خليل توما - لمن تولد الأرض..

لمن تولد الأرض؟
هذا سديم من الطين والنّار،
هذا غبارٌ يجيء مع الرّيح ِ، هذا
دخان الزّلازل، هذا فتات الكواكبِ
هذا دقيق النّجوم وهذا جئير البحارْ،
وفي قرنةٍ يزفر الكون أنّاته في فضاء سحيقْ
صراخٌ هنا، وصراخٌ هناك، وفي البعد
تكتمل الدّورة الدّامية، وصوت انفجار،

ونصعد في غمرة الليل، كلّ الدّروب تؤدّي
إلى قمّة الكون... كم أثقلتنا الحياة وكم أثقلته
قد انهار من تحتنا كوكب فاحملوا ما تبقّى لكم،
حفنةً من رمال وتهويمةً من فضاء بعيدْ
تعيد إلى النّفس ميراثها، تعيد إلى الرّوحِ
أسرارها، واحملوا ظلكم، أينما أمتدّ
يمتد في الأرض جذرٌ من الحلم الليلكي ويورق
في كلمات نشيد،
نعود إلى مغر في الجبال، أضعنا الطريق
إليها طويلًا،
إلى حضن دالية إلى عين ماء،
لنغسل فيها عناء السّفر،
لم يكن عبثاً كلّ ذاك السّفرْ
لم يكن رحلةً في المحالْ
لم تكن كذبًا من كتاب الضّلال
كلّ تلك الحروف،
غير أنّ البحار البعيدةْ
بصقت ملحها في عيون الرّجال

عطشنا فيا عمّ هات اسقنا
إنّ ماء البلادْ بلسمٌ،
آن أن يهدأ الجرح أن تنبت البذرة الواعدة
وأن يستريح العبادْ
وأن تطلق الأرض أسرارها
آن أن تنشر الأرض نوّارها
ويا عمّ هات اسقنا
عطشنا طويلًا
شربنا طويلاً فلم ترتو الرّوح فينا
وسرنا طويلاً إلى حيث "مملكة الكادحين"،
طرقنا فأشرع باب وكنّا عطاشًا
شربنا، قرأنا، سمعنا، سألنا، عرفنا
وأدركنا الوقت قبل النّعاس الأخير، سلامٌ
هي الأرض قبل انتشار اللصوص ِ
وقبل سقوط الحواسِّ
فهات اسقني...
من أكون ؟
أنا الشّاهد ُ العائدُ، العاشقُ،ُ الواجدُ
رأيت الحريقة تسعى إلى الحلم البكر كانَ
رفاق يخونون في الليل تاريخَهم
يبيعونه قطعةً قطعة ً
لبنات الهوى إذ تعرّوا،
فمن يشتري الجسدَ البضّ من يشتري
اللون والانتماء،
نقودُك يا سيّد الأولياءْ
ستفتح نافذة في السّماءْ
وتُنطِق في قبرها المومياء،
فخذنا إليك إلى طيب عطرك أين تكونْ.
وأحرقت ثوبي لأعبر جسر الأسى والظّنون
أعود إلى دفئكِ السّرمدي
إلى نكهة في الجبال الأسيرةْ
تعيد إلى النّفس أنفاسها،
وأنقش ما كان من أمر ذاك الحريقْ
على حجر في الطّريق
وألقي بأحذيتي في المكان.
سيّان، إن حملت من الأوثان هذي الأرضُ
أو من بذرة سقطت إلى رحم التّراب،
من عابر، تَخِذَ السّحابَ فِراشَه زمنًا وغاب
"من أيّ غاب جاء هذا الليل من أيّ الكهوفْ، من أيّ وجر للذّئاب؟"
جوع على الأرض الخرابْ
نارٌ ولا نور وفجر كاذبٌ
وأسنة هي والذّباب
نهشت بقايا الرّوح ِ
من سردابه الأبديّ ينهض مثقلًا
بحديده الأبديّ، يفرش للحمامة عشّها
لتعود،
ويمدّ للأفق الملوّن كفّه، يمُّ هنا يمٌّ هناك َ
وفي المدى يمٌّ وينهض مرّة أخرى ويمعن في النّشيدْ
وتشدّه الأصفاد كالقدر العنيد.
ستعود تحمل غصني المفقودَ، ينهضُ
مستخفًّ بالجراح وبالقيود،
ويطلّ من شقّ الجدار – متى تعود؟
هي ذي تصفّق في المدى،
وتفرّ ثانية وسهم الّلص يومض من بعيدْ
والوقت أفواج من الشّهداء والأسرى يزاحمُ
بعضنا بعضًا وما عادت وما طلع الصّباح،

بيننا وبين مدائن القرصان بضع دقائق وشهيدْ،
وهناك عند الحاجز الرّملي، ما عادت وثمة
في الطّريق علامة: حقل من الألغام ملتف على خصر وليد،
نارٌ بلا نور وفي سردابه انتفض الحديد،
ويداه تبحث في الظّلامْ
عن صورة للقدس أودعها حنايا القلب ثم هوى ونام،
نسيتك ِ ذاكرة القبائل تحت أكوام الرّكامْ
نسيتك ذاكرة الفصول فهل خريفك مطلقٌ
تتساقط الأوراق من أشجارك الثّكلى
يعربد في شوارعك الأسيرة داعرٌ
ويسيطر الموت الزّؤامْ
نأت المسافات الجريحة بين صوتك والصّدى
والأرض تنهش عظمها الحمّى وخصيان على
صهوات خيلهمو تطاردهم من الأمجادِ أشباحٌ
فيا تاريخنا العاري سألتك هل تكون مزوّرا؟
أوَ هل تكون؟
في دفئك الأبديّ خبّأنا أمانينا طويلًا
في سراديب الحصون، ظلّت عظام الميّتين
طريّة تترقّب الفجر الذي سيكون،
فهل وهما تدثّرنا؟ وهل كذبت نبوءة سرّك المكنون؟

لربيع غاب في الأرض لطلق لا يجيء
لجنين يرفض النّور، لنور لا يضيء
لنجوم خلعتها من سماء الله سكّينٌ
ونوح صامت يمتصّه الموت البطيء
أحتسي الآن دمي
نخب من ماتوا ومن عادوا ومن ينتظرون
نخب هذا العالم المجنون.
أعلى