أحمد القطيب - انطباعات حول قصيدة "صدى تناغيه الرياح"للشاعرة المغربية ''مليكة معطاوي''

** توطئة:
لقد بنت الشاعرة (مليكة معطاوي) تراكما لابأس به في غضون الاثنتي عشرة سنة الأخيرة ، والمثير أن الشاعرة بدأت بقصيدة النثر التي بصمتها بخصائص فنية وأسلوبية خاصة،تمزج بين الخط الرومانسي من جهة، ومستلزمات مسكن القصيدة الحداثي في التعبير بالصورة، والاعتناء المفرط بمولدات الإيقاع الداخلي ؛فالثراءالإيقاعي في اختياراتها الأصواتية والمعجمية والتركيبية ،وتوزيع الأسطر ، يكاد ينسيك أنك في محراب قصيدة النثر،مع الإخلاص لتيمتها الشعرية المزمنة ،في محراب الحب الصوفي الأنثوي، وقد انتقلت الشاعرة منذ عقد تقريبا إلى القصيدة التفعيلية وأخلصت لها ،فكأنها بدأت حيث انتهت الحداثة الشعرية في مفتتح الستينات من القرن الماضي ..وانتهت حيث ابتدأت في أواخر الأربعينات،ولست أدري أي لوحاتها أفضل ،أقصيدة النثر أم القصيدة التفعيلية ؟؟فقد وفقت الشاعرة في شحذ وسائلها وأدواتها حتى رسمت خطا شعريا خاصا بها ،وإن كنت أميل إلى قصيدة النثر في منجزها الشعري ،لأن خطها التفعيلي يتداخل لدي مع تجارب الشواعر المؤسسات، فالنبرة الرومانسية لديها شبيهة نسبيا بنبرة نازك الملائكة وفدوى طوقان ، وإن كانت مليكة معطاوي أكثر تنبيرا لنداء الأنثى وأحلامها الصوفية والجسدية، وأكثر ميلا إلى التعبير بالصور الرمزية.

**ملاحظات في قصيدة صدى تناغيه الرياح (النص أدناه).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفي هذه القصيدة التفعيلية المبنية على وحدة (متفاعلن) لتقاطب (أنا)/(هو) المزمن في نصوصها عامة،وفق ما ترسخ في الشعر الوجداني من معان كالفراق والاشتياق، لكن الشاعرة تتقن بلورة صور شعرية أخاذة تخرج بالمعاني المعتادة إلى التعبير غير المعتاد...فالدمع( كؤوس شوق فاضت في الأحداق) والغربة النفسية (غربة أوصال )ومعاني الشوق والرغبة( غابات معانٍ) والرغبة بتلويناتها (هبوب نار) بكل ما تحمله النار من معاني حافة ؛كالانتشار والاحتراق والألم ...والمثير أن استحضار الآخر لم يعد يثمر تداعيات خضراء في نفس الشاعرة ،فالاستحضار مرهون برؤية عدمية تجزم باللاجدوى والانتهاء والسراب.

والسيل القوي يجر أرصفة الخراب
من منتهاك إلى صحاري الذات
واحات السراب
وبعض أحلام الغياب

وتؤسطر الشاعرة قصة مريم عليها السلام لتبني بها حوارية مضادة على أساس التعاكس

لا شمس تشرق
لارياح تهز جذع نخيلها
لاماء لابعض الثمار
لهفي على طفل هناك

وهناتخلق الشاعرة إبدالا جديدا ينضاف إلى ثنائيتها الثابتة أنا/الآخر(المعشوق) فتناغي أحلام الأمومة.

لم لا يجيء الماء من صلب السماء
والياسمينة تشرئب لتستضيء
بغير ماء أو هواء

فالشاعرة ماتزال تستحضر القصة الدينية (قصة مريم) التي جاءها المخاض بمعجزة إلهية ،حظيت بالطفل ،ووجه التشابه هنا غياب الآخر .لكن سرعان ما تذوّب مليكة معطاوي هذا الوتر الذاتي ،وتفتل به خيطا موضوعيا يحول الطفل إلى رمز ،وكأنها تنعى في طفلها المفترض طفولة جريحة في مآتم القتل والإبادة.

لهفي على طفل هنا
سرقوا الطريق إلى هواه
تركوا الدماء بلا معان
تستدل على بقاياه
...
لعل فجرا يستفيق من ابتهالات الصلاة
يحكي لطفل المستحيل
قصصا تلاشت في صباه
طفل بلا أثر غدا مسحوا خطاه.

هكذا تسير القصيدة قدما متشحة بوشاح رومانسي عبر المعاني وتشاكلاتها كما يلي: :
**تشاكل الشوق والحلم
**تشاكل الحزن
**تشاكل الموت والحياة

ورغم أن قيم الحياة في النص مستدعاة في بنيات محفوفة بالنفي ولاماته كما تدل هذه الرموز الطبيعية المتلونة
(لا شمس/لارياح/لاماء/)،فإن الموت لدى الشاعرة هو الواقع الحقيق ،أماالحياة فمستعصية تُبنى في الحلم ،ولم لا تبنى نجيعا فوق الكفن،
واستثمارا مذوبّا لأسطورة البعث والرماد.

ياطفل الخسارات الكبيرة
ابق في كفني نجيعا لا يموت
صدى تناغيه الرياح

وإن ما يمنح نصوص الشاعرة جاذبيتها ،كونها ليست من هواة الغموض والالتباس ،فهي تبسط صورها قريبة الغور ،وتتقن بناء تخييلات غير مطروقة .وإن كانت الرموز في صورها الفنية مألوفة ،فإن تصفيفها وتركيبها على الصور البيانية يمنحها ألقا جديدا كما يبدو في الصور تين التاليتين:
-(فجر يستفيق) .
-(الياسمينة تستضيء)...
وقد تبني الشاعرة صورها على تضعيف الاستعارة وبناء علاقات تجاور مثيرة(ترتاح غابات المعاني)(تتعثر الكلمات في وحل الشفاه)(تستل سيقان المعاني من ثراه)...

وقد تتنفس الصورة مقطعيا وتنحو نحو التراكب والتوسع في عدة سطور في تنام عضوي :

وعلى خيول الحسرة الأولى
نسابق ماتبقى من خسارات
على اسفلت ارصفة
تداعت فوقها الأزهار تبحث عن سماء

واستمع إلى التجريد الضميري الجميل في وشاح هذه الصورة الشعرية:

-وحدي تناثر وحدَه في غيهب الصمت المباح.

وتستعمل الشاعرة تنويعات أسلوبية تكسر الإملال وتخلق حوارية ثرية بين السرد والوصف الخبريين ؛نفيا وإثباتا ،والأساليب الإنشائية التي تعبر عن المصاحبات المشاعرية والحوار الداخلي والخارجي؛ كالاستفهام والترجي والنداء ،الذي يهيمن حضوريا متسلحا بأداة (يا) لمناداة البعيد بقدر بعد الحبيب .

يامشتهى/يا أنت/يا أنت/ياطفل.
ومن اللافت أيضا تراكم أسماء الأفعال الدالة على التوجع:
لهفي على....
...
آه، كأني عدت من أدغال عمر طاردتْه أناهْ.
آه، كأني جئت من وحي الخيالْ،
...
آه ولم أشرب سوى ظمإ

ويأتي بناء معنى التأوه باسم الفعل ،بنيّة إطلاق معناه وعدم حمله على الزمنية المحدودة، ولاسيما أن تأويل آه ،أو لهفي، محمول على المضارعة التي تعني الحال والاستقبال.
--------------------------------

وفي الختام أتمنى أن تنوع الشاعرة أنساقها الإيقاعية في شعرها التفعيلي ،وأن تتفادى الثبات على تفعيلة بحر ''الكامل''،لإكساب تجربتها غنى وتنوعا في الهياكل الموسيقية ، لأن الولاء لتفعيلة واحدة في نصوصها ، ينمط التجارب ،ويسقطها في نمذجة جاء الشعر التفعيلي أصلا للثورة عليها.
كما أتمنى ألا تقفز الشاعرة على خطها الشعري الأسبق،ضمن قصيدة النثر الرومانسية ، فهو المسكن الأروع في مسارها الإبداعي المتألق.


قصيدة(صدى تناغيه الرياح)لمليكة معطاوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاس غيابك
كلّما فاضت كؤوس الشوق في الأحداق،
بللني رذاذ الحزن،
من بدء المداد، إلى اكتمالك في البهاءْ.
يا مشتهى في غربة الأوصال،
يا فوضى المحالْ،
يا أنت، كم يكفي من الأيام
كي ترتاح غابات المعاني
من هبوب النار؟
والسيل القويّ يجرّ أرصفة الخرابْ،
من منتهاك إلى صحاري الذات،
واحات السراب،
وبعض أحلام الغيابْ.
لا شمس تشرق،
لا رياح تهزّ جذع نخيلها،
لا ماء، لا بعض الثمارْ.
لهفي على طفل هناكْ،
في القلب كان، يقيم عرساً من خيالْ.
أضواؤه الخضراء توغل في السؤالْ:
لم لا يجيء الماء من صلب السماءْ،
والياسمينة تشرئبّ لتستضيء
بغير ماء أو هواءْ؟
لهفي على طفل هنا
سرقوا الطريق إلى هواهْ،
تركوا الدماء بلا معان،
تستدلّ على بقاياه،
تحدّق في الظلام لكي تراه،
لعلّ فجراً يستفيق على ابتهالات الصلاةْ،
يحكي لطفل المستحيلْ،
قصصًا تلاشت في صباهْ.
طفل بلا أثر غدا، مسحوا خطاهْ،
قالوا: خسرنا، والنذالة في الجباهْ...
أعمى الذي يعدو، تسيّجه رؤاهْ،
تتعثر الكلمات في وحل الشفاهْ،
تستلّ سيقان المعاني من ثراهْ.
يرمي عصاه كلّما...
عاد الصدى يعلو مداهْ.
أعمى، أصمّ، أبكم الأركان
من كلّ الجهاتْ،
كيف السبيل إلى لقاهّ؟
وسلاحه الفتاك يغتال النجاة،
يجزّ جيد الوقت، عمداً، من قفاهْ.
آه، كأني عدت من أدغال عمر طاردتْه أناهْ.
آه، كأني جئت من وحي الخيالْ،
لا ماء فيه، لا حنانْ،
آه ولم أشرب سوى ظمإ
أظافره تسافر في حشايْ.
لم يبق في الأرجاء غيري، والمنى
نتقاسم الحلم الغريق، بلا رفاقْ،
وعلى خيول الحسرة الأولى،
نسابق ما تبقّى من خسارات
على أسفلت أرصفة،
تداعت فوقها الأزهار، تبحث عن سماءْ.
وحدي تناثر وحده في غيهب الصمت المباحْ،
والكون كلّ الكون،
رجّته دموع في الصباحْ.
يا أنت،
يا طفل الخسارات الكبيرة،
ابق في كفني نجيعاً لا يموت،
صدى تناغيه الرياحْ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى