العجيلي يتحدث كما يكتب. هنا تأخذ مقولة (الأسلوب هو الرجل) لبوسها في الحالتين؛ إذ الكلمتان المكتوبة والمنطوقة تصدران بذات النكهة، ولن يجد مَن تسنَّى له سماع حديث العجيلي في أيِّ موضوع كان فارقاً يُذكر بين حديثه وما يكتبه، بل سيقرأ كلمات العجيلي بصوت عميق، متتابع الكلمات، فتكاد الكلمات الواضحة النطق، الموقعة بين تلاحق أنفاسه، أن تتشابك متحدة لاهثة في محاولة مجاراة سرعة الأفكار التي يطلقها العجيلي.
تجد هذه الفكرة ترجمتها في شيئين اثنين، الكاريزما التي يتمتع بها العجيلي، ثم البيئة التي طبعت ذاكرته. فللعجيلي شخصية مهضومة وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشدُّ الانتباه إليه، وتتلمذه شاباً في مجلس آل العجيلي (الأوضة) في حي العجيلي في الرقة على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مرانَ نسجِ القصص والحكايات المعاشة والمتخيلة، فهذه المجالس هي للهو والسمر قبل كل شيء، إضافة إلى دورها في حل المشاكل، وللاجتماع في حالات الفرح أو المآتم، وفيها تدور أحاديث طريفة عُرفت عن آل العجيلي، ليس فيها صفة المحرم الاجتماعي كحديث، بل وصلت في أيام ماضية إلى مجالس طرب، من أغاني الموليَّة المرتجلة على إيقاع الدفوف التي يُطلق فيها المتحاورون على بعضهم سهام التجريح وألوان التعيير في صفات جسمانية أو أخلاقية، حتى يمكن أن نطلق على هذه المجالس تسمية إذاعة أو إعلام ينشر وينتقد ويعمم تفاصيل آخر حدث اجتماعي حصل في حي العجيلي، وربما الرقة في عمومها، عبر تناقل الألسن لأبيات الموليَّة.
في هذا الجو اكتسب العجيلي شغفه بالمقامات الناقدة. وبدافع ذلك الخيال تفتح وعيه على القص، ثم كان حظه من التعليم والمطالعة رافداً لهذا التوجه، واستمر ذلك مع انتقاله إلى حلب كطالب، وانغماسه في الحياة السياسية في أواخر الثلاثينيات، ومن ثَمَّ إلى دمشق كدارس للطب.
وما كان لهذا التوجه أن يستمر ويتم لولا الموهبة الكبيرة والذكاء اللمَّاح، ولولا تلك الطفولة وأول الشباب في تلك البيئة الحميمة والمنفتحة.
ومن هنا أيضاً جاء حبُّه للسفر، فذلك الخيال كان بحاجة إلى تغذية دائمة، ولم تكن القراءة والمطالعة بكافيتين لتلبية تطلُّع العجيلي، فجال أنحاء أوروبا مستكشفاً بعقله وعينه وقلبه، فأضاف إلى مواهبه أدب الرحلات، وكانت جغرافيا ومجتمعات تلك البلدان موضوعات في رواياته وقصصه. وبين هجره للسياسة كنائب عن الرقة في نهاية الأربعينيات، وهجره للوزارات في أوائل الستينيات، كانت عيادته المستنسخة عن (أوضة العجيلي) مصدراً جديداً للواقع والخيال وللمضحك المبكي في بيئة صحراوية ما زال نصيب أهلها الجهل والعلاقات الاجتماعية العشائرية الحائرة في انتمائها بين الريف والمدينة، فالمدينة نفسها هناك، في الرقة، لا تمتلك من المدينة سوى شكل البيوت، نسبياً، واللباس.
هذا في الوقت الحالي، فالرقة حتى أواخر الستينيات كانت مؤلَّفة من بيوت متناثرة أو أحياء متباعدة. ولا أبالغ إن قلتُ: إن الرقة، المدينة/ القرية، كبرت بالعجيلي، فلا تُذكر الرقة إلا ويُذكر العجيلي، ولا تُذكر القصة القصيرة العربية إلا ويُذكر العجيلي.
ومن هنا كان اهتمام الشباب المثقَّف، في الرقة خاصة، بالقصة القصيرة؛ اقتداءً بموهبة العجيلي، فكانوا عدداً كثيرين، بل وظهر فيهم عدد من المبدعين من عدة أجيال، ابتداءً من عقد السبعينيات.
وأقول: لو تابع العجيلي مسيرته السياسية التي ابتدأها نائباً عن قضاء الرقة في مجلس النواب عام 1947م قبل موجة الانقلابات في سوريا لكان بإمكانه وضع الرقة في موقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي أفضل مما تيسر لها، ولتقدمت بخطوات أسرع، ولربَّما كان العجيلي قد دفع ثمن ممارسته العملية لتوجُّهه العروبي، خاصة أنه لم ينتمِ إلى حزبٍ حتى في عزِّ انغماسه في دسم السياسة وثريدها، لكنه فَضَّل عدم وضع نفسه في مرمى عظام المنسف السياسي.
وفعل خيراً، فكسبته الرقة طبيباً في زمن لم تكن في الرقة مدرسة ثانوية واحدة، وكسبناه في الرقة وسوريا والعالم العربي علَماً في القصة القصيرة والرواية، وأستاذاً في طلاوة الحديث، لا يمتلك ذو إصغاء إلا توفير كل كلامه حتى يستزيد من معين العجيلي دُرراً من الذكريات، والشعر، والمُلح، ونقائض الأدباء، ومقاماتهم. وأجزم أن العجيلي، الشاعر في بداية حياته الأدبية، هو من أكسب قصة العجيلي تلك الروح الحكواتية التي تزخرف عناصر القص لديه بصور تعزُّ على الشعراء، حتى يمكن أن يتماهى السرد لديه مع ما يمكن أن نسميه القصة الحديثة أسوةً بتسميته الشعر الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المجلة الثقافية ـ ملحق الجزيرة ـ العدد : 106 الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426 هـ- 16 مايو 2005م
تجد هذه الفكرة ترجمتها في شيئين اثنين، الكاريزما التي يتمتع بها العجيلي، ثم البيئة التي طبعت ذاكرته. فللعجيلي شخصية مهضومة وفق التعبير الدارج، ووجوده في مجلس، قبل حديثه، يشدُّ الانتباه إليه، وتتلمذه شاباً في مجلس آل العجيلي (الأوضة) في حي العجيلي في الرقة على كبار السن من أقاربه وجيرانه أكسبه مرانَ نسجِ القصص والحكايات المعاشة والمتخيلة، فهذه المجالس هي للهو والسمر قبل كل شيء، إضافة إلى دورها في حل المشاكل، وللاجتماع في حالات الفرح أو المآتم، وفيها تدور أحاديث طريفة عُرفت عن آل العجيلي، ليس فيها صفة المحرم الاجتماعي كحديث، بل وصلت في أيام ماضية إلى مجالس طرب، من أغاني الموليَّة المرتجلة على إيقاع الدفوف التي يُطلق فيها المتحاورون على بعضهم سهام التجريح وألوان التعيير في صفات جسمانية أو أخلاقية، حتى يمكن أن نطلق على هذه المجالس تسمية إذاعة أو إعلام ينشر وينتقد ويعمم تفاصيل آخر حدث اجتماعي حصل في حي العجيلي، وربما الرقة في عمومها، عبر تناقل الألسن لأبيات الموليَّة.
في هذا الجو اكتسب العجيلي شغفه بالمقامات الناقدة. وبدافع ذلك الخيال تفتح وعيه على القص، ثم كان حظه من التعليم والمطالعة رافداً لهذا التوجه، واستمر ذلك مع انتقاله إلى حلب كطالب، وانغماسه في الحياة السياسية في أواخر الثلاثينيات، ومن ثَمَّ إلى دمشق كدارس للطب.
وما كان لهذا التوجه أن يستمر ويتم لولا الموهبة الكبيرة والذكاء اللمَّاح، ولولا تلك الطفولة وأول الشباب في تلك البيئة الحميمة والمنفتحة.
ومن هنا أيضاً جاء حبُّه للسفر، فذلك الخيال كان بحاجة إلى تغذية دائمة، ولم تكن القراءة والمطالعة بكافيتين لتلبية تطلُّع العجيلي، فجال أنحاء أوروبا مستكشفاً بعقله وعينه وقلبه، فأضاف إلى مواهبه أدب الرحلات، وكانت جغرافيا ومجتمعات تلك البلدان موضوعات في رواياته وقصصه. وبين هجره للسياسة كنائب عن الرقة في نهاية الأربعينيات، وهجره للوزارات في أوائل الستينيات، كانت عيادته المستنسخة عن (أوضة العجيلي) مصدراً جديداً للواقع والخيال وللمضحك المبكي في بيئة صحراوية ما زال نصيب أهلها الجهل والعلاقات الاجتماعية العشائرية الحائرة في انتمائها بين الريف والمدينة، فالمدينة نفسها هناك، في الرقة، لا تمتلك من المدينة سوى شكل البيوت، نسبياً، واللباس.
هذا في الوقت الحالي، فالرقة حتى أواخر الستينيات كانت مؤلَّفة من بيوت متناثرة أو أحياء متباعدة. ولا أبالغ إن قلتُ: إن الرقة، المدينة/ القرية، كبرت بالعجيلي، فلا تُذكر الرقة إلا ويُذكر العجيلي، ولا تُذكر القصة القصيرة العربية إلا ويُذكر العجيلي.
ومن هنا كان اهتمام الشباب المثقَّف، في الرقة خاصة، بالقصة القصيرة؛ اقتداءً بموهبة العجيلي، فكانوا عدداً كثيرين، بل وظهر فيهم عدد من المبدعين من عدة أجيال، ابتداءً من عقد السبعينيات.
وأقول: لو تابع العجيلي مسيرته السياسية التي ابتدأها نائباً عن قضاء الرقة في مجلس النواب عام 1947م قبل موجة الانقلابات في سوريا لكان بإمكانه وضع الرقة في موقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي أفضل مما تيسر لها، ولتقدمت بخطوات أسرع، ولربَّما كان العجيلي قد دفع ثمن ممارسته العملية لتوجُّهه العروبي، خاصة أنه لم ينتمِ إلى حزبٍ حتى في عزِّ انغماسه في دسم السياسة وثريدها، لكنه فَضَّل عدم وضع نفسه في مرمى عظام المنسف السياسي.
وفعل خيراً، فكسبته الرقة طبيباً في زمن لم تكن في الرقة مدرسة ثانوية واحدة، وكسبناه في الرقة وسوريا والعالم العربي علَماً في القصة القصيرة والرواية، وأستاذاً في طلاوة الحديث، لا يمتلك ذو إصغاء إلا توفير كل كلامه حتى يستزيد من معين العجيلي دُرراً من الذكريات، والشعر، والمُلح، ونقائض الأدباء، ومقاماتهم. وأجزم أن العجيلي، الشاعر في بداية حياته الأدبية، هو من أكسب قصة العجيلي تلك الروح الحكواتية التي تزخرف عناصر القص لديه بصور تعزُّ على الشعراء، حتى يمكن أن يتماهى السرد لديه مع ما يمكن أن نسميه القصة الحديثة أسوةً بتسميته الشعر الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المجلة الثقافية ـ ملحق الجزيرة ـ العدد : 106 الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426 هـ- 16 مايو 2005م