سعيد الكفراوي - في حضرة شيخ الطريقة

زمـــاااان….. يمكـــــن في العــــام 1965. وكانـت الدنيــــا غيــر الدنيـــا، والحيــــاة يومهــــــا تزخــــر بالمــــــدهش والمثيــر، وتبحث عن إجابات، والناس الأدباء في زهوة أول العمـــر، يوسـف السبـــــاعي المســؤول عن عمــوم الثقافة في القطــر المصــري ذلــــك الحين يجعل مــن دار الأدباء احتفالاً دائماً، في ذلك الوقت التقيــت بـأستــــاذي إدوارد، عليه سلام اللـــــه ، كان يومها يعمـــل بمنظمـــة التضــامن الأسيـوي الأفريقي.. قابلتــه بحفاوة المحب الذي قرأ له قصة غيرت قناعاته بمعنى الكتابـة. كانـــت القصة اسمها "تحــت الجامـــع" عــن حـرمـــــان طفل في مواجهـــة الكائــن الراشــد، وكانت القصة جديدة عليّ في شكلها ومضمونها.

قابلته بحفاوةٍ ومحبةٍ. سعد كثيراً ومضى، وأتذكر أنه أعطاني عنوانه بعدها بعام دعوته لزيارة قريتي. وجاء والتقى بكتاب مدينة المحلة. كانت بدايةً لسنواتٍ من العطاء، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أعتبر هذا المبدع الكبير رجل أدب، عمره يتوازى مع ما أبدعه، وهو متنوع، وعلامة على إبداع أصيل.


2

العم إدوارد الخراط من المؤمنين أن التحول الذي كان يجري في عمق الكتابة المصرية والعربية منذ الستينيات يمثل قطيعة مع الماضي، إلا من إشاراتٍ على الطريق كانت تومض منذ زمن الأربعينيات.

واكب هو بالنقد والإبداع والاكتشاف، وذلك الحنو على تيارات الكتابة الجديدة التي كانت تكتشف طريقها إلى بيته حيث يتلمسون عند الرجل إجابات لأسئلتهم حول مفهوم القص الجديد ، وطبيعة حداثة السرد واللغة، وعلاقـة الأدب بسلطـة القمـع.

كان إدوار في ذلك الحين من المؤمنين بأن ثمة نقلة هامة حققتها الكتابة الإبداعية في مصر منذ الستينيات، وكانت امتدادا لأصولها تفجرت في الأربعينيات وشكلت بدايات الحساسية الجديدة، وكان إدوارد يرى في حداثة الأدب في مصر تيارات أساسية هي: تيار النشء والتيار الداخلي و تيار استيحاء التراث والتيار الواقعي الجديد. ولكل تيارٍ كتابه ومبدعوه.


3

شارك إدوار الخراط في الحركة الوطنية المصرية 1946 واعتقل في عام 1948 .كتب الرواية والقصة والشعر، ومارس النقد وله مساحة واسعة في تأسيس حداثة الكتابة، مقدماً رؤيةً جديدةً للعالم وقدم تيارات مختلفة عبرمدارس مثل: الحساسية الجديدة "الكتابة عبر النوعية ".

والقصة القصيدة". كما مارس النقد التشكيلي وقدم إعلامه الذين أسهموا في تطوير الذائقة التشكيلية، وتناول بالنقد أعمال الكبار كما ترجم العم إدوار عيون المسرح العالمي والعديد من نصوص الروايات والقصص.

لقد عاش الكاتب الكبير طوال عمره ، يقارب بين مفهوميّ الأصالة الثقافية، والهوية القومية، وآمن بصدق أن كل منهما يعتمد على الآخر، ينظر إلى التراث الإنساني على أنه عامل موحد لا يمكن فصله، حيث يتميز النوع عن الوحدة. وكان دائماً يردد: أنا المصري العربي خلال سبعة آلاف سنة، غيرت لغتي ثلاث مرات، لكنها ظلت لغتي أنا، قدسية وأرضية، حملت إليّ حتى اليوم من جامع الفنا في مراكش إلي الجامع الأموي، ومن مكة إلى المسجد الأقصى، ومن أهرام مصر إلى أطلال بابل، وأن أكون عربياً، أن أعمل مع إخوتي على هذه الأرض.


4

قال لي مرة، وكنا يومها نزرع شارع المعز بالجمالية، بأنه عاشق للعمارة الإسلامية، يقف أمام المشربيات، وعرائس الأرابيسك تفتنه الزوايا والتكايا والدروب الضيقة، يعشق بشكل خاص جامع السلطان حسن، وكانت الكنيسة المعلقة عشقه الأبدي الذي يدفعه للصمت والكشف عن الكلام. في ذلك اليوم وضع يده على كتفي وقال: "اسمع يا فلاح، كما تعرف، لقد عشت حياتي مشغولاً بجدليات ظلت علامة فيما كتبته من أدب وفكر، وكانت الحرية توق الكاتب لتحقيق عدلٍ مستحيل، وكمالٍ ناقص، وجمالٍ مطلق.

لقد عشت – يقول إدوار الخراط- طول علاقتي بالكتابة من المؤمنين أن الحرية شرط للإبداع، وأن العمل الإبداعي نفسه صوت للحرية.

كانت الإسكندرية دائماً بفضائها الأسطوري، وبحرها القديم، وحضارتها الغامرة، وخطوات الطفولة في زمن التكوين الأول، وكانت هي البداية والنهاية، والمتن الذي سجلت على صفحاته تجربة الكاتب، كما أكتب بها والتي تشكل عندي سقفاً للعالم".

أعتبر الدين معيارا للحكم، وظل إدوار الخراط طول عمره لا يعرف التعصب والانتماء فيما يؤمن بانتماء للوطن، والدين في رأيه هو عقيدة حرة وعناصر ثقافية حضارية. ويقول: "كما تعرف أنا أكتب عن الأقباط لأنني عايشتهم، وعرفتهم، خبرت طقوسهم في الشعائر والفلكلور".

أمضى الخراط عمره يسعى ليكتب كتابةً تعيش زمنها ثم تعبره لتصل إلى زمن آخر، حالمة بتجاوز العصر والمكان.


5

وسط هذا الصمت والنكران، وسط الضجيج الذي لا يحمل معنى إدوار الخراط الكاتب والشاعر، مشعل الحرائق، ما يزال يعيش بيننا. له الصحة وطول العمر، هو الكاتب المشرع على الآتي بالرغم مما يجري حوله !!

يحاول كل تلامذته، والباقي من أصدقائه، مؤسسة الثقافة، الجميع يحاول الهرب وستر عورتهم بتجاهله، وإنكار وجوده بالنسيان أحياناً، وثانياً بعدم ذكره، فيما هو يخطو داخل شقته الصغيرة مرفوع الهامة، رغم الذاكرة، وأطرق أنا وزوجتي، باب ذلك الذي حول خيالنا إلى معرفة، وحببنا في اللغة والعشق، وكتب يوماً "رامة والتنين" التجربة الفريدة المتوهجة، الساعية للكمال المستحيل.

يقابلني "مثل مترقب زمناً" أحادثه، يعلق بكلامٍ عام، أخبره برحيل عدلي رزق الله، وكان يحبه، لا يعلق، ويغرق في الصمت، وكالعادة سيدة البيت تغرقنا في كرمها مثلما فعلت عبر السنين، وأنا الشقي توصيني بمداومة الزيارة.

والبيت مثلما كان. الكتب مرصوصة، والموسيقى صاعدة، والصور على الحائط، وعلى الباب الخارجي: "اقرعوا يفتح لكم"، وأنا أودعه ينظر في عيني ويبتسم، ويهمس لي: "مع السلامة يا كفراوي"،

نسي اسمي.. هل ما يزال يذكرني ؟!
أعلى