(1)
28 شارع المغربي.
القاهرة في 20 نوفمبر سنة 1920
أبتِ
جاء خطاباك الشيقان وعددان من (دار السلام) في احدهما مقال مجنح عن كتاب (باحثة البادية) تناولت ازاء هذه الثروة الجليلة بعظم موهبة الكتابة والمراسلة عاش من ابدع الريشة وشق القصبة ولو كان الها ميثولوجيا وعاش تحالف البريد الدولي وان اظلت سقوف دواوينه لصوص رسائل وصحاتف ولم تذهلني رغبتك في مكاتبتي قبل اليوم لانه يخيل اليّ ان كل رغبة تحمل في ذاتها بذور تحقيق ذاتها وان كل امنية انما هي انذار بمقدور اما عندي فقد تولدت الرغبة منذ شهر مايس 1919 اذ كنا نتناول الشاي في منزل الدكتور صروف مع المستشرق الانجليزي الاستاذ مرجليوث بعد عودته من العراق حيث قال انه تشرف بالاجتماع بك، واخذ العالمان يتحدثان عن تلك الشخصية الكبيرة التي تخفي نفسها وراء تعدد الاسماء المستعارة فلا تختفي، ولايزيدها التكتم الا تشععا وظهورا وعلى ذكر الدكتور صروف اقول اني سارعت وسألته عن مقالة (الحنفاء) فاجاب انه منتهز هذه الفرصة ليسر بالكتابة اليك مباشرة، والدكتور شديد الاعجاب بك، لا اعني ذلك الاعجاب الذي لايدرك نفسه وكثريا ما يتعب موضوعه، اعجاب الجمهور وانما اعجاب العالم الهادئ الذي يقدر لانه يتأمل ويفهم.
يجذبنا اسم العاق ونحن اليه حنين الاخ المتألم الى الامتلألم، نحن اليه خصوصا نحن السوريين لما يوحدنا واباه من ماضي عربي قريب وماض بعيد غاتص في غلس التاريخ لذلك نهم بكل مايكتب في هاتيك الربوع وتشوقنا حالتها الفكرية والنفسية. ولذلك نشعر شديدا بوطأة الظلم اذا كان الظلم عراقيا.. والشيخ كاظم الدجيلي الذي اضطهدني اضطهادا نيرونيا في اثنتي عشرة صفحة مستهلا باسمي تكرارا جاء يأسو بعئذ بعدئذ بقصيدة حسناء تصلح لاي فتاة من اي امة في اي عصر!!! ولكني اميل الى نسيان الاذى بفطرتي تشهد لي بذلك نسخة من (باحثة البادية) اقدمها الى حضرة الشيخ كاظم راجية من لطفك عذرا اذا ارسلتها بعنوانك وهل من عجب ان يضم ناديك كل نابه وحصيف من ادباء العراق وان تقبصد اليه لتصافحهم فيه كل روح اتية من بعيد.
اما قول اخواننا هناك ان لي من يكتب عني وينقح لي فقد سبقهم اليه اخواننا في مصر فصاروا يبحثون عن هذا الذي يضحي نفسه لاجلي فوجدوا لابي اهتماما عاديا بموضوعات تهمني شديدا وعلموا ان لااخوة لي لاني وحيدة ابوي، واقتنع زوارنا ان الذي يعمل لي قد اختبأ في دماغي ليكون طوع آمري في كل كلمة اقولها، وكما شاءت الاحوال ان اقف خطيبة قاموا يشبهون ما اكتتب بما اقول!
اشكر لك همة تحدو بك الى طلب ترجمتي لتستخرج منها ما يقطع لسان كل مكابر انا باعثة اليك ببعض الصحف والمجلات التي كتب فيها عني اشخاص عرفوني كذلك اهدي اليك نسخة من ديواني الفرنساوي و(ايزيس كوبيا) اسم اوقع به ما انشره بالفرنساوية والانجليزية كما اني اكتب احيانا بالعربية باسم (خالد رأفت) اكثر صفحات (ازهار الحلم) كتبت على مقاعد المدرسة والباقي في الشهور الاولى بعد عودتي الى البيت حيث مازلت اتابع دروسي فلا شك عندي انك ستنظر الى الروح من دون الجسم، على اني ارجو ان ترد اليّ المجلتان ونسختا (المحروسة) لئلا تنقص عندي هذه المجموعات واطلب اليك ان لاتحاول اقناع احد. ان ما اطمع فيه هو نشر افكاري ومادمت حاصلة على الامر الجوهير فما نصيب العرض مني سوى الاغفال وعدم الاكتراث.
بل اظن من تتبع كتاباتي منذ 1911 وهو العام الذي بدأت فيه بمعالجة القلم. يعلم ان التي كانت تكتب يومئذ لم تكن سوى تلميذة حائرة الفكر مرتبكة التعبير لانها لم تكن تعرف من العربية غير المبادئ البسيطة التي تدرس في المدارس الاجنبية وذات الصبغة الاجنبية، ثم اخذت تنمو قليلا قليلا باحثة عن الكلمة التي قدر لها ان تقولها في الحياة وقد زاد في نزعتها الفطرية الى الاستقلال الفكري والاسلوبي انها لم تدرس اللغة العربية في غير حبها لها، الا ان الكتابة التي لم تكن في البدء سوى ميل وسلوى صارت اليوم احتياجا عميقا، صارت جوعا وعطشا صارت شعلة تتقد بين جوانحي وتفتا تفني نفسها لتحييها صارت سلطانا قاهرا يدفعني الى الافصاح عما يشغلني مسيرة غير مخيرة.
هذا اعتراف طويل لانه اعتراف عام ويتراءى لي اني لا اقول ما تجهله بل اكاد اسمعك هامسا الوقت بعد الوقت: اعلم ما اكثر ما في هذه الجملة من رسالتك الثانية من نبل وكآبة واي نفع عساني ان انتظر وانا قابض على ناصية السعادة بالعيشة التي انتمي اليها.
ناحية السعادة، ياابتِ العزيز، هي غير السعادة نفسها الي ان الشمس التي ترسل النور الى العالمين انما تتسع فيها كل يوم بقع الظلام؟ ولكن من ذا الذي قال ان السعادة غاية الحياة؟ ان الذي اوجد هذه الفكرة اساء الى الناس اجمعين اذ ماغاية الحياة الا الحياة، والابطال فينا الذين يستحقون الاعزاز والاجلال ليس اولئك المتنعمين بل هم ذوو الارواح الكبيرة الدامية الذين يقضون ايامهم على الصليب هم كهنة المذابح وكهنة الافكار وهم نور العالم لذلك تراني المس رسالة الكاتب منك متهيبة كأني اضع شفتي على انامل الكاهن.
ابنتك مي
===
(2)
28 شارع المغربي
القاهرة في 14 اغسطس سنة 1920
أبتِ
اتشرف بأن اتقدم اليك بنسخة من كتيبي (باحثة البادية) راجية قبوله تذكارا من فتاة بعيدة تكبر فضل الكاهن منك وتطرب لنفثات الكاتب، وتعجب بابحاث العالم، ان في العلم ضربا من الكهنوت فما اجل الكهنوتين يجتمعان في شخص واحد مع الاحترام.
ابنتك المخلصة مي
====
(3)
القاهرة في 20 يونيه سنة 1921
أبتي
تتابعت الاسابيع حتى تكونت شهورا اعدها على اصابع اليد الواحدة وانا لم اقم بعد بواجب الشكر نحوك، ولم الب داعي السرور والمنطلق من نفسي في ساعة احبسها على الكتابة اليك، لم انعم بعد ذلك لما يتنازعني من شواغل وينهب من وقتي من انجازها وفي وسط هذه الحمى الفكرية حرمت تلك السعادة التي نجدها في مناجاة القلوب الكبيرة والمدارك العالية ولكن كم من رسالة روحية انفذتها اليك وكم حملني تيار الاثير الى ربوع بي اليها شوق وحنين1 ولو صحت نظرية التناسخ حسبت اني صرفت هناك عمرا سابقا او قدر لي ان اقضي في العراق عمرا لاحقا، ام كان هذا وذاك هجسا وحدسا وكفى ان تحوي الديار من نجل ونكبر، وان تضم اخواننا يربطنا بهم الامس والغد لتصير وطنا مختارا لطائفة من خواطرنا وسوانحنا.
ماكان اكرم البريد يوم جاءني منك باشياء خفيفة الحمل غالية الثمن تتالق منها الاجزاء تألق درر يأبى قلمي تثمينها فرادى لان الصور السماوية لاتتشكل الا بتجمع الكواكب، انما اقول ان تقسيم ترجمتي في (دار السلام) وتبويبها، وتنسيق جملها، واستطراد الوصف فيها، كل ذلك، لو لم اكن انا موضوعة لقررت انه شاهد جديد ينطق بالذوق المصفى والنظر الثاقب والرأي الحكيم، اما شروح الاسماء الثلاثة فحسبها شهادة انها من نتاج اليراعة البحاثة، واعترف بلا خجل اني شعرت ازاء بعض دقائق الشرح بمثل ما شعر ابو النؤاس امام حذاقي فسر له قوله:
الا فاسقني خمرا
وقل لي هي الخمر
على اني خجلت ان ينسب الي مالم افكر فيه من سبب تاريخي لانتحل تلك الاسماء اني لم اتطاول الى ادعاء الالوهية وكل ما ازعم هو اني انسان كل الانسانية، هذه مفخرتي الوحيدة، والله يعلم ان فيها مافيها من مرارة الحياة ومن حلاوتها ايضا.
واذا سمحت لي ان اعود الى شرح لولا حب تقرير الواقع ماكان حريا بالانتباه قلت: اني التمست الاسم المستعار لنقل الاسم الفرنجي بعد مقال عربي، ولاني شعرت من نفسي يميل الى نقد الشرقيين الذين يحسبون الاسم الفرنجي شارة الرقي رغم التنافر المضحك الذي يبدو غاليا بين اسم الفرد واسم عائلته، فحاولت اخراج اسم عربي من حروف اسمي فاهتديت الى ان اول حروف (ماري) واخرها يمثلان اسما عربيا مليحا غير غريب عن الشعراء والمتأدبين وهو في الوقت نفسه غير مبتذل اذ ندرت النساء المعروفات به، بينما المدعوات باسماء عرائس الشعر يكاد لايضبط عددهن احصاء ومي او MAY مستعمل عند الانجليز كتصغير لماري وهكذا تعددت الاسباب التي رغبتني في هذا الاسم ولم يقم ازاءها معارضة واحدة كتنافر الحروف وصعوبة اللفظ، وما شاكل فاتنقته غير مترددة اما ايزيس كوبيا فتكاد تكون الترجمة الحرفية لماري زيادة، اذ ان ايزيس اخت الاله وعروسه كما ان ماري ام الابن وعروس البحر، وكوبيا اللاتينية ان لم تكن (زيادة) بالضبط فهي مرادفة لها.
ابنتك مي
=====
(4)
رمل الاسكندرية سان استفاتو
14 اغسطس سنة 1921
ابتي
جئت بعد سكوت اسابيع اشكر تلك الكلمة العذبة التي انقذتها الي من مرسيليا تحمل على ايجازها اية من ايات بلاغتك وشاهدا من شهود وداعتك وما لزمت هذا الصمت الطويل الا لاني هجرت القلم منذ تلك الايام بسبب سقوط والدتي على ذراعها فاصبت في الكتف، ووجع العظم المكسور مؤلم كل الالم للمريض ولذويه جميع وكان اني ابتليت بالارق المتتابع مما ادى بين الى انحطاط عصبي عام فاشار الطبيب بتبديل الهواء فجئنا هذه الربوع وضربنا خيامنا في حي الزرقة الفيحاء، وصارت اعصابي بعد ايام تخضع خضوعا تدريجيا لسنة الكرى واصبحت قادرة على لم شعث فكري لاكتب ان لم يكن صفحات فكلمات واني لاكتب رغما عن نهي الطبيب وامره بان استريح كل الشهور القائظة دون تحبير سطر واحد فالاطباء مستبدون وانا احب العناد، وانت يا ابتِ، هذا هو السبب الجوهري فوق كل امر ونهي ومناجاتك بركة حسنة العائدة على كل من سعد بتذوقها والتمتع بمحاسنها.
حبذا تلك المباغتة عند ذهابك الى اوربا وحبذا تكرارها عند العودة! ليت ذلك بوجودك في القاهرة ولا يعادل ذلك الاغتباط عندي الا ابتهاجي بالتعرف الى ذاتك الكريمة اذ رأيت ان الشخص منك كالكاتب والعالم، الذين اعرفهما واكبرهما من قبل رفعا وفضلا وكمالا ما اجل واجمل تلك الشمائل الرهبانية في بساطتها الساحرة وهذا الشعور يشاركني فيه والداي اللذان يحفظان من مرورك اطيب التذكار وبيع من اعرف من الذين تشرفوا بمقابلتك في مصر.
لو كنت الساعة في القاهرة لكنت ارسلت اليك الخطب الذي كنت اكتب الثالثة من صحائفه عندما اعلمني الخادم بوجودك في الصالون ولكني في رمل الاسكندرية وليس لدي سوى هذا البحر العظيم ونحن على انسه وانبساطه لانرى منه سوى موجات ليلة تزحف متكسرة على الشاطئ كذلك من كل ما تكنه نفسي لاقنومك السامي من احترام واعجاب واجلال يبرز على هذا القرطاس سوى اصداء لمدة ضعيفة ضئيلة فتفضل بقبولها على انها من فتاة مريضة هي ابنتك (مي)
مي
؟؟؟؟؟؟ الى مصر في اواخر الاسبوع الاتي وارجو ان تأتيني قريبا اخبار رحلتك عسى ان تكون وفقت الى كل ما تود الاهتداء اليه من اعلمية وتاريخية.
====
(5)
28 شارع المغربي - القاهرة
26 ابريل 1925
أبتِ الفاضل
لقد هممت غير مرة بالكتابة اليك التماسا لاخبارك ولتقديم فروض التذكر والاحترام فامسكت القلم كل مرة لما يساورني من الحيرة والتردد ولكني اليوم اصرح لنفسي ان اهنئك بعيد الفصح المجيد (ولو بعد انقضائه) وان ارسل اليك هذا الطابع الذي تجده على غلاف خطابي، فهو من الطوابع التي انشئت للمؤتمر الجغرافي والتي لايجوز استعمالها الا مدة هذا الشهر، شهر ابريل.
وهل اكون مقتحمة لو انا سألتك عن صحتك ورضاك واعربت عن رغبتي في الوقوف على اخبارك- اذا كان ذلك في الامكان وتفضلوا ايها الاب الجليل، بقبول اسمى شعائر الاحترام من ابنتكم المخلصة
(مي).
=====
(6)
شارع المغربي - القاهرة
29 ديسمبر 1925
ابتِ المفضال
تعلن اليوم مصلحة البريد عن سفر البريد الهوائي الى بغداد فأراني مسوقة الى الكتابة اليك ولو كلمة واحدة لاهنئك بعيد الميلاد ورأس السنة واذ احاول ان احصي ما اتمنى لك تحقيقه خلال العام المقبل اقف حائرة فأسأل الله ان ينيلك كل ماتريد، وانت رجل الصلاح والنباهة فكل ما تميل اليه يكون صلاحا وخيرا.
وقد ابلغني يوسف اليان سركيس افندي تحيتك وكلمتك اللطيفة، فشكرت لك تفضلك بأن تذكرني وتذكر والدي، وسرتني كل السرور عودتي الى بغداد حيث يجب ان تقيم دواما وكان بودي ان اكتب اليك قبل اليوم ومنذ وقت طويل لولا اني كنت متغيبة في الصيف بين ايطاليا وفرنسا فلما عدت تلقاني المشكل العائلي الذي تعلم، وقد انتهى الامر على خير ولله الحمد، وبعد، فقد نشرت لجنتنا في الشرق العربي وفي امريكا الدعوة الى الاحتفاء بيوبيل المقتطف، فلبى الدعوة كثيرون وبعثوا الينا بنفثاتهم شعرا ونثرا وانبرى اخواننا السوريون في البرازيل فارونا مظهرا اخر من همتهم بتقديم هدية فنية جميلة، على اني حتى الساعة لم اتلق منك شيئا وانت تعلم مبلغ اعجابي بنتاج قلمك وتعلم اي مكانة في كتاب (الذكرى) لما تتحفنا به، وكنت ذكرت سابقا رغبتك في درس التطور الانشائي او الفكري في العراق خلال نصف قرن، واثر المقتطف في ذلك التطور، وانه لبحث خطير ننتظره منك.
ولما كانت الحالة في العالم العربي الان تقضي بتأجيل اليوبيل فان الوفاء التاريخي يقضي بذلك ايضا، لان الجزء الاول من المقتطف لم يصدر في مطلع السنة الميلادية بل في فصل الربيع، وقد قررنا التأجيل كما ترى في نداء اللجنة المرفق بهذا وهذا يفسح في الوقت لدى الادباء والشعراء لغاية اخر فبراير 1926..
فارجو ان تكون سفيرنا في العراق فتنشر في الصحف خبر هذا التأجيل مع شكر اللجنة الحار للذين تفضلوا فلبوا دعوتها والصحف التي اوصلت صوتها الى الجمهور وان تستحث الاخوان على ارسال نفثاتهم ليشاركو في اقامة هذا اليوبيل، لا لتكريم مجلة علمية فحسب، بل للاحتفاء بتطور الشرق خلال نصف قرن ولاقامة مظاهرة فخمة في سبيل لغتنا العربية الجميلة.
وتقبل ابتِ في الختام عواطف الاحترام والاكرام.
28 شارع المغربي.
القاهرة في 20 نوفمبر سنة 1920
أبتِ
جاء خطاباك الشيقان وعددان من (دار السلام) في احدهما مقال مجنح عن كتاب (باحثة البادية) تناولت ازاء هذه الثروة الجليلة بعظم موهبة الكتابة والمراسلة عاش من ابدع الريشة وشق القصبة ولو كان الها ميثولوجيا وعاش تحالف البريد الدولي وان اظلت سقوف دواوينه لصوص رسائل وصحاتف ولم تذهلني رغبتك في مكاتبتي قبل اليوم لانه يخيل اليّ ان كل رغبة تحمل في ذاتها بذور تحقيق ذاتها وان كل امنية انما هي انذار بمقدور اما عندي فقد تولدت الرغبة منذ شهر مايس 1919 اذ كنا نتناول الشاي في منزل الدكتور صروف مع المستشرق الانجليزي الاستاذ مرجليوث بعد عودته من العراق حيث قال انه تشرف بالاجتماع بك، واخذ العالمان يتحدثان عن تلك الشخصية الكبيرة التي تخفي نفسها وراء تعدد الاسماء المستعارة فلا تختفي، ولايزيدها التكتم الا تشععا وظهورا وعلى ذكر الدكتور صروف اقول اني سارعت وسألته عن مقالة (الحنفاء) فاجاب انه منتهز هذه الفرصة ليسر بالكتابة اليك مباشرة، والدكتور شديد الاعجاب بك، لا اعني ذلك الاعجاب الذي لايدرك نفسه وكثريا ما يتعب موضوعه، اعجاب الجمهور وانما اعجاب العالم الهادئ الذي يقدر لانه يتأمل ويفهم.
يجذبنا اسم العاق ونحن اليه حنين الاخ المتألم الى الامتلألم، نحن اليه خصوصا نحن السوريين لما يوحدنا واباه من ماضي عربي قريب وماض بعيد غاتص في غلس التاريخ لذلك نهم بكل مايكتب في هاتيك الربوع وتشوقنا حالتها الفكرية والنفسية. ولذلك نشعر شديدا بوطأة الظلم اذا كان الظلم عراقيا.. والشيخ كاظم الدجيلي الذي اضطهدني اضطهادا نيرونيا في اثنتي عشرة صفحة مستهلا باسمي تكرارا جاء يأسو بعئذ بعدئذ بقصيدة حسناء تصلح لاي فتاة من اي امة في اي عصر!!! ولكني اميل الى نسيان الاذى بفطرتي تشهد لي بذلك نسخة من (باحثة البادية) اقدمها الى حضرة الشيخ كاظم راجية من لطفك عذرا اذا ارسلتها بعنوانك وهل من عجب ان يضم ناديك كل نابه وحصيف من ادباء العراق وان تقبصد اليه لتصافحهم فيه كل روح اتية من بعيد.
اما قول اخواننا هناك ان لي من يكتب عني وينقح لي فقد سبقهم اليه اخواننا في مصر فصاروا يبحثون عن هذا الذي يضحي نفسه لاجلي فوجدوا لابي اهتماما عاديا بموضوعات تهمني شديدا وعلموا ان لااخوة لي لاني وحيدة ابوي، واقتنع زوارنا ان الذي يعمل لي قد اختبأ في دماغي ليكون طوع آمري في كل كلمة اقولها، وكما شاءت الاحوال ان اقف خطيبة قاموا يشبهون ما اكتتب بما اقول!
اشكر لك همة تحدو بك الى طلب ترجمتي لتستخرج منها ما يقطع لسان كل مكابر انا باعثة اليك ببعض الصحف والمجلات التي كتب فيها عني اشخاص عرفوني كذلك اهدي اليك نسخة من ديواني الفرنساوي و(ايزيس كوبيا) اسم اوقع به ما انشره بالفرنساوية والانجليزية كما اني اكتب احيانا بالعربية باسم (خالد رأفت) اكثر صفحات (ازهار الحلم) كتبت على مقاعد المدرسة والباقي في الشهور الاولى بعد عودتي الى البيت حيث مازلت اتابع دروسي فلا شك عندي انك ستنظر الى الروح من دون الجسم، على اني ارجو ان ترد اليّ المجلتان ونسختا (المحروسة) لئلا تنقص عندي هذه المجموعات واطلب اليك ان لاتحاول اقناع احد. ان ما اطمع فيه هو نشر افكاري ومادمت حاصلة على الامر الجوهير فما نصيب العرض مني سوى الاغفال وعدم الاكتراث.
بل اظن من تتبع كتاباتي منذ 1911 وهو العام الذي بدأت فيه بمعالجة القلم. يعلم ان التي كانت تكتب يومئذ لم تكن سوى تلميذة حائرة الفكر مرتبكة التعبير لانها لم تكن تعرف من العربية غير المبادئ البسيطة التي تدرس في المدارس الاجنبية وذات الصبغة الاجنبية، ثم اخذت تنمو قليلا قليلا باحثة عن الكلمة التي قدر لها ان تقولها في الحياة وقد زاد في نزعتها الفطرية الى الاستقلال الفكري والاسلوبي انها لم تدرس اللغة العربية في غير حبها لها، الا ان الكتابة التي لم تكن في البدء سوى ميل وسلوى صارت اليوم احتياجا عميقا، صارت جوعا وعطشا صارت شعلة تتقد بين جوانحي وتفتا تفني نفسها لتحييها صارت سلطانا قاهرا يدفعني الى الافصاح عما يشغلني مسيرة غير مخيرة.
هذا اعتراف طويل لانه اعتراف عام ويتراءى لي اني لا اقول ما تجهله بل اكاد اسمعك هامسا الوقت بعد الوقت: اعلم ما اكثر ما في هذه الجملة من رسالتك الثانية من نبل وكآبة واي نفع عساني ان انتظر وانا قابض على ناصية السعادة بالعيشة التي انتمي اليها.
ناحية السعادة، ياابتِ العزيز، هي غير السعادة نفسها الي ان الشمس التي ترسل النور الى العالمين انما تتسع فيها كل يوم بقع الظلام؟ ولكن من ذا الذي قال ان السعادة غاية الحياة؟ ان الذي اوجد هذه الفكرة اساء الى الناس اجمعين اذ ماغاية الحياة الا الحياة، والابطال فينا الذين يستحقون الاعزاز والاجلال ليس اولئك المتنعمين بل هم ذوو الارواح الكبيرة الدامية الذين يقضون ايامهم على الصليب هم كهنة المذابح وكهنة الافكار وهم نور العالم لذلك تراني المس رسالة الكاتب منك متهيبة كأني اضع شفتي على انامل الكاهن.
ابنتك مي
===
(2)
28 شارع المغربي
القاهرة في 14 اغسطس سنة 1920
أبتِ
اتشرف بأن اتقدم اليك بنسخة من كتيبي (باحثة البادية) راجية قبوله تذكارا من فتاة بعيدة تكبر فضل الكاهن منك وتطرب لنفثات الكاتب، وتعجب بابحاث العالم، ان في العلم ضربا من الكهنوت فما اجل الكهنوتين يجتمعان في شخص واحد مع الاحترام.
ابنتك المخلصة مي
====
(3)
القاهرة في 20 يونيه سنة 1921
أبتي
تتابعت الاسابيع حتى تكونت شهورا اعدها على اصابع اليد الواحدة وانا لم اقم بعد بواجب الشكر نحوك، ولم الب داعي السرور والمنطلق من نفسي في ساعة احبسها على الكتابة اليك، لم انعم بعد ذلك لما يتنازعني من شواغل وينهب من وقتي من انجازها وفي وسط هذه الحمى الفكرية حرمت تلك السعادة التي نجدها في مناجاة القلوب الكبيرة والمدارك العالية ولكن كم من رسالة روحية انفذتها اليك وكم حملني تيار الاثير الى ربوع بي اليها شوق وحنين1 ولو صحت نظرية التناسخ حسبت اني صرفت هناك عمرا سابقا او قدر لي ان اقضي في العراق عمرا لاحقا، ام كان هذا وذاك هجسا وحدسا وكفى ان تحوي الديار من نجل ونكبر، وان تضم اخواننا يربطنا بهم الامس والغد لتصير وطنا مختارا لطائفة من خواطرنا وسوانحنا.
ماكان اكرم البريد يوم جاءني منك باشياء خفيفة الحمل غالية الثمن تتالق منها الاجزاء تألق درر يأبى قلمي تثمينها فرادى لان الصور السماوية لاتتشكل الا بتجمع الكواكب، انما اقول ان تقسيم ترجمتي في (دار السلام) وتبويبها، وتنسيق جملها، واستطراد الوصف فيها، كل ذلك، لو لم اكن انا موضوعة لقررت انه شاهد جديد ينطق بالذوق المصفى والنظر الثاقب والرأي الحكيم، اما شروح الاسماء الثلاثة فحسبها شهادة انها من نتاج اليراعة البحاثة، واعترف بلا خجل اني شعرت ازاء بعض دقائق الشرح بمثل ما شعر ابو النؤاس امام حذاقي فسر له قوله:
الا فاسقني خمرا
وقل لي هي الخمر
على اني خجلت ان ينسب الي مالم افكر فيه من سبب تاريخي لانتحل تلك الاسماء اني لم اتطاول الى ادعاء الالوهية وكل ما ازعم هو اني انسان كل الانسانية، هذه مفخرتي الوحيدة، والله يعلم ان فيها مافيها من مرارة الحياة ومن حلاوتها ايضا.
واذا سمحت لي ان اعود الى شرح لولا حب تقرير الواقع ماكان حريا بالانتباه قلت: اني التمست الاسم المستعار لنقل الاسم الفرنجي بعد مقال عربي، ولاني شعرت من نفسي يميل الى نقد الشرقيين الذين يحسبون الاسم الفرنجي شارة الرقي رغم التنافر المضحك الذي يبدو غاليا بين اسم الفرد واسم عائلته، فحاولت اخراج اسم عربي من حروف اسمي فاهتديت الى ان اول حروف (ماري) واخرها يمثلان اسما عربيا مليحا غير غريب عن الشعراء والمتأدبين وهو في الوقت نفسه غير مبتذل اذ ندرت النساء المعروفات به، بينما المدعوات باسماء عرائس الشعر يكاد لايضبط عددهن احصاء ومي او MAY مستعمل عند الانجليز كتصغير لماري وهكذا تعددت الاسباب التي رغبتني في هذا الاسم ولم يقم ازاءها معارضة واحدة كتنافر الحروف وصعوبة اللفظ، وما شاكل فاتنقته غير مترددة اما ايزيس كوبيا فتكاد تكون الترجمة الحرفية لماري زيادة، اذ ان ايزيس اخت الاله وعروسه كما ان ماري ام الابن وعروس البحر، وكوبيا اللاتينية ان لم تكن (زيادة) بالضبط فهي مرادفة لها.
ابنتك مي
=====
(4)
رمل الاسكندرية سان استفاتو
14 اغسطس سنة 1921
ابتي
جئت بعد سكوت اسابيع اشكر تلك الكلمة العذبة التي انقذتها الي من مرسيليا تحمل على ايجازها اية من ايات بلاغتك وشاهدا من شهود وداعتك وما لزمت هذا الصمت الطويل الا لاني هجرت القلم منذ تلك الايام بسبب سقوط والدتي على ذراعها فاصبت في الكتف، ووجع العظم المكسور مؤلم كل الالم للمريض ولذويه جميع وكان اني ابتليت بالارق المتتابع مما ادى بين الى انحطاط عصبي عام فاشار الطبيب بتبديل الهواء فجئنا هذه الربوع وضربنا خيامنا في حي الزرقة الفيحاء، وصارت اعصابي بعد ايام تخضع خضوعا تدريجيا لسنة الكرى واصبحت قادرة على لم شعث فكري لاكتب ان لم يكن صفحات فكلمات واني لاكتب رغما عن نهي الطبيب وامره بان استريح كل الشهور القائظة دون تحبير سطر واحد فالاطباء مستبدون وانا احب العناد، وانت يا ابتِ، هذا هو السبب الجوهري فوق كل امر ونهي ومناجاتك بركة حسنة العائدة على كل من سعد بتذوقها والتمتع بمحاسنها.
حبذا تلك المباغتة عند ذهابك الى اوربا وحبذا تكرارها عند العودة! ليت ذلك بوجودك في القاهرة ولا يعادل ذلك الاغتباط عندي الا ابتهاجي بالتعرف الى ذاتك الكريمة اذ رأيت ان الشخص منك كالكاتب والعالم، الذين اعرفهما واكبرهما من قبل رفعا وفضلا وكمالا ما اجل واجمل تلك الشمائل الرهبانية في بساطتها الساحرة وهذا الشعور يشاركني فيه والداي اللذان يحفظان من مرورك اطيب التذكار وبيع من اعرف من الذين تشرفوا بمقابلتك في مصر.
لو كنت الساعة في القاهرة لكنت ارسلت اليك الخطب الذي كنت اكتب الثالثة من صحائفه عندما اعلمني الخادم بوجودك في الصالون ولكني في رمل الاسكندرية وليس لدي سوى هذا البحر العظيم ونحن على انسه وانبساطه لانرى منه سوى موجات ليلة تزحف متكسرة على الشاطئ كذلك من كل ما تكنه نفسي لاقنومك السامي من احترام واعجاب واجلال يبرز على هذا القرطاس سوى اصداء لمدة ضعيفة ضئيلة فتفضل بقبولها على انها من فتاة مريضة هي ابنتك (مي)
مي
؟؟؟؟؟؟ الى مصر في اواخر الاسبوع الاتي وارجو ان تأتيني قريبا اخبار رحلتك عسى ان تكون وفقت الى كل ما تود الاهتداء اليه من اعلمية وتاريخية.
====
(5)
28 شارع المغربي - القاهرة
26 ابريل 1925
أبتِ الفاضل
لقد هممت غير مرة بالكتابة اليك التماسا لاخبارك ولتقديم فروض التذكر والاحترام فامسكت القلم كل مرة لما يساورني من الحيرة والتردد ولكني اليوم اصرح لنفسي ان اهنئك بعيد الفصح المجيد (ولو بعد انقضائه) وان ارسل اليك هذا الطابع الذي تجده على غلاف خطابي، فهو من الطوابع التي انشئت للمؤتمر الجغرافي والتي لايجوز استعمالها الا مدة هذا الشهر، شهر ابريل.
وهل اكون مقتحمة لو انا سألتك عن صحتك ورضاك واعربت عن رغبتي في الوقوف على اخبارك- اذا كان ذلك في الامكان وتفضلوا ايها الاب الجليل، بقبول اسمى شعائر الاحترام من ابنتكم المخلصة
(مي).
=====
(6)
شارع المغربي - القاهرة
29 ديسمبر 1925
ابتِ المفضال
تعلن اليوم مصلحة البريد عن سفر البريد الهوائي الى بغداد فأراني مسوقة الى الكتابة اليك ولو كلمة واحدة لاهنئك بعيد الميلاد ورأس السنة واذ احاول ان احصي ما اتمنى لك تحقيقه خلال العام المقبل اقف حائرة فأسأل الله ان ينيلك كل ماتريد، وانت رجل الصلاح والنباهة فكل ما تميل اليه يكون صلاحا وخيرا.
وقد ابلغني يوسف اليان سركيس افندي تحيتك وكلمتك اللطيفة، فشكرت لك تفضلك بأن تذكرني وتذكر والدي، وسرتني كل السرور عودتي الى بغداد حيث يجب ان تقيم دواما وكان بودي ان اكتب اليك قبل اليوم ومنذ وقت طويل لولا اني كنت متغيبة في الصيف بين ايطاليا وفرنسا فلما عدت تلقاني المشكل العائلي الذي تعلم، وقد انتهى الامر على خير ولله الحمد، وبعد، فقد نشرت لجنتنا في الشرق العربي وفي امريكا الدعوة الى الاحتفاء بيوبيل المقتطف، فلبى الدعوة كثيرون وبعثوا الينا بنفثاتهم شعرا ونثرا وانبرى اخواننا السوريون في البرازيل فارونا مظهرا اخر من همتهم بتقديم هدية فنية جميلة، على اني حتى الساعة لم اتلق منك شيئا وانت تعلم مبلغ اعجابي بنتاج قلمك وتعلم اي مكانة في كتاب (الذكرى) لما تتحفنا به، وكنت ذكرت سابقا رغبتك في درس التطور الانشائي او الفكري في العراق خلال نصف قرن، واثر المقتطف في ذلك التطور، وانه لبحث خطير ننتظره منك.
ولما كانت الحالة في العالم العربي الان تقضي بتأجيل اليوبيل فان الوفاء التاريخي يقضي بذلك ايضا، لان الجزء الاول من المقتطف لم يصدر في مطلع السنة الميلادية بل في فصل الربيع، وقد قررنا التأجيل كما ترى في نداء اللجنة المرفق بهذا وهذا يفسح في الوقت لدى الادباء والشعراء لغاية اخر فبراير 1926..
فارجو ان تكون سفيرنا في العراق فتنشر في الصحف خبر هذا التأجيل مع شكر اللجنة الحار للذين تفضلوا فلبوا دعوتها والصحف التي اوصلت صوتها الى الجمهور وان تستحث الاخوان على ارسال نفثاتهم ليشاركو في اقامة هذا اليوبيل، لا لتكريم مجلة علمية فحسب، بل للاحتفاء بتطور الشرق خلال نصف قرن ولاقامة مظاهرة فخمة في سبيل لغتنا العربية الجميلة.
وتقبل ابتِ في الختام عواطف الاحترام والاكرام.