السباعي إلا ترديد مقولات لمفكرين مرموقين، كعزاء يضمد بها الجراح، لقد جاء على لسان السارد “قال محمد عابد الجابري: إننا ننتظر شيئا ما، إننا نعيش في وهم، وكأننا في قاعة انتظار…”[9]
تحركاته كانت جولات في شوارع القنيطرة وسيدي سليمان والرباط، واسترجاع لذكريات مضت، ووصف لبعض المقاهي، وبعض الأكلات الشعبية.. وكأن الزمن حلقة مفرغة من اللاجدوى، وتجرع المرارة، والعيش على الماضي.1
ترسم الرواية محنة المثقفين، وخيباتهم المتكررة، ودورانهم في حلقة مفرغة، تقودهم من خيبة إلى أخرى، ومن هزيمة إلى أمر، تنتعش آمالهم، لتحبط سريعا تحت ضربات داخلية وخارجية، وكأن أمل الخروج من هذه المحنة المضاعفة يبقى معلقا إلى أجل غير مسمى؛ مرتبط بمستقبل غير واضح المعالم؛ قد يكون جنينيا، مازال يتخلق، ويتطور إن لم تسارع إليه عوامل الإجهاض؛ لتتكرر المأساة التي صارت بفعل تواليها ملهاة.
كما عالجت ثيمة الاغتراب المزدوج، خارج وداخل الوطن؛ هذا الوطن الذي أشعر شخصياته باللاجدوى، والفشل المتكرر، وثيمة الاعتقال، وظروفه وقسوة السجان، وألوان التعذيب، مع ذكر أسماء معتقلات سرية كانت إلى وقت قريب محرم ذكرها، وأسماء من ماتوا تحت التعذيب، أو لظروف الاعتقال غير الصحية، وأسماء من نجوا؛ مع الإشارة إلى تجربة المصالحة كتجربة فريدة في العالم العربي هدفها القطع مع عنف الماضي، وسنوات الجمر والرصاص، لكنها لم تكن سوى سراب، ينضاف إلى بقية الخيبات. موظفة عدة ضمائر، يمكن القول إنها جميعها ما هي سوى ضمير مضاعف، مما منح النص تنوعات في الأنا وتشكلاتها وتعددها داخل النص. مع اعتماد سرد مكثف، يتخلله وصف دقيق يوقف حركته، واسترجاعات تبرز فظاعة الحاضر مقارنة بالماضي القريب، ولغة تجمع بين التقريري والوصفي والشعري، المحكي بحسب المقامات والسياقات.
**
تمت الاستفادة من:
1_ موضوعة المثقف العربي في رواية “صحراء جانوس بين المابين” للكاتب المغربي محمد صولة
لخالد زروال، المنشورة بجريدة بيان اليوم، بتاريخ 30 مارس 2018.



15122

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى